أمل بنت راشد المغيزوية
كان المطر ينهمر بغزارة مترافقًا مع هزيم الرعد ولمعان البرق المتلاحق، لم يستطيع مواصلة قيادة السيارة بعد أن أضحت الرؤية منعدمة أمامه، كانت تفاصيل الشارع تبدو من حوله متداخلة، مغلفة بلون ضبابي لا ينتهي، وجد نفسه مجبرًا على التوقف على ناصية الطريق بعد أن أشعل أضواء سيارته، وشاهد معالم غير واضحة لسيارات متوقفة، ولمح بقايا أنوار باهتة تمتزج بحبات المطر التي تنساب بلا توقف.
أعاده صوت الرعد الصاخب إلى صراخه المتواصل في بيتهم القديم، ورغم اكتظاظه بمجموعة كبيرة من الأجساد إلا أن خوفه من صوت الرعد ووميض البرق كان يشعل في داخله رهبة كبيرة، تتمدد من الخارج لتصل إلى أعمق نقطة في داخل روحه، كان يندس تحت البطانية التي بهتت ألوانها، وبقيت صورة النمر التي تزين وسطها مضحكة وهي تتحرك مع حركة جسده المرتجف، كان ينتظر أن يسقط السقف على رأسه في أي لحظة، أو أن يحطم البرق النافذة القريبة منه، لم يكن يكترث للضحكات التي يطلقها الجميع من حوله، ولا بالسخرية التي تنطلق من أفواه أبناء عمومته، ولا بصراخ والده الذي يرفع البطانية ليضربه، كان ينفصل عن عالمه والدموع تتلاحق على خده، ولا يتوقف اهتزاز جسمه إلا بعدما تنقطع كل تلك الأصوات الصاخبة من حوله، ولا يبقى في أذنه سوى صوت ما تبقى من قطرات ترن في الأوعية التي وُضِعت في الغرفة لتجمع حبات المطر التي تتساقط من سقف غرفتهم المهترئ.
أحس بيد أخيه (ناصر) تربت على ظهره، تشجعه على الخروج من تحت الغطاء الذي اختبأ تحته، أخبره عن قصص طفولته تحت المطر، عن غنائه تحت قطراته المتساقطة، عن الأشكال المختلفة التي يصنعها بتشكيل التراب الرطب بين يديه، ثم يتركها للشمس لتجففها، ابتسم رغم أنه ما زال يرتجف من أصوات الرعد التي أصبحت خافتة ومتباعدة.
ازدادت حدة المطر من حوله، أصبحت الرؤية شبه مستحيلة، توقفت حركة السيارات على الطريق، كان صوت الرعد متتابعًا وقوًيا كقوته في ذلك اليوم الذي مات فيه جده، رأى جسده المسجى بلا حركة ولحيته البيضاء المتشبعة بالماء وعيونه المغلقة، شعر برهبة كبيرة حين لم يشاهده يحمل عصاه العتيقة، تلك العصا التي طالما رفعها في وجوههم، وأشار بها إلى مكان غرض أرادهم أن يجلبوه له، واستند بها في مشيته إلى المسجد أو إلى أحد البيوت في القرية، ودائمًا ما كان يضعها بجواره حين ينام.
تأمل العصا المركونة بإهمال، كان المطر يتساقط دون توقف، وصوت الرعد يصم الآذان، ما زال الخوف الطفولي من الرعد والبرق يسكنه، بيد أنه شعر بالرهبة من نظرات والده المصوبة نحوه، وقف مع الصف المشكل من أولاد العائلة المشغولين بالنظر إلى عملية التغسيل والإنصات إلى عبارات التهليل والتنهيدات الصادرة عن الأجساد المحيطة بالميت، بينما كان مشغولا بالبرق الذي أصبح أكثر وضوحًا، والرعد الذي بدأ يصدر أصواتًا عميقة تلامس روحه الخائفة، وبالمطر الذي كان يتساقط بغزارة.
“حتى السماء تبكي عليه”، هذا ما ردده (ناصر) طيلة أيام العزاء، كان يبكي عليه بدموع صادقة، أصبح جسمه أكثر نحافة، وتوزع الحزن على تقاسيم وجهه، واختفت ابتسامته التي طالما أحبها. كلماته تلك تحولت إلى أيقونة ترددت على لسان أهل الحارة وهم يدخلون لمجلس بيتهم ويخرجون منه.
تعجب بعد شهر حين تحول صمت أبيه وعمه إلى صراخ متواصل حول المال والبيت والمزرعة التي خلفها جدهم، تمنى لو تطاولت أيام العزاء، وتمنى مرارًا في داخله لو يعود جدهم بعصاه وشخصيته القوية، ورغب بشدة لو يهطل المطر ويندس تحت البطانية لعله لا يسمع تلك الأصوات العالية التي تشبه في عنفها صوت الرعد، كان (ناصر) يقف صامتًا بجانب العمود في وسط ساحة بيتهم، يتأمل السماء والحياة.
ما زال المطر مستمرًا في الهطول، انسابت المياه على الأرض، كما انسابت الأمطار تحت قدميه وهو يمسك كتاب اللغة العربية، قرأ قصيدة السياب (أنشودة المطر)، شعر بالسعادة حين قرأ قول الشاعر: (أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟ وكيف تنشج المزامير إذا انهمر؟) وشعر بخيوط خفية تربطه بالسياب، وبأنه ينظر للمطر النظرة السوداوية ذاتها التي انغرست في داخله، لم يهتم بالشرح الذي أفاض معلمهم بكتابته على السبورة، تلاشت القصيدة من ذهنه، وبقيت كلمات الشاعر عن الحزن والمطر وكلمات أخرى باهتة عن الرعود والبروق نائمة في ذاكرته يفسرها على نحو يتفق مع رغباته، وتستيقظ حين يهطل المطر.
تبدو السيارات من حوله ضبابية الملامح، وضوء مصابيحها يرسم ظلالًا مخيفة تتناغم مع ومضات البرق المتتابعة، أحس بحرارة تجثم على صدره رغم برودة الجو في الخارج، فتح جهاز التكييف في سيارته، حدة المطر لم تتوقف، ما زال ينساب بالغزارة نفسها منذ نصف ساعة، يتذكر حبه للصيف، رغم الحر الشديد الذي يرافقه، لا يفهم لماذا لا يحب الناس تلك الشمس الساطعة وعناقيد الرطب التي تبدو كحبات ذهب معقودة على النخلتين القابعتين بجوار مطبخ بيتهما، ويفضلون فصل الشتاء بلونه الرمادي الحالك، يكاد يسمع صوت بكاء النخلتين وهما في حالة وحدة، والمطر ينسكب بلا توقف على جريدهما المهمل.
توقف ذات يوم بجوارهما كانت الأولى قد طالت وشاخت، بينما الثانية تتناسب مع سنوات عمره، أحبها كثيرًا، كان يحاورها ويثرثر معها دائمًا، سمع صوت أبيه من خلفه: “أنت مجنون!” لم يأبه لكلماته، كما لم يكترث لنظرات عمه حين شاهده يحدث النخلة في يوم غائم ينذر بموجة مطر، كان يواسيها ويواسي نفسه، حذرها من خطورة البرق، وشعر بخوفها الداخلي مع تحرك جريدها مع هبات الرياح القادمة. التفت ليجد (ناصر) يحدق في الغيوم ويتنفس الهواء الرطب القادم بعمق، ويغرس بجوارهما نخلة صغيرة، ويحدثها عن المطر والماء والرزق والحياة.
كأن السماء تبكي على خطايا البشر، المطر لم يتوقف، وهو لم يشاهد مطرًا بهذه الغزارة منذ عشر سنوات، حين لاحظ تدفق مجموعة من السحب من جهة الغرب، شعر بالخوف حين لاحظ لونها المائل للاخضرار وأصوات الرعد البعيدة التي تنبثق بين الفينة والأخرى، ما زال يذكر كلمات (ناصر) “ستكون ليلة ماطرة مصحوبة بحبات من البَرَد”، تعجب من ثقته بكلماته، وتابع إصبعه الذي أشار إلى الغيوم وهو يقول: انظر إليها إنها تشبه الجبال!
كمية الأمطار الغزيرة التي هطلت ما زالت صورها محفورة في ذاكرته ممزوجة بمشاهد حبات البَرَد الكبيرة التي تساقطت؛ فقتلت أغنامهم التي توزعت بشكل عشوائي في الزريبة الملاصقة لبيتهم، وكسرت زجاج سيارة والده، وشجت رأسه.
تحسس رأسه بطريقة تلقائية ما زال يتذكر حجم حبات البَرَد التي تساقطت بلا توقف، لأول مرة يرى البياض ينتشر في زوايا بيتهم الضيق، شعر بالدهشة واستمر الألم في رأسه لثلاثة أيام متتالية، وما زال الصداع يتزايد لاسيما في تلك الجهة اليمنى التي تلقت الضربة مباشرة واصطدمت بقية الحبات بقدمه ورجله واحتكت بجسده المهرول تحت المطر الذي طمس حجمها الحقيقي تحت قطراته التي انسابت بقوة.
بدأت غزارة المطر بالتناقص تدريجيًا، وتراجعت أصوات الرعد، وخف توهج البرق ولم يبق منه سوى أضواء باهتة تظهر بين فترات متباعدة. انسابت رياح خفيفة مثقلة برطوبة ولسعة برد، أغلق نافذة السيارة كما أغلق قلبه حين عاد مثقلًا بمشاعر الحزن والألم واللوعة، حين عثروا على (ناصر) محبوسًا في سيارته التي التقمها الوادي بكل جبروته، بعد غياب يوم كامل، كانت ابتسامته تزين وجهه الطيب، والطين يغسل جسده ويتداخل مع كل مساماته، بينما ظلت عيناه تشخصان نحو السماء الملبدة بالغيوم، لعله كان ينتظر المطر كعادته.
كان الفصل شتاء، وفي قلب السماء تتناثر مجموعة من الغيوم، لأول مرة تمنى أن يهطل المطر وأن يشاركه الرعد صراخه الداخلي الذي بدأ يصدر ضجيجًا داخليًا لا يطاق، وأن ينير البرق شيئًا من الظلام المنتشر في أعماقه، كان يريد أن يتماهى مع الجميع في طقوس حزنه الثقيلة، أراد أن يربتوا على كتفه، وأن يبكوا معًا، استبشر خيرًا حين رأى غيمة كبيرة تحجب عين الشمس، غير أن المطر لم يهطل في ذلك اليوم، ولم يسمع صوت الرعد، ولم يشاهد توهج البرق، أحس بثقل في عينيه وهطلت دموعه بلا توقف عند النخلتين بجريدهما الذابل، وكان الاصفرار يحيط بجريد النخلة التي زرعها (ناصر).