بدا واضحا أنّي فقدتُ يوم الخميس.
لم تكن أزمة كالتي ترافقني سنة أو سنتين في شكل فكرة غاية في الغباء ثمّ تمضي. كان الأمر في البداية شبيها بمجّ سيجارة مثقوبة. أشياء تحدث كما ينسى المرء إن كان صافح أحد الذين التقاهم، وليرحم نفسه من جلد الذّاكرة يظلّ يردّد في سرّه: «لا يُعقل أن لا أكون صافحته وإلاّ لتجهّم وجهه بدل الإشراقة التي لم تفارق مُحيّاه». لابدّ أنّي لم أحسم مسألة خروج الخميس من حياتي منذ الوهلة الأولى، رغم وقعها المُقرف الشّبيه برفع دلو فارغ ظنّا أنّه ثقيل، عشرات من هذا في الدّقيقة أو أفضع. على كلّ لم يعد جديدا عليّ أنّ كلّ شيء باتت تليق به عبارة واحدة: «ليس هذا!». لابدّ أنّ أسبوعين على الأقلّ قد نجحا في تضليلي بدعوى المُصافحة الّلعينة. دون شكّ لم أنتبه إلاّ بعد فوات الأوان. فمثل هذه الهزّات لا تحدث إلاّ عندما نبلغ سنّا نُسمّي فيها الحياة بقيّة العمر. بطيب خاطر نفعل.. هكذا تراءت لي الأشياء طواعية كأنّها تتبرّع لي بعلاج مجانيّ وأنا أتأكّد أسبوعا بعد آخر أنّي لم أعد أملك الخميس كبقيّة النّاس. يُفتَرض أنّي قلت كأنّي أندم بشدّة أو كأنّي أقرص مداركي: »تبّا! فيم يتسرّب الخميس». ثمّ يجدر بي في مناسبة أخرى أنّي قلتُ حانقا على طريقة الذين تمرّ بهم أوقات عصيبة جرّاء أناس طفيليين: «إنّها المرة الثانية على التوالي». حينذاك لم يكن هناك ما يدعو إلى القلق. كنت في سعة لأصرّح بأنّي أتعرّض إلى السّطو، أو أنّ ما يحدث معي ليس مجرّد غرض سقط من سيّارة أو شخصيّة تظهر للمرة الثانية في رواية كنّا نسينا كلّيا ما يتعلّق بها. أو أصدقاء كشعر الرّأس يسقطون تباعا لكثرة مشاغلي.
لم تكن البتّة مجرّد تهيّؤات مخبولة. حقيقة لم أعد أجد يومي. وهكذا تمرّ الأيّام طبيعيّة من الأحد إلى الأربعاء. حتّى إذا جاء الخميس موعد اجتماعنا الأسبوعيّ ضاعت بوصلتي وارتبك التقويم لديّ و رفسته الأيّام. في الغد أسأل سكرتيرة المدير ما إذا كان الاجتماع قد بدأ، فتجيب دائما: « ما بك شادي؟ اليوم هو الجمعة. أم تريد منّا أن نجتمع كلّ يوم».
أين الخميس؟
جُمُعتهم التي يُفترض أنّها خميسي أفاجأ بالحانات مُغلقة صمّاء كمقبرة اليهود ومُستودع الحجز. أشعر بأسياخ تخترق دماغي لا لأنّي لن أتحوّل عشيّتها إلى كائن يُعجبني، بل لأنّي لم أكن متهيّئا لخيبة في ذلك الحجم. السّبت هو الجمعة بالنّسبة إليّ لذا لا تراودني الرّغبة في شرب البيرة. لقد تربّت على ذلك كلّ خليّة في جسمي على نحو ما كأنّ صوتا بوقر سحريّ يصدح في داخلي: «إنّه ليس اليوم المثاليّ لهبوب نسمات لطيفة في الرّأس». يوم الأحد أستيقظ من تخلّفي لأنّ معظم النّاس يلبسون بدلات رياضيّة مُشمّرة تظهر الحذاء الأبيض مُستسلمين للكسل كقردة. لا أتوه عنه أبدا حتّى لو شُلّ عقلي. معمل كآبة. نحن موظّفون عنده، رغم ذلك نسمّيه يوم راحتنا. ليس ثمّة أمر مُكلف أكثر من أن تشتغل لحساب الرّاحة. يا للسّخرية! إلاّ أنّ نقمتي عليه قد تقلّصت. في النّهاية هو الذي يمنحني فرصة متجدّدة لألحق بركب اليوميّين فأجد نفسي مثلهم على خط البداية الصّائبة. عندئذ غالبا ما أنسى بشيء من العاطفيّة أنّي خلّفتُ ورائي أسبوعا مُشوّشا خاليا من الخميس. طوال الأيّام الأربعة الأولى أنغمس في مراجعة الفواتير. رويدا لمّا أضحى ثابتا بأنّي عند كلّ منتصف أسبوع أتقهقر إلى الوراء يوما، فترت همّتي مع الأرقام وصرت أعولّ على الحدس فيما يتعلّق بالجداول. فأكتفي بفحص المبالغ بصورة روحانيّة سخيفة تعني فقط أنّي أهدّدها بتحرّ بالآلة الحاسبة لا يُبقي ولا يذر إن هي لم تعترف وتكشف لي عن أخطائها المحتملة بنفسها. بعضها فيما ندر كان يُسلّم نفسه. نتيجة لذلك تفاقمت زلاّتي وبتُّ أسمع التوبيخ والوعيد من رئيس القسم وحتّى التّهديد بالعزل. أمّا بقيّة الزّملاء فقد راقهم في البداية أنّي متخلّف عنهم مُعلّقين بعبارات تهكّم لا تخلو من شفقة أحيانا، ثمّ بعد ذلك أذعنوا حتّى أصبحتُ دون حاجة إلى التخيّل أمشي بينهم وسط جوّ ثقيل مشحون بالكلام المكتوم كما لو أنّ بقعة زيت تلوّث معطفي من الخلف، أو كأنّ خصلة شعر مَضحكة تنتصب نافرة أعلى رأسي. بعضهم فكّرتُ أنّهم يخافونني فقد صرت على الأرجح أبدو في نظرهم عبوّة أذى يلفّها الغموض من كلّ جانب. استمرّ الحال كذلك دهرا قبل أن يطلبني المدير خارج الاجتماع. أبلغتني السّكرتيرة أنّ موعدي هو السّبت. قمت بكلّ ما في استطاعتي لأظلّ يقظا أعدّ السّاعات التي تفصلني عن الموعد لكنّي في الأخير أخلفته ظنّا منّي أنّ الجمعة. بعد أيّام تلقّيت منه مُذكّرة تجرّدني مهامّي كمحتسب. لاحقا علمت أنّه عهد بها إلى رئيس القسم الذي لم يعد يطيق رؤيتي حتّى من بعيد. ليقتصر دوري دون تغيير يُذكر على حضور الاجتماع وتحرير تقريره الختاميّ. يدرك جيّدا أن لا أحد في وسعه إنجاز المهمّة أفضل منّي، فأنا الوحيد الذي يفهم جيّدا بل أكثر منه مدى تعلّقه بذكر توصيات الانضباط عند كلّ نقطة نطؤها، بالإضافة إلى طريقتي الفريدة في القيام بالـ«ريتوش» اللاّزم لنبدو كما لو أنّنا تطرّقنا إلى مواضيع غاية في الجديّة وأنّ نيّة المدير كانت دفع الحوار إلى أقصى ما يمكن أن تسمح به قدرة البشر على إبادة فريقه في العمل، وأنّ ما أثاره ساعتها ثورة بمعنى الكلمة و في منتهي الحرفيّة و كلّ الّلغو الذي يتبع. مع أنّ كلامه في الواقع لا يعدو قرع علب صفيح وأقواسا تتناسل كالبكتيريا. لم أعد أصغي إليه أبدا بعدما اكتشفت أنّ ذلك يعود بمنفعة أكبر على التّقرير. قبل سنين خلت كان حديثه يصيبني بتشنّج في رقبتي وخاصرتي وآلام مبرّحة في الخصيتين. كنت على امتداد أربع ساعات كاملة كمن يحاول الأكل بملعقة مقبضها خيط. أثّر ذلك سلبا على جودة التّقرير بصورة يصعب تفاديها. لم يكن يخطر لي أنّ في استطاعتي عدم الاستماع إليه لو أردت.
بياطرة دائرتنا ومهندسوها لا يعيرونه بالا. أحيانا كانوا يهينونه على مسمع منّا جميعا. بذريعة العمل الميداني، يعلّقون المناجل يوم الثّلاثاء كما يُقال. لا أحد يجد لهم أثرا. لا أدري متى وكيف يتمّ الاتّفاق على أشياء كهذه. ربّما في اليوم الذي ينقصني. ربّما على طريقة حبوب الّلقاح، بعلوية وصمت قاتلين. تبّا لو رأيتِهم يا أمّي كيف يلوّحون لنا بأيديهم عشيّة الثّلاثاء مُغادرين الدّائرة كأنّهم في مدرج طائرة. ما أجمل تخطّي البوّابة أمّاه. لطالما تمنّيت أن يصرخ فيهم أيّ كان: «عودوا أيّها السقّاط!». ثمّ كأنّ العالم مغلوب على أمره يمضي الأسبوع بائسا رتيبا في تحاشي هذا لأنّه يطمع في الاستحواذ على مكتبي بقوّة التذمّر الجبّارة. وتلك لأنّ ضحكتها تجعلني أشعر أنّنا أطفال في المدرسة وأنّها طرحتني أرضا وتفتكّ حلواي تنزل بنطلوني في السّاحة أمام الجميع. و تجنّب ذاك لأنّه لا يعي بوجوده أكاد أجزم، وتلك لأنّ ضحكتها تشبه ضحكة رجل يقلّد ضحكة امرأة، والهوائيّ الآخر لأنّ شيئا في العالم لا يزعجه. يوم الأربعاء لا أغادر مكتبي مع ذلك لا يجدونني. يوم الخميس نجتمع صباحا ثمّ أفقده.
خسرتُ الكثير من الفرص الرّائعة بسبب الخميس الّلعين. حسنا لنقل إنّ ذلك كان مُقدّرا وأنّي ما كنت لأحقّق أمنية لو قُدّر لها أن تضيع. أتفهّم جيّدا. لكن من يُقنع عرق جبيني بأن لا يتصبّب باردا مع كلّ واقعة مهينة أتعرّض إليها؟ كيف أنسى نظرات الازدراء التي لعقني بها حارس الدّائرة لعقا لدى التحاقي بالعمل يوم عيد الجمهوريّة. لم يُصدّق أنّي أخطأت عدّ الأيّام لمّا صارحته، ثمّ لم يُصدّق فيما بعد أنّي أمزح. لكنّ ذلك لا يُساوي شيئا مُقارنة بدخولي الحمّام العموميّ يوم السّبت ظنّا منّي أنّه الجمعة. النّساء اللّاتي تطلّعن في عيناي بذهول لا يمكن أن يكون بشريّا، صرتُ زيادة على خجلي الذي لم يتبدّد، أصادفهنّ يوميّا على غير العادة. عندها بشكل حاسم قرّرتُ إنهاء المهزلة. الذي يُحكى فقط دون سواه هو أنّي اقتنيتُ علبة أقراص لمنع الحمل لأنّ عليها أيّام الأسبوع. ظننتُ أنّي بهذا الشّكل و أنا أتناول حبّة كلّ مساء سأتمكّن من مواكبة الزّمن بشكل طبيعيّ. تناولتُ حبّة يوم الأربعاء. ثمّ عدلتُ عن المواصلة فقد خطر لي أنّ البداية الأنسب هي الإثنين. لكن لدى وصلي إلى الإربعاء وجدت مكان الحبّة شاغرا فحسبته الخميس. يوم الاجتماع. موعدي مع الإبداع. جهّزتُ ما يلزم. دخلتُ القاعة. أحسستُ كأنّي أقتحم بيتا. كان مجرّد إحساس عابر، لم يتأكّد مصدره إلاّ عندما ألفيتني وحدي بقيّة الوقت. أمضيت ساعتين متظاهرا بأنّي أستغلّ رحابة الطّاولة كي أنشر وثائقي وأرتّبها. لم يشكّ أحد في سلامة عقلي. كان بين أوراقي تقرير الأسبوع الفارط. لفت انتباهي عفويّا التّاريخ المُسجّل في الأعلى. بأمر من المُدير يتحتّم عليّ أن أكذب حتّى في هذه. أن أصوغ نصّ التّقرير كما لو أنّنا اجتمعنا الأربعاء. فالسّادة البياطرة والمهندسون لا يحضرون اجتماع الخميس. نحن بارعون في تزوير الحقيقة حتّى لا يُشتبه في مصداقيّتها. سيوقّعون لا محالة عندما يشرّفوننا الإثنين. ليسوا سيّئين فهم يوقّعون دون أن يقرؤوا حرفا. الكلّ يكره الكلّ هنا. وموكول إلى تحفتي أن ترشّ العطر على عفونتنا. كم أحبّ عملي. ما علينا بهم! المُهمّ هو أنّي عثرتُ على الثّقب الذي يتسرّب منه خميسي. لم أتصوّر أنّي أخشع بهذا الشّكل المُذلّ أثناء كتابتي التّقرير. إنّما ولأنّي أكرهها فقد كلّفتُ الشابّة التي تفتكّ منّي حلواي حين تضحك بمساعدتي. استأهلت.
اليوم هو الجمعة. الجمعة الحقيقيّ كالذي في كلّ مكان. لقد استعدت الخميس أخيرا. لا يمكنني الجزم فيما إذا كان الفضل يعود إلى أقراص منع الحمل أم لا لأنّي في النّهاية لا أملك دليلا على العكس. إلاّ أنّي على يقين من أنّ مكوثي ساعتين في قاعة الاجتماعات المُتجمّدة هو الذي جعلني أفهم ما يتعيّن عليّ القيام به إذا أردت استرداد يومي والذي يليه: أن لا أكتب التّاريخ بنفسي.
محمد فطومي