عمتي ندرين هي آخر من تبقى من عماتي السبع في دار الضراغمة التي اتسعت على مدى قرن من الزمان وتفرعت أصبحت دورا عديدة تفصل بينها حارات وسكك ودروب وساحات مخترقة ، أصبحت بلدا قائما بذاته حول البلدة الأصلية المسماة بقفلاطون على بحر نشر ت في شمال الدلتا. ورغم أن دور الضراغمة أصبحت بلدا كاملا من منتصف هذا القرن تقريبا فإنها لا تزال تشي – من مجرد النظر الخارجي – أنها دار واحدة تسكنها عائلة واحدة وان تعددت فيها الألقاب والأسماء الكبيرة التي ينتمي إلى كل منها رهط كبير من الرجال والنساء. واذا كانت العائلة قد تم تفتيت اسمها على أسماء كثيرة وبيوت أكثر بحكم ازدياد النسل واتساع الأرض لديهم فإن عمتي ندرين كانت بمثابة الخيط السحري المتين الذي ربط كل هذه الدور ببعضها وكل هذه الأسماء في حلقة واحدة . فعمتي ندرين تبلغ من العمر قرابة قرن وثلث القرن من الزمان على أقل تقدير، نبتت لها أسنان جديدة تقرش عليها الزلط ، ولديها ولع بأكل العيش المحمص مع الجبن القديم والسريس والبصل الأخضر ، وتحبس بزردة الشاي وحجر الجوزة كأعتى الرجال . وليس في البلدة كلها دار واحدة تخلو من بنت أو حفيدة لعمتي ندرين متزوجة في هذه الدار أو تلك ، وليس ثمة من دار في البلدة إلا ومنها عروس في دار عمتي ندرين لأحد أبنائها أو أحفادها الكثار. ولقد نوديت بألقاب كثيرة ، منها : يا جدة ، يا خالة ، يا مرأة خال ، يا أمه ، يا ستي، يا حاجة ، . ولما كان رهط كبير من الرجال والنساء ينادونها بلقب عمتي ندرين فإن هذا اللقب شاع وطغى على جميع الألقاب الأخرى.
كل لقاءات عمتي ندرين حافلة بالمفاجآت المذهلة حتى لأقرب الناس اليها بل حتى للذين ينامون في حضنها من أحفاد الأحفاد. رجال كبار في السن يلتقونها صدفة في أحدى المناسبات : واجب عزاء مثلا أو صباحية عرس أو للمباركة بعودة أحد الحجاج ، وكل ما يعرفونه عنها أنها قريبتهم قرابة دم ، ولكن بمجرد الجلوس معها يتضح للواحد منهم أنها شقيقة لجدة أبيه من أمه ، أو أنها بنت خالة سته عزيزة ، أو أنها كانت متزوجة من جده العمدة الكبير أيام ثورة الأفندية ، أو أن الأرض التي يزرعها الآن بين عزبة المتين وبحر نشرت هي في الأصل أرضها.. أما إذا التقت أحد أبناء العائلة المقيمين في البنادر منذ أجيال مضت فإنها تعطيه شجرة العائلة فرعا فرعا وورقة ورقة ، بما فيها الفروع التى اجتثت بالموت المبكر قبل نموها ، وانه لشيء بديع حقا أن يجد الانسان نفسه فجأة وقد صار ورقة متدلية من فرع يدعى فلانا امتد من فرع فلان المتزوج فلانة بنت فلان الذي كان حطابا وزوجة تبيع الفسيخ والسردين ، وأنه في سنة كذا حدث كذا وكيت فسافر عمك فلان الى البلد الفلاني هربا من عمتك فلانة بسبب مشاكل الميراث مما جعل عمتك فلانة هذه تعانده وتبيع نصف فدانها لأبيك لتدخل بذرة الشقاق بين الأخوة ، وستك جاللو، جل الخالق يعنى كانت في الأصل زوجة عمك الكبير لكن عمك فلان الصغير تزوجها بعد موت أخيه فأنجب منها فلانا وفلانة اللذين يعيشان الآن في الاسكندرية .
إدارة المحفوظات بحي القلعة في القاهرة أضيق من أن تتسع لكل ما في ذاكرة عمتي ندرين من تفاصيل وثائقية دقيقة . حكت لي مثلا تفاصيل قائمة العفش التي دخلت بها ملك الاسكندرانية عار جدي الكبير عبدالعزيز ضرغام ، وكيف أن عملية الانفصال بينهما – بعد زواج مستحيل دام عشرين عاما بغير خلفة لعيب فيها – تعطلت شهورا طويلة بسبب اختفاء ملعقة فضية مثبوتة ضمن قائمة العفش ،وقد أصر أهلها على تسليم الملعقة نفسها. مما اضطر جدي عبدالعزيز – وكان دماغه أنشف من أدمغتهم جميعا – الى أن يأخذ ملعقة من الطاقم ويسافر بها الى القاهرة ليصنع مثلها في أحدى ورش الفضة في خان الخليلي ، وسلمها لمطلقته في مؤتمر عائلي كبير شهدته المنارة الكبيرة التي كانت مطرح هذا البيت الذي نجلس فيه الآن ، وكانت مطلقته – اسم آلله على مقامك – تجلس مطرحك الآن على كنبة استانبولي من أملاك العائلة لا تزال بقاياها ملقاة فوق سطح دار جدك عبدالعزيز الصغير في شرقي البلد. قال جدك عبدالعزيز ضرغام الكبير لمطلقته : «يا حاجة ملك أنا أدفع كل ممتلكاتي لارضاء من ليس لها نصيب في العيش معي تحت سقف واحد وظروف واحدة فهل لك من مطلب آخر قبل أن يفسخ المأذون عقد الزواج ؟".
منذ طفولتي لم أجد بين أهلي كلهم ، في بلدتين متباعدتين ، من يشعرني بأنني حقا من عائلة كبيرة ذات مهابة تستحقها عن جدارة ، سوى عمتي ندرين التي كانت تحنو علي بصورة خاصة فضلا عن حنوها على كل من يمت اليها بصلة قربى بوجه عام . لهذا كنت أسافر لها من قريتنا كل إجازة صيفية لأجد عندها ما لم أجده عند أحد على الاطلاق لدرجة أنني اعتبرت معرفتي بها مكسبا واكتشاف عظيمين . هي التي عرفتني بنفسها. يومها كنت – أنا التلميذ في السنة الأولى آلابتدآئية – ذاهبا في الأصل لزيارة شقيقتي في قرية قفلاطون ، التي كانت قد تزوجت حديثا من أحد أبناء عمتي فريدة شقيقة عمتي ندرين الصغرى ، وهما معا تقولان لأبي ، يا ابن خال . وكانت جدتي لأمي – المقيمة في مدينة فوة – قد اشترت لي طربوشا وبنطلونا قصيرا وقميصا افرنجيا وسرة ة وشرزا من الصوف بمناسبة قبولي بالمدرسة الابتدائية .. فلبست كل ذلك أثناء زيارتي لشقيقتي. قوبلت بحفاوة بالغة من عمتي ندرين التي شملتني بحنان دافق أنساني كل شيء حتى شقيقتي، حيث أخذتني في حضنها كأنها كانت تبحث عني منذ قرون طويلة مضت ، سارت تربت على ظهري، تملس على شعري ، تنفض الغبار عن طربوشي وسترتي وحذائي مهمهمة بصوت كمواء القطط :
– "مصمص له يرجع لأصله !"
ردت عمتي فريدة – حماة أختي – وهي ترمقني في إعزاز:
– "ما هو على أصلة من زمان يا اختي!"
وشرحت لي أختي معنى العبارة وهي تفطرني بالقشدة واللبن الرايب والبيض المقلي في السمن . فهمت من شرحها أن البدلة التي أرتديها ذكرت عمتي ندرين بأيام العز حين كان جدي وأعمامي الموظفون في الحكومة يزورون أهلهم في قفلاطون متقمطين بالبدل والطرابيش ويركبون الكارتات والحناطير؟ وهو منظر اختفى تقريبا بعد رحيل أعمامي الأفندية وتقاعد أبي في البلدة مكتفيا بالجلباب والعباءة والطاقية .
منذ تعرفت على عمتي ندرين أصبحت أعرف الكثير والكثير عن عائلتي المعمرة في بلدتين . بل إنني – وياللعجب – لم أكن عرفت شيئا عن أبي نفسه الى أن حكت لي تاريخه من طقطق ئسلامو عليكم ، بجميع زيجاته الفاشلة والوظائف التي شغلها وخلافاته مع أولاد أعمامي حول الميراث وكيف انتهت بل وكيف صرف أبي كل مدخراته من الميراث على مزاجه الذي حيره طول عمره بين أشكال والوان من النسوان البندريات ، وكيف أن الله أكرمه بأمي الصغيرة لتنجب له الأولاد الكثار، جاءته خلفة الذكور التي بحث عنها طويلا بين زيجاته ولكن بعد أن نفدت الثروة وضاعت الأرض التي كانوا سيفلحونها.
أحببت عمتي ندرين ، باتت في نظري هي شجرة العائلة التي لم أكن أعرف عنها شيئا يذكر، ما إن أرها حتى ينبعث في داخلي شعور قوي بالعزة والعزوة ، وأستشر هيبة رجال تهتز لهم أركان الدنيا، ويهرب الفقر والكساد فارا من أمامهم أينما ذهبوا ليحل الخير ويعم الدفء وتنحل جميع المشاكل بكلمة واحدة من أحدهم . كانت تعتبر الى ذلك رمزا للحب وللحنان تسبغه على مساحات عريضة جدا من البيوت والناس والحيوان وتناغي به الشمس والقمر والمطر في أغنيات يقشعر البدن من كلماتها وأنغامها الفطرية ، تملس على جسد المحسود ممسكة بورقة وهي ترقيه بتعزيمة ترتعب عين الحسود من كلماتها فتفر منسلة من جسد المحسود تغادره الى غير رجعة مخلفة في حلق عمتي ندرين تثاؤبا قويا تطلق منه عواء رهيبا.
كل الناس تعرف وتتأكد أن عين الحسود تعمل لرقيا عمتي ندرين ألف حساب وتتردد طويلا قبل أن تتطفل – بل أن تقتحم – على أي ولد من عيالها أو زرع من زروعها أو محصول من محاصيلها. تنخفض عين الحسود إذا مرت بجوار شيء يخص عمتي ندرين ، بل إن الله من شر عينيه إذا ضبط نفسه متلبسا بنظرة غير صافية لشيء يتقضح له أنه يخص عمتي ندرين . حدث أن تسلل ثعبان الى برج حمامها وأبتلع . فرخا سمينا انحشر في حلقه فتسمر في مكانه دائخا زورانا عاجزا عن التنفس والحركة الى أن أدركته عمتي ندرين فخرطته بالفأس كما تخرط الخيار الشائخ للأوز. شاع الحادث ، تجاوز بلدة قفلاطون عابرا بحر نشرت ومصرف نمرة تسعة وترعة السلمونية وحصة الغنيمي وعزبة الطوال وصل الى دارنا في البلد، فضحك أبي وقال إنه لاشك ثعبان غشيم والمؤكد أنه غريب عن البلد والغريب أعمى ولو كان بصيرا. إلا أن البلدان المجاورة كلها أكدت أن تعزيمة عمتي ندرين التي ترقى بها الحمام صبار مساء كان سرها باتعا فخدر اوصال الثعبان لينتهي أجله على يديها.
حدث كذلك أن مر الحاج بيومي المزين على ساقية عمتي ندرين وهي دائرة ، حانت منه التفاتة الى الثور المعلق في الساقية فأبدى بينه وبين نفسه – استحسانه له وقرر في الحال أن يجيء ببقرته من غد الى هذا الثور العفي ليعشرها لعلها تنجب ثورا مثله . ولكن شيئا من اللهيب سرى في ساقيه وجنبيه كاد يشعل فيه النار. فتلفت حواليه لعله يستكشف حريقا مجاورا فيسعى لإطفائه . فما رأى سوى عمتي ندرين مقعية تحت شجرة التوت تشخلل بيدالفرقلة لتنذر الثور بأنها قائمة على رقابته حتى لا يتراخى ولا يمكر. كاد الحاج بيومي يقع من طوله ، دفن رأسه بين كتفية مغمغما: يا سابل ألستر استر يأرب ، ومضى مسرعا كالهارب بسريقة ، لكنه لم يكد يمضي خطوتين حتى تعث الثور وانكفأ على بوزه ، فإذا بعمتي ندرين تنتفض قائمة كالفهد فاراة ذراعيها تتلقي رقبة الثور قبل أن تجيء تحت ، تمكنت من رفع ساقيه الأماميتين أقالته من عثرته بكفاءة تحسد عليها. ولم تكن قد لاحظت الحاج بيومي أو شعرت به ، لكنها ما كادت تتحسس ركبتي الثور حتى فوجنة بالحاج بيومي يهرول نحوها وينكب على يديها لثما وتقبيلا مرددا في ارتعاد:
– "سامحيني يا حاجة ندرين ! مكانش قصدي والله العظيم ! كل ما في الأمر إني فكرت ! فكرت بس إني أجيب بقرتي تعشر منه : لكن أنا غلطان لك يا ريتني ما فكرت الفكرة دي ! إعملي معروف أنا في عرضك ما تزعليش مني سامحيني المسامح كريم !!".
حينئذ فحسب أيقنت أنه نش الثور عينا, فدفعته بقبضتيها في صدره بقوة صائحة في وجهه بنبرة رهيبة:
– "النهاردة الخميس ! خمسة وخميسة ! يا عين يا بصاصة تندب فيكي رصاصة ! يا عين يا لئيمة تتخزقي بالبريمة ! يا عين يامفنجلة تتخلعي بالمنجلة ! يا عين يا متقنطرة تتحشي بالشرشرة! رقيتك يا شاب من كل من هب ودب ! ومن عين كل اللي شافوك ونضروك ولا صلوش على الحبيب النبي!!".
يومها عاد الحاج بيومي المزين الى داره يجر رهبة من فرط الاعياء والهزال كأن وطواطا مص جميع دمه فتركه كمصاصة القصب المتهدلة الباردة . رقد على الفراش يجض ويوحد . عاجزا عن الكلام المفهوم والحركة يتعنى دما، وبعد شهر من العذاب الأليم توكل على آلله ومات دون آن يعرف له الحكيم طبا ولا دواء.
ليس هذا هو جانب القسوة الوحيد في عمتي ندرين ، إنما هناك جانب تتحول فيه الى حريق من القسوة لا يحتملها بشر. ذلك هو ما يختص بالتقصير في أداء الواجب . إن من يقصر في أداء الواجب يا ويله يا سواد ليله من عمتي ندرين كل ما فيها حنان يفور
دفعة واحدة ويتبخر، تصير قيظا منصهرا ينصب على دماغ المقصر فيسلخ جلده وقد يزهق روحه . حدث أن كنت في زيارة لها في إحدى الاجازات الصيفية مزهوا بنجاحي وانتقالي الى السنة الثالثة الابتدائية ، فإذا بها تكاد لا تلحظ وجودي، حيث كانت تتحدث لمن حولها في غضب عارم ، تهدد وتتوعد. كانت شخصية مختلفة عن التي ألفتها، لحظتها فحسب انتبهت الى أن وجهها أشبه بالحصير البالي : أعواد متعرجة ملتحمة ببعضها بخيوط واهية مترهلة ، طويلة الصدغين مسحوبة الفكين رهيفة الشفتين واسعة العينين بحول خفيف الوطء، في نظراتها حدة في لسانها خشونة كالمبرد، نحيفة البدن صلبة العظام جارمة الأطراف طويلة القامة على عكس عمتي فريدة الممتلئة الميالة الى القصر. سألت عمتي فريدة عن السبب الذي يغضب عمتي ندرين كل هذا الغضب . قالت لي إن طفلا من أخيها الكثار قد غرق في العام الماضي في بحر نشرت وهو يستحم مع رفاقه حيث جرفته مياه الفيضان ، انتهى أمره منذ عام كامل . قلت في دهشة : واليوم تذكرته عمتي ندرين فغضبت ؟ إذن فمن هي تلك التي تهددها؟!
قالت عمتي فريدة وهي تعتقل ابتسامة حزينة مشاكسة :
– "أصل الحكاية أن الحاج عبده زوج مسعودة بنت خالتنا مات اليوم !"
– " ولكن عمتي ندرين تهدد من الآن ؟!"
– " مسعودة بنت خالتنا!!"
– "ما ذنبها؟!"
– «يا ولدي ! الموضوع وما فيه أن مسعودة بنت خالتنا لم تجيء لتعزينا في ابن أخينا الذي غرق في العام الماضي؟!"
– "يا .. ا..ا..ه ! تشيل الزعل عاما كاملا؟"
– "موت الحاج عبده فكرها!"
نظرت الى عمتي ندرين في دهشة . كانت لا تزال تدمدم :
– حاوريها ! حأعلمها الحزن معناته إيه حانتقم منها المرة اللي ما بتختشيش دي! إن ماوريتك يا مسعودة يا بنت هنية الغجرية ما أبقاش ندرين الضرغام : هاتي يا بنت الملس والجلابية السودة والشكربين !".
هكذا نادت على أختي. فقالت عمتي فريدة :
– «خلاص بقى يا ندرين يا اختي مالوش لزوم ! اخزي الشيطان اعملي معروف !".
صرخت عمتي ندرين في أختي.
– "هاتي الملس يا بت !"
أتتها أختي بما طلبت . لبست هدومها على عجل . هبطت السلم الطيني في حذر وحرص . اشتعل خيالي . شغفت بمعرفة كيف ستنتقم عمتي ندرين من بنت خالتها مسعودة التي مات زوجها اليوم ؟! وهل يصح أن تنتقم من بنت خالتها يوم موت زوجها؟! لماذا لا تؤجل ذلك ليوم آخر؟!.
منفلتا من أيدي شقيقتي وعمتي فريدة نزلت مسرعا. لحقت بي شقيقتي على الباب ، همست في أذني بنبرة تحمل معنى الفجيعة :
– "ارجع يا مجنون : حتروح فين ؟!"
– "أتفرج على عمتي ندرين !".
– "بلاش ! طاوعني ! أصل خالتك مسعودة مش مخلفة صبيان ! كل خلفتها بنات : ولو انت ظهرت قدامها في ساعة زي دي حتفكرها بالصبيان اللي انحرمت منهم ! حتنقهر!".
ضحكت ساخرا من هذا المنطق البدائي الساذج ، لكنني جاملت أختي قائلا انني سأتفرج من بعيد لأرى كيف تنتقم عمتي ندرين من خالتي مسعودة برغم المحنة التي هي فيها. بلعت أختي ريقها:
– " إنت فاكرها حتتعارك ؟ لا يا عبيط !".
جريت وراء عمتي ندرين . دخلت وراءها دار خالتي مسعودة . كان الحزن مخيما على الدار، وبعض رجال العائلة متعين في حزن وصمت تحت شباك الدار في الشارع في انتظار لحظة الدفن بعد صلاة العصر.
تربعت عمتي ندرين في حوش الدار. جاءت خالتي مسعودة وبناتها بثيابهن اسوداء وتربعن بجوارها ورحن يمسحن الدموع في صمت ..
– "البقية في حياتك يا مسعودة !"
– "ما نجلكيش في وحش يا ختي! الله جاب آلله خد الله عليه العوض ! حنعمل إيه ؟ إيه اللي حنعمله ؟!".
رأيت العفاريت تتنطط على وجه عمتي ندرين وهي ترمقهن بنظرات نارية تطق الشرر فيلمع في ضوئه خبث شديد. تم خلعت طرحتها وراحت تلوح بها في الهواء على ايقاع العدودة الفاجع :
– "عزي المعزى وكسر الجره !
مفيش ولد ياخد العزا بره !".
بمجرد ذكر الولد هاجت شجون خالتي مسعودة في الحال . تذكرت حرمانها من خلفة الصبيان ، وتمنت – لا شك طبعا – أن لو كان لها اليوم ولد يستقبل المعزين في أبيه ، فإذا بهذه المرأة التي كانت منذ برهة وجيزة تتقبل أمر آلله بحكمة وهدوء وقوة أعصاب ، قد شبت النار فيها ، فأطلقت صرخة ملتاعة ، جاوبتها صرخات البنات . وانبرت عمتي ندرين بفجيعة حريفة متقنة :
" ندامة على اللي راح ما خلف !
شبه الحمام لا باض ولا ولف !".
فاندلع الصوت بصراخ أكثر حدة . وواصلت عمتي ندرين
– «قليل الولد ع المغسلة قلوه !
حسه انقطع من ساعتن ودوه !
قليل الولد ح المغسلة أتدلى !
حسه انقطع من ساعتن ولى !"
تمدد الصوات الصارخ ، جاء من قاع الحسرة والقهر يضرب الرؤوس يشرخها . وعمتي ندرين تصب النفط على اللهب –"قليل الولد قال مين يعززك يا راس ؟
يا ترى ولادي ولا ولاد الناس ؟:
قليل الولد قال مين يعززك يا عين ؟
يا ترى ولادي ولا ولاد الغير؟!"
واشتعل الحريق ، وصارت خالتي مسعودة وبناتها يلطمن وجوههن بحرقة ، يلطخن وجوههن وشعرهن بروث الماشية . يعضضن أيديهن ، يخربشن بشرات وجوههن بأظافرهن . ركبهن الجنون ، أنا الآخر انتقلت الي العدوى فصرت أبكي وأصرخ في رعب مثلهن ، أما عمتي ندرين فقد لمع في عينيها شعور أنثى في لحظة اكتمال نشوتها ، فأمسكتني من رسغي قائلة :
– «ما تخافش يا حبيبي تعالى أروحك !"
سحبتني ومضت ، تاركة خلفها حريقا من الحزن الجنوني المتفجر لا سبيل الى اطفائه . العجيب أنها في الطريق كانت تمشي على الناس وتعافيهم بالعافية وتسعد مساهم فيما هي تبتسم بوجه رائق كأن شيئا لم يكن .
خيري شلبي (روائي من مصر)