سيف الرحبي
لم أعرفه في عُمان أو القاهرة، هذه الأخيرة بدأتُ فيها بمعرفة «رواد» الشعر العربي الحديث. لكن في دمشق عرفت شعراء المرحلة الثانية إذا صح التعبير ، في الشعريّة العربية المحدثة، من بول شاؤول، عباس بيضون، سليم بركات، حمزة عبود ، ابراهيم الجرادي، بسام حجار….الخ، حتى «موجة» الستينيّات في العراق علي صعيد المشرق العربي وللبلاد المغاربية شعراؤها العديدون في هذه المرحلة.
عرفت فاضل العزاوي قراءة، وسركون بولص، عبدالقادر الجنابي، صلاح فائق، مؤيد الراوي… الخ.
موجة غير عاكسة ولا ناسخة لما قبلها، بقدر ما أتت بالجديد والأجد حسب تعبير لعبدالعزيز المقالح.
إذا كان سركون بولص طليعيّ المرحلة بشعريته الصادقة المفارقة، ففاضل العزاوي الذي أول ما قرأت له شعراً «سلام أيتها الموجة، سلام أيها البحر» ومن ثم «الديناصور الأخير»، أو مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة، ذلك الكتاب المداري المفتوح على عواصف الشعر والنثر والفضاء المشهدي، ببروقه الخاطفة الآسرة. كتاب أثر في تجربتي الأدبية عامة وأفدتُ منه ربما أكثر من دواوين الشعر المحض. (الشجرة الشرقية)، (أسفار..).
فاضل العزاوي الذي يؤثر الصمت على الصخب والضجيج، وسعّ فضاء التعبير ، شعراً، ونثراً، رواية، تأملات نقدية وترجمة.
توالت قراءتي لاحقاً لمعظم ما كتب إن لم يكن جله ، «القلعة الخامسة»، وتلك الرواية الطليعيّة في الأدب، العربي ، «آخر الملائكة»، وحتى «الأسلاف» التي أهداني إياها مخطوطة، قبل صدورها عن دار الجمل. حين زارني هو المقيم في ألمانيا منذ نصف قرن، في قرية «شوبغن» الألمانية التي كنت أزورها بمنحة تفرغ كريمة من بيتها الثقافي…
المقيم يزور العابر ، وهذه الثنائية ربما من ضمن ثنائيات كثيرة لم تجد مكاناً في المتن الأدبي لفاضل العزاوي، كما في مرحلة الرواد.. فهناك دائما عابرون في ليل الأبد وأبديون في ليل العبور. الترحل والتشظي، تشظي الهويات الجماعيّة والأفراد والمخيلات يطبع هذا المتن للعزاوي. نَفَس واحد ورؤية واحدة بمقاربات وأوجه مختلفة تخترق هذا النتاج، من دواوين الشعر إلى الرواية والنصوص بتجلياتها المفتوحة. لا يدين العزاوي كثيراً لانجازات سابقيه في الشعر والأدب العربيين ، بقدر ما يتشرّب من مصادر ومرجعيّات مختلفة كونيّة وغربيّة ومشرقيّة. ما سُمي بـ«مدرسة» كركوك أو موجة الستينيات في الشعر والثقافة العراقية على تباين الأسماء والانجازات و المستويات ، كان تأثرها بمرجعيّة الشعر الغربي ، الأنجلو أمريكي على وجه الخصوص وطلائع هذا الشعر، أصواته وأمواجه الغاضبة أكثر من متون كلاسيكية بمناحيها ذات الأجواء الملحميّة. كذلك كان هذا الشعر ضمن سياق شعر عربي، لم يرتهن لأنماط الحداثة العربية السائدة، جاء مفارقاً ومختلفاً في الصورة والعبارة، في الرؤية والمناخ الكلي. وفي حالة فاضل العزاوي جاءت الرواية ضمن هذا السياق على الأغلب، خاصة رواية «آخر الملائكة» بنبرتها الساخرة العميقة، التي تنطلق من المجتمع الكركوكي، المتعدد الطوائف والأديان والأثنيات. لتشمل العراق والعالم في اشتباك البعد الاجتماعي التاريخي بالوجودي، ذلك الاشتباك والتلاحم الذي برع فيه العزاوي أيّما براعة وإتقان .
أتذكر شخصية (درويش) في آخر الملائكة، التي ترمز الى الموت، والرمز هنا ليس نمطياً جامداً وتقليدياً. بقدر ما هو تكثيفاً للدلالة والمأساة. مأساة أو مآسي التحولات المفصليّة في التاريخ العراقي المفعم بالدماء والانشطارات.
حين نزل درويش من القلعة في صباح الثورة التموزيّة- إذا لم تخني الذاكرة- يلتقي في طريقه بأحد أصدقاءه أو معارفه، قائلا له، إن هذا اليوم والأيام القادمة، أمامي أعمال كثيرة لابد من انجازها…. الخ. ماذا ينجز الموت في مسيرة الأحداث المحتدمة، غير الدماء، خطف الأحياء وتكويم الجثث والأحلام ، في أرخبيلاته الخرافيّة؟
* * *
منذ أواخر السبعينيات من القرن المنصرم ، بداية معرفتي بفاضل العزاوي عبر القراءة المؤثرة المتفاعلة كيانياً مع كل ما يكتب ويُصدر في حقول المعرفة والإبداع المختلفة، حيث لم ألتقِ به على الصعيد الشخصي إلا بعدعشرة أعوام على الأرجح، هو المقيم في الشطر الشرقي من ألمانيا التي اندمج شرقها وغربها في ألمانيا الاتحادية الراهنة. وهو ما زال مقيماً هناك مع رفيقة الدرب والأدب سالمة صالح، شاهداً حقيقياً على الإنهيارات القيميّة والمجتمعية على «فساد الزمان». مترحلاً بصمت الحائر والباحث عن حقيقة تظل هاربة باستمرار، بين المعارف والتضاريس والثقافات.