لم يكرم غونتر غراس، بحاجة إلى شهرة حينما منحته الاكاديمية السويدية جـائزة نوبـل للاداب (1999) فكتبه تباع بمئات آت الآلاف في ألمانيا وفي اللغات الأخرى وهو ربما أشهر وأخطر شخصية أدبية في ألمانيا لما عرف عنه من استقلالية ورؤيته الثاقبة التي قادته إلى إعلان رأى واضح عزم الطريقة التي تم بها توحيد الألمانيتين والذى جلب له الكثير من الأعداء لكنه كان على حق. وقد أثبتت الأحداث وتطورات الأعوام العشرة الأخيرة ذلك.
* هل تعني الكتابة بالنسبة لك جهدا أم رغبة؟
– إنها رغبة وجهد في أن واحد، الجهد الذي أبذله يتضح لي فيما بعد، إذ إنني اكتب واقفا، أحيانا أكون قد أمضيت ثماني ساعات واقفا.
* هل تكتب وأنت واقف فقط؟
– نعم.. بالتأكيد.
* وما هو سبب ذلك؟
– هذا يعود ربما إلى مهنتي الأولى التي تعلمتها وهي النحت، حيث كان يجب علي خلالها العمل واقفا والحركة بشكل دائم. وربما يتعلق هذا أيضا بكوني اكتب بصوت عال، فأنا أهمهم الجملة حتى تكون ليست في الكتابة فقط، وانما في التلفظ، ويعود هذا أيضا إلى كوني اعتقد بأن أصل الأدب هو الحكاية الشفوية، أي الروي، ففي البداية كان الناس يروون لبعضهم البعض، وبعد وقت طويل نشأت عملية الكتابة، وهذا ما أريد أن احتفظ به، وليس أحب الي من رسائل القراء التي يعلن فيها كاتبوها: لقد قرأنا لبعضنا البعض من رواياتك.
* أنت تجول في الغرفة عندما تكتب؟
– نعم، اني أدور في الغرفة، أحيانا أنجز رسما، ذلك أن الجلوس الطويل يضايقني.
* المشي لمدة سبع أو ثماني ساعات عملية مجهدة؟
– يقال بأنها أمر صحي.
* وهل هناك أيام تكون فيها الكتابة عصية؟
– لا. يجب الاستمرار في العمل، وكن أحيانا يحدث أن أرمي كل شيء إلى المزبلة، في بداية كتاب ما، ثمة خاطر يخطر ويدق، لقد عودت نفسي الا أسمعه حينما يدق في البداية، ولكن حينما يبدو الأمر حقيقيا يعاود الدق ويمكن أن يحدث هذا بعد أسابيع أو أشهر، وفي المرة الثالثة أكون قد انتهيت، عندئذ يصبح الدق ملحا ويكون وراءه قصيدة أو جملة.
* اعترف لنا الكاتبة يورك بيكو في مقابلة، بأن الجملة الأولى بالنسبة اليه، كانت دوما هي الأساسية في الكتابة وهذه الجملة هي التي تتحكم في السياق اللاحق للكتابة.
– هذا صحيح، لكن الأصعب هو أن نجد الجملة الأولى، وهذا يعني كيف نجد الإيقاع، والذي أما أن يكون ملحميا، مثل رواية (حقل واسع) أو كما في (القط والفأر) أو أن يخل مباشرة في الأحداث ويعلن بأنها ستكون قصة.
* لقد قال لنا بيكر بأنه لا يغير الجملة الأولى أبدا.
– هو مصيب ! وأنا أيضا لا أغير الجملة الأولى أبدا، ولكن علي أولا أن امسك بها، وهذا بدأ مع (الطبل الصفيح) اعترف: بأنني نزيل مصحة للأمراض العقلية.. "هذا ليس بالأمر السهل، إذا أخذنا أيضا مثال فكرة شاملة كالتي اعتمدتها في رواية (سمكة سليمان): أعادت إزابيل تمليح…" فالصراع موجود، كما أننا تطرقنا إلى الموضوع، رواية (حقل واسع) تبدأ هكذا (نحن في قسم الأرشيف كنا نسميه فونتي…) ونكون بذلك قد اخترنا الإيقاع الذي يجب الالتزام به.
* هل هنا مقاطع في كتبك، يمكن أن تقول عنها؛ بأنه من الأفضل الا أكون قد كتبتها؟
– قبل سنوات، عندما كنت في (غوتنغن) أقوم بتسجيل صوتي لرواية (الطبل الصفيح) انتبهت إلى أمور كثيرة، خلال أيام التسجيل الإثني عشر تذكرت مواقف أثناء الكتابة – لقد أنجزت القسم الأكبر من الكتاب في باريس – منها أمور غير مهمة ولا علاقة لها مباشرة بالكتاب – ولكنني تذكرت أيضا صيفا أخرى، كل ذل ط دني إلى اط كيد هن لا جدوى من حذف كل التركيبات الزائدة بعد ثلاثين عاما، لأنها جزء من الكتاب، وفيما عدا ذلك سيكون كتابا أخر.
* ماذا يعفي بالنسبة لك أن تكون فنانا؟ هل تعتبر ذلك ميزة؟
– انه نوع من تحقيق أمنية رافقتني منذ كنت طفلا، دون أن أكور قادرا آنذاك على تصور ذلك بوضوح.
* أيضا كامتياز!
– الامتيازات تمنح، لقد أورثتني أمي موهبتين كامنتين في عائلتنا، كان لديها ثلاثة أخوة، لم أتعرف على أي منهم، لأن إثنين منهم قتلا خلال الحرب العالمية الأولى، فيما توفي الثالث أثناء وباء الأنفلونزا، أحدهم كانت لديه ميول أدبية، وقد اكتشفت عندما كنت صبيا، في صندوق احتفظت به أمي، قصائده التي يقلد فيها آيشندورف، وبعضها قد نشر في صحيفة كانت تصدر في مدينة (دانتسينج)، وكان آرثور يبلغ اثنين وعشرين عاما عندما قتل، باول كان يريد أن يصب مصمما مسرحيا، ورأيت له رسومات، وأما الثالث فكان يعتزم أن يصبح طباخا، لقد كانت أمي كثيرا ما تتحدث عنهما، وهي التي فهمتني في العائلة وساندتني، وحتى إنها كانت تجد متعة في سماع أكاذيبي التي أرويها لها عندما كنت طفلا. لقد أضجرتني الحقيقة دائما. وهكذا أتحدث عن هذه الحيوات الثلاث غير المعاشة ومنحتني هذا الامتياز، واعتبره ضربة حظ، فقد وجدت مع رواية (الطبل الصفيح) طريقي إلى القارئ وبأني قد توصلت في سن مبكرة في الثانية والثلاثين من عمري، إلى التحرر الاقتصادي.
* هل كتبت في يوم ما لقارئ نموذجي؟
– هذا تصور ساذج، فعملي يقطب مجهودا كبيرا، كما يتطلب تركيزا قويا وحتى لو كان لدي تصور من هذا النوع، أي الكتابة الي جمهور معين، فانه سينسى أثناء عملية الكتابة، إذا كان الكتاب جيدا، فانه سيأخذ ثقله بنفسه، والشخصيات الخيالية تتحرك بنفسها بحيث يجب أن تقنع من. الكاتب لكي تبقى في سياق الرواية، ولكن فيما يخص (الطبل الصفيح) فاني قد تصورت جمهورا خياليا امامي، بما في ذك أمر التي قالت عند بعض المقاطع: لا يمكن أن يكون هكذا، وقد انصعت أحيانا لملاحظاتها.
* ينقل عن موسيقي الجار أوسكار بيترزن، بانه لا يهتم بالجمهور إطلاقا عندما يقدم عرضا موسيقيا، هل تشعر بنفس الشعور عندما تقرأ من رواياتك امام الجمهور؟
– لا. اثناء القراءة، لا، ذلك لأنه لدي نص ليس قابلا للتغيير، لكن في حالة أوسكار بيترزن ينشأ دوما شيء جديد، اثناء القراءة هناك نية لإثارة اهتمام الجمهور.
* نوع من التواصل، بينما حفل الجار هو فعل إبداعي.
– أني اعرف ذلك من سنواتي المبكرة، حينما كنت أمارس فزف موسيقى الجاز. كنا نقدم عرضا موسيقيا مرتين في الأسبوع في حانة بمدينة دوسلدورف. قد كان جزء من الجمهور يثير تقززنا، فهؤلاء كانوا نوعا من اغنياء دوسلدورف الجدد، كنا نزف تحت سلم على مساحة ضيقة جدا، وكنا نركز فقط على الموسيقى، وقد عشت خلالها أكبر لحظات سعادتي.
* هل يمكن ان ترويها لنا.؟
– كان ذلك فيبد اية الخمسينات عندما توافد موسيقيو الجاز الأمر يكان على المانيا، بمن فيهم في ذلك الموسيقي لويس ارمسترونج، وذات مساء مر أرمسترونج في الحانة التي كنا نعزف فيها، لم أدرك الاهر في اهد اية، سمع عزفنا، ثم امر بإحضار ألته الموسيقية من الفندق بواسطة التاكسي وفجأة انضم الينا، وكانت هذه أكبر لحظات سعادتي.
* لكنك لم تعش لحظات سعادة مع النقد الألماني؟
– من السهل معرفة ما إذا كان الناقد مستعدا للخوض فيما يقدمه الكاتب أو أنه يتعامل مه النص بفكره: لنرى إذا كان الكتاب يلبي تصورا متي ئ الادب، واذا حكم على هذه الكتب حسب هذه الفكرة، فالكتب ستكون مرآة للناقد فقط، انه يسيء استعمالها، واود هنا أن اذكر مثال النقد الانجلوساكسوني الذي يتواضع ويقدم للقراء نبذة عن مضمون الكتاب، وهذا ما نفتقده بالكامل تقريبا منا، انهم يتكبرون على ذك.
* ما هي الصفات الألمانية في شخص جونتو جراس؟
– حبي لهذه اللغة الفنية، الرائعة، المطواعة، التي يمكن إغراؤها، ولكن الذي لا مفر منه هو التاريخ الألماني، الذي لا يمكن أن اختاره، وهذا ما يبدو واضحا في الجيل الذي انتمي اليه، بالنسبة لنا كانت المواضيع مفروضة علينا، موضوعات صعبة، وقد حاولت تفاديها في البداية. موهبتي في الرسم والكتابة كانت خيالية في البداية وكثيرا ما اعود إلى هذه القاعدة الخيالية عندي. ولكنها كانت تراكمات لموضوعات لا يمكن أن تفرض نفسها والتي قادتني تقريبا بالقوة الى (الطبل الصفيح).
* إذا كانت الموضوعات مفروضة، ألا يعد ذلك تناقضا مع فكرة (حرية الفن) !؟
– انه تصور ساذج، سواء تعلق الأمر بالرسم أو بالكتابة، إذا لم يكن هناك دافع يقف وراءها، يمكن أن يكون الكتاب مكتوبا بشكل جيد، ولكنه خال من الدافع، ويمكن ملاحظة هذا في الكتاب، بالنسبة لي ولكتاب آخرين، يلعب الفقدان دورا كبيرا، ما يسمى بالوطن، أي مدينة (دانتسيغ) جوابي على الفقدان موجود في كتبي، ما لم يتمكن السياسي من إنجازه، وأشكر الله على ذلك، لأنه خاسر وسياسي ومفقود إلى الابد، لكن بامكان الأدب ان يعيد خلق الشيء المفقود نهائيا كالوطن من جديد. وهذا ممكن فقط بوجود الدافع.
* هل يعني ذلك أن أحداث الفترة النازية تخترق كل حياتك كخيط أحمر؟
– إنها تؤثر حتى اليوم، بل إنها قد ازدادت، فالشيء الذي يختصر عادة باسم المدينة (أوشفيتز) والذي سمعته لأول مرة عندما كان عمري سبعة عشر عاما، بدا لي آنذاك غير قابل للتصديق، كنت بحاجة إلى وقت لكي أدرك بأنه لا يمكن تفاديه وسريعا ما لاحظت أن العبارة التي ظهرت في الخمسينات (التغلب على الماضي الألماني)، ليست إلا من احلام اليقظة، ذلك لأن الماضي الألماني لا يمكن التغلب عليه، انه يفرض نفسه من جديد. ادورنو وصفه بـ (القطع الحضاري). انه هزيمة للتنوير، وليس فعلا بربرية فقط، يصنف مع أفعال بربرية أخرى، لأسباب مفهومة هناك شرائح واسعة من المجتمع، وسياسيون أيضا يقولون يجب ان نصل يوما إلى الخاتمة، حتى في الصفحات الثقافية اعلن عام 1990 عن الساعة صفر لادب ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا يعني أن أدب المانيا الشرقية يجب أن يرمى في مزبلة التاريخ، كل شيء قد انتهى بشكل رائع، لامع وجديد، وبعد وقت قصير ومتزامن، عشنا الإرهاب اليميني في الشوارع، فالماضي الألماني حاضر ونحن نواجهه، أن الماضي الألماني لا يمكن أن يزول.
* هل مازال يتحكم اليوم في عملك؟
– نعم.. قبل أيام قليلة أعلنت تأسيس مؤسسة للغجر، وقد أهداني بعضهم شريط فيلم يتمحور الجزء الأكبر منه حول نساء عقمن بشكل إجباري ونجون من معتقل (أوشفيتز- بركناو) ولكنهن فقدن جميع أفراد عوائلهن.
وهنا يتضح حجم البؤس، بسبب عدم تمكنهن من الإنجاب، وهذا يأخذ معنى مأساويا أكبر في الظروف العائلية للغجر، لان الأطفال بالنسبة لهم بمثابة ضمان لحياتهم وقت الشيخوخة، وبالمقارنة مع اليهود فان الفجر لم يحصلوا تقريبا على تعويض يذكر، من الصعب حتى اليوم فرض المساواة بين ضحايا الإجرام الالماني، ونرى هذا واضحا حتى في الخلاف البائس في برلين حول إقامة نصب تذكاري لضحايا معتقل (أوشفيتز) ومعتقلات أخرى، إذ يراد منه التذكير بالضحايا اليهود فقط، ومن المخطط بالنسبة للفجر أن يقام لهم نصب تذكاري خاص بهم وما هذا إلا استمرارا في التفرقة، واستمرارا في جنون العرقية.
* ما هي المصادر الأخلاقية لتصوراتك؟ يقال أيضا أن على الفنان أن يكون لا أخلاقيا؟
– لا يعني اللاأخلاقي، انه بلا أخلاق، هناك فرق كبير طالما أكتب، لأنا متأكد بأنه ليست هناك حقيقة واحدة، بل حقائق عديدة، تتعايش بصراع مع بعضها البعض، تكمل بعضها البعض، والتي تشكل صيفا مختلفة ومتقاطعة. أشعر بمسؤولية الإلمام بهذه التعددية، وهذا ما ينطبق على تعابير صارمة: فالحقيقة عندئذ يمكن أن يحدث للكاتب الذي ينطق من حقائق عديدة متجاورة أن يوصف من قبل أعلى سلط، وهذا يعني من الخارج!! بأنه كاتب لاأخلاقي. هذه الأشياء لم اتخذها برنامجا وانما حدثت خلال عقود من السنوات، وهنا ألاحظ ذلك إنني اعتبر نفسي شخصا معاصرا، مؤرخا لفترة زمنية طويلة – الأشياء:لتي لم أدرجها ضمن قائمة أمنياتي، في كتاب (ولادات صناعية) تظهر عبارة (عصرنة الماضي). مخطط التاريخ الزمني ليس إلا تجريدا محضا، ما نتكلم به وما ننكر به لا يتقيد بمسار زمني مخلوط بانعكاسات الماضي. الحاضر ليس إلا ساحلا صخريا يتآكل بشكل دائم لا يمكن تثبيته.
المستقبل في وقتنا شيء أخر عرفته سابقا، أبناء جيلي رأوا المستقبل بين الأنقاض ولكن محمولا من قبل أمل والذي ربما هو وهم، نحن الآن. نخلق ألمانيا أخرى، يجد الجيل اليوم مستقبلا مصاغا ومؤرخا له مسبقا ولكن لعير بوقائع جميلة، المستقبل حلبة اللعب هذه، ضيقة اليوم للغاية وهي وفقا لذلك مليئة بالمخاوف المستقبلية للحاضر، مخلوطة بهذا الذي يسيل عائدا من الماضي، وهذا ما حاولت أن أدخله في سياق رواياتي، وهذا موقف أخلاقي أيضا، مسؤولية أخلاقية لتحويل الادراكات الجديدة لمسارات الزمن.
* هل اكتشفت في روايات أخرى، جملا تمنيت أن تكون قد كتبتها بنفسك؟
– نعم، نعم، بالتأكيد.؟
* روايات أيضا؟
– نعم، موبي ديك مثلا التي أعيد قراءتها دائما.
* هل يكتب الكاتب كتابا كبيرا واحدا في حياته؟
– بالطبع لان هذا ينبع من الفهم القاصر للأدب، الذي يختصر جوته مثلا بعمله (آلام فوتر).
* وتوماس مان بعمله (بودنبروك)؟
– ويختصرني بعملي (الطبل الصفيح) فقط لكني ارتكبت خطأ بإدراج نفسي في هذه القائمة، هذا شيء أحمق لم يكن باستطاعة جوته الشاب أن يكتب (قرابات مختارة) والتي تشكل بالنسبة لي روايته الكبرى، رغم سحر وفتنة (آلام فوتر). في عهد جوته كانت (آلام فوتر) من حيث تقنية الكتابة تقدما كبيرا، أكبر بكثير من خطوة فرتر؟!
* ألا تعتقد بأنك تسيس الأمر؟ هل يشكل التسييس اهتمامك؟!
– لا أظن بأني أسيس، اعتقد بأن السياسة هي إحدى الحقائق التي لديها الرغبة في افتراس كل الحقائق الأخرى، وعندما أتفادى حقيقة السياسة، فان هذا فعل سياسي، ويشكل أيضا إعلان الانحياز إلى البرج العاجي فعلا سياسيا.
* لماذا تنتمي الى الكتاب الألمان ما بعد الحرب العالمية الثانية الذين كانوا دوما يتدخلون في السياسة؟
– أرى هذا من واجب المواطن، ليس الاكتفاء فقط بالإدلاء بصوته أثناء الانتخابات وهذا التصور يعود إلى استنتاجات كان بإمكاننا جميعا أن نحصل عليها بأن جمهورية فايمار الضعيفة خربت لأسباب عديدة، خربت أيضا لعدم وجود جمهوريين بما فيه الكفاية يمكن أن يدافعوا عنها حتى في الأدب وهذا شكل بالنسبة لي درسا تؤخذ عنه الاعتبارات، كتابة الرواية أمر تشكل السياسة بالطبع جزءا منه، ولكنني أحبذ الخطاب، إثارة الموضوعات والمقال، ولا أظن بأنني حالة استثنائية.
* ولكن بمثابرتك تشكل حالة استثنائية !
– هذه المسألة عندي تتعلق بالصمود، فأنا أكتب أيضا روايات ملحمية بمتعة.
* هل تغير دور الكاتب في مجتمعنا اليوم؟
– لا لم يتغير بشكل أساسي، لقد تغير الوضع بشكل أساسي، هذا يخصنا جميعا من خلال إدراك بأن زمننا محدود، نتقابل بشكل مختلف مع مسطح (الأبدية) لقد كان الأدب دوما مرتبطا بالرقابة، المنع، بنفي الأدباء ولكن أيضا دوما بكبرياء القول: لدينا وقت أيها الديكتاتور، ستفترسك الديدان، لكن كتبنا باقية. هذا الكبرياء المحق ساهم في أن كتب التنوير استطاعت أن تفرض نفسها رغم الرقابة فنمن لدينا نفس طويل، هذا تغير لأن البشرية ولكي تبقى في لغة التنوير استطاعت لأول مرة أن تدمر نفسها بطريقه متعددة الجوانب.
* هل يعني ذلك بان الأدب لا مستقل له؟
– لم أقل بأن لا مستقبل له، ولكز باستطاعتنا أن ندمر أنفسنا وبهذا يكون قد ألغي المستقبل، لأنه مرتبط دوما بهذا التهديد، وهذه ليست آخرة مصدرها الآلهة ولكنها نهاية هيئت من قبل البشر، وبالطبع يمكن أن تتلافى من قبل البشر، وهذه الفرصة باقية ولا أسميها أملا، فأنا لست متفائلا بخصوص هذه القضية.
* هل يؤثر ذلك على تصرفاتك؟
– سأبقى اكتب حتى النهاية.
* إذن لا تأثير؟
– هنالك تأثير، لم استوعب ذلك فقط من ناحية المواضيع والمضامين ولكن من ناحية الشكل أيضا، تأثير واحد قد ألفته وهو يناسب عقدة زيزيفية، ذلك أن الحجر لا يستقر في القمة وأنا أتابع الكتابة.
* هل أحسست بالهزيمة؟
– لا يمكن أن يحس الشخص بالهزائم إلا إذا كان يؤمن بالانتصارات وأنا لا أؤمن أبدا بالانتصارات، لقد رأيت فقط ولأخر مرة عام 1989 كم حمقاء هي السلطة ! وقد أصبت أنا بالطبع بخيبة أمل، كما أحس بالتعب، التكرارات تعني موت الأدب لكنها ضرورية حينما يريد المرء أي تأثير سياسي، عندئذ نلاحظ طريقة الببغاء وهذا ليس بالأمر المستحسن.
* كيف يمكنك أن تصف الحقبة التي تعيش فيها؟
– لقد تغير في هذا القرن شيء جذري. المبادرة انطلقت حتى عام 1945 في ألمانيا الحربان العالميتان، الايديولوجيا النازية ومعها فكرة أوروبا الفاشية، وبعد الاستسلام الشامل أضحى كل ذلك في الماضي والتاريخ يحدث في مكان أخر. ولا نشهد هنا إلا ردود فعل على ذلك.
ردة الفعل على حرب فيتنام كانت الحركة الطلابية والمرة الأخيرة شهدنا ذلك أثناء حرب الخليج، هنا نرى الفرق بين النصف الأول والنصف الثاني من هذا القرن، والسؤال هنا: فيما إذا كنا سننجح، وهذا ما أمله، مثل البرتغاليين الذين انسحبوا بكآبة جميلة عن السياسة التوسعية وهو بحوزة ماض عريق وغني، ولا أعرف إذا كنا سننجح في ذلك، وبذل نكون قد أنجزنا شيئا كبيرا.
* أسطورة البرت كامو عن سيزيف تشكل بالنسبة لك الاستعارة الأساسية التي تحكم علاقتك بالعالم، هل علينا أن نتصور سيزيف كإنسان سعيد كما يقول بهذا كامو؟
– أنا رجل سعيد لأن سيزيف حسب كامو يعرف بأن الحجر لا يستقر على القمة ولأنه ليس لديه أمل فان خطر السقوط في الاستسلام والكف عن الحياة لا وجود له.
* إذا كنت سعيدا فهل أنت وحيد؟
– هناك لحظات عديدة في الوحدة التي أعيشها، هناك مثلا لحظة أعدها من اللحظات السعيدة وهي عمليات كتابة المشاريع الملحمية والتي تستغرق سنوات وهي القدر الأكبر من العزلة التي تساهم في شعوري بالسعادة. وهناك أيضا عملية عزلة تصاعدية. عندما يموت من هو أكثر شبابا كيورج بيكر الذي توفي أخيرا أو ألن غينسبرغ، وأتأسف أيضا وأقول ذلك دون توجيه تهم لأحد، عندما أرى العديد من معاصري الذين كنت معهم حتى السبعينات أشاركهم الرأي اليساري الليبرالي، رغم اختلاف الرأي، أراهم اليوم وقد التجأوا إلى الزوايا اليمينية أو إلى أقصده، عندئذ يصبح الحوار غير ممكن، الحوار مع البعض مازال ممكنا،لأن لدينا تجربة مجموعة 47، لذلك أستطيع أن أتعامل مع الكاتب مارتين فالزر كزميل وكصديق رغم اختلافنا الجذري في الرأي، الصداقة مازالت موجودة وهذا ما اعتبره ربحا.
* هل يعقد المرء في سنوات العمر صداقات مع من هم أكثر شبابا؟
– هذا يحدث نادرا برغم ذلك كسبت أصدقاء جددا، أنا من المستفيدين من الوحدة الألمانية، تضامني القوى والجذري مع الذين همشوا في ألمانيا الشرقية السابقة، من وجهة النظر الغربية، كان سببا في ذلك واتضح أن البعض منهم بمن في ذلك كريستا فولف، التي لا أقاسمها الرأي في الكثير من الأمور، قد اقتربنا من بعضنا البعض كثيرا، التقدم في العمر إذا احتفظ المرء بشكل عام بصحته هو أخيرا مكسب، أيضا مع الامتياز الذي يحصل عليه المرء إذا تجاوز السبعين في إمكانية التصرف بجنون.
ــــــــــــــ
هذه مقابلة نشرتها جريدة زفرانكفورتر روندشاوس قبل فوزه بجائزة نوبل.
خالد المعالي: شاعر من العراق يقيم في المانيا.
منى النجار: كاتبة ومترجمة سورية تقيم في المانيا.
عن الالمانية: خالد المعالي، منى النجار