فاطمة الشيدية القصيدة نزهتي الكونية في بحيرة من الموسيقى
(نحن محكومون بالأمل) , وبالحب أيضا
الأماكن الأولى تمنعنا من الأمكنة الأخرى، وتجبرنا على
المكوث في دروبها الفردوسية وماهي كذلك!
حوار : عبد الرزاق الربيعي
كاتب من العراق يقيم في عُمان
تؤمن الدكتورة فاطمة الشيدية أن الكتابة مشروع أخير للحياة والحلم و شرفتها الداخلية، التي تهرب إليها كلما تصاعد الحزن في أوردتها ، لتغرق في بحيرة من الموسيقى، أو في فنجان قهوة لتنعم بالسلام هربا من حنين المرايا للدم والحزن ,و ثمرة التأمل في الكون والوجود والكائنات، ثم الدافع للوصول به –الشاعر – للحزن لإدراكه لحالة من اللاجدوى !
بهذه اللغة الشعرية تتحاور مع الأشياء وتفسر العالم المحيط محاولة أن تعيش تفاصيل حياتها كنحلة تتنقل بين أزهار الكلمات , متنقلة بين عدة أعمال وظيفية :مكتبها في وزارة التربية والتعليم , عضويتها هيئة تدريس الجامعة العربية الكندية المفتوحة وهيئة تحرير مجلة شعريات (ليبيا) وأنشطتها المتعددة في النادي الثقافي والجمعية العمانية للكتاب والأدباء العمانيين, وهذا لن يشغلها عن مواصلة اشتغالاتها الكتابية في الشعر والنثر والسرد والنقد , وفاطمة من أكثر الشاعرات العمانيات تواجدا في المشهد الثقافي العماني ,صدر لها) هذا الموت أكثر اخضرارا -دار الرؤيا- مسقط / 1997, و(خلاخيل الزرقة) دار المدى – دمشق/ 2004
ورواية (حفلة الموت )، دار الانتشار العربي 2007 و(مراود الحلكة)- منشورات وزارة التراث
والثقافة – مسقط / 200 ولها عدة كتب مخطوطة قيد الطباعة منها كتابها (أسلوبية النص) الذي هو أطروحة الدكتوراه في اللسانيات النصية والأسلوبية في اللسانيات التي حصلت عليها من جامعة اليرموك في هذا الحوار حاولنا الاقتراب من عالمها الشعري ومشروعها في الكتابة والنقد .
bb يرتفع في نصوصك صوت الفجيعة, ولو بشكل خفي وهامس, هل الكتابة تعبير عن مكنونات اللاشعور الذي تختزن به مخاوف الإنسان من الموت والأمراض وهو يسبح في بحر الوجود المتلاطم ؟
صوت الشعر هو صوت الداخل، وهو ذلك الصوت المشتغل على الواعي واللاواعي من الذات، لذا نجده يسرف في البوح في ثنايا النص، والفجيعة الوجودية التي يختصرها ذلك الصوت؛ هي ثمرة التأمل في الكون والوجود والكائنات، التأمل الذي هو دور الشاعر وربما قيمته، ثم الدافع للوصول به للحزن لإدراكه لحالة من اللاجدوى. وهي ثمرة توصّل إليها الشعراء والفلاسفة معا منذ أقدم العصور. انظر مايقول أبو العلاء أحد أكثر أصوات الفجيعة علوا وارتدادا في الصدى..
أمرٌ بدا ثم أخفَى، شأنَهُ، قدَرٌ
كالنّارِ ماتتْ، فلم يُنشَرْ لها قَبس
دُنيايَ هلْ ليَ زادٌ أستَعينُ بهِ
على الرّحيلِ، فإنّي فيكِ مُحتَبَس
bb عشت طفولتك في بيئة مائية هل تبللت كلماتك برذاذ البحر؟
نعم عشت طفولة مائية، وللمفارقة عشت بين ملح أجاج، وعذب فرات، فبين البحر الذي كان مهد طفولتي الأولى، ورفيق المتبقي من الذاكرة والحلم، وبين السواقي التي دثَّرت الروح بأغانيها، وأحلام العصافير على الأشجار التي نمت بمحاذاتها تدحرجت خطواتي الأولى، وربما دمعاتي الأثيرة، الأمر لم يكن خرافيا ولا أسطوري الجمال؛ بل كان في منتهى البساطة والبدائية، ولكنها الأرواح والذاكرة التي تجعل الماضي هيكلا تطوف حوله ما تبقى من العمر، لقد تبللت روحي وليس كلماتي وحسب، وأشعر الآن أنني كلمت طرقت بحر الكلمات فأنني لابد أن أحرك يدي وبأصابعي كمن يحاول أن يسبح تماما، و كلما قررت أن أكتب علي أن أستنجد بكل ذلك الماء، وبكل حلاوة وطلاوة الأشياء القديمة، عليّ أن أكتب بمداد الموج كما يقول نيتشه:
«أمحكوم علي إذن بالخربشة ؟
لذلك كلما استولت علي بجرأة دواتي
أكتب بأمواج من المداد
كيف ينساب ذلك مترعا سخيا!؟»
bb الأماكن الأولى تحفر في الذات أخاديد عميقة , ماذا حفرت (صحم) في ذاتك ؟
المكان هو روح شبحية تسكننا، روح تصلح أن تكون ترياقا للغربة والعزلة معا، تصبح حالة ميتافيزيقية للذات، لا تستطيع فعلا أن تحدد ما فعلت بك، الأماكن الأولى(صحم بالنسبة لي)، هي حالة الحفر الخالد التي لا تملك بعد زمن ما سوى الارتداد نحوها استجداء لروائحها، وارتعاشة عشاقها، وأصوات موتاها، وحنينها المستبد، وأحلامها وانكساراتها، والحزن غير المبرر، والعثرات الطفلية، والبراءة التي تقف دونك ودون الفهم الكارثي الذي تتمنى لو أنه لم يكن.
الأماكن الأولى تمنعنا من الأمكنة الأخرى، وتجبرنا على المكوث في دروبها الفردوسية وماهي كذلك!، ورائحتها المقدسة، وصوتها النبيذي الهش مهما تباعدت بنا الأمكنة أو غربتنا الدروب. والعزلة التي هي فريضة محنة الكتابة والوعي، تجعلنا نعيش مكاننا الخاص وزمننا الخاص، وتجعلنا نصرخ مع إيمل سيوران.. «أنا ممنوع من الزمن. ولما كنت عاجزا عن متابعة إيقاعه فإني أتعلق بتلابيبه، أو أتأمله لكني لست فيه ألبته. كما أنه ليس فيّ. وعبثا أطمع في قليل من زمن الجميع»
bb هل انعكس هذا على كتاباتك الشعرية والسردية؟
نعم، مازلت أسيرة الطين والبحر والرمل والإنسان المائي، ببساطة مازالت أسيرة الرائحة إذ البحر يتنفس ويلقي بفوضاه على شواطئ الحنين، والنسوة يتضوعن بالحنّاء والبخور، والساقية تمر عبر أحواض النخيل في ترف ودلال وبساطة البسيط من الأشياء. ولذا ربما أميل في كتابتي للونيّة، وللحس والجرس والموسيقى، كما أميل بعمق معمّق ومقصود لسرد التفاصيل النفسية الداخلية، وللمشهد الكلي الخارجي بشكل مجمل وعام كنص متكامل ليحظى المشهد الخارجي بصورة كليّة، والمشهد الداخلي بإسهاب نبيل.
bb بعد ثلاث مجموعات شعرية فاجأت الوسط الثقافي العماني بروايتك «حفلة الموت» هل كتابتك للرواية إقرار بأن الزمن هو زمن الرواية؟ وكيف تنظرين لهذه المقولة ؟
لا أبدا .. كتبت الرواية لأنني شعرت أنني أرغب أن أكتب رواية، كانت الفكرة متخلّقة في رأسي وفي دفاتري منذ فترة طويلة جدا، وكان يجب أن ترى النور – لولا تخوفاتي غير المبررة- قبل مجموعتي الثالثة، وكانت كما كل مشاريعي طويلة الأمد، وقد تأتي بعد فوات الأوان بقليل..
عن المقولة أعتقد أنها صادقة إلى حد ما، ومع هذا لنكن في منطقة الوسط هذا زمن النثر، زمن الشعري والسردي منه، زمن الغائم واللادقيق من التجنيس والتوصيف والمسميات، ثقيلة هي التسميات الآن، المسرح ابتلع الفنون جميعا، وخلق حالة من الاتحاد والتسوية والصلح معها، والشعر فعل فعلته هذه منذ اسخيلوس والملاحم وتصالح مع الموسيقى والفن، الكون أصبح منثورا، والحزن والوجع والعشق والرؤية والتأمل والجمال كلها تغيرت وتلونت وانتثرت، والبحر والصحراء، واليتم والماء، وأرواحنا وأجسادنا وأحلامنا، والقصي المعتم والوردي منا؛ كلها انتثرت؛ فلم لا ننتثر!؟
bb ولربما الاستقبال الحافل الذي تستقبل به الروايات النسويات في الخليج كرواية«بنات الرياض» مثلا هو الذي حفزك لكتابة «حفلة الموت»؟
– لا بالطبع، بل لقد أردت بإصرار أن أبتعد عن تلك المناطق المستفزة للحم البشري، المتحفز للاستثارة السهلة السريعة والمجانية، روايتي طيبة بما يكفي لتكون في خانة البسطاء والفكرة العميقة، والحنان المستنفد من قبل طاقات الشر التي لا قبل للإنسان بها، وجارحة بما يكفي لتكون نقداً صريحاً وجاداً للكثير من التصرفات الذكورية الحمقاء، ولكل الاستلاب التاريخي التهميشي للمرأة، وحادة بما يكفي لأن تكون صرخة ضد ظلم متصاعد ومتوارث لهذا الإنسان، الذي سُرقت من حتى إنسانيته على مر التاريخ بالعبودية والعنصرية والتمييز، وحنونة بما يكفي لأن تصرّح بأنه لا حياة ولا سعادة، بلا حب!
bb ما المقولة التي حرصت على طرحها في هذه الرواية؟
– لقد حرصت على طرح عدة مقولات أهمها:
المرأة إنسان كامل وليس ناقصاً.
مجتمع لا يقدر المرأة مجتمع متخلف.
البشر متساوون في إنسانيتهم بكل الألوان والأشكال والأحجام والأعراق، وكل عنصرية، هي ظلم طارئ، وشر مستزرع.
حين ننظر للأشياء من عدة زوايا، يمكننا أن نراها بعدة أشكال
الأساطير هي قيمة المحكي والشفهي في المجتمعات، ويجب استثمارها في المكتوب كي لا تندثر.
نحن محكومون بالأمل( سعد الله ونوس)، وبالحب أيضا!
bb ما الذي برأيك يجعل فن الرواية «متأخرا» نسبيا في الوسط الثقافي العماني عن بقية الفنون؟
في البدء لا يمكننا تعميم هذا الحكم، هناك روايات عمانية قديمة وغنيّة وإن لم تنل حظها من الشهرة، ولم تعد متداولة بيننا. كما أن هناك روايات حققت شهرة عالية، ومن ثم فطبيعة الرواية تحتاج نضجا في الأساليب والتجربة، تحتاج أن تكتبها بعد مشوار من الكلام أو الغناء أو الصمت، مشوار من التأني والتثبت، ولذا أرى الأمر طبيعيا جدا ومبررا، بالإضافة أننا نبدأ غالبا من حيث ينتهي الآخرون، ولابد أن يكون نتاجنا الثقافي بشكل عام متوازيا نسبيا مع النسبة السكانية وعدد المثقفين، والكتاب وضمن هذه الحسابات لدينا عدد لا بأس به من الروايات والروائيين، كما أن المشهد يتسع كل يوم، والقطار يتحرك بسرعة أكبر، والعجلة تدور وتور ..فلنتأمل ولنأمل ..
bb هل ستواصلين هذه اللعبة؟
نعم! إنها مغرية ولذيذة جدا وتستفز شغبي الداخلي للتجريب فيها، تماما ككلمة لعبة، التي أشعر أنها ترجعني للوراء كثيرا، وتجعلني أجيب فورا بنعم وبحماس، مع أنني غير متيقنة تماما من الإجابة، لكن ما أنا واثقة منه، أنني أحب أن ألهو مع اللغة دائما كصديقة حميمة، نتقاذف الأشياء القريبة ونحن نقهقه بصوت عالي حين نتكلم عن غباء الرجل الشرقي ونظرته للمرأة، ثم ننسحب بمرح أقل لمناطق أكثر وجعا وضبابية، وثقلا موضوعيا للحديث عن التصوف وجمالياته عن محي الدين بن عربي أو الحلاج، أو عن التطور التاريخي للقصيدة العربية من امرئ القيس حتى أدونيس ومحمود درويش، مرورا بالمتنبي النبي المغرور، وحكيم المعرّة، ثم سنذهب للفلسفة للحديث عن الحرية والحقيقة والوجود عند سارتر أو هايدغر أو غيرهما مستحضرين سقراط وأفلاطون وأرسطو وابن رشد وابن سيناء والفلسفة العربية العظيمة، ساخطين على المتشدقين العرب الذين أهملوا هذه الفلسفة في ركضهم الحثيث وراء كل غربي، وهم لا يملكون حتى أبجديات الثقافة العربية التي نهل منها علماء وفلاسفة الغرب الذين بذلك بوعي وواقعية، وقد نعرج للسياسة التي لن نطيل الوقوف عندها لأنها باتت متناقضة حد عدم قدرة كائن واعي على الكلام المنطقي فيها لأنها تثبت كل يوم أنها تتفّه وتحقّر كل المفاهيم التي تصدرها وتعلي شأنها في اليوم السابق، ثم سنعرج على جماليات الحزن وضرورة الاكتئاب للمبدع عند فان جوخ الذي قطع أذنه لحبيبته، وفتنة العبث عن سلفادور دالي، وقد نصل للموسيقى حينها سيعلو النقاش بين جمالية غناء النص الفصيح عن مارسيل خليفة، أو ماجدة الرومي مثلا، وبين فاغنر أو موزارت في الموسيقى الكلاسيكية، متباهين قليلا بالمعرفة الناقصة، واستعراض المعلومات السطحية أحيانا كثيرة، وتحتد أصواتنا عند مناطق الاختلاف وتتراخي حنانا عند مناطق الاتفاق… نتكلم في كل شيء من طريقة اللبس حتى نوع ماركة المكياج، والألوان المحببة للشالات.. !!
هل رأيت هكذا أعيش وأكتب ضمن اللغة التي هي كل شيء في أي شكل كتابي، إنها الحياة.. الحياة كلها.
bb أصبحت مقلة شعريا, هل أكلت أنياب الرواية والدراسة الأكاديمية تفاحة قصيدة فاطمة؟
نعم أصبحت مقلة جدا شعريا، ولكن ليس لأي سبب مما ذكرت، أو لأي سبب منطقي آخر، ولكنني لم أعد أستطيع أن أكتب شعرا، كما كنت أفعل بكثرة وعشق، يبدو أنني انتثرت بما لم يعد يسعف التكثيف، بت أقرب للاندياح في بؤَر الماء، من تجمع الضوء في قبضة القصيدة، وأميَل لعصير التفاح من قضمته المتوحشة، وأخشى إذ اقترب من الشعر أن تجرحني أنياب القصيدة، أو أجرحها، كما أخشى كثيرا وكثيرا جدا أن أكف تماما عن تجنيس كتابتي بعد وقت ليس بطويل، ولكن ما أعرفه جيدا أنني لن أكف عن الكتابة.
في أمسية لصديق رائع أحب ما يكتب من شعر كنت أعتصر داخلي، وأنا أقول: يا إلهي كيف مازال يكتب شعرا؟! ألم يتعب؟ لقد جرحني الشعر إذ ترك نصله معلقا في روحي، وبات دمي أكبر وأكثر سيلانا من نفاف القصيدة!!!
bb بدأت الكتابة شاعرة قصيدة نثر وواصلت هذا النهج الجمالي , أي أن تدرجك كان ضمن منطقة حددتها بنفسك منذ البدء , ما هي الخطوات الفنية التي قطعتها في طريق المغايرة ضمن هذا الإطار؟
أنا وريثة تقليدية للقصيدة العربية، بكل مراحلها وطقوسها وبحورها، قراءة وكتابة، كما أحمل كل الأشياء الضدية التي قد لا تتخيل تناقضاتها داخلي اجتماعيا وإنسانيا وثقافيا، والتي جاهدت لخلعها وربما لم أفعل تماما، ولم أقرأ نصا منثورا إلا في الجامعة، ولم أقرأ نصا غربيا إلا مترجما، لكنني أيضا أحمل داخلي بذرة الاختلاف وجمالية التمرد، فحين شعرت بأن ما يشبهني ويكتبني هو قصيدة النثر، كان من واجبي أن أصرخ نعم (هذه هي!) وأن أخلص لها حتى الكفر بما سبقني منها، وأن أبدأ من حيث انتهت تماما، وهذا ما حدث، وصرت أقول أنني منها بدأت.. ولا أعرف إلى أين سأنتهي!!
bb في حوار سابق اعتبرت التعاطي مع الكتابة «ورطة» هل أنت نادمة على دخولك هذه الورطة؟
ورطة؟ نعم، وأي ورطة وجودية هي الكتابة؟! دافئة وقاسية، ناعمة وجارحة في ذات الآن، ولكن نادمة؟ لا، إنها ورطة حنونة جدا، وأنا أحبها، وأعشق تورطي فيها، لأننا إذ نجيء متورطين فنحن نعشق هذا التورط بعد حين، ونتلذذ بمازوشية به، وبقسوته، ونستعذب ساديته في أرواحنا، بمشارطه في قلوبنا، وصرخاته الوحشية في دمنا، ولا نرى لنا وجودا خارجه، ولا نرى أنفسنا إلا ضمن شراكه الطيبة، ومخالبه النبيلة، ومراياه الحنونة، ألا ترى كيف نحب أوطاننا وآبائنا وأمهاتنا وبيوتنا وأصدقائنا وأحبائنا، رغم أننا كثيرا ما نكون غير راضين تماما عنهم، وكثيرا ما يكونون هم وحدهم سبب أحزاننا وشقائنا الخالد.. ولكنها أقدرانا ..وهل أكثر من العشق ورطة قاسية وحنونة في ذات الوقت!
bb درست الأسلوبية أكاديميا هناك من يعتبر الأسلوبية داء لكل دواء من حيث يمكن دراسة أي نص دراسة أسلوبية على حساب المناهج الأخرى وأنت كباحثة , هل ترين أن الأسلوبية كمنهج أصبحت مطية النقاد مثلما كان العرب يعتبرون بحر الرمل مطية الشعراء؟
بالطبع هذا كلام به الكثير من المغالطات العلمية الفجة، المشكلة لدينا تكمن في التعميم، وفي لا موضوعية الترجمة غالبا، وفي تذبذب المصطلح، وفي التطبيق التعسفي من قبل البعض للمناهج النقدية، وفي تعاطي من لا يملك أدوات النقد معه كيفما اتفق، مصدّرا نفسه بالمسمى العظيم (ناقد) وما ضره لو قال أنا قارئ ومتابع، وخفف على نفسه عبء المصطلح والتنظير، وتسويق المسميات، وتشويه الحقائق.
فالأسلوبية منهج علمي دقيق ويشمل عدة مباحث، وليست هي تحليل النص لغويا من ظاهره فقط -كما شاع في دراساتنا المسلوقة على عجل- إن كل ما يتناول الدرس البلاغي والنقدي والنص والتناص والكثير من المناهج النقدية والمدارس الأدبية يدخل ضمن الأسلوبية التي هي مبتكر علمي ثقافي غربي يتقاطع قليلا مع البلاغة العربية، ولكن ليس بشكل كلي ولا حتى كبير، وهي علم كبير ومتشعب، درسه أكادميون ولغويون دراسات مستفيضة، ومازال يحظى بالكثير من الاشتغالات الأكاديمة الغربية، في حين نتعلق بحوافه فقط، وينتسب إليه كل من له أو ليس له دراية به، وهنا تكمن المشكلة!
bb النص الشعري فسيفساء من الجماليات والعناصر الفنية , في نصك الشعري لأي عنصر جمالي تعطين الأولوية ؟
الشعور، والصورة، واللغة، وهكذا بهذا الترتيب أرى ممكنات وضرورات النص الشعري في خلق جمالياته، وبناء عوالمه اللينة والناعمة، والجارحة والقادرة على السكون والركون في الذاكرة الشعرية، والقبض عليها من قبل المتلقي الشعري.
bb كناقدة وباحثة كيف تقيمين التجربة الشعرية العمانية الحديثة؟
أعتقد (كقارئة ومتابعة، وهذا أهم بالنسبة لي) أنها بخير نوعا ما، من حيث أنها متوازنة ومتوازية، بمختلف التوجهات الشعرية والمدارس والأجيال الفنية، وربما أيضا لكونها تسير ببطء نبيل، وهدوء واعي، غير مفتعلة للضجيج والدعائية،كما تفعل الكثير من التجارب العربية الأخرى، ولكن مع هذا ينقصها الكثير أيضا! ينقصها الجدل والحراك، والتنوع والقوة في الحضور والتفاعل مع الآخر الخارجي، كي لا تبدو في سير مريض قد يؤدي بها للموت، الذي هو عكس الهدوء والاشتغال الصامت.
bb هل أنت راضية عن مستوى المتابعة النقدية لهذه التجربة ؟
بصراحة لا، وخاصة مع الجيل الجديد أي من جيل التسعينيات فما بعد ، وأعتقد أن العتب مشترك على الشاعر والناقد، على الشعراء أنفسهم من حيث قلة الإنتاج، وعدم الاشتغال الحقيقي على التجربة، والسعي للنضج والوعي بالقراءات المغايرة، والتسابق الحميم مع نص الذات والآخر، والميل للصمت القاتل، هذا من ناحية، والبعد عن النشر، وتسويق الذات -الذي ليس عيبا خاصة مع وجود الانترنت- لإغراء النقاد بما يكتبون للكتابة عنه وحوله من ناحية أخرى.
وعلى النقاد من حيث بعدهم عن المتابعة والقراءة، وتتبع ما يتم إنتاجه، وميلهم للنقد المؤسسي المدعوم بالرسمية المؤسساتية والمناسباتية.
bb كإمرأة هل عانيت من أجل إيصال صوتك؟ أم على العكس وجدت طرق النشر للكتابات النسوية, كما يردد البعض, مفروشة بالرياحين؟
دعني أقول لك!! لقد تعبت على نفسي كثيرا، ومازلت، ولا أقدم نفسي حتى الآن إلا كحالة من الاجتهاد المعرفي والفني، ضمن محاولة لشق الطريق الوعر، ولا زلت أعتقد أن الكتابة ليس حالة ترف، وليست مهنة من لا مهنة له، بل هي صناعة تنطلق من إيمان الفرد أنه خُلق كاتبا، ولا طريق آخر له، ليسلكه ليحيا هذه المحنة الوجودية المسماة حياة، وهذا الأمر ينطبق على المرأة والرجل، ولكن في مجتمعاتنا الذكورية، اشتغال المرأة بأي شيء خارج حدود ما رسم لها من قبل السلطة الذكورية الاجتماعية؛ أمر ليس بالهين، وأنا ضمن هذا المجتمع وضمن هذا الإطار، وإن كان الشوك لم يكن بالقسوة الدامية؛ ولكن أيضا لم يكن هناك لا رياحين ولا ياسمين في دربي الذي أظنه قصيرا جدا ..
bb كيف تنظرين للحراك الثقافي في السلطنة خلال السنوات الأخيرة؟
أنظر له على أنه محاولات جادة، واجتهادات حقيقية فردية أحيانا كثيرة، لصناعة وسط ثقافي صحي، أو مشهد ثقافي عماني ناضج، رغم غياب الكثير من شروط هذا الأمر، مما يتعلق بسلبية الأفراد، أو تضخم الأناعند البعض، والتطلعات الفردية للظهور، وغياب فكرة العمل الجماعي، أو سلبية المؤسسات الثقافية، أو نظرة المجتمع غير الإعلائية البتة للشأن الثقافي والمعرفي، وغيرها من المعوّقات الكثيرة.
bb وسط زحمة ضجيج الحياة اليومية, هل تجدين فسحة للقصيدة؟
بل لا فسحة للقصيدة إلا وسط ضجيج الحياة اليومية، إنها شرفتي الداخلية، التي أهرب إليها كلما تصاعد الدم في رأسي، والغليان في روحي، والحزن في أوردتي، إنها نزهتي الكونية، التي تجعلني أغرق في بحيرة من الموسيقى، أو في فنجان قهوة محلى بالكريمة الغنية، لأنعم بالسلام هربا من سياط الغربة، أو حنين المرايا للدم والحزن..
bb قالت سيدوري لجلجامش :الى أين تسعى ؟ وأنت الى أين تسعين في فضاءات الجمال ؟
أسعى إلى الصمت الذي ليس ضد الكلام، وإلى السعادة التي ليس ضد الحزن، وإلى اللغة التي تحكيني ولا تحاكيني، وإلى الفراغ المنتج، والتأمل المولع بالأجنحة، والغياب الذاهب في اللحن، والحنين المترنح على صوت يسري للداخل كالقند أو كالسكاكين… وإلى الكتابة كمشروع أخير للحياة والحلم..