عاطف سليمان
أعرفُ أحيانًا معنى القراءة، ثم إني أنسى ذلك في أحيانٍ فلا أعودُ أعرفُ ما كنتُ أعرفُه، ثم قد تعاودني المعرفةُ من جديد، ثم قد تفارقني.
هويّتي الأولى هي أني قارئ، ومن بعد تكونُ هويّتي الثانية وهي أني أكتبُ. وكقارئٍ يعجبني أحيانًا كتابٌ قد لا يعجبني بالقدر نفسه إذا نظرتُ إليه من هويتي ككاتب، وليس نادرًا أني أختارُ للقراءة – بتسامحٍ – ما لا يروقني – بصرامةٍ – ككاتب. أقرأُ، عادة، بلا خطة مُبِينة؛ إنّما أحبُّ أنْ يسلمني كتابٌ أو مخطوطٌ إلى كتابٍ أو مخطوطٍ، ولستُ أترجّى من القراءة سوى إمتاعِ روحي وإرواءِ فضولي والتواصلِ الغيبي مع مَنْ قرأتُ له ما عثرتُ على نفسي فيه.
في خريف سنة 1964 دخلتُ مدرسة كفر العلوي الابتدائية المشتركة، وسرعان ما تعلمتُ القراءة.
ما إنْ قدرتُ على القراءة حتى صرتُ أسعى فأفتّش وأتلمّظُ على أية كتابة قد تكون هنا أو هناك لكي أضعها فورًا تحت طائلة قُدراتي الجديدة، ولستُ أدري لماذا استرحتُ، منذ البداية، إلى ألّا أقرأ أبدًا بصوتٍ عال، ولا بأي صوت، إنّما فقط كنتُ أمرُّ بعيني على المكتوب، وربما كنتُ أيضًا قد بدأتُ مبكرًا أعتادُ عادةَ أني إذا قرأتُ لا أواصل القراءةَ مطولًا؛ بل يتبدّى لي دائمًا، من المقروء، شيءٌ ما أو شاغِلٌ جانبيّ، يثير اهتمامي فأتوقّف عنده وأستغرقُ فيه وأسرحُ، وأذهبُ بعيدًا عن السياق الأصلي ثم قد تتشعّبُ بي استغراقاتي في ذلك البعيد، فلا أعودُ بعدها إلى ما كنتُ أقرأه، أو أعود بعد حين، ولعل تلك الفسحات كانت تتيح لي الراحة من القراءة وترحمني من ازدحام نفسي بما يفوقُ استيعابَها. كانت تستهويني أوراقُ نتيجة الحائط السنوية (من نوع «الشمرلي» ، التي كانت موجودة دائمًا في بيت أسرتي) بكلماتها القليلة الكبيرة وحروفها السوداء الأنيقة الممتلئة التي اجتذبتني دومًا، وكذلك كنتُ أميلُ إلى شكل عناوين الجريدة اليومية، جريدة الأخبار، التي كان يفضّلها أبي، بعناوينها الحمراء المكتوبة بخط الرقعة، ولطالما عشقتُ كثيرًا آنذاك أن أتملّى في الكلمات المنقوشة بالحفر البارز على مشطة شَعْر صفراء اللون، لامعة، من البلاستيك الجامد الشبيه بالعاج، كانت تخصُّ أمي، وكنتُ أُلاقي في البيت بعضًا من مثيلات هذه المشطة الصفراء ذات الصفيْن غير المتماثليْن من الأسنان، أحدهما أرق من الآخر ومسافاته بين الأسنان أضيق، أمّا المستطيل الأوسط بين الصفيْن فكان منحوتًا عليه هيأةُ غزالةٍ دقيقة بارزة وبجوارها حروف مكتوبة بلُغةٍ، لعلها الفرنسية أو الإنجليزية أو الصينية، وكنتُ أهفو إلى تلك الغزالة المنمنمة الجميلة؛ فأنظرها وأتلمّسها وأعكف عليها وأحبُّ الحروفَ المجاورة لها، وما علمتُ أبدًا بالذي تعنيه اللغة، وما كان لي عِلمٌ بوجودِ لُغات.
في ذلك الزمان، في بيتنا، كانت هنالك لوحة من ورق الكرتون معلقة على حائط بإحدى الغُرف بها تخطيط لصورة وجه فتاة نحيلة باسِمة، وبالجوار كلمة «أسكين» بخط الرقعة الثقيل الثخين الكبير، وبالأسفل كُتِبَ سطرٌ: «أقوى وأسرع مسكن». بالطبع لم أكن أدري أن هذا كان إعلانًا، ولم أفهم كلمة «أسكين» إذْ لم تكن متداولة في ما هو حولي، أو لعلها كانت متداولة من دون انتباهي إليها، لكن أعجبني شكل الكلمة في صورتها بخط الرقعة، وبدا لي حرف السين مثل سكينٍ مديدٍ رهيف، ولم أفهم أيضًا كلمة «مُسَكِّن»، خاصةً أنها لم تكن بها علامات التشكيل، وحتى لو أنها كانت كاملة التشكيل فما كنتُ سأفهمها لأننا لم ندرس علامات التشكيل في الصف الأول الابتدائي بالطبع، وعلاوة على ذلك فهذه الكلمة لم يكن يقدر على فهمها إلا مَنْ يعي أنها بمقام كلمتيْن لا كلمة واحدة؛ إذْ إنها تعني «مُسكِّن الألم». على أية حال فإني كنتُ ألمحُ كثيًرا تلك اللوحة بصورة وجه الفتاة المرسومة والعبارة المكتوبة تحت ذقنها، ولم تكن العبارة مستساغةً مني ولم تمر بسلام أبدًا من أمامي، وأظنُّ أني كنتُ أتضايقُ بسبب شعوري التلقائي العادي الذي يبدو أنه كان يفترضُ أن تكون التكملة لكلمة «أسكين» هي «أقوى وأسرع مَسكين»، فكنتُ كلّما رنوت إلى اللوحة يعاودني الشعورُ بالخلل، بيني وبين نفسي، وأتنغّص لأن كلمة «مسكن» واضحة لا «ياء» فيها، لَكأنما كان يجب عليها، في نظري، ألّا تكون مؤكَّدة على هذا النحو هي التي كان يُفترَضُ بها أن تكون «مسكين»، حسبما كنتُ أشعُر.
وكذلك أيضًا؛ أثناء تجوالي بطرقات كفر العلوي، وأنا طفل بالمدرسة الإعدادية، كنتُ ألتفتُ دائمًا إلى دار سيدنا الشيخ «الكريدي»، ببابها الخشبي الكبير القديم، ولَطالما لفتت نظري «كتابة» منقوشة وبارزة على قوسٍ بأعلى إطار الباب؛ «رأس الحكمة مخافة الله». في الواقع لم أرَ تلك «الكتابة» على هذا النحو لأن حرفيْن من كلمة «مخافة» كانا قد تهدَّما وانطمسا، فصار ما يمكنني قراءته، في كل مرة، هو «رأس الحكمة مخا الله». بالطبع لم أنتبه إلى غياب الحرفيْن، ولم أحسب للفراغ الناتج عن ذلك الغياب حسابًا، إنما قبلتُ الجملةَ تلقائيًا على حالها، ولربما أكون قد خمّنتُ بوجود علاقة طبيعية أو منطقية بين «المخ» و»الحكمة»، ولعل كلمة «رأس» في مطلع تلك الجملة كانت توفِّر التمهيدَ لإقرار كلمة «مخ». لكني كنتُ أعيدُ التطلّعَ إلى تلك الكتابة كلّما مررتُ بها إذْ إن قبولي بها لم يكن مستقرًا، لأني كنتُ أشعر بوجود خطأٍ ما كامن في كلمة «مخا» مصدره هو «صيغة المثنى» التي عليها الكلمة، والتي كنتُ قد تعلمتُها حديثًا في مدرستي، لكني لم أجرؤ بالطبع على أن أستفسر أو أن أستفهم، وهكذا تعايشتُ إبّان صبايَ مع فكرة أن رأس الحكمة هي «مُخا» الله، لكن دونما استيقانٍ من تلك الفكرة، ولستُ أدري متى عرفتُ الجملة في حالتها الصحيحة.
كذلك أتذكّر الإجازة الصيفية، في تلك الفترة نفسها، حين قررتُ بمبادرة ذاتية أن أقرأ القرآنَ كاملًا، من أولِه وبالترتيب، سرًا بيني وبين نفسي. في بدايات «سورة البقرة» قرأتُ الآية ﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكم وأني فضلتكم على العالمين﴾، وكانت صدمتي مُزلزِلة وحيرتي هائلة. لم أصدِّق أن يباغتني وجودُ إسرائيل في القرآن أصلًا، وهالني أنْ أعاين وجودًا لها مشمولًا بالملاطفة والمحاباة. في تلك الفترة، بحسب ما كنتُ أسمعُ، وما كان الناسُ جميعًا يسمعون، في الراديو، وبحسب ميكرفونات «الاتحاد الاشتراكي»، وبحسب الأجواء العامة كلها، لم تكن إسرائيل إلا شيئًا كريهًا ممقوتًا وخطًأ واجبَ التصويب، ولم أتوقّع مطلقًا أن أجد لفظَ إسرائيل مذكورًا في قُرآني الكريم، لكني وجدت إسرائيل ليست فحسب مذكورة إنما أيضاً مخصوصة بما شعرتُ أنه حفاوة وإطراء، حتى لو كان ذلك في سياق لَومٍ أو عتبٍ أو غضب. أتذكّر أجواءَ تلك التجربة وعذابها المخلخِل، حين قرأتُ، ثم حين كففتُ، وحين خُذِلتُ وصُدِمتُ فيها صدمتي الكبرى الأولى، بل أتذكر حتى جلستي في المكان، على طرف «الكنبة البلدي»، في مواجهة باب الصالة الكبير، في بيتنا بكفر العلوي، وأتذكر الوقتَ، يومذاك، الذي كان ما بين المغرب والعشاء أو بعد ذلك بقليل، على ما أظن.
غدوتُ فقرأتُ، غير أني لم يُتح لي دومًا أن أقرأ ما أشتهي، وما اشتهيتُ في سنوات الكهولة أكثر من أن تتيسّر لي قراءة اللغة المصرية القديمة، التي ابتكرها قُدامى المصريين بفطرتهم الطبيعية فكانت لا تحتاج إلى مُعلِّمين يرشدون أو يفكون الشفرات والرموز، إذْ إن الرموز والإشارات كلها كانت مفهومة، من تلقائها للقارئين، حتى للأغراب الذين يرونها لأول مرة، وكذلك كانت نغمات وصوتيات هذه اللغة مكشوفة ومُباحة من تلقائها. لكن الأحوال تغيّرت مع نمط الحياة الحالية والمعتقدات السائدة فيها، وغارت تلك الفطرة الطبيعية بعيدًا، فتعقّدت وغمضت الأمور التي كانت سهلة ويسيرة.
من طرفٍ خفيّ، أو لعله غير خفيّ، يتدخّل شكلُ حروفِ الكتابة ويؤثر في معنى المكتوب؛ فلا تكون الكلمة المكتوبة هي هي في وجدان رائيها وفي يقين قارئها إذا كُتِبت بشكليْن مختلفيْن، وكل شكلٍ لكتابةِ أية «كلمة» أو «جملة» يضفي عليها ما هو ليس في أصل وجودها. وفي هذا الأمر يصعبُ عليَّ أن أطيق قراءة ما هو مكتوب بأشكال معينة مثل خطوط الكتابة ذات الزوايا القائمة التي تكون الحروف فيها كأجزاءٍ من مربعات، ولا بد لي من تحويل مثل هذه الخطوط المزعِجة إلى الأشكال المحبوبة لديّ؛ مثل خط النسخ. في بيوت القرية وعلى جدران دكاكينها وبقالاتها كنتُ أصادفُ اللوحات التقليدية التي كان الأهالي يصنعونها يدويًا آنذاك من عيدان القمح المقصوصة والملصوقة بالعجين أو النشا على قماشات سوداء فيشعُّ من قلبها لونُ العيدان الذهبي، والتي كان يُكتب عليها آيات قرآنية أو عبارات ذات سداد، ولا زلتُ أتذكر لوحات «الصبر جميل» المكتوب بعضها بخط النسخ وبعضها بخط الرقعة وبعضها بالخط الفارسي، فكان كل «صبر جميل» منها يتباين عن سواه، في نفسي وفي وجداني، فمنها ما كان يضيف، على المعنى الأساسي، من عنديات حروفه وتلاوينها، هذه الرقة أو تلك الحِدّة أو النعومة أو الغلظة.
القارئُ هو الكاتبُ الثاني لكل مكتوب، فإذا كنتَ أنتَ الكاتب الذي يُسعى إلى كلماته – عن حق – فسوف يشاطرك في كتابة مدوناتك أرقى وأفطنُ القُراء، وإلا…
والكتابُ نفسُه يكون في أيدي الكثيرين من الناس، بل لعله يكون في أيدي أكثرية الناس، لكن ثمة قارئ قد يظل يقرأ في هذا الكتاب الواحد مرة بعد مرة ويجد فيه، لنفسه، ما قد تحتويه الكتب الأخرى جميعًا ويستنبط منه كل المعرفة ويلتقط الإشارات التي تعنيه. والأمرُ لا يتعلّق بخصوصية الكتاب المقروء بل بخصوصية قارئه، ومن المعلوم أن فيودور دوستويـﭭـسكي ظل يقرأ كتابًا واحدًا لمدة أربع سنوات إبّان فترة اعتقاله في عُمر الشباب، إذْ لم يكن قانون روسيا القيصرية يسمح للمعتقلين بحيازة أي كتاب سوى الكتاب المقدّس، وفيما بعد لم يستغنِ دوستويـﭭـسكي طوال حياته عن نسخته تلك من الكتاب المقدّس المزدحمة بما دوَّنه من تعليقات على هوامش صفحاتها. كذلك كَتَبَ ستيفان زفايج في روايته «لاعبُ الشطرنج» عن قارئٍ فريدٍ لكتابٍ واحد، وللمصادفة العجيبة كان ذلك القارئ هو أيضًا رهْن الاعتقال مثل دوستويـﭭـسكي، وقد اختلسَ القارئُ الكتابَ المقصود، أثناء نوبة التحقيق معه، من جيب معطف الضابط، المعلّق على الحامل في غرفة التحقيق، ليتسلّى بقراءته في محبسه الطويل المتوقَّع، ولم يكن يدري أو يخمِّن بالطبع أيَّ كتابٍ هو هذا الذي غامرَ بسرقته، إلى أنْ اكتشفَ في خلوته بالمحبس الانفرادي أنه كتابٌ في خطط ومهارات المنافسات الشطرنجية، المجال الأبعد عن اهتماماته، وقد عكفَ بطلُ ستيفان زفايج على استقراء كتابه ذاك – هو الذي كان بالكاد يعرف قبلًا كيف يلعب الشطرنج – مثلما عكفَ دوستويـﭭـسكي على كتابه المقدّس ليخرج كُل منهما بعد ذلك إلى العالَم وقد استوى وأَتمَّ لنفسه النضوجَ المراد. وكان لدى هنري باربوس في رواية «الجحيم» قصة حُب؛ فكان أنْ التقى الفتى والفتاة في غرامٍ هانئٍ، والفتاة الحسناء، العطِرة الدمثة فريدة الجمال، كانت تعشق فتاها، ولا تني تهيمُ بكلمات الحب التي كان يكتبها في رسائله إليها، وما أكثر ما أخبرته عن جمال وفرادة كتاباته النفيسة. كانت الفتاةُ في رواية باربوس هي القارئة المعتزَّة التي سُرعان ما مرضت مرضَ موتها فأوصت بأنْ تُدفَن معها رُزمُ الرسائل الجميلة وأُجيبت إلى رغبتها. ومرّت بعضُ السنين، ولم ينسَ الفتى فتاتَه بعد موتها، غير أنه لم ينسَ أيضًا ثروتَه من الكتابات المأخوذة المقبورة في حضن الجثة. كانت الإطراءاتُ، من قِبل القارئة المادِحة، قد أغوته فتأسست أوهامُه عن صفحاته المفقودة، واستوى شغفُه إلى استنقاذ واسترداد تلك الرزمة من الزوال، حسبما ظنَّ. فكان أنْ نبشَ الفتى قبرَ فَتاته، وخاضَ في رِّمةٍ عطِنةٍ صارتها حبيبتُه التي كانت جميلة وكانت ذات شذى، واستلَّ الرزمةَ من حضنها، وعاد بها، وقرأها، وأدركَ، أو لعله لم يدرك.
معلومٌ أن كُتَّابَ الأدب طبقاتٌ، ومعلومٌ كذلك أن قُرّاءَ الأدب – وإنْ كانوا من غير كُتّابِه – هم، بالمثل، طبقات. وبطبيعة الحال فإنّ كُتّاب الأدب هم من قُرّاء الأدب المداومين، إلا أن الطريف هو إمكانية وجود كُتّابٍ جيدين بينما هم في نفس الوقت قُرّاء من طبقةٍ أقل كثيرًا؛ لا يقتاتون على الأفضل، بل قد يُسيئون فهْمَ وتقديرَ أجود الكتب، ومن الطريف أيضًا أن نجد كُتّابًا سيئين بينما هم من أرقى القُرّاء، لَكأنّ قراءاتِهم لا تستقر لهم إلا خارجَهم.