كانت مريم تبتعد في سماء القرية ، عندما استيقظت بحثت عنها ، لم تكن في البيت ، أخبرني أبي بأنها ذهبت مع أمي لشراء بعض لوازم العيد ، وعلي الاستعداد للذهاب معهما للخياطة .
– وماذا عن موت شريفة .
– دعك من هذه الامور.
وددت لو اخبره عن وجه شريفة ، وعن ناصر الجالس على دكة قبره ينظر للنسوة اللاتي يقفزن على ضريحه .
وددت لو أحكي له عن رؤياي وعن المرأة العارية التي كانت هي أنا.
وددت لو أخبره عما يحدث لي، لكنني اكتفيت بأن قمت من مكاني وتوجهت ناحية الصينية الموضوعة قرب باب الحجرة ، صببت لي وله فنجانين من الشاي المعطر بالنعناع ، وعدت لأجلس قريبة منه ، ظل صامتا ، ارتشف قليلا من الشاي، ثم أخرج كيس التبغ ، لف ورقة من الكاغد الشفاف ، بعد أن وضع فيها قليلا من التبغ ، طواها بلسانه ثم اشعلها ، وأخذ نفسا عميقا ، نظر الي، جاءت عيناه في عيني، سألني:
– ما بك ؟
– لا شيء.
– ثم بادرته بسؤال لا أعرف لماذا خطر ببالي.
– لماذا لا تعرف أين دفن جدي الخال ؟ أخذ نفسا آخر من سيجارته ، نظر الي، ثم رفع رأسه ، تنهد وقال :
– من مهنته حفر القبور، ودفن الموتى ، يصبح بيته المقبرة ، حين مات جدك الخال ، كان علي أن أجلس في البيت ، لا أصلي عليه ، ولا أعرف أين يدفن ، الا تشاهدينني حين أدخل المقبرة أقرأ ما حفظته من القرآن على بابها ، إنني أصلي، وأنا واقف لحى بيت جدك يا سارة . هذه مكافأ تنا في هذه الدنيا ، المقبرة تصبر مملكتنا الوحيدة ، الا تعرفين بأنه مات فيها ، لفته رياح الموت بعطرها فتعطر وغاب .
صمت قليلا ، رفع فنجان الشاي الى فمه ، كانت عيناه تحدقان في ، عرفت حينها بأنني قد فتحت في صدره جرحا قديما ، وإنه يود الآن أن يخرج بعضا منه ، فتركت له حرية الكلام :
– عندما استيقظنا ذات صباح بعيد ، لم نجد جدك في غرفته ، كان من عادته أن يذهب بعد صلاة الفجر إلى المقبرة يعد بعض القبور لمستقبلها ، لم نكن نعرف بأنه قد حفر قبره وأعده لنفسه ، حتى جاءنا بعض أولاد القرية الذين يذهبون الى المقبرة لاصطياد الطيور، أخبرونا بأن الخال فقد وعيه قرب قبر كان قد انتهى من حفره ، ذهبت مع بعض رجال القرية ، حملناه الى البيت ، جئنا له بالحكيم ، قال : الرجل ميت منذ عدة ساعات ، سألناه ، إن كان قد تعرض لضرب أو محاولة قتل ، لكنه نفى ذلك .
كنت أعرف يا سارة انه قد مات بسبب ذاكرته المجروحة ، تلك الذاكرة المليئة بالحسرة والألم ، حين حاصره رجال الشيخ دعيج بعد صلاة العشاء وهو يهم بارتداء نعاله ، جروه الى داخل المسجد، ضربوه ، ثم قيدوه الى أحد الأعمدة ، جاءه صبي الشيخ ، حذره بعدم الاقتراب من بنت الشيخ التي هام في حبها، وعدم متابعتها حين تذهب مع الفتيات الى عين الماء، لقد أصاب جدك جنون العشق يا سارة ، لم يستطع أن يتوب عن حبها، فخاصروه مرة أخرى، لفوا الحبل حول رقبته بقوة ، ثم محلقوه في أحد الأعمدة ، وتركوه وحيدا يصارع الحبل الذي كان يقبض عليه ، في أول الأمر أبدى استعدادا قويا لمواجهة الموت القادم ببطء نحوه ، حاول عبثا ان يفك العقدة عن يديه ، ازداد توتره حين اكتشف عجزه عن تحريرها، بدأ يخبط عمود المسجد، يلف رجليه حوله ويحاول أن يرتفع قليلا: ليخفف عن عنقه وطأة العقدة التي أمسكت بحنجرته بقوة ، ظل يقاوم الموت منذ أول الليل حتى صلاة الفجر، حينها ضعف وأسلم أمره للوقت المتبقي في استرجاع صور الفتاة التي هام في حبها، كانت عيناه الثاقبتان مفتوحتين ، وعقله يخاطبها ، وهي الواقفة بعيدة عن خدمها، تهمس له عن اخلاصها له ، مهما باعدهما الزمن ، شعر أنه داخل طريق الموت الذي فتحت أبوابه بيسر، نسي الألم والعذاب ، لم ينقطع الهواء عنه ، قال لنا ، كان ذاهبا الى الموت دون أن يختنق ، أغمض عينيه ، تشهد، ونام هكذا اعتقد، حتى أدركه المؤذن صالح الذي ظن في أول الأمر أن المسجد مسكون بالجن ، ظل ينادي الرجل المعلق ، فلم يرد عليه ، لم يكن الخال قادرا على التحدث ، اقترب منه المؤذن ، صرخ فيه : هل أنت أنس أم جن ، صرخ مرة ثانية وثالثة وهو يردد سورة الكرسي، وبالكاد سمعه الخال ، فرد عليه بصعوبة : أنا الخال .
– وهل تاب عن حب الشيخة حصة .
– ومن أخبرك عن اسمها؟
– الجميع يعرف .
– لا، لم يتب ، ظل وفيا لها مع أن أبدها قد أخذها الى الرفاع ، بعيدا هناك ، زوجوها فلم يرها ابدا حتى وجدناه ميتا في المقبرة .
صمت قليلا ثم أخذ يقرأ شعرا حفظه ، وهو يشفط من سيجارته .
لم أفهم شيئا مما قال ، اذ كنت أحمل في أحشائي سؤالا أخر كبيرا، فلم أتحرك من مكاني، ظللت أنظر اليه وهوسارح في خيالاته ، حاولت أن أمسك نفسي ولكنني لم أستطع ذلك :
– الخال ليس أبدك ، أليس كذلك ؟
– وكمن لسعته نار، اعتدل في جلسته ، أطفأ السيجارة بعصبية ، كانت عيناه غاضبتين ، قال بصوت عال :
– إنه أبي، يجب أن سر في ذلك جيدا.
ارتشفت الشاي بسرعة ، ونهضت متوجهة الى غرفتي، تخيلت الخال بسحنته السوداء واقفا على الباب يمنعني من دخولها، في هذه الأثناء سمعت صوت امرأة وقد دخلت بيتنا تنادي على أبي، التفت نحوها، كانت بيضاء، ممتلئة الجسم ، كانت أم ناصر الذي دفن منذ أيام ، هب أبي نحوها يدعوها إلى الدخول ، قبلتني وجلست ، تناولت دلة الشاي، سكبت لها فنجانا ، أنتظر أبي أن تتحدث ، لكنها ظلت صامتة تشرب شايها حتى انتهت منه ، ثم بدأت بالبكاء، والنحيب ، ظلت
تنشد مواويل في موتى لا نعرفهم ، تركناها أنا وأبي في حالها حتى أفرغت كل أحزانها ، طلبت قطعة قماش لتتمخط بها بشكل صاخب ، ثم تحدثت بالكثير من التفاصيل عن حياتها ، وعن
زوجها ، ورحلتهما الطويلة الى البحرين ، وكيف ان زوجها خانها بموته المبكر، وتركها وحيدة ، عرضة لرغبات الرجال الكثيرين الذين طلبوا الزواج منها ، ولكنها لم توافق إلا على رجل وصفته بشيخ الطرب ، والذي ظل يتغنى بها صاحيا وسكران ، حتى قبلت الزواج منه ، ثم ما لبث ان مات أيضا ، ظلت تحكي دون توقف ،حتى جاءت أمي وجلست معنا ، دعتها للغداء معنا فلم ترفض ، بل طلبت أن تخلد للنوم قليلا، فهي لا تستطيع الاستغناء عن قيلولتها ، طلبت مني أمي أن آخذها الى غرفتنا ، فرافقتها إلى هناك ، دخلت الغرفة مبهورة ، مع انها لم تكن تضم غير سرير حديدي، وحصيرة مفروشة ومرآة معلقة فوق الجدار، دنت مني، حضنتني وقالت :
– يا عمر هذه الصبية ، يحلق ونراه.. نتابع في جسدها أخبار أحبابنا، وما فعلوا في المحبة ، يا عمر، زهرة في سن هذه الصبية ،حلق فوقنا لنراهم عن قرب ، حلق يا أيها المقدس لأراك بشكل أوضح تفيض من جسدها.
لم أفهم ماذا تقول ، ولكني خمنت بأنه موال ، طلبت منها أن تنام فوق السرير لكنها سحبت الوسادة ، واستلقت على الحصيرة ونامت .
حين جلست أمام المرآة رأيت خيولا شاحبة تجر خلفها عربة خشبية ، وقد امتلأت بأصناف عديدة من رؤوس الغنم والخرفان التي تؤخذ من المسلخ .
خيول متعبة ، وهي تجر العربات ، وقد تفصد الدم من جوانب العربة الخشبية ، دنوت من المرآة ، لمستها بيدي، كان دما قارب على التخثر، ذكرني بدم الحيض الذي تركته في قطع القماش ، ينقع في الماء، ولكنني لم استطع ازالته ،حاولت أن أنظف أصابعي، لكن الدم ظل عالقا ، فاجأني صوت أم ناصر أفندي:
– هذا ليس دما ، انه ما نكحل به عيون المرضى ومن في الموت.
– ظللت أنظر إلى المرآة ، وأنظر إلى أصابعي ثم أم ناصر:
– هل ترين ، الخيول يا أم ناصر؟
– نعم أراها.
ثم لم يكونوا هناك ، في المرآة .
فريد رمضان (كاتب من البحرين)