أجرى الحوار بالفرنسية وترجمه:
بدر الدين عرودكي- كاتب ومترجم سوري
في آذار/مارس 1988، وفي إطار عدد من النشاطات الثقافية الكبرى التي جرى تنظيمها بمناسبة افتتاح مقر معهد العالم العربي بباريس، قمت بتنظيم لقاء يجمع الروائيين العرب والفرنسيين لأول مرة للحديث عن الرواية التي يكتبها كلٌّ منهم. وكنت قد التقيت مع بداية الإعداد لهذا اللقاء الراحل جان جاك بروشيه، الروائي ورئيس تحرير مجلة “الماغازين ليتيرير Magazine littéraire” يومئذ كي أدعوه للمشاركة في اللجنة التحضيرية لهذا اللقاء من ناحية، ولاقتراح تخصيص عدد من المجلة عن الأدب العربي بهذه المناسبة يصدر في موعد هذا اللقاء، من ناحية أخرى. وقد قبل الاقتراحين شريطة أن أساعده في إعداد هذا الملف عن “الكتاب العرب اليوم”. وقد أسهم رئيس التحرير بصورة فعالة في الإعداد لهذا اللقاء الذي شارك فيه عشرون روائيًا فرنسيًا وعشرون روائيًا عربيًا، مثلما أنجز وعده في تخصيص ملف عن الأدب العربي المعاصر صدر في آذار/ مارس 1988 كنت قد اقترحت عليه افتتاحه بحوار مع أحد كبار المختصين بالأدب العربي وبالثقافة العربية، أندريه ميكيل، الأستاذ في جامعة السوربون ثم في الكوليج دو فرانس، ومدير المكتبة الوطنية الفرنسية، وهو ما قمت به بالإضافة إلى إعداد مواد الملف بمشاركة عدد من الكتاب العرب.
لم تكن الرواية العربية قد حظيت حتى تاريخ هذا اللقاء باهتمام الناشرين الفرنسيين، باستثناء ميشيل شودكيفيتش الذي كان مديرًا لمنشورات سوي (Seuil) وبادر من دون أي دعم إلى إصدار ثلاثة مجلدات للتعريف بالكتابات العربية المعاصرة عبر مختارات في الشعر والأدب الروائي والقصصي والأبحاث، ثم إلى نشر رواية ليلى بعلبكي “أنا أحيا” ورواية جمال الغيطاني “الزيني بركات”، ومنشورات سندباد التي أسسها وأدارها حتى وفاته بيير برنار التي نشرت حتى ذلك الحين ترجمة مختارات قصصية ليوسف إدريس، ورواية لنجيب محفوظ “زقاق المدق” ورواية عبد الرحمن منيف “شرق المتوسط” ورواية صنع الله إبراهيم “نجمة أغسطس”، بالإضافة إلى مشروع معهد العالم العربي لنشر سلسلة من 12 رواية عربية بالتعاون مع منشورات لاتيس (Lattes) وكان لي شرف الإشراف عليها باسم المعهد والتي لم تكن قد نشرت أكثر من سبعة روايات منها أول روايتين لنجيب محفوظ من ثلاثيته..
سيلاحظ القارئ أن أندريه ميكيل كان يتحدث في هذا الحوار عن جدارة نجيب محفوظ لنيل جائزة نوبل، أي قبل ثمانية أشهر من حصوله فعليًا عليها! ومن الممكن القول إن ترجمة الثلاثية إلى الفرنسية التي أدت اعتبارًا من عام 1984 -كالعادة- إلى ترجمتها إلى لغات أوروبية عدة من ناحية، واللقاء الذي أجرته الروائية سلوى النعيمي معه (وكانت ضمن أعضاء اللجنة التحضيرية للقاء الروائيين العرب والفرنسيين)، وجرى نشره في عدد الماغازين ليتيرير المشار إليه (وهو أول حوار يجري مع نجيب محفوظ وينشر على ما أعلم خارج العالم العربي) من ناحية أخرى، قد لعبا دورًا ما في منح الجائزة.
وعلى أنه مضى حوالي خمسة وثلاثين عامًا على نشره، يبقى أن هذا الحوار (مترجمًا إلى العربية للمرة الأولى) لا يزال يحتفظ بنضارته لا في الآراء التي عبر عنها أندريه ميكيل فحسب، بل كذلك في ما يؤرِّخ له على صعيد ترجمة الأدب العربي المعاصر إلى الفرنسية وسواها من اللغات.
شتان ما بين الأمس واليوم!
المغامرة الشعرية1
للأدب العربي
أندريه ميكيل هو اليوم أحد كبار المختصين بالثقافة العربية في فرنسا، أستاذ في الكوليج دو فرانس، ومؤلف العديد من الكتب المكرسة للثقافة العربية الإسلامية وفي مقدمتها كتابه: الجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي2، وكتابه: الإسلام وحضارته3، وهو أيضًا مترجم العديد من كبرى النصوص العربية الكلاسيكية والمعاصرة ومؤلف روايات عدة آخرها: ليلى يا عقلي4. يناقش خلال هذا الحوار حول القضايا المتعلقة بالأدب العربي المعاصر.
* قبل خمسة وعشرين عامًا5، لم يكن مقبولًا في الجامعات الفرنسية أن يكتب طالبٌ ما رسالته للحصول على شهادة الدكتوراه يتناول موضوعها مُبدعًا عربيًا حديثًا. منذ ذلك الحين، تغيرت الأمور جيدًا. هل هو اعتراف “رسميٌّ” بقيمة هذا الأدب الموصوف بالحديث أو بالمعاصر؟
– اعتراف، نعم، بلا أدنى شك؛ لكني أعتقد أن المشكلة في الواقع هي أكثر عمومية. في شبابي، عندما كنت طالبًا، أي قبل أربعين عامًا، لم يكن مقبولًا في الجامعة الفرنسية كتابة رسالة دكتوراه حول أناس لم يكونوا موتى. بعبارة أخرى، كان الموت هو الحاسم في الحيلولة دون الوصول الممكن إلى الأدب. ومن دواعي السرور الكبير أن الأمور تغيرت منذ ذلك الحين. فقد رأينا، كما أظن، في زمن جورج براسانس6 (Brassens) على سبيل المثال، رسائل كتبت حول براسانس؛ كانت هناك رسائل حول سارتر في الوقت الذي كان فيه سارتر لا يزال حيًّا. أعتقد إذن أن المسألة التي تطرحها يجب أن تُدرَجَ في الجواب الشامل. هذا من دون المساس طبعًا بالمسألة، التي يمكننا العودة إليها، أي مسألة قيمة الأدب العربي المعاصر.
* لكن هذا الأدب، كيف يبدو للأستاذ الجامعي الذي هو أنت، بل وكذلك للمبدع، أعني المشارك في الإبداع في مجال الرواية، أو في الترجمة التي تقوم على جعل نص أجنبي مألوفًا كليًا في لغة أخرى، إلخ… أعني أنك تعيد إبداع نصٍّ سواء حين تكون مترجمًا أو باحثًا أكاديميًا.
– بلا شك، لكني مع ذلك مرتبك بعض الشيء كي أجيبك، لأنني ما يُسَمّى بالنسبة إلى اللغة العربية أو التخصصات الأخرى، مختصّ بالكلاسيكيات. أعمل حول الحقب الكلاسيكية، وإذا كان الأدب العربي المعاصر يتعلق بأفقي، لا بوصفي مختصًا، بل بما يمكنني أن أقول إنه أفقي بوصفي مهتمًّا بالعالم العربي، أي إنه يتعلق أكثر بثقافتي العامة كمستعرب أكثر منه باختصاصي الأساس. بعد توضيح ذلك، واتخاذ هذه الاحتياطات، يمكنني القول إن أول اتصال لي بالأدب العربي المعاصر لم يكن حسب تسلسل زمني. لم أبدأ برواية “زينب” مثلًا7، بل بدأت بنجيب محفوظ الذي أعرفه الآن: قرأت، على ما أظن، كل الأعمال التي كتبها ربما باستثناء الكتابين أو الكتب الثلاثة الأخيرة. من خلاله ومن خلال سواه، السؤال الأساس (والوحيد تقريبًا) الذي أطرحه على نفسي، هو معرفة ما أضافه هذا الأدب إلى الآداب العربية التي سبقته، وبأي معيار جلب هذا الأدب تغييرًا ما، في الرموز، في العادات المكتسبة من قبل. ثمة، من دون أي شك، أشياء أصيلة كليًا (وليس في ذلك ما يدهش) وهي أصيلة لاسيما وأنها الأكثر حداثة: أفكر على سبيل المثال بإميل حبيبي بالتأكيد، بالغيطاني، بالطيب صالح أو بصنع الله إبراهيم. لا أعرف، وألحّ على ذلك، الأدب العربي المعاصر كله. ولكن في النهاية، مع الأسماء الأربعة التي ذكرتها، أعتقد أن بوسعنا البدء في سجال حول التجديدات بالنسبة إلى الأدب العربي المعاصر.
* نعم؛ أعتقد أن الشعر قد حقق، قبل أربعين سنة من الآن، قطيعة مع التراث الشعري العربي. وبدخولها الأدب العربي الحديث منذ بداية القرن العشرين على حذر، ثم بعد الحرب العالمية الثانية، بقوة، حققت أجناس أدبية أخرى مثل الرواية والقصة القصيرة، المصممتين هذه المرة انطلاقًا من شكل الرواية والقصة القصيرة في الغرب كما كانا يُمارسان في القرن التاسع عشر، على صعيد الشكل، قطيعة أخرى. ما رأيك؟
– بالنسبة إلى الشعر، أتفق معك. بالنسبة لنا، أساسًا، حدثت ظاهرة التجديد في الغرب مؤخرًا إلى حدٍّ ما؛ أتحدث عن الآداب الفرنسية، لا أعرف الكثير مما يجري في البلدان الأخرى؛ بدأ جوهريًا مع بودلير. ومع بودلير الأول، ومع خلفائه، إنما طرح الشعر على نفسه، شأن أشكال الفن الأخرى، المشكلة: أليس علينا بدلًا من الاستمرار في قول الرسالة العادية بصورة أخرى، أن نعثر على رسالة أخرى؟ أظن أن غايتان بيكون (Gaëtan Picon) هو الذي كان يقول ذلك بهذه المفردات: ألا يجب أن يكون الفن بالنسبة إلى ذاته هو مجاله الخاص به وغايته نفسه؟ في الشعر العربي، أعتقد أن الثورة فعلًا تمّت وأن الشعراء العرب المعاصرين هم اليوم في الحقيقة صنو كبار شعراء اليوم. بين رنيه شار (René Char) على سبيل المثال، في فرنسا، وأدونيس أو أحمد عبد المعطي حجازي في العالم العربي، يمكن أن أقول إنه لا وجود لاختلاف في المكانة. بالنسبة إلى الرواية، الأمر أكثر تعقيدًا بعض الشيء. يبدو لي أن المشكلة المطروحة اليوم على الرواية العربية المعاصرة، مشكلة مزدوجة: أولًا، أعتقد أن المغامرة الشعرية تستمر اليوم في العالم العربي لا عبر الشعر فحسب بل عبر الرواية أيضًا.. سأوضِّح: الشعر، بالمعنى الأول للكلمة، هو إبداع. وبما أنه إبداع جمالي، فهو، شأن كل إبداع جمالي، تركيب مصطنع بالمعنى الأفضل للكلمة: إنه يبحث عن الكلمات لكي يجمعها معًا، ومن جمعها معًا يجب أن يخرج شيء ما جديد. إنه إذن بحث، بحث كامل حول القول، وأعتقد أن الكثيرين من الروائيين العرب المعاصرين، من دون الحديث عن القول نفسه، يصممون مُبدعاتهم بهذا القدر أو ذاك بوصفها مبدعات يمكنها أن تكون أيضًا شعرية. أضرب مثلًا: نجيب محفوظ، كي نعود إليه. حتى روايته “اللص والكلاب”، كان نجيب محفوظ يكتب روايات يمكن أن أقول إنها كلاسيكية اعتمادًا على تصنيف الرواية الغربية. مع “اللص والكلاب” بدأت، سواء في شكل الرواية (أفكر على سبيل المثال برواية “ثرثرة فوق النيل”)، أو في شكل القصة القصيرة، مغامرة أخرى لنجيب محفوظ الذي يستهدف إبداع شيء ما جديد، لا في داخل الرواية أو القصة القصيرة العربية، بل داخل الرواية والقصة القصيرة ذاتهما. هذه نقطة أولى تبدو لي شديدة الأهمية من أجل دراسة الرواية العربية اليوم.
أما بالنسبة إلى المنظور الثاني الذي يجب علينا أن نتوقف عنده، فإنني أفكر في سؤال نطرحه جميعًا بهذا القدر أو ذاك: لماذا لا يوجد حتى الآن كاتب عربي حصل على جائزة نوبل؟ وأريد أن أقول على سبيل المثال إن نجيب محفوظ يستحقها من دون أي شك. ما الذي يمكن أن يزعج، هذه المرة، الاستقبال في الغرب للرواية العربية المعاصرة؟ أتساءل إن لم تكن المأساة التي كانت زمنًا طويلًا مأساة العالم العربي، والتي لا تزال اليوم مأساة فلسطين، لا تثقل كاهله بقوة شديدة (لكني أقول ذلك مع كل الحذر الضروري) إلى درجة أن هذا الأدب في النهاية يجد على وجه الاحتمال صعوبة في أن يستخلص، من خلال تجربته الخاصة، شيئًا ما يمكن أن أسميه عالميًا، شيئًا ما يكون قادرًا على أن يمسَّ مجموع العالم من خلال تجربة خاصة. أطرح المشكلة، مرة أخرى لا أقوم بحسمها؛ لكن هناك ربما شيء ما يتطلب التفكير فيه.
عنف الصدمة التي عاشها العالم العربي منذ عقود هي من القوة أنها على مستوى التعبير، تقتحم الأدب، وتصنع الأدب الجيد، يقينًا، لكنها تحول دون هذا الأدب والمضي إلى درجة يصير معها أدبًا عالميًا. من الممكن، على سبيل المثال، مقارنة هذه الظاهرة ببعض الأدب اليوغوسلافي. أفكر بحامل جائزة نوبل آخر، وهو يوغوسلافي على وجه الدقة، إيفو أندريتش، الذي تحدث في الواقع عن بلده والمآسي التي عاشتها البلدان السلافية في الجنوب، ولكن بطريقة كانت، اعتبارًا من جائزة نوبل، وهذا صحيح، قابلة على الفور للنفاذ إلى ضمائر أخرى غير الضمائر السلافية.
* تحدثنا عن الحداثة وعن المعاصرة. في العالم العربي تعلمُ جيدًا كيف يُنظر إلى الحديث بالنسبة إلى الأدب العربي: عند الكلام عن الحديث، ننطلق على وجه التقريب من منتصف القرن التاسع عشر، في حين يحتل المعاصرون الأربعين سنة الأخيرة. بين كبار ممثلي هذه السنوات المائة -إن جاز القول- أي منذ النهضة وحتى الآن، من هم الأشخاص الأكثر تأثيرًا في رأيك؟ في مجال المقالة والبحث، أو البحث التاريخي، أو في الفن مثلًا، المسرح، والرواية أو الشعر، من هي الأسماء المهيمنة بفعل شكل التعبير ذاته أو بفعل الكتابة ذاتها التي مارسوها؟
– سأعود مرة أخرى إلى نجيب محفوظ، ليس بدافع السهولة، لأنني هو الذي أعرفه على نحو أفضل، بل لأنني أعتقد أنه تاريخيًا لعب الدور نفسه تقريبًا، بهذا القدر أو ذاك، الذي لعبه فلوبير في الأدب الفرنسي. أوضح: أن يكون فلوبير كاتبًا جيدًا أو كاتبًا رديئًا، (من الممكن مناقشة ذلك) لا أهمية له في النهاية. فلوبير هو رجل، في الأدب الغربي، ممتاز لأن الرواية الحديثة ولدت بصورة حقيقية معه. وبالطريقة ذاتها، يمكن أن أقول إن نجيب محفوظ مهم على صعيديْن: من ناحية، لأنه عمل من خلال بلد هو أحد البلدان العربية الجوهرية، أي مصر، على إبداع شيء عربي بصورة عميقة آخذا الأشياء وفق ثقل شعب بأكمله. ولهذا السبب، في الواقع، استقبلت رواياته، بما في ذلك الروايات المترجمة، من ناحيتها، من قبل الجمهور الفرنسي. هناك القليل منها، لكن الاستقبال هنا على الأقل كان مواتيًا جدًا. الأمر الثاني، والأهم على وجه الاحتمال، هو أن محفوظ -لم يكن الأول لكن أعتقد رغم ذلك أن معه إنما انطلقت الحركة حقًا- لعب دورًا جوهريًا في تاريخ اللغة العربية. بالنسبة إلى الشعر، أخيرًا، كانت الأمور أكثر سهولة: كان عليه أن يجدد موضوعاته وفضاءه، وغاياته، وأغراضه. لكن النثر العربي، من ناحيته، النثر العربي في الكتابة الروائية اليوم، كان عليه أن يبتكر نفسه بنفسه. لأن، الأدب العربي الكلاسيكي في النثر، ونحن نعلم ذلك، هو أدب يُعلِّم. فلا ممارسة للأسلوب في النثر.
لا أقول إن كبار الكتاب العرب الكلاسيكيين يكتبون بصورة سيئة، أقول إنهم لم يكونوا يكتبون من أجل أن يكتبوا جيدًا، وهو أمر مختلف تمامًا. كانوا يمسكون القلم لأنه كان لديهم ما يقولونه. على العكس، وأعتقد أنه يجب أن نعود إلى محفوظ، يوجد، على مستوى الرواية، إرادة إبداع لغة روائية، تحرير لغة محدثة، أو ربما مبسّطة، بلا شك، في طرق كانت حتى ذلك الحين مجهولة عمليًا. حتى رواية زينب؛ كانت رواية زينب لا تزال تنتمي إلى لغة كلاسيكية جدًا، عفا عليها الزمن تقريبًا، إن حكمنا اليوم عليها بصورة استرجاعية. أعتقد أن محفوظ هو حقًا مَنْ فجر أطر النثر العربي المعاصر. من دون نسيان شيء شديد الأهمية: حجم إنتاجه نفسه، وفي مجالات شديدة الاختلاف. الرواية الاجتماعية مع الثلاثية، الرواية التي كانت بعض الشيء، كيف أقول، مشدودة، مُقطّعة، مع “اللص والكلاب”، ثم القصص القصيرة.
* وماذا تفعل بوجه مهم مثل طه حسين الذي كان معروفًا في الغرب ولاسيما في فرنسا؟
– نعم. من المستحيل، طبعًا، إنكار أهمية طه حسين، بما في ذلك ظهور لغة عربية جديدة. لكني أعتقد رغم ذلك، مخاطرًا في أن أصدم بما أقول، أن ثمة مسافة أقل بين النثر العربي الكلاسيكي ونثر طه حسين من تلك التي بين نثر طه حسين ونثر نجيب محفوظ.
* وكيف تقيِّم التجربة اللغوية لتوفيق الحكيم بهذه المناسبة؟
– فعلتَ حسنًا بالحديث عنه. يمكنني القول إنه بين كل مبدعاته، لو كان يجب الحفاظ على واحد منها، لكانت “يوميات نائب في الأرياف”8 التي هي تحفة، والتي ربما تتطلب اليوم ترجمة جديدة إلى الفرنسية. ثمة هنا في الواقع الجهد نفسه المبذول على اللغة من قبل نجيب محفوظ (لكني أتحدث عن “اليوميات”، ولا أتحدث عن مجمل إنتاج توفيق الحكيم الذي هو أكثر كلاسيكية بكثير من محفوظ) مع الدعوة إلى اللهجة العامية، على الأقل في الحوارات؛ وخصوصًا، ما يصنع بالنسبة لي قيمة هذه الرواية، هو العرض المذهل لمنظر الطبيعة المصري المصنوع من الأرض ومن الماء، بين الليل والنهار، نوع من منظر غامض، كما كان جاك بيرك يقول، مع كل ضروب الرنين والأصداء التي يمكن أن تثيرها هذه الكلمة.
* هل يسعنا في نظرك، الحديث عن أدب عربي مكتوب بالفرنسية؟ وذلك حين نتحدث عن أدب مغاربي كتب بالفرنسية…
– هل يصنع طاهر بن جلون أدبًا فرنسيًا ذي صدى عربي أم أدبًا عربيًا مكتوبًا بالفرنسية؟ أنا أعتقد أنه أدب عربي كتب بالفرنسية، ومن أجمل الآداب. ما كان من الممكن لأي كاتب فرنسي أن يكتب ما كتبه طاهر بن جلون. أنا فعلته مع ليلي يا عقلي، ولكن لماذا؟ لأنني زرعت نفسي في الأدب الذي أعرفه عبر النص. لم أستثمر نفسي كما فعل طاهر بن جلون في العالم الذي ولد فيه. ليس من الممكن ذلك، فقد ولدت في الغرب، وأنا فرنسي؛ هناك مقاربات، هناك مواقف سوف تفلت مني دومًا. لم أولد مع اللغة العربية.
* وبالتالي أنتَ تختلف كليًا مع بعض من زملائك الذين اعتبروا أن أدبًا كتب بالفرنسية لم يعد أدبًا عربيًا حتى ولو عبر عن حساسية عربية. لا أريد أن أرمي حجرًا في حديقة جاك بيرك (كما يقال بالفرنسية) لكن، حين كتب كتابه عن “القول العربي راهنًا” (Langages Arabes du présent)، اكتفى بالحديث عن وبتحليل نصوص كتبت بالعربية حصرًا، من دون أية إشارة إلى ما سبق أن كتب بالفرنسية من قبل العرب.
– هذا صحيح، لأننا لا نستطيع أن ننكر أن أدبًا فرنسيًا، هو أولًا أدب يكتب بالفرنسية، حتى وإن كان الأجانب هم الذين يكتبونه. المشكلة هي معرفة الأجزاء الخاصة بكل من فرنسا والعالم العربي التي يتألف منها هذا الأدب. لا نكران أن هناك جزءًا، الجزء اللغوي، الذي يعود كليًا إلى فرنسا، بل وحتى ذلك، لست على يقين كبير منه: هل مثل هذه العادة في الكتابة، مثل هذا التكرار على سبيل المثال (لا أتحدث عن طاهر بن جلون،. أتحدث بصورة عامة) ينتمي إلى الفرنسية أم إلى العربية؟ الفرنسية لا تحب التكرار. وحين تكرر، فدائمًا بهدف أسلوبي، بهدف قصدي، في حين أن العربية تكرر بصورة طبيعية كليًا. “فأمر أن يضربه فضربه”. حين أترجم هذا، أقول: “فعمل على ضربه”، فقط، أو: “أمر بأن يُضرَب، وأطيع”. لا أكرر فعل “ضرب”. للعودة بطريقة أكثر دقة إلى الموضوع، هناك اللغة الفرنسية كليًا، والأسلوب الذي -بنسب كبيرة- يعود بالتأكيد إلى الأسلوب الفرنسي، لكنه بنسب كبيرة، يمكن أن يتعلق بطريقة ما بالكتابة العربية منقولة إلى الفرنسية؛ ثم هناك حقل الثيمات الهائل الذي تبقى نِسَبَهُ خاضعة للنقاش.
* كيف تفسر الغياب الكامل حاليًا للأدب الغرامي في الأدب العربي المعاصر، في حين أن العرب، في العصور الكلاسيكية، أنجزوا كتابات مذهلة في هذا المجال؟ لا أتحدث عن ألف ليلة وليلة فقط، بل عن كتب مثل الروض العاطر في نزهة الخاطر للشيخ النفزاوي.. كيف تفسر هذه الظاهرة؟ ضروب الرقابة مثلًا؟
– لا أعتقد.. أعتقد أن البشر يتكلمون عما يرغبون في الكلام عنه، عما يشغلهم. هناك شعار شهير منذ سنوات عدة في الغرب: “مارس الحب، لا الحرب”. يمكنني القول للأسف! أن العرب مشغولون كثيرًا في هذا الوقت بالصراعات التي تقلقهم. إنهم ليسوا الوحيدين، لأن الصراعات في الخليج أو في فلسطين، أشعر بها أيضًا، ربما، في الواقع، لأنني أهتم بالعرب ولأنني أحبهم جيدًا، ولأن صراعاتهم، بفعل ذلك، هي أيضًا صراعاتي. أعتقد ذلك لأن مأساوية المعيش التاريخي، وأولًا مع ما يقتضيه من أجل الحياة اليومية، من أجل “الشعور المأساوي للحياة”، يشغل العرب في الواقع أكثر من التعبير عن الحب (لا أقول الحب، آمل أن الحب نفسه يشغلهم رغم ذلك!) الذي لا يُرى بوصفه أولوية، نظرًا للجو المأساوي الذي يستمر في أن يكون جو التاريخ المعيش من قبل العرب اليوم.
* هل يسعنا الحديث عن آفاق الآداب العربية؟
– من الصعوبة بمكان الحديث عن ذلك أيًا كان الأدب. في الواقع، هذه المشكلة هي مشكلة تاريخ المستقبل. كل شيء يمكن أن يتغير بين ليلة وضحاها حين تخرس الأسلحة عن الخليج وحين يستعيد الفلسطينيون وطنهم.
* تحدثتُ عفويًا عن آداب عربية معاصرة. هل علينا الحديث عن آداب أم عن أدب عربي معاصر؟
– عن الاثنيْن. أولًا، هناك أدب لأن هناك لغة مشتركة بين كل هذه الآداب. ولكن من الممكن أن نستفيض على مدى النظر حول الاختلافات، و”الكيانات” التي توجد لحسن الحظ داخل العالم العربي. كنا نتحدث قبل قليل عن “يوميات نائب في الأرياف”: ما كان بوسع هذا الكتاب أن يُكتبَ خارج مصر. وربما لم يكن ممكنًا لهذه القصة أو تلك من قصص فؤاد التكرلي، التي ولدت في هذه الماهية القاسية إلى حدٍّ ما للروح والمشهد العراقيين، أن ترى النور في تونس العذبة…
الهوامش
1 – نشر هذا الحوار في مجلة الماغازين ليتيرير (Magazine littéraire)، باريس، العدد 251، الصادر في شهر آذار/مارس 1988. كان هذا العدد مكرّسًا لـ “الكتّاب العرب اليوم”..
2 – Géographie humaine du monde musulman (Editions Mouton-De Gruyter)
3 – L’Islam et sa civilisation, (Editions A. Colin)
4 – Laylâ ma raison, ( Editions du Seuil)
5 – كنا في عام 1988، السنة التي جرى فيها هذا الحوار
6 – جورج براسانس (Georges Brassens)، ولد في 22 تشرين أول 1921 وتوفي في سان جيلي دو فسك (Saint-Gély-du-Fesc) في 29 تشرين أول /أكتوبر عام 1981، هو شاعر ومؤلف موسيقي ومغن فرنسي. كتب موسيقى أكثر من مائة من قصائده وأدّاها بصوته مع العزف على الغيتار.
7 – تعتبر رواية زينب التي صدرت عام 1914، للكاتب المصري محمد حسين هيكل بصورة عامة أول رواية في الأدب العربي..
8 – ترجم كتاب توفيق الحكيم الشهير يوميات نائب في الأرياف إلى الفرنسية تحت عنوان “نائب في الريف بمصر Un substitut de campagne en Egypte” وصدر عن منشورات بلون (Editions Plon).