وكان له أن يعيش حياة ممتلئة، محبوكة بالكتابة الشعرية والنثرية والترجمة والسفر ولا من تعب، كان له أن يحظى بهذا العمر المديد من الإبداع ولكن كان له أيضا ً أن لا يحالفه الحظ في أن يكون عمره البيولوجي أطول من ذلك، وانطفأ على آخر قصائد له كتبها وهو بين الحياة والموت، بين فراش المرض وفراش الآخرة، بينما شبح الموت حائم حوله وفوق رأسه وأمام عينيه. ظل يكتب فؤاد رفقة حتى آخر ر§مق ولم يفارقه القلم ولا تفارقه القصيدة، تلك القصيدة التي كتبها على امتداد ستة عقود ولم ينضب يوما ً، هو الذي نشر أول كتاب له سنة 1961، وآخر مؤلفاته الشعرية صدر قبل رحيله بأسابيع قليلة، 2011 («محدلة الموت» عن دار نلسن). هو الآتي من الرومانسية الألمانية ومن فلسفتها، هو الذي نشأ على اللغة الألمانية والذي تأثر بها أتى من دسمها الى نتاجه الشعري بكل ما اختمر في ذهنه من تثاقفٍ بين مرجعياته الأولى الغنية في اللغة العربية ومحيطه الجغرافي الأول وبين مرجعياته الثانية، فمزج بين ثقافتين أو بين تيارين فكريين، مكوّنا بذلك لغة زاوج فيها الفكر والشعر ضمن خلطة خاصة ظلّ يحيكها طيلة هذه السنين ولم يتوان لحظة لا عن الكتابة ولا عن النشر. فؤاد رفقة عرف نشاطا ً متواصلا ً في التأليف والنشر، دون أن يكون هذا النشاط صاخبا ً، فرفقة لم يعرف يوما ً الضجة، هذا الإنسان الهادىء وشبه الصامت الذي كان أشبه بالناسك البعيد عن الإعلام والصحافة.
بَعيد عن كل هذه الأضواء الفانية، وهو يراها فانية، هادىء في حياته كما في كتاباته، هذا المتقشف عن مغريات الإعلام، هو الذي آثر العزلة الشعرية الهادئة والانصهار مع مكونات الطبيعة كما نلاحظ من خلال معظم كتبه الشعرية، هو الرومنتيكي المعتدل، الجامع في كتابته الشعرية بين عذوبة الإتصال بعناصر الطبيعة والحكمة الشرقية، مضيفا ً اليهما أسس التفكير الفلسفي الغربي المحض متأثرا ً كما أسلفتُ بما غرفه من المعلمين الفلاسفة الألمان، فكان له ان صنع من هذا المزيج الجميل نوعا ً خاصا ً من الكتابة الشعرية التي تميل أكثر الى الخاطرة منها الى جموح الخيال التصويري الشعري أو الى حريقه، كتابة هي أقرب الى التأمل الذهني الواعي العقلي المحض منها الى التحليق في فضاءات التلاوين الإنفعالية الصرفة، فأعطانا باقة كبيرة وعديدة، دسمة وغنية، من القصائد التي نظرت في أمور الموت أولا ً وآخرا ً، في أمور الدنيا والوجود البشري، حتى باتت كلماته نوعاً من انعتاق الذات وتماهيها مع ما يحيط به من العناصر الطبيعية. ولو تذكرنا قليلا ً عناوين كتبه، نقرأ مثلا ً : «أنهار برية»، «حنين العتبة»، «خربة الصوفي»، «يوميات حطاب» الخ الخ. عناوين معظم كتبه كافية لأن تدلنا على هوية صاحبها، على هوية هذا الشاعر الذي طالما كتب من وحي تفاعل فكره مع محيطه الذي لم يكن يوما ً غير كل ما يتعلق بالتأمل الداخلي بدءا ً من الخارج، التأمل الصامت والهادىء، حيث القلق بداهة ٌ لا مفر منها، لكن دون أن يكون هذا القلق مواجهة وتمردا ً أو ربما سوداوية ً في النظرة والفكرة. فعلى خلاف سوداوية الوجوديين، لا يحاول رفقة التمرد من أجل محاولة التحدي، ولكنه ليس أيضا ً من مدارس المتسشائمين على غرار شوبنهاور، ولا من جماعة السخرية السوداء إذا ً، تلك القاسية والعنيفة على غرار من سلك دربها من السورياليين الأوائل.
فؤاد رفقة من طينة شرقية صرفة، لا يستسلم للسخرية العبثية ولا للفكرة العدمية. صحيح انه يرى الى مسائل الوجود بريبة وشك كبيرين، صحيح انه لا يؤمن بطوباوية الحياة ولا بسذاجة نعيم الوجود، لكنه في الوقت ذاته، وبكل ثبات، يبقى هو الشاعر الشرقي، اي الإنسان المتأمل في الدورة الطبيعية للحياة، يبقى هو «الحكيم» القنوع، القابل بكل ما يأتي اليه من عند «القدر»، وهذا ما رأيناه بقوة في معظم مؤلفاته حيث الخاطرة العذبة والهادئة هي المسيطرة على فكره. انه الشاعر الذي لا يرفض ما يعترض طريقه. بل أكثر، غالبا ً ما قبِل فؤاد رفقة بالموت، بظاهرته كحدث طبيعي، بل كحلقة تلقائية في الدورة الطبيعية للكون، كون النبات وكون البشر. فؤاد رفقة ينظر الى الموت ( والحياة بطبيعة الحال) بعين الحكيم الذي يرى ويستنتج فيكتب كما اسلفتُ خواطر بعيدا ً عن النظريات العقلانية الفلسفية الباردة والذهنية. انه يراقب «ظاهرة» الإنسان على هذه اليابسة، يفكر فيه، يفكر عنه، يغوص في أعماق أفكاره، ينتابه الحزن وربما تلامسه الكآبة، لكنها الكآبة التي تظل عند تخوم الوداعة والرومانسية، تلك المتعلقة بحتمية المصير. هذا المنحى المتأرجح بين الرومنتيكية والحكمة هو الذي أدى بفؤاد رفقة الى هذا الأسلوب في صنعة الشعر لديه، شعر الحكمة والخاطرة، شعر لا يعتمد الصورة بقدر ما يعتمد المنحى الفلسفي والقول الشارح، اكثر منه شذرات القول.
انه في أي حال متشائم عاقل، عذب وهادىء، سلس في تعاطيه سلبيات الحياة، وأهمها سلبية الموت، فينظر اليه بعين الراضخ للأمر الواقع، عين الحكيم على طريقة البوذي اذا جاز التعبير، هو السامري وهو بيدر وهو الحطاب (وكلها تسميات اقتبستُها من عناوين كتبه)، أي وبكلمة أوضح، هو الصبور والعاقل والواعي، هو غير المتمرد وغير العصي وغير المتهور. انه الشاعر الحكيم «بيدر» (من كتابه «بيدر» عن دار نلسن 2000) الذي « في يوم خريفي كان بيدر متمددا ً على صخرة جنب النهر عند الغروب، حمرة شاحبة على سلاسل الجبال، وفي البساتين ظلال تطول، ترتجف، تترسب، وتنحدرالى العالم الآخر(…) يومها كان بيدر بريئا ً، لا يعرف أن الموت حدثٌ طبيعي، دائما ً يجيء، دائما ً يفاجىء الأعراس ويطفىء القناديل». فهذا هو فؤاد رفقة المتبصر والحكيم. هذا هو جانب الشاعر الأصيل، او وجهه الأصح، الوجه الذي ينظر الى الموت كمن يتمتع بمشهد الغروب الجميل، مع شيء من الحزن وشيء من الطمأنينة بأن حكمة الطبيعة تكمن في أن يموت فيها كل شيء، أن ينتهي فيها كل شيء، أن يعود فيها كل شيء الى الحياة، حيث مبدأ العودة الدائمة والدائرة الأبدية، وحيث علينا تاليا ً القبول بهذا القدر.
ولكن يجب الإشارة الى أن رومنتيكية رفقة العذبة وكآبته الناعمة وحزنه السلس وتشاؤمه المتعقل، يجب الإشارة الى أن كل هذه العناصر المتأنية والهادئة والحكيمة لا ينطق بها لكي يرتاح اليها وينسى ذاته فيها، انما لكي يكتشف في كل مرة إزاءها فراغ الوجود وعدمه، لكي يكتشف هروب كل يقين من أمامه. في كتابه «بيدر» خير تعبير عن هذا الشعور الذي طالما انتاب شاعرنا، عندما يقول «ماذا لو كانت حياته كلها، حروفه وقوافيه وأوزانه، أحلامه ورؤاه، لو كانت هذه كلها لا شيء، لو كانت صراخا ً في غابة ؟».
مهما يكن، دائما ً وفي كل قصيدة يكتبها فؤاد رفقة، نعثر على منحى أساسي لا يفارقه، ألا وهو إيمانه العميق بانصهار عناصر الطبيعة جميعها ببعضها البعض والإنسان أحد عناصرها هذه، ومن هنا، ولا مفرّ، إيمانه بوجوب النظرة الحكيمة الى الوجود، بضرورة تبني الحكمة والتعقل في وجه المصير وحتميته، حتمية الموت، الأمر الذي يستخلص منه هو ذاته قبلنا نحن القراء، أن الحياة حلقة في سلسلة طبيعية علينا القبول بها كما هي، إذ لا خروج منها، حياة ثم موت او العكس صحيح.
غالبا ً ما يتبنى فؤاد رفقة لغة «الراوي» الحكيم، «الواعظ» النبي، لكن ليس ليضع نفسه في مصاف الحكماء والأنبياء اطلاقا ً، إنما لكي يوصل الينا بطريقة غير مباشرة وغير مفروضة وغير دوغمائية، أفكاره حول ما يشغل روحه وقلبه وعقله. يتكلم بإسم السامري وبإسم الحكواتي وبإسم الحطاب وبإسم بيدر الخ، وذلك لكي يتسلل من خلال هذه الشخصيات الأسطورية او المتخيلة دون أن يفرض نفسه لا على القارىء ولا على الفكر عامة. كأنه يقول انها خاطرة فحسب، انها فكرة تأملية، أنقلها اليكم قصيدةً على الورقة البيضاء، ولا أدعي لا المعرفة ولا الحكمة الكاملة.
أليس يقول في بيدر: «ماذا بقي من بيدر؟ بعيدٌ صوته، أصداء في الضباب» ؟!
انه صوت الشاعر الصادق الذي يبقى بعد كل موت فيزيكي، صوت كلمته العميقة التي تبقى، وإن راح الجسد الذي كان يسافر كثيرا ً والذي كان يتلقى الجوائز المهمة، منها جائزة غوته العالمية الألمانية، وأيضا ً عضويته في الأكاديمية الألمانية، إن ذهب هو الى تحت التراب ليصير ترابا ًً، فلكلمته الشعرية مصير آخر، بحيث انها هي التي ستقرر دوامها الى ما بعد الموت المادي، هي التي ستفرض نفسها على القارىء، هي التي ستنوب عن الشاعر حيث عليها ان تنوب، لتكون مصدر قراءة ومصدر معرفة ومصدر تأمل وحكمة في الدنيا وما بعد الدنيا.
* (تم اعداد الملف عن الشاعر الراحل باشراف الاستاذين: سليمان بختي وصباح زوين).