هذا هو ملخص بعض آراء نوفارينا اللاذعة في المسرح «هذا النذل الثري": "النص يمر أولا بإذن الممثل، وهذا ما يميل الكثيرون من المخرجين الى نسيانه ".
المسرح هو نزل ثري. يقول نوفارينا كما يقول لـ "كل هؤلاء المخرجين الذين يخرجون، هؤلاء الشيطانيون الذين يصنعون لنا فوق الجوهر الأساسي طبقات طبقات من هذا السقط الفحمي، من التراكمات المسرحية المكومة في المخازن، من بقايا العروض القديمة التي قدمها الناس القدامى":"كفى مماحكة ونقدا.. هيا.. وبسرعة، فلتحيي نهاية هذا المسرح الذي لا يني يعيد شرح نفسه والتعليق على ذاته بدلا من أن يبسط خيمته للكمية الهائلة لكل ما يقال، ما يصبح اليوم أكثر حدة، ما يجر في كل الاتجاهات اللغة القديمة المفروضة، في جلبة اللغات الجديدة، المدهشة،التي تدفع اللغة القديمة، المستسلمة عاجزة.
الممثل هو الذي سيفجر كل شيء لأن الأشياء تنمو في حقل الأكثر "ممنوعا"، وما ينمو، ما سيدفعه هو اللغة التي سنعود أخيرا فنراها تخرج من الفوهة.
للممثل مركز هو فوهته، وهو يعرف ذلك، واذا كان لا يتمكن بعد من قوله، فذاك لأن الكلام، لا يعطي اليوم، في المسرح، الا للمخرجين وللصحفيين، أما الجمهور فيطلب منه بأدب أن يترك جسده معلقا على المشجب، في حين يرجى من الممثل بأدب الا يتطاول على الاخراج، الا يبلبل خطته الوجبة الأنيقة، أو تبادل الاشارات الجميلة، التواطؤي، بين المخرج والصحف ". «يتبادلان اشارات ثقافية متبادلة ".
المخرج القائد يريد للممثل أن يحك جلده على طريقته هو، أن يقلد جسده، لأن هذا ما يكون «لعبة الجماعة " "نمط المجموعة الواحدة"، أي أن الجميع يحاول أن يقلد الجسد الوحيد الذي لا يظهر، ويشغف الصحفيون بهذا. ان يروا في كل مكان صورة الانسان الآلي أي المخرج الذي لا يجرؤ على الخروج، في حين أريد أن أرى كل جسد يظهر لى المرض الخاص الذي يحمله ويحركه.
كان يعتقد أنه بنى منهجا يجعله يقول بفمه كل ما يريد.
كان يريد تطويعها، ثنيها، العمل عليها اخضاعها كل يوم للتدريب حتى اللهاث، جعلها صلبة مرنة تقوية عضلاتها بالتمرين المتواصل الى أن تصبح فما بدون كلام الى التحدث بلغة بدون فم.
أقلع عن أية فكرة تعبير، تبادل، تواصل، امتلاك، تعلم.. كان يفضل أن ينسى ما حفظه، الا يعود يتحدث أبدا اللغة التي تمل، التي أمليت علينا. لم يكن يحاول السيطرة على اللغة الفرنسية امتلاكها، بل على العكس كان يحاول أن يجرب فيها أن يصل معها الى النهاية.
كان يكتب بفرنسية غسقية. ظن أنه يفقد صوابه، كان يعتقد أنه يعيش في آلية تنحدر. تنحدر، أسوأ.. دائما الى تحت أكثر، الى ما هو أكثر انخفاضا.. كان يريد أن يقود فكره، أن يدفعه الى حيث لا قيمة لشيء.
ويرد علينا صوت الأخ مكتوما خفيفا، بدلا من أن يمد خيمة لتغطي الجماهير العريضة لكل ما يقال، ما يصبح اليوم أكثر حدة. ما يجري، في كل الاتجاهات،اللغة القديمة المفروضة نحو. ضوضاء اللغات الجديدة التي تنمو وتدفع القديمة فتستسلم وتقف عاجزة.
الممثل هو الذي سيقتل ثم يطلق كل شيء، لأن الأمور تنمو حيث الأكثر "ممنوع » الأكثر "محرم »، وما يدفعه، ما سيدفعه، هو اللغة التي سنراها أخيرا تخرج من الأذن، فللممثل مركز هو "فوهته » وهو يعرف ذلك، لكنه لا يتمكن بعد من قوله، لأن الكلام الآن، في المسرح، لا يعطي إلا للمخرجين والصحفيين، فالجمهور يطلب منه بأدب أن يترك جسده معلقا على المشجب. أما الممثل، المدرب فوق خطة مرسومة، فيطلب منه بلطف أيضا، بالا يخرب الاخراج، والا يبلبل ترتيب الوجبات المرتب، والتبادل الجميل للا شارات التواطؤية بين المخرج في مكان بدون قيم. كان يعتقد أنه يغوص، ينزل الى حيث لا يعود المضي الى ما هو أبعد ممكنا. كان يريد أن يوصل فكره بنفسه الى نهايته، أن يجرب دائما. انها عملية قتل.. انه رجل يقتل نفسه انه يتكلم انه شيء يختفي، ذاك لأنا يعتقد أنه جزء من الزمن يتحدث مع زمنه الخاص، انه الزمن الذي يجري وهو يتكلم.
كان يعتقد أنه يعيش تجربة تولد ذاتي، كان يرى يدا من الرؤية خلف رأسه، غالبا ما كان يشعر أن له رأسين، لم يكن يرى الضوء، كان ينزل الضوء، يسقطه من أنبوبة.. دائما كان يصور ذلك لنفسه، كمنحدر، كسلم منحدر في الضوء المظلم كتضحية علمية.
شيء ما كلف به.. كان لابد من أن ينذر أحد نفسه.. لم يكن له صوت، ولا رؤى، ولا زيارات رؤيوية.. لكنه كان متأثرا واصبح هو الذي يؤثر.. أصبح محركا للأشياء مولدا بذاته.
كان يمر بحالات انفصال.. يرى بيديه لم يعد له عينان لكن الجسد كله أصبح عينين.. القدمان، اليدان، الاعصاب، الأعضاء التناسلية، الامعاء، الأقفية الداخلية للقصبات التي ترى.. انه يد الرؤية، أداة صوت ملموس، يحس ويزأر. كان يرى يد الرؤية فوق رأسه. لم يعد يتمكن من التنقل الا بالفكر. كان يقلب الطاولات، يغير مواقع الآلات والكراسي، والطنافس. كان يعتقد بأنه لم يستطع أبدا أن يتفحص الفضاء حوله عن قرب كهذا: الاتجاهات، الأوضاع،الأحجام، خطوط القوة، قبل أن يبدأ كان يطلق صوتا: "أوث " كي يسمع الهواء يردد الصدى ليعرف كيف يرد.
كان يقسم وقته الى جلسات علاج: ساعة وخمسون دقيقة، أو ثماني دقائق، كان موعد ومدة كل جلسة محددين سلفا، وكان الاستمرار في الجلسة حتى نهايتها التزاما محتوما.
كان يعمل في جلسات منظمة ويمضي الى ما وراء التعب، حتى النفس الأخير، حتى الجسد الثالث الذي يتشكل عندما نستنفد، نضني جسدنا الأول.
واذا سئل قال أنه يتدرب، كراقص، كرياضي قفز عال. كبهلوان يدرك الفضاء والزمن وهو مغمض العينين، قبل أن يقفز في الفراغ، واذا سئل علام يتدرب. أجاب أنه يتدرب على السقوط "النزول"
بين كل جلسة وأخرى. كان يحب أن يمارس عملا أبله، ايقاعيا، متكررا. يحفر، يجوف، ينقل التراب يمشي بسرعة، يمشي في خط مستقيم تماما، كي يداوي جسده الآلي، كي يرى جسده الأول ينهض، كي يرفع رأسه، كي يفرغ ذاته كي يتخلص من جسد، كي يصبح فكره زاهدا، كي يقتل نفسه، كي يفقد الكلام. كان يمض مئات الساعات في التمارين في تهيئة الأمكنة والأزمنة، الى أن يصل الى سماع الزمن، الى رؤية الكلام يقف وحده ويخرج بدونه، كان يعتقد بأنه مصاب بالوهن بكلمة لا تتوقف عن التردد في أذنيه.
ثمة شيطان في شيطانه، صوت في بطنه، صوت في الداخل، كأن يعيش دائما في عالم اللغات، أي أنه لم يكن واثقا من أنه يمتلك جسدا، انه يعيش دائما في عالم اللغات، أي أنه لم يكن واثقا من أنه يمتلك جسدا، انه يعيش في عالم بل أقل ثقة من أنه كائن حي، انه في عالم اللغات المنصهرة الذائبة، كان يرى كل شيء يدخل، ويخرج، كان يرى اللغة وحدها، كان يرى العالم بدون الانسان. كان يقول بأنه يدفع الميت فيه لتشغيل الحي، كي يسمع جميع الأفواه التي لم تستعمل، تتكلم. عندما يتكلم كان يلمس فما آخر يقول اللغة التي لا يعرف، وعندما كان يدخل، كان يظن أنه يدخل رجلا يدفع مشهدا.
لم يكن يكلم أحدا، كان يعتقد أنه يسمع اللغة في اللحظة التي يصمت الجميع فيها عن الكلام، كان يدخل في اللغة عندها لا يظل فيها أحد. كان يسمع دون أن يتكلم كان يسمع البشر دون أن يكون هناك من يتكلم.
وبواسطة الارتقاء الدائري، العبور الحلزوني، الحياة الآلية، التمارين التنفسية،الدوخان، الهبوط المتواصل، أكثر فأكثر، نجح في رؤية الزمن.
وعندما ضربه العجز، راح يطلق أجزاء من الأصوات الايقاعية "أوث » شعارات أغان مكرورة بلهاء "لوازم » "أوث ». كان يريد أن يرى مشهد اللغة، أن يستدعي اللغات التي لم نعد نسمعها، توقف عن الاستماع، عرف الهباءات استدعى اللغات، ضرب ثلاث ضربات برأسه، كان يستعمل اللغة الفرنسية كحيوان.
كان يستعمل اللغة الفرنسية كحيوان تخلى عن رأسه، تخلى عن وجوده، اللغة سيدة الأشياء، منع نفسه من تسمية أي شيء، كي يمضي الى الأشياء، كي يهبط، يرى ما هو أسفل. قبل أن يرى أشياء دون أن يمتلك كلمات للدلالة عليها امتنع عن التسمية، الى أن أصبحت كل الأشياء المواجهة على مسافة واحدة، متساوية دون ذكاء، دون تصور ساذج، دون فهم فعل ممكن، كان العالم غير مفهوم له، لأنه امتنع عن تسميته، عن الامساك به بيده، قدم لغته للأشياء. لم يعد يفرق بين العالم وفكره.كان محاطا بالأشياء الداخلية، ولم يكن في أي مكان من العالم هو نفسه كان خارج العالم تماما.
كان فعل فكره كان يحدث، ولم يعد هناك ما يحدث الا الفكر. كان يعتقد بأنه لامس شيئا من الممنوع، وأنه الوحيد الذي رأى. كان كل شي ء كتلة واحدة. لقد فقد الذاكرة بنسبة كبيرة، فقد قدرة الاتجاه. لكنه بالمقابل أصبح يتمتع بعضو جديد، بحس جديد، بعين ترى الليل، برؤية عمياء، حادة غسقية، بعين سوداء.
دائما ما رست الأدب. لم أمارس الأدب كتمرين ذكي بل كعلاج أبله.
لا جسد، لا رأس لا رؤية لا صوت بل الاحساس بلمسة واحدة. عندما نكتب، أي عندما نتحدث الى أنفسنا، عندما نستهلك، نحرق وقتنا حياتنا، نصر على التحدث وحدنا علينا أن نتذكر بأننا حيوانات، واننا نهمهم لأنفسنا، كقرد عجوز يرقص وحيدا، ويعاند في بذل جهد لا جدوى منه، كأصم عجوز لايسمع الأوركسترا، لكنه يرقص ويقارب السقوط.
على هامش الكتابات..«عندما لا تسير الأمور على ما يرام، عندما لا يعود هناك ما يسير على ما يرام »، على المسودات القديمة، على الهوامش على الدفاتر الصغيرة أرسم بسرعة، أرمي وجوها.. أنفث كلمات ذات ايقاع، اشكالا بشرية، مخططات أجساما في أوضاع غير طبيعية، خطوط أزياء، أفعالا، وضعيات. كأنما لأفرغ ايقاعات تثقلني. انه شيء يخرج من الذراع أيضا عندما لا تتعبنا الكتابة كفاية.
انه فعل مخيف، شائن، كنت أفضل الا أقوم به.
انه يسمع اللغة بدون كلام، يرقص لما ليس هنا، يرقص في الفضاء غير الموجود.. بصوت أخرس، بلغة دون كلام، برقص جامد غير متحرك.
كسوف، نقطة عمياء، ثقب أسود، بياض غسق حقيقي، غسق مفتعل، غيبوبة، بياض في الفضاء، في الرؤية بياض في الحواس، فقدان اللغة، نووي، رمي الدماغ، تجريب، اختبار، خفرت الأنقاس، في عمود الهواء، هبوط في ثقب النور داخل مجرى انبوب عمود الهواء، جراح تجريبية ثقوب في الذاكرة، فراغ في الحواس، دوار لغوي استرخاء، واهن، سقوط جهاز التوالد، سقوط جهاز الفعل، أكتب بدون نفسي، كرقصة بدون رقص، أكتب زاهدا، متخليا، مهزوما، مهزوما من لغتي، مهزوما من فكري بدون فكر، بدون أفكار، بدون كلمة بدون ذكرى، بدون رأي، دون أن أرى ودون أن أسمع، أكتب بأذني، أكتب بالمقلوب، أسمع كل شيء.
الكلمات هي الشيء الوحيد الموجود عند الانسان، ذاك أن الحيوانات غير موجودة فعلى بعد متر واحد من الأرض كرة حول الكرة، أي أن الأرض هي داخلها، كمركز فارغ، كنواة بيضاء، انها كرة جسد الكلمات، المقالة، الملفوظة، يظن انها تطرد ثمر، تطلق لمرة واحدة، لكنها تظل هنا الى الأبد، كقشرة من اللغة حول جسد الأرض، كجسد سماوي ناطق، اضافة الى الكون. كان يتوجب الا يوجد أبدا، لأن الانسان كان يحب الا يتكلم. واذا كان كل شيء طبيعيا، لو أن التطور تبع مساره منذ السمكة التي لا ذراع لها، حتى اللبونات ذات القوائم الأربعة، لو أن كل شيء قد تم بشكل طبيعي، دون عقبات، دون اخلال، لما كان الانسان قد تكلم، لما كان توجب أن تعطى له اللغة. لكان تبع من تلقاء نفسه، خط التطور الحيواني، لكان عاش حياة الحيوان الصامت الآلية ولكان اختفى.
لكنه تلقى اللغة بحادث مصادف مشؤوم وهي التي فصلته. لن يكون الذين سيتبعوننا متحولين بل خرس.
أنا أنزل الى اللغات أنا لم أخترع شيئا، أسمع الأسماء ضمن لائحة بكل اللغات الفرنسية، الألمانية، الانجليزية، الايطالية، المكسيكية أجعلها كلها تتكلم. يجب أن تصمت الألسن، أن تنتهي، فلتنته اللغات كي يستطيع العالم أن ينقلب على وجهه الآخر دون أن يكون فيه أحد.
أنا أكتب لأصنع من ميت حيا. بقفزة، بهفوة، بيد تسجل زلة لسان، بلسان يرتبك، بأذن تصفي، أكتب بالآذان، بقفزات فوق حثالة «فضالة » دائما أقع على فضلة وأصونها، أحب أن أفعل ذلك قرب مزبلة، وسط الجنازات، غير بعيد عن الموتى، عن بقايا الحيوانات وبواسطة الانتشار، زلات اللسان، أعتقد أنني أرى دائما في الميت حيا ما يزال يعيش.
إنما للأموات يتوجب اعطاء الحياة، لا أن نجعل الأحياء أحياء، فهذا بالغ السهولة.. ذاك أن الأمر هو اعادة انتاج، ولكن بدون جسد وبدون جهاز تناسلي.
اعادة انتاج لا تنتج شيئا. ان نعيد انتاج ما هو وراءنا لا ما هو أمامنا. أن نرى وراء رؤوسنا كل ما يرتجف خلف الرأس لا الكتلة الثابتة التي أمامه. اعادة انتاج الفضاء الآخر، الفضاء الذي يتوجب أن يعيش فيه الانسان، ويموت غدا. يوم يصبح اسمه "الانسان » ولكن بدون أية ازدواجية: بنون واحدة، بألف واحدة، اذ لن تكون له الا ذراع واحدة، ساق واحدة: يمنى واحدة.. لقد كان ذلك دائما خطأ كبيرا من أخطاء التكوين: الازدواجية وعندها لن يحصل أبدا تبادل أفكار، بل تبادل قفزات هوائية، رقصات، رصاص، فكروا بالرصاص، منذ الآن، هذا ما يجب عليكم فعله، فكروا بسرعة أكبر، لأن الأشياء تتدافع وستتدافع.. لأننا سنخرج أخيرا من التطويل، من البط ء من المرحلة التاريخية القصيرة.
في المسرح يتبادل الممثلون والمشاهدون التنفس، اللهاث، الالهام، انه مشهد لا يمكن أبدا رؤيته. انه مكان استحالة اعادة انتاج الانسان للانسان. صراع اللغات في الفضاء، مأساة اللغة، صراع الأفواه في سبيل الكلام. فم الموتى، وفم الأحياء. الكلمات تدخل في صراع، تلعب ملهاة، مأساة. ذاك أن وراء كل كلمة جريمة. ذاك أن كل الكلمات كوميدية. لأنها تلفظ عن طريق الفتحة العليا في القناة الهضمية، في حين أن التفكير بها يتم في مكان أخفض. ذاك أن الذي يلفظ الكلمات في الفكر يقع في مكان أخفض، انه هو الذي يلفظ الكلمات أفكارا. الفم يتكلم ولكن الفم الأخرس الذي "تحت » الصوت المخنوق الذي يجعل من حركات الفم أفكارا الذي يطلق يلفظ الأصوات بصمت. كان عندي أيضا بعض الكتب على الرفوف. أبحاث في علم النفس، أطروحات في أمراض اللغة، في تاريخ الموسيقى ذكريات غرائبية، حيوانات خام، قتلة، فنانون، انها بالنسبة لي أمثلة أخلاقية على الجرأة، على العناد، مثل حياة القديسين: نموذج يساعدني على تجاوز المحن، العقبات، الوحدة. تقول لي أنه لا يحب التحايل على العقبات، بل الوقوع داخلها، السير دائما باتجاه الصعاب /التوجه دائما نحو الصعوبة نحو العقدة الأكثر تعقيدا. عدم الاحتفاظ بفترات النجاح، بل بتلك التي تحمل اليأس فعلا. انه يحب خسارة كل شيء، تدمير الذات والبقاء واثقون بأنفسنا واثقون بالصوت الذي يحدثني، ولا يمكن أن يخدعني. أن أترك رأسي يصمت فمي يخرس، وأترك يدي تتحدث وتفعل الشيء نفسه ستة آلاف مرة.
304 صفحات كتاب غير مفهوم لا يمكن أن نحمله كله بيدنا كتاب كان يجب الا يكون. لم تعد القراءة مسار كسب، بل خسارة، يأتي الكاتب ليفقد فيها شيئا ما، لا ليعرف، لا ليتعرف، لا ليحصل، يأتي ليخسر فيها، ليخسر نفسه.وعند الخروج، إذا كان ثمة خروج، لا يمكن سماع اللغات بذات الطريقة. انه مكتوب بفرنسية مأساوية بفرنسية غسقية، بلغة وليدة، بلغة ذات عقد، بلغة ذات قفزات. ما يتوجه الى مكان أبعد من الطبقات المألوفة من الدماغ، ما يشغل نصف كرة دماغية، غير الكرتين المعروفتين. تجربة كيمائية، اختبار بيولوجي. قوى اللغة التي تلعب بشكل مختلف. كل هذا الانقلاب.. ربما لانه زمن اللغة التي تجاوزها الزمن، تتابع الكلمات، ترتيب الأشياء. هنا النظام مقلوب وقالب، في كل مكان، الكلام على وجهه الآخر. ومسيره مقلوب.
انه كتاب ضد انسياب فعل – فاعل – مفعول به. انها فكرة ترتد على نفسها، كلام يصعد، شيء عكس سر الزمن يوتوبيا يوتوبيا الزمن جزيرة في الزمن. انه زمن آخر انبثق فيه العالم وأحدث ثقبا في داخله، ثقبا أسود في الطبيعة، في عادات الرؤية لدينا، درس في الفراغ، بلغة الكوميديا، انها تجربة الخروج من جسد كنا نعيش فيه، فكرة الخروج من الجسد البشري.
في كلمة مكررة لم يكن يسمع أبدا الشيء ذاته، كان يسمع الشيء ذاته تحت كل الكلمات. كان يعتقد أنه يموت وهو يسمع الصوت "أوث ". كان لديه رعب من فكرة تقال. كان يعتقد أنه يسكن جسدا فارغا. لم يكن يتوصل لأن يتعود أن يكون داخله. كان يظن أنه شيء، أن كل شيء سيسير على ما يرام من بعده. كان يحب اللغة الألمانية لأن فيه كلمة واحدة لا تعني الغسق والغروب، كان يعتقد أنه يشكل موضوعا. انه ولد لأن أحدا قد لفظ ذاك المقطع الصوتي. كان يفكر بعمليات أجريت على اللغة، تجارب أخضعت لها. تعذيب، معالجات، أحداث تغييرات كيماوية، تحولات ذهنية، ليست اللغة اداتك، وسيلتك وانما عادتك، المادة التي كونتك، والعمليات العلاجية التي تخضعها لها انما تخضع نفسك لها، واذا غيرت لغتك فإنما تغير ذاتك لأنك مكون من كلمات. لا من أعصاب ولا من دم. لقد صنعتك اللغة وباللغة.
اللغة كاذبة، اللغة بطيئة، اللغة تكذب، لقد خلقت لغة خرساء، كلاما سلبيا، كي أوقف الآخر على قدميه، كي أقلب الانسان رأسا على عقب لتصبح قصبته الهوائية في مكانها، مقلوبة، فليتحدث بلغة مستقبلية، لكننا لا نقلب اللغة دون أن نقع. لذلك فإنني، ومنذها، منذ اليوم الذي "مسست" فيه، بت أرى الأشياء كلها بالمقلوب، وعندما أقول "أنا" تكون مجرد طريقة للكلام.
كان يظن أنه يسكن في لغة لا في عالم، كان يقول: "إذا لم يكن ثمة عالم للانسان، فلأنه يتكلم "، وبأن الانسان ليس في عالم بل في لغة، مرمى، يعبرها من المهد الى اللحد. لا عالم بالنسبة له، لا حقيقة خارجية، لأنه يتكلم، لا عالم يقطعا فهو يعيش في لغة يصارع، يرفع الحجب، يقضم الشراشف. اللغة الفرنسية هي كفني، انها الكفن الذي ولدت فيه وأنا داخلها. انها النسيج الذي عشت فيه، الجسد الذي أخذت فيه، الذي أخذني، انها تتركني.
ثمت شيء يجب أن يقع في اللغة، في الرأس، عند ولادتي سجنت في بضع كلمات ثمة شيء يجب أن يقع بعدها يكون كل شيء حرا.
ثمة شيء يجب أن يتمزق.. تلزمنا سنوات لنعرف ما هو؟ يجب أن نحفر جدران السنوات لنعرف أي جدار كان هو، واحد. نقاتله سنوات قبل أن نتمكن من نطق اسمه.
انني أقدم لغتي للأشياء، وأعطي كل كلماتي للطب.
كان يظن أنه فهم باللغة، أن كل ما كان يفعله لا يخص الأدب بل كان الذين يتكلمون، كل الناطقين، كل الذين استخدموا الكلام أو جروا الى استخدامه في يوم أو في آخر. كان يرجو جميع الحيوانات أن تنتبه له. الذين يستطيعون، الذين لديهم وقت، وتحديدا بعض الحشرات والعصافير.
من: رسالة الى الممثلين.
في: "مسرح الكلام »
"المسرح الاصغائي»
منشورات P.O.L 1989
ترجمة وتقديم :حياة الحويك عطية(كاتبة ومترجمة من لبنان)