– 1 –
والذي قصر بالشعر كثرته وتعاطي كل أحد له حتى الغوغاء والسفلة
(العسكري- في كتاب الصناعتين)
هذه العبارة العاصفة في غضبها ورفضها من قبل ناقد ألمعي مثل العسكري، صرخة احتجاج لما لحق الشعر والأدب في عصره من ركاكة وانحدار مقيت، جعل الجهلة والأدعياء يسطون على هذا الحقل الذي هو من السموُّ والرفعة بمكان قصيّ و«صعب سلّمه».. عبارة العسكري أو صرخته تنسحب على الأماكن والعصور بمختلفها. وهي دفاع عن الحقيقة الإبداعيّة الأصيلة في وجه الزيف والإسفاف والرطانة حيث السماسرة والدجّالون أصبحوا يحتلون الحلبة من كل حدْب وصوب. والتبس على القارئ البسيط الفرق الجوهري بين الحقيقي والزائف وغامت الحدود والمسافات. خاصة في غياب المعيار النقدي الصادق موقفاً والكاشف معرفة، وفساد الذوق.. في المشهد الأدبي الراهن، يكفي أن نلقي نظرة ولو سريعة على النتاجات المطبوعة والمنشورة لتكشف البداهة الطبيعية لمقولة العسكري في الكثير من هذا النتاج. ومما يزيد الأمر فداحة في زمننا هو تطور أدوات النشر الطباعي والالكتروني والفضائي، مما يوسع رقعة الانحطاط الأدبي بمسافات ضوئية عن زمن أسلافنا. ويجعل فرز الحدود بين النقيضين صعباً وملتبساً على غير القارئ المتمرّس..
وأصبح (الأدب) مطيّة للانتهازييّن في الوصول إلى غايات، هي في الطرف النقيض، من جوهره ونبله الجمالي والإنساني.
التسويق الإعلامي الذي يعتمد على توفر الشرط المادي والشطارة والعلاقات العامة.. اذا كانت هذه المسألة لا يخلو منها زمن أو ثقافة وأسلوب تعبير.. فرطانة «الحداثة» وغموضها المفتعل، ذاك القادم من السطحيّة والجهل والفبركة، وليس الغموض (بالطبع) القادم من شروط المعرفة الإبداعية، البعيدة الغور والأبعاد وهي تلامس هاويات الوجود وتعقّد الحياة والإنسان (الغموض الماسي)، من فرط ما يختزن من طبقات دلالية وجمالية. هذه الرطانة الحداثيّة التي تزيد خطورتها على التقليد السطحي الذي يدّعي التراث،وهو الذي سحق التراث بمعناه الإبداعي الخلاّق واستعاض بالفتات والقشور،- هذه الممارسة، هي التي جعلت الكتابة مسرحاً للبلاهة المدعيّة والغباء المتعالم وتفريخ العقد والأحقاد الصغيرة. وتلك النـزعة في الكتابة تقدم نفسها صعبة المنال ومعقدة، وهي لا تحتوي إلا على الخواء المفبرك في نصوص وجمل ذات بريق براني، إذ ليس كل ما يلمع ذهباً كما قيل، ذهب الكتابة في مكان آخر تماماً..
في الشعر، في الرواية التي أضحت، في جانب كبير منها،تشبه الصرعة الاستهلاكية، وليست حاجة تعبيرية وروحيّة تتلمس شكلاً بعينه. وما نصادفه في المجال النقدي «التفكيكي» وغيره من هول المعاناة، وأنت تقرأ، جبينك يتصبب عرقاً وتسرح بين الجملة والأخرى، لعلك تجد ضالة المعنى أو اللامعنى الذي يرتطم بأعماقه الكائن والكتابة،(كما في أصقاع المعرفة العميقة، النظرة والموحشة)، لكنك في النهاية لن تجد إلا التفاصح والتذاكي وتلك الرطانة البائسة التي لا تزيدك إلا ظمأ ومسغبة.. في جو الميديا والكذب يلتبس مشهد الكتابة وتمحى الحدود وتتساوى.
الشاعر والكاتب الذي أفنى حياة وعمراً ليقول تمزّق روحه ويؤشر لمرحلته وعصره، يتساوى مع مهرجي هذا المشهد، أحفاد الرطانات، بكافة أنواعها، والانحدار الأدبي والقيمي.
[ [ [
بعد قرون من زمن العسكري أشار الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، إلى الفكر الذي أصبح مقرفاً، لأن الأوغاد تسللوا إلى عرينه فلوثوا ساحته وألحقوا به العار والإهانات.
– 2 –
«أيتها الطهارة
إنك موجعة نازفة»
نحن في آخر عام سيلتحق لا شك بجحافل الأعوام التي سبقته والتي ستأتي بعده، مشكلة محيط الأزمان المندفع صوب المجهول.
لا مشاعر ولا طعم إلا طعم الخسارة والخذلان، طعم الغدر والزيف الذي يجود به زمن الانحطاط الكاسر على الأرض العربيّة.
لا شيء غير هذا الارتطام العدمي الكبير بجدار التاريخ والزمن، وهما الأكثر مرارة وعقاباً خاصة حين يعيش الإنسان في هكذا برهة، لا تتكشف خباياها إلا عن كل ما هو قبيح ومتضع ولا إنساني..
ونفاجأ، أو لم نعدْ نفاجأ، حين يجرف هذا الطوفان الانحطاطي بشراً، كنت تظن بهم غير ذلك ، كنت تعلق عليهم قشة الأمل الأخيرة..
رواية الجزائري أمين الزاوي (شارع إبليس) تندرج في هذا السياق الارتطامي، الذي لا يساوم ولا يلّطف ولا يستطرد فيما لا طائل له، إنه يأخذ قارئه على نحو صاعق ومباشر، مباشرة الفن الأساسي الذي يحرق صانعه من فرط صدقه ويحرق تاريخه المتخثر، لمقاربة الحقيقة المغيبّة دوماً، خلف حُجب المسلّمات والقيم التي أضحت ثابتة في وعي المنظومات والأفراد، وان قُوربت فعلى خَفر ومواربة وترميز معظمه يسبح في الغموض، اللامقنع ابداعاً وتاريخاً..
أمين الزاوي ينقض في (شارع ابليس) على تلك القيم والتصوّرات التي شكلت منظومات الوعي العربي المعاصر، من جزائره الى مشرقه، وفي يده معول النقض والتهشيم.. لم يعد شتم الاستعمار بديلاً مجدياّ، على ما ألحقه من خراب، عن مساءلة الداخل، مساءلة كيانية تصل الى مشارف «الخيانة» بمعناها الخلاّق.
مساءلة «الثورات»، الوقائع والمفاهيم، انطلاقاً من الثورة الجزائريّة التي ينزع عنها الزاوي، كل تلك الهالة المقدسّة، حتى دمشق وبيروت المسرح الواقعي والمتخيّل لهذه الرواية الفريدة.. حتى الثورة الفلسطينية والايرانية، ومجمل النسيج الاجتماعي الذي يشكل المرحلة الحاضرة.
ولكي يقول الزاوي أمين، كل تلك الأشياء المصنوعة من الجحيم والمفارقة المأساوية، كان عليه أن يهضم أدوات تعبير وتجريب استقاها من أكثر من مصدر، لتشكّل لُحمته الخاصة التي يستطيع من خلالها أن يسجل هذه الشهادة، ليس بالمعنى الوثائقي بالطبع، وإنما بأدوات الفن وسحره الآسر.
شخصيات تظهر وتختفي، بعضها لصفحات قليلة لكنها ضمن النسيج العام للرواية تترك أثراً في نفس القارئ، تترك جراحاً. وهي في غمرة عبورها السريع تضيء مسرح الأحداث، كما الأحلام الثوريّة والثقافية والعاطفية، أحلام الطفولة والعمر الهارب. أحلام ذلك الجيل أو الأجيال التي ضحّت وشقت أيما شقاء وتضحية لتجد نفسها آخر المطاف في أرض مضروبة بزلزال الفساد والقذارة، يسومها النخاسة والانتهازيون الجهلة «الرخاص» بالدارجة الجزائريّة.
رغم كل ذلك الضوء الكاشف الذي من فرط كثافته يبلبل البصر والبصيرة، الذي يسلطه الروائي الجزائري على ما آلت إليه أمور الراهن العربي ومن زوايا ونوافذ متعددة تستدرج دوماً نحو القعر الأقصى للدمار الإنساني، يمضي قارئ (شارع ابليس) في الرواية بمتعة جماليّة عالية، كل العناصر موظفة في سياقها المقنع فنياً، كل شيء له مكانه وسط هذه الفوضى والانهيار الشاملين.
الفن يثأر بطريقته دائماً، والأسطر السابقة تأخذ مصداقيتها من قراءة الرواية، التي هي من الغنى والإدهاش، تحتاج الى قراءات ومقاربات مختلفة أكثر تفصيلا واستقصاء.
– 3 –
في وجه من وجوه الاغتراب الكثيرة المتعددة، التي شكّلت العامل الجوهري للأدب والفلسفة، هو ذلك الشعور المهيمن بالانفصال عن المحيط والأشياء والقيم السائدة المتداولة …
شعور لا يخفف فداحته أي توّسلات يحاول الفرد المغترب أن يستدعيها ويمارسها ليزيح ثقل هذا الشعور أو يخفف من سطوته التي تطبع السلوك والتعبير…
ليس الشعور بخسران الوجود واضطراب الكينونة في منحاه الوجودي (الانطولوجي) فحسب، وإنما الشعور المغترب تجاه المعيش اليومي وأنماط الحياة، من السكن وطبيعة العلاقات الماديّة المحضة في بلدان لا تفتأ تجر ذبول الادعاء بأنها متماهية مع تراثها وتاريخها المشرق، وهي في واقع الحال ليست متماهية إلا مع الجانب السلبيّ وقيمه من هذا التراث، كما هي كذلك في الالتقاء حدَّ التماهي والانسحاق مع قيم الحضارة المهيمنة (الغربية الامريكيّة ) في البرهة الراهنة …
الجوانب الروحيّة المُدَّعاة لا تحضر إلا كطقوس إعلاميّة وأوامر ونواهٍ تعليميّة لحظية، وليست كممارسة فعليّة لمجموعة قيم تحوّلت إلى سلوك وفاعليّة اجتماعيّة حاسمة .. إنها على مستوى المظهر وليس الجوهر المقذوف في مهبّ الغرائز والقيم الاستهلاكيّة والمنفعيّة في أكثر أشكالها فجاجة وسطحيّة …
وإلا فما معنى هذا التكالب وهذا الافتراس الذي لا تستطيع حتى القوانين التي يتم التحايل عليها وتحطيمها إن وُجدت، من قبل (الأقوياء) وأزلامهم – كبح جِماحه ..
وحدهم الأفراد المغتربون، يحسّون بذلك الانفصال الذي يدفعهم إليه المحيط البشري والقيمي. فهم يعيشون المنفى والاغتراب حتى داخل أوطانهم حسب التوحيدي . تلك الأوطان التي مزقهم إليها قبل ذلك الحنين…
وعلى طريقة (مجبر أخاك لا بطل) لا يستطيعون التواصل إلا على مضض، دعك من التوحد والاندماج، سيكون حلم التوحد مع محيط آخر تخترعه المخيّلة وسيؤثثّه المغترب بمخلوقاته الخاصة وطُرز عمارته وقيمه الجماليّة التي ربما لا توجد على هذه الارض، إلا في بطون الكتب والأجداث وَنزْر من أولئك الذين غرّبهم الضياع وانحدار الأزمنة ..
يفكر المغتربون، أن هذا الانفصال، ليس سلباً فظاً بمجمله، وليس جحيماً وكما عبر الفيلسوف الفرنسي، فالجحيم هم الآخرون، في هكذا أوضاع وقيم، وسيكون الانفصال في ضوء هذه النظرة، واحة المغترب وجنته المفقودة في التواصل والزحام ..
هذا النوع من التواصل، في هكذا محيط، هو الذي يغّرب الفرد عن ذاته وعما تبقى له من إيمان بالحياة ويرميه إلى هاويات التبلد والرماد…
هو الذي يفقد أي متعة مشاهدة إلى منظر خفي في الطبيعة، إلى امرأة عابرة تحمل أملاً غامضاً، يفقده حلم العدالة والرأفة ..
في هكذا مجتمعات لا يجد الفرد شيئاً من ذاته إلا في العزلة والليل والظلال، فيكون الاغتراب إحدى النِعم التي منَّ بها الباري على مخلوقاته المعذّبة والتي هي دائما في قلب المحنة والاختبار .
وفي هذا المنحى سيكون (العمى) أيضاً ضمن منظومة تلك النعم كما عبر طه حسين: (الحمد لله الذي جعلني أعمى كي لا أرى وجوهكم)
– 4 –
يعْبر المسافر المسافات والأصقاع، الوجوه والذكريات، يتطلع إلى الحقول الشاسعة أو الصحارى الجافة ..
والغيوم الركاميّة تتطاير كالدخان، في الحقول والصحارى . من نافذة قطار أو طيارة أو باخرة تمخر المحيطات، المشاهد والصور كالوجوه والذكريات، تتداخل وتتقاطع أحياناً في رأسٍ (شهوتها محو المكان) ونزوعها الغياب. ليس ثمة من وقت طويل مثلما هو في العهود الغاربة يسفح فيه المسافر دموعه على الأحبة والأطلال، سرعة النقل والعصر تخطفه، لكنه لا بد ينزف في الداخل بصمت، وحين تتوارى بلاد عزيزة أو ذكرى، يحس أن ثمة شيئاً، اقتُطع من جسده، من روحه المقذوفة في خضّم رحيل لا ينتهي، رحيل معذَّب، لكنه لا يقر بذلك، فالأكثر عذاباً لديه وفداحة هو ما يدعوه بالاستقرار البليد …
حركة المسافر ووعيه بالحياة يختلف بالضرورة عن الآخرين . وعي المسافر وإحساسه مثل ذلك الإحساس الذي ينتاب الجندي الذاهب إلى المعركة، فيه الكثير من التسامح وانعدام المصلحة كغاية والتخطيط المسبق لحركة العلاقات ووجهتها، سواء العلاقات المكانيّة أو البشريّة .
ربما وجهة الجمال والشفافية الشعريّة تأخذ الجانب الأكبر، وذلك الإحساس بالخطر الذي تصغر أمامه أمور يظنها المستقرون غاية في الأهميّة…
البحّار في رواية (ميشيما) ثلاثيّة الخصب يبدي مثل هذا الشعور، وحين يودّع الأهل والصحب كأنما يودعهم للمرة الأخيرة. الحجّاج إلى بيوت الله المقدسّة، تنتابهم مثل هذه الأحاسيس أيضاً، ويحاولون التجرّد لجهة النقاء والعبور السريع على هذه الأرض.
[ [ [
ليس للمسافر أو المتِّرحل، من علاقات قارّة، دوران في الأرض ودوران في الأعماق، تترسب العلاقات الحميمة والعواطف فيها وتبني مضارب حنينها، لكنه يظل نهباً لهذا الدوار الأفقي الذي تتقاذفه أمواجه من غير رحمة لكن بعذوبة وجمال فريد…
العذوبة هنا تتوحد مع توأمها الاشتقاقي ؛ العذاب …. الجمال المؤلم الحزين…
يحاول المسافر في ليل العالم، التوحد بذاته، بما يظن أنه صلب وحقيقي في حياته كي يسند روحه ولا يتكئ إلى حائط الهباء المطلق..
إنه يشبه الحاج أو البحار فعلاً، لكن هذين الأخيرين يستندان إلى مُثل وقناعات ثابتة، وهو في حالته أقرب إلى البحث عن حقيقة غامضة أو معجزة مستحيلة الحدوث إلا بالموت ربما، وهو يدرك هذا ورغم ذلك الإدراك الأليم يواصل سيره وهروبه من أشباح غامضة إلى أفق أكثر غموضاً، لكنه أكثر تفتحاً على عوالمه الداخليّة، وما يظن أنه الخير والحق والجمال . هذه المفاهيم التي في غيابها يكمن الشغف بها وتكمن عظمتها الحقيقيّة .. وينفجر من هذا الغياب مناضلون أشاوس تخلّدهم الكتب والتاريخ . ينفجر مترّحلون في ليل الفكر، ومسافرون لا ينظرون إلا إلى الأحذية والطرقات..
جدَل الأحذية والطرقات، جدل معّقد لا يعرفه إلا من قَدَح زناد المسافة، وخبر الترحّل والفراق في وحشة الليالي والناس نيام.
– 5 –
(كنا في طريقنا صوب الخليج، الذي يعد أكبر المسطحات المائيّة الخانقة في العالم، وهو ساخن منذ الأزل لوقوعه بين شواطئ ملتهبة حيث يندر جداً أن تسقط عليها قطرة مطر، وحيث السهول لا تعرف الخضرة، وحيث لا يتطور شيء في هذا الجدب السرمدي إلا مملكة الجماد فحسب . ومع ذلك كانت الرطوبة الخانقة ترهقنا وتجهدنا، وكل شيء لمسناه وجدناه رطباً دافئاً، بل كنا نتنفس البخار كأنما كنا واقفين فوق حمام ماء يغلي، أما الشمس العنيفة فقد أبقتنا في درجة الحرارة نفسها صباح مساء، تشرق وتغرب صفراء باهتة دون أن نرى أشعتها، لأن البخار يحجبها بضباب الشمال).
المقطع أعلاه استُل من مقال الرحالة وضابط البحرية الفرنسيّة والكاتب (بيرلوتي) وهو الاسم المستعار لـ(جولين فيو) 1850-1923. حسب المترجم العماني يعقوب بن ناصر المفرجي.
قليلة هي الكتابات المترجمة للرحالة غير الإنجليز، والذين جابوا صحارى الخليج والجزيرة العربية وبحارها المتراميّة حتى أعماق المحيط الهندي، الذي سيصفه مواطن (لوتي) بعده بقليل، أعني الكاتب الفرنسي (بول نيزان) الذي لم يكن في البحرية وإنما في الحزب الشيوعي – الفرنسي، حين كانت ايديلوجيا هذا الحزب تشكل نوعا من حلم خلاص للنخب الثقافية في العالم – وصفه بجحيم البحّارة.
عبر رؤية كاتبين فرنسييّن جابا هذه الأصقاع النائيّة الموحشة والتي تجسّد الفصل الأكثر جحيمّية ورعباً في الطبيعة .
على مستوى الكوكب الأرضي برمته ربما… تلتقي رؤيتهما في وصف هذه المناطق التي أحكمت قسوة الطقس والمعيش طوقها على كل الكائنات والأشياء. وجعلت البشر في امتحان دائم أمام هول هذا المشهد الذي تمسي فيه الحياة أشبه بمعجزة النبع الذي يتفجّر في صحراء قاحلة يسحلها بركان الجفاف من غير هوادة ولا رحمة، أشبه بمعجزة وادي العيون في رواية عبدالرحمن منيف (مدن الملح) ..
يمكن القول في هذا السياق، إن الطبيعة نفسها تمتحن وتختبر عنفها الخاص ،على هذه البقعة من أرض البشر والجوارح . حدود هذا العنف، الأفق الشاسع اللامحدود للقسوة حيث يبقى الربع الخالي شاهدها الأكبر، درة تاجها الملكي.
تختبر عنفها وقسوتها كما يختبر البشر جيوشهم وهي تستعد لخوض المعارك في تخوم الصحراء الحارقة أو في المدن المأهولة بالحدائق المخضرة والأنهار، وكما يختبر الجسد المكبوت حتى الانفجار، أناه الأخرى، أناه العاشقة وقد أمطرته حناناً وشهوة بعد طول غياب …
تقرأ عن رحلة الفرنسي في ذلك الزمان البعيد القريب حيث تصعد سيارتك الواقفة أمام العمارة، وقد تحولت إلى كتلة من اللهب . تدير زرَّ التكييف (هذا ما يميزك عن الأسلاف) تتحدث بقسوة إلى امرأتك التي تبادلك نفس الحدّة، تدير زر الراديو، تنهال عليك أخبار وتقارير الزحف القادم، (ضيوف الحداثة والعولمة) فيروسات الخنازير.
وأوبئة أخرى في الطريق لتكتمل عناصر هذا المشهد القيامي السعيد.