محمد شاهين
صمودك الأسطوري يا غزة هاشم يملي علينا أن نحاكيك من خلال الأساطير التي ينسحب صمودها على صمودك. ربما أبرزها أسطورة طائر الفينيق الذي خرج حيًا من بين الرماد. وهي أسطورة معروفة ومألوفة يستذكرها البشر في المناسبات الصعبة أو المستحيلة عندما يتحول الموت أو ما يشبه الموت إلى حالة لا موت تنبض في عروقها الحياة بعد أن كانت رمادًا لا حياة فيها؛ فالبقاء هنا ليس للأصلح، نظرية الاستعمار التي تبناها دارون، عالم الأحياء المعروف، بل من الصراع ضد الدمار والخراب الذي يقع على بني البشر بدون حساب. مثل هذا الصمود أشبه بالزلزال، والفرق مثلًا بين الزلزال الذي وقعت فيه غزة والزلزال الذي يتسبب في الطبيعة يكمن في طبيعة الاتجاه، أحدهما حمم بركانية تنهمر من السماء والآخر حمم بركانية تخرج من باطن الأرض لكن اللهيب المدمر هو نفسه تقريبًا والبشر الذي يعاني من جراء هذه الحمم هو واحد سواء من لقي حتفه تحت الأنقاض أو من نجا بأعجوبة ليعيش معذبًا وهو يقف عاجزًا عن انتشال من طالته الأنقاض بجبروت سقوطها عليه ليظل راقدًا في ذمة التاريخ.
“في البدء كانت الكلمة”! في بداية الهجوم على غزة كانت العبارة التي دخل فيها نتنياهو غزة هي اجتثاث حماس كخارطة طريق تحمل أهداف الهجوم جملة وتفصيلًا. لندع الدفاع عن حماس جانبًا، وننظر إلى ما تتكتم عليه عبارة الاجتثاث من خطاب استعماري استيطاني. فالمفردة لم تصل إلى لسان نتنياهو من خلال قاموس وبستر الأمريكي ولا من قاموس أكسفورد البريطاني، بل من تاريخ أوروبا الاستعماري الذي شرعن اجتثاث الغير ليبقى هو القوة المهيمنة في ميدان العالم البشري. ولمزيد من التوضيح استذكر ما يقوله إدموند ليش، عالم الأنثروبولوجيا الشهير حول أطروحة الفعل والفاعل. يعلق ليش على أمر هذه الأطروحة بالقول إننا نألف عبارة التاريخ يكرر نفسه، لدرجة أنها أضحت كليشيه، والأبلغ من ذلك، يقول ليش إن هنالك فعل النموذج البشري (pattern) الذي يتكرر مع الزمن بعد حدوثه مرة في البداية، ويقصد ليش هنا أن ينقل مسؤولية الحدث أو الفعل من الجماد وهو التاريخ إلى البشر وهو القادر فعلًا أو أصلًا على صنع الحدث. هذا هو ما حصل في غزة: نموذج فعل حصل قبل السابع من أكتوبر وما فعله نتنياهو هو أنه تخطى ما حصل في ذلك التاريخ ليكرر النموذج ذلك الفعل الذي اعتادت إسرائيل أن تفعله قبل السابع من أكتوبر، ليصبح تاريخ السابع من أكتوبر أكثر بكثير من ردة الفعل، أو فرصة تبرر النية المبيتة المسبقة لمضاعفة الفعل الهجومي اللاحق. أي ما قامت به إسرائيل في غزة يتجاوز شريعة حمورابي العين بالعين والسن بالسن، بل وشرائع الأديان المختلفة وكذلك شرائع المنظمات الدولية طبعًا. لندع الوصف لأصحاب الاختصاص مستقبلًا. ولمزيد من التوضيح للفكرة (أو الأيديولوجية) الاجتثاث نستذكر ما جاء به ناعوم تشومسكي قبل أعوام في مقالة عنوانها “اجتثاث الحيوانات البشرية”. وهي عبارة اقتبسها تشومسكي من رواية “قلب الظلام” -للأديب الانجليزي البولندي الأصل جوزيف كونراد- حول غزو إسرائيل لغزة دون تغيير أو تبديل وهي بلغة نصها الأصلي (exterminate the brutes). ما يلفت النظر في هذا السياق أن تشومسكي، وهو صاحب بصيرة نافذة معروفة، استطاع أن يستشف ليس فقط أهداف القادة الإسرائيليين في غزوهم اللاحق لغزة بل أيضًا لغتهم، إذ إن هذه العبارة بحرفيتها جاءت على لسان أولئك القادة بل وبعض الإسرائيليين الذين انتزعوا عن الغزيين صفة الأنسنة دون حرج. وذهبوا إلى القول: إن في هذه العبارة إساءة للحيوانات. وتؤكد مقالة تشومسكي وعنوانها بشكل خاص ما قاله لي تشومسكي شخصيًا في مقابلة أجريتها معه قبل أعوام. سألته لماذا قرر أن يترك الحياة في إسرائيل إلى غير رجعة بعد أن هاجر يومًا إليها شابًا في موسم الهجرة إلى إسرائيل، أجاب بأنه فعل ذلك عندما أيقن أن توجهات إسرائيل نحو التعايش السلمي مع الفلسطينيين بسلام على أرضهم التي انتزعتها منهم اختارت أن تحاول حرمان الفلسطينيين من العيش بجوارهم. تجلى كل هذا وذاك في رفضها حل الدولة الواحدة، ثم رفضها حل الدولتين وأخيرًا أنكرت على الفلسطينيين بطريقة أو بأخرى مجرد وجودهم وحقهم في الحياة مثل بقية الخلق. بالمثل رحل آفي شلايم عن إسرائيل كما ذكر لي عندما أدرك أن إسرائيل ليست إسرائيل التي دعته الجمعية اليهودية إلى الهجرة إليها مع عائلته عندما كان يعيش عيشة رضية مع أسرته في العراق. وتظهر التفاصيل جلية في مذكراته التي صدرت حديثًا بعنوان An Arab Iraqi Jew.
والنموذج الذي يشير إلى تكرار حدوثه ليش والذي يكرر فعله نتنياهو هو اجتثاث الهنود الحمر من أمريكا على يد المهاجرين الأوروبيين الذين استوطنوا أمريكا بداية من الساحل الشرقي لأمريكا قبل أن تصبح ولايات متحدة أمريكية.
لم يتوقف الاجتثاث كنموذج عند اجتثاث الهنود الحمر، بل استمر في محاولات لا حصر لها من اجتثاث شعوب مستضعفة على يد الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر. هذا ما قام به المغامر البريطاني ستانلي الذي اجتاح قرى كاملة في الكونغو وأبادها عن بكرة أبيها. وعندما توفي كاد يدفن في المقابر الخاصة الملكية لولا إن قسيس المقبرة استذكر أفعاله في الكونغو وحمى المقبرة من دفن الصنيع اللاإنساني فيها. ما فعله ستانلي تزامن مع الاستعمار البلجيكي للكونغو، وعندما أعلنت الشركة البلجيكية الاستعمارية عن وظيفة شاغرة في الكونغو تقدم الروائي الكبير جوزيف كونراد للوظيفة وحصل عليها دون أن يعرف الكثير فعلًا عن الاستعمار الأوروبي وطبيعته. ذهل الروائي عندما عاش تجربة الاستعمار عن قرب وعاد منهكًا ومريضا بعد عامين إلى موطنه في بريطانيا، وهو يحمل آثار تجربته التي ظلت تمور في وعيه ما يقرب من سبعة أعوام إلى أن خرجت علينا في رواية “قلب الظلام” التي تعد وصفًا بليغًا في رصد بشاعة الاستعمار. ولم يسبق أن استطاع روائي آخر نحت لغة تعبر عن صنيع الاستعمار مثل كونراد. يقول إدوارد سعيد؛ إن كونراد (الذي تأثرت سيرته الأدبية به أكثر من أي كاتب آخر) يروي عليك قصته دون أن تستوعب أحداثها، بمعنى أن لغة كونراد ترقى نسبيًا إلى نقل الحدث أو تمثله ولكن دون أن ترقى هذه اللغة في الوقت ذاته إلى وعي المستقبل والوصول إلى استيعابه لسببين أحدهما هول الحدث والآخر الكفاءة المطلوبة للغة: كلاهما يتعدى القدرة الاستيعابية لمن يستقبل الرواية حتى لو كانت قدرته تقارب القدرة الاستيعابية عند إدوارد سعيد. وهذا ما جعل كونراد نفسه يخاطب جمهوره الذي يصغي إليه (الجمهور الافتراضي) بصيحة بين الحين والآخر: هل تفهمون ما أروي عليكم، هل تستطيعون متابعتي، إلى آخر ذلك من صيحات التعجب التي يمليها عليه هول الحدث، وذلك لأن كونراد في هذه الحالة يقع بين حدث الاستعمار المروع والبحث عن لغة. لهذا اختار كونراد مفردة مفصلية علّها تجمع شتات السرد الذي يحاول الراوي جمعه في شكل ينفذ إلى وعي المستقبل الذي يتلمس سبيله إلى الإلمام بما يسرد عليه الرواي. العبارة هي في نصها الإنجليزي the horror، وكم حاولت جاهدًا أن أجد لها مقابلًا أو بديلًا أو ترجمة إلى العربية. وأقرب تأويل لها هو “يا للهول!” وربما علينا أن نضيف إلى العبارة مفردات أخرى تشد أزر تأويلها مثل: يا لهول الحدث الذي يولد الفزع، الحدث غير المسبوق، الحدث الذي يستعصي على التعبير، الحدث الذي يفوق تمثله وتمثيله أي لغة كلامية أو إشارية، إلى آخر ذلك. ويجدر بنا أن نلاحظ هنا أن مارلو الراوي في قلب الظلام (ومن خلفه الروائي طبعًا) قد أعجب أيّما إعجاب بشخصية كورتز (التي لا تتحدث كثيرًا في الرواية) الموظف الذي سبق التحاقه بالشركة المذكورة التحاق مارلو (كلاهما يشير إلى التحاق كونراد نفسه بالشركة) الذي تجرع تجربة الاستعمار حتى الثمالة وتكشفت له ما يجلبه الاستعمار من دمار. اهتدى كورتز إلى هذه المفردة التي كررها مرة واحدة وهو على فراش الموت ليصف صنيع الاستعمار بكل هذه القدرة على الاختزال فما كان منه إلا أن نطق: the horror, the horror، إلى أن أضحت العبارة في أدبيات ما بعد الاستعمار هوية الاستعمار بامتياز. ويمكننا أن نتصور هذه الأيام ونحن نشاهد الدمار في غزة أن عبارة كورتز التي نقلها إلينا كونراد الروائي من خلال مارلو الراوي تتسلل إلى وعي الملايين صمتًا وصوتًا وصورة كشكل من أشكال التعبير عن المشهد الدموي الذي يمثل أمام أعيننا على شاشات التلفاز صباح مساء. وهكذا تخرج علينا غزة هاشم بين محاولة اجتثاث دموي وواقع هول مفزع: رماد طائر الفينيق، يتجدد أمام أعيننا.
مشهد غزة الدامي يملي علينا أن تكون حركة اللاشعور غير الإرادية لدينا في أوج نشاطها، وكأننا نتابع رواية لفرجينيا وولف أو جيمز جويس في ملحمته، يوليسيز. طبعًا المقاربة هنا بالتقنية لا بمضمون الدمار الذي يتحدى التقنية في هوله (أو ربما نجد مستقبلًا من يستطيع التعامل مع تقنية روائية له شبيهة بما يعرف بالواقعية السحرية التي تعرض واقعًا يكاد لا يُصدق مع أن واقعه حدث فعلًا،وما المطلوب من خيالنا إلا أن يقتنع عنوة بوجوده الفعلي).
في خضم المشهد المروع من حولنا استذكرت نفرًا من المفكرين الغربيين البارزين أعتز بمواقفهم نحو الصراع الدائر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، من بين هؤلاء توني جُدْت (Tony Judt) عرفته أيام كنت في الجامعة في سبعينيات القرن الماضي. انتمينا (هو وأنا) إلى نفس الكلية- كنجز كولج (وهو تقليد في جامعتي أكسفورد وكيمبردج يحتم على الطالب انتماءه لكلية ما استكمالًا لقبوله في الجامعة). جلسنا ذات مساء في بهو مقهى الكلية -الذي يطل على أشهر مبنيين معماريين يقعان على حافة نهر الكام- نتجاذب أطراف الحديث. المشكلة في جماعتنا أن اليهود الأوروبيين وصلوا فلسطين يحملون معهم أوروبا، قال توني، وما الذي تقصده يا توني ، سألته، أشار في إجابته أنهم حملوا معهم الجيتو والنازية والتطهير العرقي. عتادًا افترشوا فلسطين به غير آبهين أنه قنبلة موقوتة يمكن أن تطيح بهم في يوم من الأيام دون وعي منهم، وأن القنبلة الذرية في ديمونا لن تفيدهم.
دفعني هذا الاستذكار الذي أستحضره تيار الشعور إلى أن أتناول من رف مكتبي مجلدين ضخمين جمعت فيهما مقالات توني: الأول بعنوان (Reappraisals- 2008)، والآخر بعنوان (When the Facts Change- 2009). يذكر توني في مقالة كتبها قبل وفاته بعام أي 2009 أن إسرائيل عاشت تفاوض (negotiate) على وجودها من خلال متطرفين (extremists) وإرهابيين (terrorists) وما كان على حماس إلا أن تختار نفس الأسلوب حرفيًا لتحافظ على بقائها، وليس كردة فعل، أي أن مكونات إسرائيل من التطرف والإرهاب هي التي خلقت حماس من رماد الفينيق. وكأن توني يقول لنا أن البادئ أظلم. بعبارة أخرى إنّ السابع من أكتوبر ليس البداية كما يدعي نتنياهو.
وفي ملاحظة أخرى في نفس المقالة يقول في سياق حديثه عن جنوب أفريقيا إن غياب مانديلا عن صفوف الفلسطينيين لخسارة كبرى (severe advantge) وفي محاضراته العامة، خصوصًا ما كان يلقيها في نيويورك كان يقابل باحتجاجات مناهضة من بني جلدته وذلك لما في مواقفه من موضوعية ورؤى ثاقبة لا تتماشى مع التعصب الأعمى عند المناهضين؛ فهو مفكر تنويري، ليت المجال يتسع لمزيد من عرض أفكاره ومواقفه. ولكن لابد من الإشارة إلى مقالة كتبها عن إدوارد سعيد بعد رحيله بعنوان: “إدوارد سعيد.. الشخصية العالمية المقتلعة من جذورها”، وقد وضعه في مصاف رجالات الفكر العالمي أمثال كامو (camou) والثوسير (Althussere) والبابا John Paul II. وفي اعتقادي أن رؤيته لإدوارد سعيد جاءت منصفة بل وغير مسبوقة.
هذا هو توني جُدْت في كلمات وصفته بها صحيفة الأوبزيرفر البريطانية وهي مثبتة على الغلاف الخارجي للمجلد الأول: “شخصية موحية، مثقف تايتاني (Titan)، محارب شرس، متحدث عبقري، يمتلك كاريزما فكرية شعبية…”.
أما الشخصية الأخرى التي أستذكرها في هذا المقام فهي كلينث بروكس Cleanth Brooks الذي ذاع صيته كناقد أدبي من خلال تأسيسه مدرسة النقد الجديد (New Critism). كنت في إجازة بحثية حصلت عليها من الفولبرايت في ثمانينيات القرن الماضي. صدف أن كانت إقامتي بجوار بيت بروكس في مدينة نيوهيفن (New Haven). سألني عن مسقط رأسي وعندما أجبته سارع بالقول: صحيح إننا (أمريكا) وصلنا إلى المشهد السياسي في منطقتكم متأخرين نوعًا ما لكن ما أحدثناه من ضرر يفوق ما أحدثته بريطانيا التي نشأت على يدها المشكلة. كنا نتمشى يوميًا في شارع بروسبكت Prospect المؤدي إلى المكتبة. ذات مرة قال لي: انظر إلى المدينة القديمة New Haven التي نطل عليها. كانت الأسلحة التي حاربتنا في الجنوب (وهو جنوبي وأستاذ في جامعة ييل) تُصنع هنا. لن أنسى ما فعلت تلك الأسلحة بأهلي على مدى سنوات عندما كان المحاربون من الساحل الشرقي يطاردوننا ويطلبون أن نرحل إلى المكسيك أو إلى كندا ونخلي لهم أرضنا. وعندما حطت الحرب الأهلية أوزارها كان لا بد من البحث عن سوق للسلاح الأمريكي فجعلوا واجهته إسرائيل التي أضحت مدججة بالسلاح الأمريكي ليقوم بالواجب المنوط بهم نحوكم.
أما الشخصية الثالثة التي قابلتها أيام دراستي الجامعية فهي ريموند وليامز. وهذه قصة مقابلتي الأولى له قبل أن أصبح تلميذًا له في كيمبردج.
حظيت بمقابلة ريموند وليامز الذي نعتته صحيفة الجارديان في سياق عرض لكتابة الريف والمدينة بأنه “عملاق الثقافة في الغرب” في حفلة عشاء أقامها طالبه العزيز باتريك بارندر (الذي أضحى صديقًا لي) في بيته الذي كان يقع آنذاك بشارع ألفا (رقم 28) بجامعة كيمبردج. كنت قد التحقت بالجامعة في التو. كم كنت تواقًا أن ألتقي بتلك الشخصية التي سمعت عنها الكثير. كان ريموند وليامز في ذلك المساء يلبس بنطالًا يلبسه أفراد الجيش البريطاني، وكان مألوفًا في فلسطين أيام الانتداب -يدعى برتشز- وهو بنطال يضيق كثيرًا عند الساقين. ووجدت حرجًا أن أسأله عن المناسبة التي استعصت علي إلى هذه اللحظة. لكني انتهزت الفرصة لأسأله إن كان قد التحق بالجيش إبّان الحرب العالمية الثانية، بدلًا من أن أحاوره حول إنتاجه الأكاديمي الغزير الذي كنت أجهله آنذاك. أجاب وليامز بالإيجاب وتابعت تساؤلي الجاف بالقول إنني دهشت عندما قدمت إلى بريطانيا وعلمت أن المتحف البريطاني، القبلة الثقافية في بريطانيا، لم يلحقه أذى من غارات النازية على لندن. أجاب وليامز أن هنالك رواية مفادها أن هتلر كان يأمل أن يرث الأرض ومن عليها وخصوصًا المتحف البريطاني، وتابع وليامز القول إن النازية لسبب أو لآخر استقصت من حسابها التدميري أماكن العبادة والمواقع الثقافية والتجمعات السكانية، خصوصًا محطات القطارات الأرضية التي لجأت إليها العديد من العائلات في لندن أثناء الحرب. وعندما سقطت قنبلة بالقرب من كنيسة سينث ميري الأثرية في قلب لندن وأحدثت بعض الأضرار، أعلنت النازية أن الحادث وقع خطأ. لماذا أسوق الحديث عن هذه المناسبة؟ فقط لأني استذكرتها عندما أصدرت وزيرة الداخلية البريطانية المُقالة أمرًا بمنع المظاهرات في لندن التي تناصر غزة، قلت في نفسي ليت باستطاعتي أن أجعلها تقارن بين تدمير النازية المعروف والتدمير الذي يجري في غزة على يد من عانوا أكثر من غيرهم في التاريخ الحديث من تلك النازية. كذلك فإن المقارنة بين نازية ألمانيا ونازية التدمير في غزة ربما تجعلنا نقول إنه من قبيل المفارقة فقط فإن المساواة بين النازيين كما تردد وسائل الإعلام ربما يخلو من الإنصاف، مع أنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نبرر تصرفات النازية الألمانية التي آلمت بأجداد الأحفاد وفي الوقت نفسه لا مبرر بما يقوم به الأحفاد في غزة وكأنه ردة فعل ضالة وفي غير مكانها.
عنّت ببالي كلمات إميل حبيبي (الروائي الفلسطيني المعروف) التي أوصى بها أن تكتب على شاهد ضريحه وهي “باق في حيفا” كلمات يسعده لو كان على قيد الحياة أن يهديها لكل من قضى حتفه تحت الأنقاض أو فوقها لتكتب على أضرحة الشهداء وجبين النازحين من الدمار: “باق في غزة”.
وأخيرًا أضيف إلى ما خطر ببالي وربما هو ما خطر ببال الملايين الذين يشاهدون على التلفاز الوضع الراهن تساؤلًا مستحقًا: لماذا يفعل نتنياهو كل هذا وذاك متحديًا الإنسانية والعالم بأكمله. من الناس من يعتقد أنه يميني متطرف ينفّذ سياسة يمينية متطرفة تفضي في النهاية إلى بقائه في السلطة وتبعد أيام مثوله أمام القضاء، كما هو معروف، وربما يكون هذا السبب، ولكني أعتقد شخصيًا أن هنالك سببًا يتكتم عليه نتنياهو وجماعته، وربما ينساه الناس وسط خضم الأحداث المرعبة. هو أنه يريد أن يبعد عن نفسه مصير رابين، وكيف ذلك؟ استمعت أنا شخصيًا إلى خطاب رابين في وادي عربة بمناسبة توقيع المعاهدة مع الأردن، جذب انتباهي عبارة قال فيها إنه سيذهب ذلك المساء إلى بيته لينام قرير العين لأول مرة دون صدى لأزيز الرصاص القاتل الذي كان يطلقه في مناسبات عدّة على الفلسطينيين، أي أنه استسلم للسلام المريح. لابد أن مَنْ اغتاله سمع ذلك الخطاب أو هذا المقطع من الخطاب ووجه رصاصته القاتلة إلى رابين وسلامه لأنه خرج عن الأجندة القومية، التي حملها بنو قومه معهم من أوروبا.
هنالك أيضًا مبرر آخر وراء الهجوم الجنوني على غزة، ربما يكون هو الأهم، وصول حماس في السابع من أكتوبر إلى المكان الذي وصل إليه زلزال هز المنظومة الأمنية الإسرائيلية في عقر دارها، فهو أكثر من اقتحام بيوت المدنيين الإسرائيليين وأسر العسكريين. وهو أكثر بكثير من تجاوز الخطوط الحمراء، كما صرح عباس، وكيف ذلك؟ أهم موقف في إسرائيل يتطلب المحافظة الأمنية عليه هو المفاعل النووي في ديمونا الذي هو على مقربة من قطاع غزة، ولا بد وأن إسرائيل تحيطه بأقصى درجات الحماية. بعد السابع من أكتوبر لا بد وأنه برز تساؤل جوهري لدى القادة العسكريين والسياسيين في إسرائيل بما فيهم نتنياهو: ماذا لو تسللت حماس إلى أقوى مواقع دفاع في إسرائيل، إلى ديمونا؟ تلك هي الكارثة الكبرى على المنطقة برمتها. هل أدرك بايدن وجماعته أمر الخطر الذي يمكن أن يلحق بإسرائيل لو صدف أن وضعت حماس في أجندتها اقتحام المفاعل مما اضطره –بايدن- أن يغير كثيرًا من تحيزه في البداية لإسرائيل، وهل أدرك أن بقاء القطاع مأهولًا يخدم مصلحة إسرائيل في نهاية الأمر، لأنه سيشكل منطقة عازلة على الأقل لإسرائيل، وتجعل حماس تحسب ألف حساب لمغامرة يمكن أن تبيد القطاع بأكمله لو انطلق السلاح الذري المخزن من عقاله! بمعنى أن الذي بيته من زجاج عليه ألا يقذف الناس بالحجارة!
وبعد، ما الذي ننتظره أو ينتظرنا؟! قال فورستر، الروائي المشهور والذي كنا (توني وأنا) نقابله بين الحين والآخر في قاعة الطعام –كنجز كوليج بصفته عضوًا في الكلية مدى الحياة- قال مرة: إن علينا معشر البشر أن نعيد حساباتنا في الحياة كل عشر سنوات، أليس العرب بحاجة بعد هذا الحدث المزلزل في غزة أن يعيدوا ترتيب الأوراق المطلوبة بعد خمسة وسبعين عامًا مضت منذ عام 1948؟ ونفس التساؤل يمكن أن يوجَّه إلى الطرف الآخر إن أراد أن يستخلص العبرة مما يجري خصوصًا وأن أجندة وجوده الأصلية قد أضحت خارج تاريخ الصلاحية، كما يعتقد التنويريون أمثال تشومسكي وآفي شلايم وتوني جُدْت ووليامز والكثير الكثير من التنويريين الذين يحاربون وهم البداية.. توراتية كانت أم دنيوية، فسنة الطبيعة تقول: السلام للجميع والدمار أيضًا على الجميع، والأرض تتعطش لماء ينزل عليها من السماء لا لقنابل تنهمر على بيوتها. تقضي المراجعة في هذه الحالة اختيار الأرض المزروعة بديلًا عن الأرض المحروقة كأرض وطن يعيش أهله في سلام دائم!