عبدالله خليفة عبدالله
كاتب عماني
استيقظَ هلِعا في منتصف الليل.
يعرف أن ذلك الشيء هنا. يحاول أن يتأكد من وجوده، ولكنه ينتفض لمجرد التفكير في أنه يمكن أن يكون هنا بجوار نافذته.
أزال لحافه وهو ينتفض
حاول أن يخرج من سريره ويضع قدميه على الأرض ليقف، ولكنه ترنّح وسقط على السرير،
لابد أنه هناك بجوار النافذة في الخارج ينتظره. سيراه بمجرد أن يفتح النافذة
سيراه ويكون كبيرا بما يكفي لكي يبتلعه..
شعور لا يفهمه يُلحُّ عليه أن يكتشف هذا السرَ
يسحب نفسه خارج السرير ويبدأ في الزحف في اتجاه النافذة
يقف على قدميه رويدا رويدا عند النافذة
يسحب الستارة بيده المنتفضة
يعرف أنه لو استمر يسحبها ببطء فلن يقوى على فتحها
سحب الستارة بقوة فجأة
رآه
هو هناك
في الأعلى
فوقه تماما
مُنتفِخٌ وأبيض
متكوّرٌ في السماء بشكل بشع
بدأ جسمه ينتفض وهو يشاهد القمر المكتمل
هو هناك رابض في الأعلى يحدق فيه بعينه الوحيدة الكبيرة التي تملأ جسمه
بدأ يشعر بدوار وغثيان
سقط على الأرض وبدأ يتقيأ.
أخذ يزحف في اتجاه السرير وغطّى جسمه باللحاف.
ينتفض جسمه بقوة تحت اللحاف.
يحاول جاهدا أن يطرد المشهد والفكرة والصورة، ولكن هذا الذعر القادم من الذكريات البعيدة ينهش عقله وجسمه.
سمع صوت أمه يقترب ثم يعلو. قام ووجد الصباح قد عمّ المكان. ولولا أن الأمر قد تكرّر ثلاث مرات حتى الآن لظنّ أنه كان حُلما. أيقظته أمه لأن اليوم هو السبت، موعد عودته إلى العاصمة للدراسة والرجوع إلى سكنه الجامعي. لم يعتد الأجواء المزدحمة بالناس والحشود الكبيرة مثل الجامعة الكبيرة التي يدرس فيها الآن. مضى العام الأول هادئا منذ أن فارق عائلته لأول مرة، ولكن الوضع قد تغير كما تقول أمه.
استيقظ بجسم متعب وعقل حائر ورأس مليء بالصداع مثل المرتين الماضيتين. لا يفهم كيف بدأ الأمر ولكن هذا السرّ الغريب ظلّ داخل عقله وحده.
منذ شهرين بالصدفة عرف أنه يخاف القمر المكتمل.
لم يصدق ذلك في البداية خصوصا انه لم يجد مصدرا موثوقا ليؤكد له أن هذا النوع من الخوف المرضي موجود.
لماذا؟ تساءل طوال الأيام الماضية ولم يعرف جوابا. لحسن حظه أنه لم يكتشف أحدٌ بعد مصيبته هذه. ظَلّ يختبيء في غرفته حين يعلم أن القمر سيكتمل. كان يقول لنفسه بأن الأهم الآن هو أن لا يصل هذا الخبر إلى زملاء الدراسة في الكليّة وإلا أصبح أضحوكة الجامعة وضاع طموحه كله سدى. كان يقنع نفسه بأن هذا لا بد أنه مؤقت. يشعر بأن ثمة ذكرى بعيدة في عقله استيقظت الآن ولكنه لا يعرفها ولا يعرف كيف يفسّرها.
يجب أن يعرف السرّ قبل الآخرين لكي يستطيع أن يحله قبلهم وينقذ طموحاته بالقيادة والنجاح في المستقبل.
أمه قلقة كثيرا وأخبرته بأنه منذ انتقل إلى السكن في العاصمة للدراسة لم يعد يكلمها ويشكو لها أسراره كما كان من قبل، وأنه صار انطوائيا أكثر الآن، كما وأنها تشعر بأنه يكتم أسرارا كثيرة عنها وقد صار لديه عادات غريبة.
الولد الذي يخاف القمر يحاول أن يفهم. قرأ كثيرا وشاهد وثائقيّات عن عدة أشياء ولكنه لم يفهم. قرر أن يفعل الأمر الضروري الذي لا حل بدونه. هي الفكرة التي جاءته الشهر الماضي ولكنه لم يقوَ على تنفيذها حتى الآن ولم يقوَ على تنفيذها هذه المرة أيضا. يجب أن يرى القمر وجها لوجه لكي يتذكر. يعرف أنه لا مناص من مواجهة ما يخيفه بدل تجنبه. كل الكتب تقول ذلك. سوف ينظر إليه ويتفكّر فيه وربما سيعرف سرا من الأسرار المُختبئة في داخله.
لديه فرصة كل أسبوعين ليراه، ويجب أن يحقق ذلك في المرة القادمة.
تمنى لو أن استسخافه لهذه المشكلة كافٍ لمحوها. إن لم يكن كذلك فإنه سيمحوها بالقوة. عليه أن يرجع إلى الجامعة الآن. إلى المكان الذي ولدت فيه المخاوف كلها.
الممر المغطى بالرخام أمامه يعكس شعاع الشمس الصباحي الذي توهّج على الجدران الجانبية ذات اللون الحليبي. في الركن البعيد يندمج وجه فتاة بالضوء. ملامحها تبرز أكثر قليلا كلما اقتربت قادمة في اتجاهه. مرّت من جواره بابتسامة خفيفة دون أن تلتفت إليه وقد ضمت كتابا إلى صدرها.
بعد مرورها من جانبه توقف والتفت إلى الوراء. كان كيانها المتمايل يغرق رويدا رويدا في الضوء وهي تمشي في الاتجاه الآخر للممر حتى اندمج تماما في الضوء واختفى.
ليست المرة الأولى ولكن لها لذة المرة الأولى. جلس في زاوية في نهاية الممر الجامعي يفكر ماذا سيكون رد زميلته هذه لو انكشف أنه يخاف القمر!
ضرب بعصبية بيده على الكتب التي يحملها. عزم على أن يحل هذه المسألة وينهيها بأسرع وقت. لا بد أن هناك سببا لهذا الخوف الغريب، وحالما يكتشف السبب سوف يختفي الموضوع.
استغرقه التفكير دقائق عند ممر مبنى الكلية ولكنه قرر الذهاب الى المكتبة الرئيسة حيث أماكنه السرّية للقراءة والتفكير العميق.
أيعقل أن لا تساعده الكتب الكبيرة التي يقرؤها على حل مشاكله الشخصية وهو الذي بدأ يقتنع بأنه خلق لحل المشاكل الكبيرة. منذ رأى المكتبة الرئيسة في جامعته أولَ مرةٍ صارَ مهووسا بالقراءة. لديهم هنا طابق تحت الأرض يحتوي دوريّات أدبية وجرائد ومجلات مؤرشفة. نمت عادة قراءته في هذا الطابق بسرعة منذ السنة الأولى. يأخذ كتبا في الفلسفة من الأرفف التي في الأعلى ثم يهبط إلى هذا الطابق الذي يقل فيه الزحام وتزدهر فيه القراءة أكثر. يضعون طاولات خشبية مصقولة دائرية الشكل حواليها الكراسي ذات المخمل الأحمر الوثير.
الأسبوعان الماضيان تعكر مزاجه وتعكرت قراءته بسبب القمر المتوحّش وأيضا بسبب هذه الفتاة التي يراها.
جلس على الكرسي ذي المخمل الأحمر يراجع حياته.
هذه سنته الرابعة والأخيرة. رغم أنه لم يعقد صداقات كثيرة فإن الاشياء مضت بطريقة معقولة. حين غادر قريته الهادئة وجاء هنا كان قلقا كثيرا في البداية. بدأ بعلاقات جيدة مع زملائه القادمين من نفس القرية وكانوا يعتنون ببعضهم في هذا السكن الجامعي الواسع والكثيف. لكنه سرعان ما تركهم بسبب المكتبة. من حيث أتى فإن المكتبة المدرسية الصغيرة كانت غير كافية لطموحاته العريضة في القراءة والاطلاع على كل المعارف وكان يتوق لمكتبة أكبر. لم تخذله المكتبة الجامعية الكبيرة. ثم اكتشف الطابق الأرضي في المكتبة. هو موقعه الأثير حيث يقلّ عدد الطلاب ويزيد عدد الكتب ويستطيع أن يغرق في القراءة والتفكير. حين بدأ يحبس نفسه لساعات للقراءة، حينها بدأت علاقته بالناس تتفكك. صار يرى الزملاء مرات أقل ثم أقل ثم لا يراهم. يخرج من المكتبة في الليل عند موعد إغلاقها ويذهب الى غرفته وينام مباشرة.
منذ شهرين طلع القمر كما لو أنه يراه لأول مرة. إنه في أوج انشغاله بالدراسة وهذا القمر المتوحّش يشغله. ولكن تلك الفتاة أيضا تشغله.
لا يريد أن يكرر مأساة مرحلة الثانوية العامة. منذ صغره ينمو في داخله حب المكتبات. حين تعلق بالمكتبة المدرسية لأول مرة صار يستعير الكتب. يستعير كتبا أكثر ويقرأ أكثر في كل سنة. حين صار في السنة المدرسية الأخيرة كان قد وصل إلى حد الهوس بالكتب التي في المكتبة ونبذ المقررات الدراسية. لذلك رسب في كل المواد.
بمراقبة صارمة من أمه أعاد السنة الدراسية وغيّر النتيجة ونجح. خطته كانت أن يغادر قريته لأن المكتبة الجامعية أكبر من مكتبة مدرسته في القرية. حين خطط بهذا الشكل فإنه كان سهلا عليه التنفيذ. الطريق إلى المكتبة الكبيرة يمر من مقرراته الدراسية. نجح ووصل.
ولكن أمر الفتاة مختلف. هذا الشيء ليس شغفا نما مع الوقت طوال سنوات مثل حب المكتبة. إنه شيء لم يحدث سوى منذ شهرين ولم يجد تبريرا منطقيّا له.
نهض من كرسي المكتبة ووقف مذهولا. كيف لم تجل هذه الفكرة في خاطره من قبل. الفتاة الجديدة والخوف من القمر حدثا منذ شهرين فقط. حدثا معا.
تلفّت يمينا ويسارا. بعض الطلاب القليلين هنا ينظرون في اتجاهه. لا يعرف ماذا قال حين رفع صوته أمامهم فجأة. جمع كتبه وغادر مسرعا. حين مر من الحاجز الإلكتروني على باب المكتبة صرخ الجهاز معلنا أن كتابا في حوزة هذا الطالب لم يتم تسجيله. انتبه إلى الموظف الذي وراءه وتذكر الكتاب. وضع على الطاولة كتاب “كيف تكسب الأصدقاء وتجذب الناس” واعتذر الى موظف المكتبة لأنه لم يسجل الاستعارة وأنه لا يحتاج الكتاب الآن.
غادر ووجد الوقت قد صار ليلا دون أن ينتبه إلى أنه قضى كل النهار داخل المكتبة. كان جائعا ومشى. حين وصل الى الممر الخارجي تنفس عميقا واستغرب من نفسه كيف وقع ذلك الكتاب الذي أرجعه الآن في يده وكيف كان ينوي استعارته.
فكر في أن مشكلته تبدأ من هذا التغيير.
لطالما أقنع نفسه بأنه لا يحتاج إلى الناس أو أنه على الاقل لا يحتاج إلى هذا الكم الهائل من الناس. ولكن التقاطه لذلك الكتاب علامة خطيرة. هل الفتاة هي السبب؟
مشى في المَمرّ الضيّق المحاط بأعمدة أسمنتية ضخمة وقد عُلِّقت فوق الممر لوحات معدنية خضراء: المكتبة الرئيسة، قاعة المؤتمرات، كلية التربية. تذكر الفتاة في ممر كلية التربية.
مشى صوب الكلية.
يرى النافورة المائية في البعيد وقد انعكست عليها أضواء كاشفة.
في الأضواء التي تتراقص على الماء كان يرى الماضي يرتطم بالحاضر فيختلطان. يحاول أن يرتب أفكاره. هل تغير وبدأ يشعر أنه يحتاج إلى البشر. لماذا يخاف من القمر؟
الفتاة لا يراها سوى صدفة في الممر. جلس يفكر بأنه جبان لأن الموضوع مضى عليه شهران وهو لا يجرؤ على أن يكلمها رغم كل هذا الحنان والاهتمام الذي تقدمه له بلا سابق معرفة ودون كلمات، وفي ممر لا يراهما أحد فيه.
فكر قليلا.. لماذا لا يتصادف بها سوى في ذلك الممر الهادئ؟!
هو فعلا لا يرى هذه الفتاة سوى في الوقت الذي لا يمر فيه أحد. لا يعرف شيئا عنها. ليس اسمها فقط هو ما لا يعرفه، وإنما أبسط الأشياء عنها مثل الكلية التي تدرس فيها أو في أية سنة هي. الممر الذي يراها فيه هو ممر عام قريب من كلية التربية ولكن ذلك لا يؤكد من هي وماذا تدرس. ثم لماذا لا تجمعهما الصدفة إلا حين يكون وحيدا؟
ثم لماذا يخاف القمر الآن؟!
في الضوء الذي يتساقط مع قطرات النافورة رأى حقيقة جديدة. ربما هي القمر!
حسنٌ ولكن إن كانت هي القمر لماذا يحدث كل هذا الخوف الحقيقي والإغماء والتقيؤ والمرض؟! أصلا ماذا يعني أنها هي القمر؟
بدأتْ تتكشّفُ له خيوطٌ جديدة قرر أن يتبعها حتى تكشف له الأسرار.
رجع عائدا في اتجاه الممر المؤدي إلى المكتبة. أخبره شيء ما أنه بعد قليل سيتصادف بها ثانية. هي تمشي هناك فعلا.
يراها تمشي خجولة ثانية في اتجاهه ويتلفت يمينا ويسارا ولا يرى أحدا.
يقرر أن يكون شجاعا هذه المرة وينهي الأمر.
يمر بجوارها ويستوقفها. لم تتوقف رغم أنها تباطأت وسمعها تقول وهي ما زالت تمشي وتنظر صوب الأرض: من أنت؟؟
تجمد الدم في عروقه. صار مُطرِقا إلى الأرض بينما هي استمرت في مشيها مبتعدة عنه.
رمى بنظره في اتجاه الممر البعيد وصار لا يراها الآن. ليس واثقا إن كان الوقت الذي مرّ كافيا لكي تبتعد كثيرا أم أنها اختفت وكأنها شبح.
الممر يتأرجح الآن أمامه بأعمدته ورخامه وأسمنته وأحجاره. يشعر بقدمه تفقد توازنها. هل اختفت وتبخَّرَ كيانها فجأة، أم أنه لم يعد يشعر بالزمن حين صدمه كلامها وهي تمشي. لم يشغله الآن رد فعلها ولكن شغله الاستغراب من اختفائها سريعا من الممر.
عاد مسرعا في الطريق عائدا إلى غرفته في السكن الجامعي وهو ينتفض كالمحموم.
وهو يمشي صار ينظر إلى الأعلى وكأنه يحاول أن يفتش عن وحش يوشك أن يلتهمه من الأعلى. نعم فالحيوان القاتل يربض في الأعلى وليس على الأرض. كان القمر مأكولا من نصفه الأعلى حين رآه في هذه اللحظة. الوحش منحنٍ ومتقوس ونحيل لا يقوى حتى على حمل نفسه. شعر بمزيد من البغض لهذا الشيء الذي يستطيع أن يكبر ويهدده رغم أنه الآن لا حول له ولا قوة. شعر بشيء من الغثيان وأشاح بنظره إلى الأرض. يتكئ الآن على المسند الحديدي في الدرج الصاعد إلى الطابق الأول حيث غُرفته. يمر زميلان الآن إلى جواره هابطَين من الدرج. طوال الطريق لم ينتبه للآخرين في الممرات، كانوا مثل لطخات الألوان على لوحة كبيرة ولكنه الآن يلاحظ وجود هذين الزميلين بوضوح عند تقاطعهما على الدرج. يظن أنه سمعهما يهمسان بشيء ما ولكنه كان في حالة يفضل معها ألا يتكلم ولا ينظر إلى أحد.
رآهما يتهامسان بشيء لم يسمعه جيدا ثم يضحكان. يعرف أنه صار سيئ السمعة ومثارًا للسخرية بعد أن قرّرَ أن يكون أكثر ذكاء من أقرانه وأن يغرق في الكتب. حين وصل أمام باب غرفته وأخرج المفتاح شعر بطعنة في ظهره. شعر بشيء أسفل ظهره يشبه طعنة الخنجر. كاد يقع ولكنه تمسك بمقبض الباب. التفت إلى الوراء ولكن لم ير أحدًا. كان الألم يخرج من داخله ويطعن ظهره. حاول إدخال المفتاح في ثقب الباب ولكنه ما زال يترنح وتختلط الألوان في عقله. بالكاد استطاع أن يدخل المفتاح في ثقب الباب. كانت أسنان المفتاح وهي تمرق داخل القفل تصنع صوتا مسموعا بقوة. يسمع صوت أسنان المفتاح ترتطم بمسنّنات القفل في الداخل وتصدر هديرا هائلا جعل رأسه يكاد ينفجر.
الفتاة ثم القمر والآن همسات هذين الشابين تطوف برأسه، بينما يحاول أن يرمي بنفسه على السرير حين دخل.
شعر بنفسه يفتح شيئا في الغرفة ويستخرج شيئا ما وضعه في قبضة يده ثم غاب عن الوعي.
حين استيقظ كانت الدنيا ما زالت ليلا. وجد نفسه على طرف السرير وقد تكوّر مثل قط نائم. أخذ يحاول أن يفتح عينيه بصعوبة. يشعر بصداع وغثيان. ينتابه سُعالٌ حادٌ فينتفض كل جسمه. يَسعل وعيناه مغمضتان تدمعان، ثم يبدأ في الانتباه إلى شيء ما.
تذكر أنه كان يوشك أن ينظر إلى شيء ما قبل أن يقع مغمى عليه على السرير. انتبه الآن أن يده اليمنى مضمومة بقوة على شيء ما يخزه في يده.
بدأ يرخي قبضته ولكن قلبه صار ينقبض الآن. بدأ يتحسس ورقة مضغوطة في يده. جلس معتمدا على السرير وانحنى في اتجاه هذا الشيء الذي في يده. هي ليست ورقة. هذه صورة عليها كتابة. انزعج لرؤية ذلك الشيء في الصورة ولكنه يجب أن ينظر أكثر. هذا أهم خيط لديه إلى الآن نحو الحقيقة.
صورةٌ قديمة شاحبةُ الألوان كتبوا عليها ذلك التاريخ البعيد من عشرةِ أعوام. كيف طواها النسيان ومتى خبأها داخل ذلك الكتاب ثم داخل تلك الزاوية من الأدراج؟ لماذا تذكرها البارحة في لحظة الحُمّى والدّوار؟!
رجلٌ بجواره شابٌ ثم طفلان. الصورة عادية بالنسبة إلى كل ناظرٍ إليها ولكنها ليست كذلك بالنسبة إليه. الأب يبتسم ثم الابن البكر يبتسم ثم الطفل الأوسط باكٍ ثم الابن الأصغر يبتسم.
لذلك خبّأها. جميعهم يبتسمون وهو الوحيد كان باكيا يومها. الصورة اللعينة وثّقت الحدث. خلفهم يربض ذلك الشيء المستدير متربعا على عرش السماء. هو شَعرَ بذلك الآن رغم أن القمر بالكاد يُرى مع ضآلته في أعلى الصورة التي بهتت ألوانها. ركّز نظره ورأى أن القمر كان فوق رأسه تماما. ربما المصوّر يومها فكر فقط في إضافة القمر إلى الصورة بلا أية نوايا أو ربما كانت هذه الزاوية الوحيدة في الشاطئ حيث يوجد مصباح مُضاء ليظهروا في الصورة. ولكن هذه الصدفةَ في أن يكون القمرُ فوق رأسه هو بالذات شيءٌ غير عادي. هو الوحيد الباكي في الصورة وفوقه قمرٌ حزين. يبدو أن هذا حفّز رأسه على التذكّر أكثر. يومها اصطفوا للصورة كما أمر الأب. كانوا على الشاطئ. شعر بطعنةِ صَدفةٍ منكسرة تحت قدمه بينما كانوا يركضون صوب المصوّر ليصطفوا للصورة. وصل وهو يبكي والدم يقطر من قاع رجله.
احتضن الأب طفله المجروح ثم قال للعمّ: صورنا من الأعلى ولا تظهر القدم الدّامية. صورهم هكذا، جميعهم يبتسمون وهو يبكي.
في الطريق كانوا يهذون بالذكرى الجميلة على الشاطئ حين باغتهم الحادث. استيقظ في اليوم التالي وحده في مكان أبيض.
فقد أباه. الأب والابن الأصغر رحلا إلى الأبد. لم يبق سواه وأخيه الأكبر. استمرّت الحياة ولكن مرارة الفقد رسمت ملامحه الجادة إلى الأبد.
تنفّس عميقا وقطّبَ جبينه حين اندفعت الذكرى ساخنة في هذه اللحظة. إذًا كان القمر المكتملُ هناك في الليلة المشؤومة. ذلك التفصيل الصغير لم يبد أنه كان مرتبطا بالليلة البغيضة في أي يوم مضى ولكنه الآن يتذكر. لا بد أنه نظر إليه باهتمام قبيل مغادرة الشاطئ وربما أخوه الصغير نبّهه إليه وهو يهذي بالكلمات الجديدة التي تعلّمها. ربما كانَ من نافذةِ السيّارة يرمقُ هذا الأبيض المنفوخ في الأعلى حين انقلبت السيارة فجأة. كان رفيق سفر مشؤوم.
وماذا يفعل الآن. حسنا، لقد تذكّر القمر وتنبّه إلى ارتباطه بالمأساة ولكن من يعيد إليه أباه الآن.
الآن تقفز إليه صورة الفتاة التي لا يراها إلا حين يكون ماشيا وحدَه. ما هذه الصدفة غير البريئة التي تجعله يراها فقط حين يكون وحيدا.
هل تشبه القمر الذي لم ينتبه إليه أحد ليلتها سواه. رأسه يؤلمه أكثر.
ينتبه الآن إلى أنه منذ أربعة أعوام صار وحيدا بشكل غير عادي. لماذا لا يرى هذه الفتاة سوى حين يكون وحيدا؟ لماذا لم يتذكّر القمر هكذا من قبل؟