مهما أجل الموعد، نجد أنفسنا في النهاية وجها لوجه أمامه (الموت هو الموعد الآتي لابد، المؤجل ما أمكن). أجلت موعد الأشعة مئات المرات، حتى جاء الوقت الذي وجدت نفسي أرن جرس باب المختبر. كان المختبر بعيدا عن بيتي ولا توجد اليه واسطة نقل سوى – قدمي (لماذا لم أرفض عندما أعطتني الدكتورة عنوانه وأختار المختبر القريب مني؟)، لكنها تحججت بأن آلاته اكثر تقدما؟! على من تضحك، فالامر ليس أكثر من اتفاق تجاري بينهما لتبادل الزبائن، قلت هذا بخبث لنفسي، علي أن أطيع فهي تعرف مصلحتي اكثر مني.
ثم، ثم من يستطيع الجزم بأنها غير محقة وان اتهامي لها ما هو الا تبرير لكسلي الذي بدوره يخفي قلقا. وصلت في الساعة المحددة، بعد مسير نصف ساعة ! ضغطت على الجرس دافعة الباب كما تأمر اللافتة المكتوبة قربه . (أحب الابواب التي تفتح عندما تراني).
– بونجور:
لم يرد علي أحد، توجهت لغرفة الانتظار يقودني سهم وانتظرت ..
وهل الانتظار يحتاج لغرفة خاصة به، تمضي الحياة ونحن ننتظر. وأنا صغيرة لم أكن أحب ان يؤخذ لي صور أما الآن فأنا استسلم للعدسة بسهولة لكي تسجل وجودي الذي أنساه أحيانا، وكأنني بحاجة لأدلة عليه! وعلى الرغم من خوفي بأن اتفاجأ بصورة لي أبدو فيها كما لا أحب، اجد في التصوير لعبة .
– شتان ما بين التصوير الشعاعي والفني! رددت هذا كمن اكتشف سر الكون (كم نسعد احيانا باكتشافات البديهيات ). ايقظني من استرسالاتي الصوت الحاد لعاملة الاستقبال .
– مدام شامبوراكيس.
– كومبوراكيس من فضلك !
– هل انت من أصل يوناني!
– بل من أصل سوري.
بدا على وجهها ارتباك طفيف اعتدت أن الحظه، لم ارغب ان أشرح لها المزيد فقلبي بدأ يتسارع لرؤية امرأة في روب أبيض مقبلة باتجاهي داعية ان اتبعها لغرفة الاشعة ! أمرتني أن أنزع الاعلي من ملابسي وأن أنتظر.. آه الانتظار!! بينلوبا وغودو التي تنتظر والذي لا يأتي.
علمنا هذا العصر الا نعرف معنى الانتظار، سرق منا الوقت ولذة الانتظار والصبر.. (أيوجد لذة في الصبر)، نجد الطعام جاهزا.. الرسائل تبعث بواسطة الفاكس .. التليفون – الانترنت الفاكهة في كل الفصول .. الدجاج تحت الاضواء.. الاطفال في الحاضنات .. لماذا لا.. أنا مع ربح الوقت .. والوقت هو الحياة .
بدأت اتخلص من قشوري، وأنا أتذكر عمتي وهي على فراش مرضها، وصديقة فقدت شرها بفعل المعالجة الكيماوية، ثم نساء حولي عرفتهن وسمعت عنهن، دون ان يكن لهن الحظ بزيارة طبيبة لمعرفة ما يجري في اجسادهن، ليتعالجن في الوقت المناسب من أمراض كان يمكن ان يشفين منها لو عرفن بوجودها باكرا.
عادت تحمل علبا ودون أن تنظر الي دعتني ان اقرب من آلة حديدية عملاقة، اسدلت لي ذراعي بعنف والصقتهما بي ثم دفعتني من ظهري الى الامام لتقبض كحارس مرمى متمرس على ثدي.. قلت مازحة :
– سيصعب عليك الفحص ..لـ
لم تجب شادة اياه بقبضتها.. مددته كعجينة وأطبقت عليه الناحية المتحركة للآلة بعجلة لخوفها أن ينسحب او ان يتقلص فأصبح بين طبقتين كسندويتشة، قلت في نفسي: اللعنة على هذا الفحص .. لابد وأن يتهدل صدري من كثرة الشد والمط، هنا بدا لي الحجم غير مهم .
صورته وهو معصور بين فكي الآلة من فوق ومن تحت وعلى جوانبه، وعصرته ما امكن وما أوجعه، قلت لأكسر الألم والصمت، بعد أن قطعت أنغامي طبقا لأوامرها حتى الاختناق : لا استطيع القول بأن لك ابتسامة جميلة ؟!
(يا له من يوم بخيل )، كأنني في كابوس، عادة البشر في الحياة الاجتماعية ان يكونوا لطفاء لتسهيل التعامل ما بينهم .. هنا في هذا الممر لا اثر لأي روح انسانية لأي ابتسامة، حركت مستنقع فمها عمدا أريد استفزازها فردت علي بسرعة مذهلة، كأنها تنتظر ملاحظتي.
– اتظنين ان المرضى يبتسمون !
– كم أعجب بمن يجيب بسرعة، دليل على ثقة بالنفس متينة .
– أنظري كيف ابتسم، ابتسمت رغم القلق والخوف . قالت وهي خارجة وكأنها لم تعر ابتسامتي أية أهمية :
لا تلبسي – انتظري الدكتور!!
جلست نصف عارية، بصدر ساخن، احتلمت النظر اليه كأنني لأول مرة أراه، هذا الذي يعطي منافذ اللذة، الذي منح حليب الأمومة لثلاثة أطفال، والذي لا أفتأ التهكم منه !!، شعرت برضا حنون نحوه فهو جزء من أنوثتي وملامحها، تصورت نفسي بدونه وكيف سيمارس الحب بعده .. هل سيتحمل البتر؟! وهل .. وهل ..!
ثم تعجبت فجأة بدون ان استنكر العمليات التجميلية التي يخفينها بعض النساء من اجله، تذكرت جارتي العاملة في مصنع للحقائب والآتية من قرية صغيرة في تركيا وفرحها بصدرها الجديد بعد ان كانت تقوس ظهرها لتخفيه وتطمس معالمه .
حاولت فهم هذه المرأة البسيطة، لكن في النهاية لم يكن هنالك شيء صعب على الفهم، رغبة امرأة ان تصبح مرغوبة، مشتهاة ومحبوبة .
دخل الطبيب بهيئة جدية كمن تخرج لتوه من الجامعة، سلام قصير وهو يصنع الـ"كليشيهات" على المصطبة المنورة لقراءتها، ومن دون ان ينظر الى سألني:
– ما عمرك .
– الديك اطفال .
– هل ارضعتهم .
– أتأخذين حبوب منع الحمل ؟!
– هل حيضك منتظم .
– هل هناك احد من اسرتك مصاب بسرطان الثدي؟؟!!
شعرت بخوف طالبة المدرسة ان اخطأت بالاجوبة فأضرب على اصابعي بالعصا! اذ كان علي أن ارد بسرعة ! فلا وقت للتضييع ؟! الوقت .. الوقت .. الوقت ) أم كالمتهم اذ يقول كلمة تساعد على اتهامه بالجريمة .. واية جريمة ؟!
سرطان في الثدي!! آخ بلعت ريقي، فانتبهت بانه لم يعد في فمي لعاب، استجمعت أشلائي متنفسة ما استطعت من هواء لأهدئ قلبي الذي لم أعد أسمع سواه !
– هل كل شيء على ما يرام ؟
– أجابني بعصبية بعد فترة صمت، خلت خلالها بأنني سأهوي في بئر مليئة بالافاعي.
– الا ترين بأنني لم انته بعد!!
– (يا له من يوم بخيل ) شعرت بظلم لا يستحقه شخصي.. فأجبت بنفس العداوة واللهجة ..
– تستطيع ان تهدي روحي بكلمة حتى لو لم تنته بعد!
– كيف بي.. وأنا لا أعرف النتيجة بعد!
– بامكانك ان تهدئ من روعي ولو كانت النتيجة سيئة .. فالكلمة تشفي أتظن بأنني لا استحق ان اطمئن اذا كنت مصابة بالسرطان ..! الحالة المعنوية الجيدة هي صحة ثانية، لابد وانهم قد علموك هذا اثناء دراستك !
– ارتبك الدكتور الجديد متابعا فحصه بالمكبر.. وأنا نصف عارية لا أزال واختفى صدري لم يبق منه سوى قبة تشبه سماء سوداء مليئة بغيوم، أو بخيوط دخان متشابكة تشبه غزل البنات السكري.
انتهى الطبيب من فحص الصدر شارحا لي ما رأى، ثم اقترب مني طالبا ان ارفع ذراعي ليفحص ابطي وصدري.
كان هناك جدول من العرق البارد يترقرق على جسدي.. بعد المعاينة التي طالت والتي حجرتني على حبل نحيل متأرجح. كلمة فقط .. وكل شيء سينقلب رأسا على عقب .. الشعرة التي تفصل الحياة والموت .. كمن يرى شاحنة تقترب منه بسرعة لتدهسه ..
فأغمضت عيني..
تستطيعين أن ترتدي ثيابك !
فاجهشت في بكاء صامت ..
مرام المصري (كاتبة و شاعرة من سوريا تقيم في باريس)