توطئة : ثمة وعي عميق بمنجز قصيدة النثر ومغامرة ضافية لإعادة موضعة اليقين والأنساق الجمالية ووظائفية الحواس، بحيث نجد جماليات النص تنبني على شظايا اليقين الجمالي والمعرفي والتاريخي، من أجل تكوين ميثولوجيا لذات تضاد نفسها على الدوام (إن قدمي تؤلمني الآن/ لقد مشيت كثيرا، ولا أعرف السبب الحقيقي/ ترى هل كنت أدور حول نفسي ص 202)، تمارس الذات في موسيقى طعنتني من الخلف قطيعة معرفية حادة ومتوترة مع ما هو مقدس، حيث لا تابوه متحصن، ولا دال أو مدلول يحيا في برج عاجي (يلزمك حرب مقدسة مع السماوات/ مع الحب ومع القصيدة/ معك ص 95)، إنها كذات غير متصلة بذاتها (الكلمات ميتاتي وطعام الذين لا أعرفهم/ هل كان لزاما علي أن أنفصل عني- إلى هذا الحد – حتى لا أختنق بي ؟ ص 27) تزيل الركام عن جسد اللغة باعتبار كل حبر سابق تشويها لبدائية اللغة، وباعتبار كل حبر تال مزيلا لذلك التشويه ومجذرا لتشويه آخر (تأخذ الأشياء طهارتها حين لا ينتظرها أحد/ لكن الأشياء تنتظرها الأشياء دائما/ إذن الأشياء – للأسف – ملوثة بذاتها ص 31)، مما يؤكد أن براءة اللغة وشفافيتها ليست متحققة من وجهة النظر الموضوعية إلا كطفرة غير ممهد لها، ترتكن النصوص لحقيقة اللاحقيقة، ليقين مخادع لا يلبث أن ينهدم بتلقائية ليقدم لنا شظايا حادة من أسئلة لا تسعى لإجابات ما على أي وجه، هناك في المقابل استهجان جلي ومتجذر للذات وللآخر (يا كلاب الصيد/ يا كلاب الحراسة/ نحن الكلاب الضالة ص36)، للشعر نفسه، وللكتابة عموما (الشاعر يبتسم بعكازين ص49)، هل تتوجه إذن نصوص «موسيقى طعنتني من الخلف» إلى عبث ما، كامن ومتسلح بهذا الزخم الذي يلمح مرارا ويصرح أحيانا، الذات الشاعرة هنا تقع فريسة السادية، لذتها كامنة في خرق المقدس وجرجرة المتعالي على بلاط العادية، وإعلاء الآني في مقابل الأبدي، والهش في مقابل المتماسك، والمنمحي بإزاء المتجذر، والصدفوي بإزاء المتكرر والنمطي (كل فزع نبي/ وكل فزع أنا/ وكل نبي لا أومن به ص 85)، وهذه الذات أيضا تقع فريسة المازوشية فتنتقض على ذاتها مرات وتمارس تشويها لنفسها (سأشتهي أن أموت منتحرا/ وسأكون قبرا لفراشتين ووردة ص 69) بينما المتلقى في «موسيقى طعنتني من الخلف «مغدور به على الدوام . لماذا عنوان كهذا يعمد إلى تشويه البراءة المتضمنة في كلمة موسيقى إنه لا يصم النشاز بالطعن، ولماذا يكون الطعن من الخلف، أكانت الذات مطمئنة وغير متوقعة لغدر ما ؟ هل ثمة استدعاء ما لميراث الغدر المطلق في التخلص من الخصوم ؟ ولماذا تشير طعنتني إلى تحقق ماضوي منته ومنقض ولا تؤشر إلى استمرارية واستشراف آت ؟ ثم كيف تكون طعنة الموسيقى ؟ هل ثمة أحد جربها قبل فتحي ليحكي لنا ؟ أتكون طعنة نافذة أم رخوة ؟ أتكون طعنة لذة أم طعنة ألم ؟ أم أن طعنات الموسيقى مرتبطة بانسحابها كهاجس ملائكي عن عالم الكتابة ؟ أم أن الموسيقى ليست موسيقى أصلا ومؤولة … أم أن الشاعر هو الذي سيعطي الموسيقى الفرصة لطعنه بطمأنينته الكاملة لها …هكذا تضعنا «موسيقى طعنتني من الخلف «على أسئلة مثارة تصلح أن توقفنا بدهشة كاملة لأن نخوض في شعرية مغايرة عن السائد . سنحاول الآن وصف تجربة «موسيقى طعنتني من الخلف «ورصد بعض سماتها المهمة : 1 – النص كميكانو : كهاجس مطرد يدحر الأنساق الكلاسيكية المتعارف عليها «.. «يتوجه الديوان إلى تبديد ميراث النمذجة الشكلية بنمطيتها ومجانيتها ومجافاتها للخلق الشعري فتتكئ على دلالات بلا مرجعية يقينية بحيث يصبح سطح النص عاكسا لنثار ذوات متناثرة ومتنافرة، يقدم النص كميكانو حر البناء طفولي الحالة قارنا الشعر باللعب مما يتاخم تجليا لقصيدة نثر لا نمطية ينعتق فيها الشكل عن إرادة عليا لذات عالمة ومشيئة مهيمنة على دلالاتها فلا وصاية سوى للحظة الشعرية ذاتها ويعتبر نص «كلاكيت ص 45 : أبرز دال على توجه موسيقى فتحي أبو النصر إلى الميكانوية سيموت كثيرا سيموت متعثرا ليس حائرا سيموت في زواياه سيموت بترف كالهواجس سيموت عمودياوأفقيا سيموت بالقرب من ضحكة عينيه المنتصبتين سيموت كجملة مختصرة . يموت قبل مطلع النهار وبعد مغيب الشمس بقليل .سيموت قادما . سيموت ناعما وبقسوة وهو ينحر الأعنية بينما ينتحر فيه المغني . سيموت كممر . سيموت … وهكذا تتوإلى الدلالات كطعنات متتالية في جسد هذا الغائب الأبدي الذي سيحتمل الميتات كلها وينسحق من كل زاوية … أي موت إذا يعنيه النص أهو موت لذات منشقة عن إرث الجماعة أم موت لذات مبتسرة تختصر الذوات الأخرى المبتسرة في ذاتها فتتم تشوهها ويكتمل اكتمالها المضاد غير المكتمل نفسه عبر فداحة الاكتشاف حيث تخنقها المعرفة بنفسها . سيموت من أجل كل الذي لم يعرفه سيموت في الأسرار المقشرة سيموت كدودة قز أحيانا وأحيانا كما سيجارة أو مخلب . فالمصائر واحدة فالدودة التي تهدينا الحرير سوف يفترسها النسيان والسيجارة تحضر كعلاقة براجماتية محضة كما أن المخلب سوف يهرم وينكسر في سياق سيرورة ذات الصائد عبر تحولها من صائد إلى فريسة لزمن يلهث بوعي بهدوء خلف الذات وهكذا تتوحد المصائر وتتكفن بعدمها النهايات . هنا يمكننا إعادة بناء نصوص عديدة بسحب هذه البنى إلى أسفل أو إلى أعلى فتظل رغم ذلك فكرة الموت وانسحابها كذات مهيمنة مسيطرة على دلالات النص كاملة مهما تعددت أنماط توالي العبارات فيه، مما يلغي فكرة مركزية النص الشعري بل وينسفها من جذورها في عدد غير قليل من «موسيقى طعنتني من الخلف». ومثل كلاكيت تتجلى هذه الشعرية الميكانوية في نص «أن «ص 86 الذي يشير إلى اللاتحقق الأبدي : أن تشتري أحلامك بدون رصيد أن تشتري وردا ولا تجد من تهديه أن تربي الأمل تحت جفنيك فلا يكبر أن تتشكل في هموم السحابة أن يمتلئ دمك بغبار القصيدة بدلا عن فاكهتها أن يكوت الصمت ثرثرتك عندما تشتد كقوس …. أن تمر بقرب جنارة فيغلبك الظن أنها لك أن العشرات من «أن» يكني بها عن الذات المشوهة حد تلاشي سماتها الرئيسية منذ النشأة وحتى الانمحاء التام : أن تسكر وظلك أن يكون المستقبل للكوابيس المشعة أن لا يرتاح ربان روحك ولو قليلا بينما محطات السهر لا تنحسر أن يموت عصفور في حديقة شرودك أن 2 – الشذرات المكتملة : تزخر «موسيقى طعنتني من الخلف» باطراد دائم نحو اختزال النص الشعري حد التقشف وتكثيفه وتقطير اللحظات الشعرية متكئة على نص إبجرامي شديد الرهافة والجدة، وتأتي تلك النصوص في توال مطرد مما يجعل الديوان يتسارع إيقاعيا وتتموقع هذه الشذرات بينية في المسافات التي تلي النصوص الطويلة التي تعتمد الثرثرة تقنية لها،تكشف هذه الشذرات استنارة أخرى في نص فتحي أبو النصر حيث يقلب تربة المفهوم الشعري بأمزجة عديدة مقدما مغامرة شعرية من نوع خاص، هنا يحتاج التلقي إلى إنصات رهيف للدلالات المتوارية والرؤى المشيدة بإتقان في المسافة الكامنة بين الحبر والبياض، ويمكننا إيراد شذرة أو شذرتين على سبيل المثال: يتم ص 44 : أيها الوقت رفقا بالنبتة المتعكزة أيها الوقت لا تقصص دمي على نواياك عندما ضيع الشاعر مساءه حن إلى نبتته لعل هذا اليتم قبيلته الوحيدة . يعتبر «يتم» نصا طويلا نسبيا مقارنة بالشذرات الأخرى، الذات الشاعرة هنا تتلمس أسباب الحياة لغيرها بعد أن ضيعت خلوتها بذاتها وطامنت التشاغل بغيرها وبينما مررها الوقت في خدائعه حين وشى بسرها الداخلي نابذا إياه بنواياه من حيث الانقطاع والتلاشي غير منصت للشاعر وإرادته المهدرة حيث لا يبقى للشاعر حياة سوى رعي النبتة الوحيدة التي تتعكز في محاولة لاستمراريتها، تنكشف هنا حقيقة تجذر الوحدة وعدم القدرة على مغادرتها فهي تمثل قبيلة بدائية ينتمي إليها الشاعر راجيا منها انتسابه لها «لعل هذا اليتم قبيلته الوحيدة»(ص44) . شذرة غير مستقلة في نص «موسيقى طعنتني من الخلف» رقم 38 أرتطم بي فيتهشم الآخر الارتطام هنا ليس ارتطاما ماديا بل ارتطام بخدش الذات بأسئلة تكاشف فيها هواجسها ولا تعطي صك الاعتراف للإجابات حيث تقع في شرك الإجابات المخاتلة، ومع انكشاف الحقائق وتعريها تنهدم الذوات جميعا فالآخر يتهشم بفعل داخلي في الذات الشاعرة . أخيرا الذات الشاعرة في تجربة ««لا تسعى من بعيد أو قريب إلى مواءمة نفسها ومهادنتها ولو مؤقتا مما يجعلها غير متصلة فعليا بذاتها حيث تعبر النصوص وتزداد الشقة بين الشاعر ونفسه فلم يعد ثمة عودة لبراءة ما : تلك المسافة المبهمة بيني وبيني أتخاطفها أنا .. ثم أبكي بخبث وأتكاسر على جثتي . (ص80)
كاتب وشاعر من مصر