حين تروي قصة تعيش أنت نفسك قصة أخرى. لقد شرعت في صناعة الأفلام منذ سنين عديدة، ولا أزال أصنعها. ولأني لا أعود الى مشاهدة أفلامي بعد انجازها، فإنها تظهر لي مجتمعة، ولا تبدو منفصلة إلا نادرا. والدارسون الذين يعرفون التفاصيل أكثر مني يسألونني دائما: لماذا عملت هذا الشيء أو ذاك ؟ ولا أستطيع أن أجيب عادة إذ يصعب علي أن أتذكر ما فكرت فيه عندما صورت أحد المشاهد منذ ثلاثين سنة، ومع ذلك هناك استثناءات. وعندما تعرض أفلامي في مهرجان مثل مهرجان البندقية أو موسكو، لا يمكنني أن أتهرب، ولو أغمضت عيني لبدا الأمر تذوقا. ويخيل ل أنني منذ عهد بعيد أصنع فيلما طويلا واحدا فقط، وكل ما أتمناه هو أن يكون أطول، وأن يكون غاية ما ابتغي، إن هذا موكل ما أعرفه وهو السعادة الكبرى التي طمحت اليها.
إن أكثر ما يصدمني هو أن أقرأ عن سني في صحيفة أو مجلة، أو أن تقول جيوليتا لي: كيف تود قضاء عيد ميلادك الثاني والسبعين ؟ أو أن يسألني صحفي: كيف يشعر المرء وهو في الثانية والسبعين ؟ وأقول في نفسي وكيف عساي أن أعرف ؟ وما علاقتي بذلك ؟
إن اثنين وسبعين ليس بالرقم الذي تترقبه من المستحسن أن تستعيده من منظور الثمانينات.
لم أشعر قط بانقضاء الزمن. لم يوجد الزمن بالفعل بالنسبة لي. وكنت لا أبالي بالساعات باستثناء ما كان يفرض علي من مواعيد أخيرة، وأوقات عمل إضافية، وضرورة عدم ترك الناس ينتظرون. وأعتقد أنني لو لم يذكرني الآخرون به لغفلت عنه. لا أزال أشعر كما كنت أشعر وأنا ذلك الصبي النحيف الداكن الشعر الذي كان يحلم بروما ثم وجدها. سرعان ما انقضت حياتي. وهي تبدو لي فيلما فيللينيا طويلا موصولا.
كنت دائما الأصغر بين أصدقائي، لأنني كنت انجذب الى الأكبر مني سنا. كانت عندهم تجربة أوسع يمكنني الاعتماد عليها، وكان يمكن أن أتعلم منهم. هكذا كان يبدو لي سواء أعانوا أذكى مني أم لا.
دهشت عندما لاحظت أن جميع الذين يدعونني الى حفلات أعياد ميلادهم أصغر مني. وكأن الأمر قد حدث بين ليلة وضحاها. وكانت صدمتي كبيرة أيضا عندما أدركت أن الموتى من الذين عرفتهم في حياتي أكثر هن الأحياء.
أين يذهبون بعد ذلك ؟
كنت دائم الاعتقاد أن ما تفعله ينبغي أن يفني الى شيء آخر. لا يهمني مدى نجاح ما عملت، فما من خط كان مرسوما حول جميع أولئك المنتجين الذين يطلبون لقاء، أو يركعون مستجدين فيلمي التالي. ولم يكن رنين هاتفي متواصلا حتى بعد "حياة حلوة" ولا حتى بعد جائزة الأوسكار. ربما كنت مثل الفتاة الجميلة التي لا يتصل بها أحد لاعتقاد الجميع بأنها في شغل شاغل عنهم، وأن عروضا أفضل من عروضهم تنهال عليها، وأن خياراتها لا يمكن تصور حد لها، لذلك فإن الفتاة الجميلة تبقى في البيت مساء الأحد في حين يكون عند الفتيات العاديات مواعيد. لقد قضيت أنا وجيوليتا العديد من أمسيات الأحد وحدنا في المنزل.
قال الناس: إنني أحسنت بيع مشروعاتي مثلما أحسنت في أداء جميع الأدوار بعثت فيها الحياة. أنا لا أظن أن الأمور قد جرت على هذا النحو كان يسعدهم أن يروا فيلليني واقفا على رأسه، وحين يأتي موعد توظيف أموالهم في فيلمي التالي، كانوا يستدعون لجنة المحاسبة التي لم توافق قط على عملي.
كنت ساذجا، إذ كنت أصدق في كل مرة. كانوا يقولون: دعنا نتناول طعام الغداء. ولم أكن لأصدق أنهم يرغبون في تناول الغداء مع فيلليني ليس غير، وبعد الفداء كانوا يختفون، عندما كانوا يقولون: «تعال لنتغدى»، كنت أسمع في نفسي بقية الجملة المسكوت عنها: وهذا كل شيء.
ثم لم أعد أصدق على الاطلاق: لقد منحتني سذاجتي نوعا من الحماية. وهكذا أغلقت بابي علي. ربما كان ينبغي أن أتناول بعض الأغذية، ولكن لا سبيل الى تحديدها، كنت أتلذذ بالطعام، وكنت أرغب دائما في تناوله مع أصدقاء ولم أفهم مطلقا لماذا يحب المنتجون "غداء العمل" ولاسيما الأمريكيون منهم. هل من أجل حساب النفقات ؟ أم لأنهم يعلمون أنك لن تنهض وتغادر قبل أن تأكل المعكرونة كلها، إني أتصور فيلليني الصغير العاري مربوطا وملفوفا في سلاسل من المعكرونة.
يعاودك في الشيخوخة نوع من الاطمئنان مختلف عن اطمئنان الشباب الذي لا يفضله في عينك شيء. إنه أشبه ما يكون بالتحرر من الاهتمام الذي يفتقر الى مرح الصبا، إلا أنه ضرب من الحرية، وجميع أنواع الحرية نفيسة على نحو ما.
تسترخي عضلات الصراع من الداخل وتتحرر من بذل الجهد، من ذلك النضال الذي يخاض في منتصف العمر، وبالتالي تجد أنك تفتقر الى طاقة الاستمرار، الى الجلد في مواجهة خيبة أمل أخرى.
تسترخي وكأنك في حمام. تستلقي هناك وتستسلم، وتكون في تلك الفترة مدركا أن الماء سوف يبرد في الحال.
يقول الناس لي أن روما تتصدع. أحاول أن أتغاضي عن ذلك ولكني أراه طبعا. كل إنسان ينتبه الى تجاعيد الزمن عندما تظهر على وجه حسناء مشهورة.
إن روما تمعن في الشيخوخة الآن. ولكن على نحو مختلف، على نحو مخز وعلاقة ما يجري بالتفسخ أقوى من علاقته "بالقدم". ويعللون ذلك بالدخان الضبابي، وأنا أعتقد أن السبب هو فقدان عزة النفس والتفاؤل، وهذا الموقف ينفذ حتى الى التماثيل تبدو لي روما الآن أقدم وربما يكون تقدمي في السن هو السبب.
أود أن أموت وأنا عارف أنني على وشك الشروع في فيلم جديد، وعارف فكرته العامة، وما سيكون على وجه الدقة، وأن أحد المنتجين قد جاءني قائلا:"اصنع ما تشاء، يا فديريكو! لقد أتيتك بالمال كله. فأنفق منه ما تحتاج اليه. أنا أثق بك." وربما أبحث عن وجوه، عن ممثلين للتعبير عما أريد. وأتمنى الا أموت في وسط الفيلم، لأنني سأشعر انني تخليت عن مخلوقي، وتركته بلا معين..
إن نهاية الفيلم ليست بالنسبة لي وقتا سعيدا مكر نهاية قصة حب تكثر فيها كلمات الوداع التي تنم عن فتور العاطفة، وذلك حين يمض الذين جعلتهم رابطة العمل المشترك يتعاهدون على صداقة دائمة، يمضي كل واحد منهم في سبيل، وربما قد ضيع قصاصة الورق التي كتب عليها أسماء الآخرين وعناوينهم، الآخرين الذين ينبغي الا ينساهم أبدا.
إن كنت ساحرا، كما يدعونني، فإن الساحر والعذراء يجتمعان إذن حين أصنع فيلما. إن فيلمي عذراء، وحين تكتمل في النهاية تتغير مشاعري نحوها، ثم أهجرها.
إن الشيخوخة تبدأ حين تصبح الحياة رتيبة حين تكرر ما عملته من قبل أكثر مما تستطيع، أو حتى تتمنى أن تتذكر، إن حدود الكائن البشري ليست إلا تخوم مخيلته، ولأن أي ابداع جديد يمكن أن يجعلك تشعر بالتجدد، فإن الثمن الذي تدفعا من أجل أن تجرب اكتشاف الحياة كما كانت قبل أن تغدو رتيبة، مع ما ينجم عن ذلك من تخلص من الضجر، هو أقل من روحك ليس غير.
أشعر أحيانا أن حياتي قد ابتدأت في صالة سينما فولجور الصغيرة، قصر الأفلام القديم المتهدم ذاك، الخانق الحرارة في الصيف، وغير المريح في كل الفصول، ولكن ما إن كان يبدأ الفيلم في تلك الصالة، حتى انتقل الى أماكن أخرى، وأزمنة أخرى.
كنت بعد ذلك أذهب الى الشاطيء، وأبتكر قصصا هناك، وكنت أتخيلها تمكر على شاشة سينما فولجور.
كنت أستحضر في خيالي صورة السيدة ذات الخمار التي كانت تجلس في سينما فولجور وهي تدخن كان الخمار يصل الى ما فوق شفتيها فقط، كنت أخشي أن تحترق. سأتذكر ما دمت حيا عينيها الرائعتين المثبتتين على الشاشة بينما كان يدغدغ بعض الصبية تنورتها. لم يكن تعبير وجهها يتغير حتى لو شاهدت الفيلم مرة ثانية، أو حتى ثالثة، كنت أتخيل ما كان يتخيله أولئك الصبية. وأحيانا كنت أزعم أنني واحد منهم. والحقيقة هي أن ما كنت أفعله إنما كنت أفعله في الخيال شأن الكثير من نشاطي في تلك الأيام.
في تلك الأيام لم يكن ليخطر لي أن صورتي ستعلق ذات يوم في بهو فولجور الصغير، كان من المستحيل أن يخطر لي ذلك.. أتخيل الأولاد الصغار كما كنت أنا ذات يوم، وهم يمرون بالصورة قائلين: "من هذا؟ لا يبدو أنه من نجوم السينما". ويقول لهم آباؤهم: إنه على الأرجح صاحب السينما، ويلومونني إذا شاهدوا في ذلك اليوم فيلما لا يعجبهم.
لقد اعتبرت دور السينما أمكنة مقدسة على الدوام. أمكنة جديرة بالاحترام. ومؤخرا ذهبت الى احدى دور السينما في روما، فوجدت هناك شخصا واحدا وقد وضع قدميه على ظهر الكرسي الذي أمامه. كان يصغي الى مذياعه المحمول وهو يشاهد الفيلم، وكان ينتعل مزلجة ذات عجلات.
في الفترة الواقعة بين الأفلام يترتب علي مواجهة مشكلاتي الواقعية: جيوليتا والمال، والضرائب والمال. ولا عجب أن أهرب الى ملعب شينشيتا (مدينة السينما) لقد حلت شينشيتا محل سينما فولجور في حياتي اللاحقة، وفيها قضيت كثيرا من أعوام العمر اضافة الى الساعات.
تعتريني هزة عندما أقف على المنصة الخامسة في شينشيتا حتى عندما تكون خالية وأكون أنا وحدي يستحيل وصف انفعالي.
عندما دخلتها أول مرة أحسست الاحساس الغريب ذاته تماما، والذي تذكرت أنني أحسسته عندما أخذت وأنا صبي صغير لمشاهدة السيرك وعلمت أنني من المتوقع أن أكون هناك.
إن لاعبي السيرك لا يفاجئهم أبدا ما يحدث لهم، وأنا معجب بذلك. والمعنى الذي يتضمنه هذا الموقف واضح وهو أن أي شيء، وكل شيء ممكن. وهذا يعاكس عقلانية التعليم المفروضة علينا والتي تأمرنا أن نفرض على أنفسنا القيود، وأن نشعر دائما بالذنب أيضا.
إنني أعتبر حياتي سلسلة من الأفلام، وهذه الأفلام تمكني أكثر من أي جانب أخر من حياتي، فهي ليست مجرد أفلام لي، بل هي قصة حياتي، وهكذا يبدو أني فعلت أخيرا ورغم كل شيء، ما كنت أتمنى أن أعمله دائما وأنا ولد صفير جالس بين الجمهور، وهو أن أنهض وأمني رأسا الى شاشة سينما فولجور. في ذلك الوقت لم أكن أعلم شيئا عن المخرج. لذلك بدا لي أن عمل الممثل فيه لهو أكثر. وفي البداية لم أكن أفهم في الحقيقة ما يعمل الممثل. فلقد ظننت أن الممثلين يعيشون تلك الحياة على الشاشة حقا.
إن الأفلام الأمريكية التي كانت تقدم صورة مثالية رائعة عن الحياة في أمريكا هي التي صاغت جيلي. كان الفرد هو كل شيء في القصص الأمريكية سوء أعان بطلا غربيا أم رجل بوليس، أم غير ذلك. كنت أتماهى مع أولئك الأفراد، بل كنت أرغب في التماهي معهم. كان الفرد هو المنتصر، الفرد المتسم بالنبل. وأعتقد أنني بدأت أكره الفاشية فعلا عندما عزلتنا عن أمريكا، وعن كل ما كنت أحبه، أي الأفلام والقصص المصورة الأمريكية.
كانت تلك الأفلام الأمريكية تبهجنا. فالناس فيها أغنياء وسعداء دائما، كان يفترض آنذاك أن يكون الغني سيدا، بل كان ذلك يبدو أمرا طبيعيا. كانوا جميلين، وبارعين في الرقص. كان الرقص يبدو لي وثيق الارتباط بالفنى، من ثم بالسعادة وأنا، شخصيا لم أتقن الرقص جيدا قط. لقد كان لي دوما قدمان يمنيان، أما أولئك الامريكيون الذين كانوا يعيشون في عالمهم البهيج فقد كانوا يبدون أنهم يرقصون على سطوح ناطحات السحاب. وحين كانوا يكفون عن الرقص كانوا يأكلون، أو يتكلمون على هواتفهم البيضاء. إن شغفي بالسينما قد ابتدأ هناك.
كلما تقدمت في السن ازدادت أهمية العمل، أما في ريعان الشباب فالمسرات كثيرة، وربما تكون مقتضيات السعادة أقل لأنك ترى كل شيء جديدا. إن عالم الشيخوخة عالم متضائل. الأشياء الصغيرة تكبر في عينيك كما في الطفولة. والناس المهمون بالنسبة اليك قلة، ولكنهم مهمون جدا. تكبر الصغائر، يصبح الطعام أكثر أهمية. وما يجعلك تشعر بالشباب هو عملك، وليس علاقات الحب. إن هذه العلاقات تشعرك بالتقدم في السن عند نقطة معينة.
وأنا صغير كنت أتخيل كهولتي، ولكن تخيلي لم يكن واقعيا جدا. حسبت أن شكلي سيكون مثلما كان آنذاك. إلا أنه قد تنمو لي لحية طويلة بيضاء مثل لحية بابا نويل لا يلزمني حتى حلقها. وعزمت على أكل كل ما كنت أرغب في أكلا كالجبن الطري والمعكرونة والحلوى الفاخرة، وعزمت على السفر وزيارة المتاحف التي ما تسنت لي رؤيتها قبل ذلك.
وذات يوم نظرت الى مرآة الحلاقة وفكرت: من أين جاء هذا الرجل المسن ؟ ثم أدركت أن ذلك الشيخ هو أنا. وكان العمل هو كل ما أبتغيه.
ثمة اهتمامات لازمتني طيلة حياتي، ولكني ادخرتها للأعوام التي قد أتوقف فيها عن العمل. وأول ما تمنيت القيام به هو زيارة أعظم متاحف العالم، ومشاهدة أكثر ما يمكن من الأعمال الفنية. لقد كنت أتأثر بالفن دائما. الفن كان يحركني. ولم أكن أهتم ذلك الاهتمام –بالموسيقى- مثلا. أود لو شاهدت كل أعمال روبنز Rubens، كان ميالا الى رسم النساء ذاتها التي كنت أرسمها في رسومي الهزلية. وهناك أيضا بوتيشللي Bettcelly وكل أولئك البسطاء المرسومين بالحجوم الكبيرة الملونين بالأبيض والوردي. وهناك أيضا هيرونيموس بوش الذي أثر في نفسي تأثيرا شديدا، أود لو زرت متحف مانش Munch الرائع في نيويورك. ومع أنني زرت الكثير من المتاحف في إيطاليا فإنني أنوي مشاهدة بعض اللوحات ثانية في الكنيسة الواقعة في ساحة الشعب، والتي لا تفصلها عن مسكني إلا بضع بنايات. سأفعل ذلك على الأرجح، وربما أصطحب زائرا الى هناك.. وأراها مرة أخرى.
يتسارع الآن مرور الزمن. أتذكر كم كان النهار بطيئا في ريميني. كنت أمشي على طول الشاطيء، وأكب على مسرح الدمى وأرسم صورا أما الآن فلا أدري أين تمضي الأيام، وأين مضت في تحريكها معا لافرادي. إن نعمة الشباب الكبرى هي عدم الشعور بالزمن.
فكرت في صناعة فيلم عن ذلك. يتحرك الفيلم في الطفولة في بطء وعندما يكبر الطفل تتسارع الحركة، والنهاية ضباب خفيف.
قرأت مرة قصة للكاتب فريدريك براون في مجلة بلي بوي Playboy فيها رجل سر الخلود. والمشكلة الوحيدة التي يواجهها هي أن حركة العالم حوله تظل متسارعة، لذلك يرى الشمس والقمر ينطلقان أسرع فأسرع في الفضاء كل يوم. وأخيرا ينقل الى متحف، ويعرض وهو جالس الى منضدة وفي يده قلم، ومظهره يدل على أنه قد تجد بعد أن كتب نصف مخطوط. ويوضح دليل المتحف أنه ما يزال حيا، إلا أن الحركة البطيئة لا تدرك، وأنه الآن في منتصف المخطوط الذي يصف فيه ما وقع له، وقد لا ينتهي من ذلك قبل قرون.
مع اقتراب النهاية أفكر أحيانا في الحياة التي انقضت سريعا. أين ولى الزمن ؟ وكيف مر بهذه السرعة ؟
تستغرب حين تعلم أن ناسا لا تعرفهم لا يعرفونك يتحدثون عنك. فإن يتحدث عنك النادلون وسائقو سيارات الأجرة والذين التقيت بهم مرة شيء وأن يتحدث عنك الناس الذين لا تعرفهم على الاطلاق شيء آخر.
وما يربك حقا هو أن يجري الحديث عن مشكلاتك الجسدية الداخلية على شاشة التلفاز. هذا فظيع!
كنت أتمنى أن أكون ذلك الرجل الوسيم القوي الذي تحبه النساء، ويغار منه الرجال، مثل أولئك الرياضيين الشباب ذوي العضلات الذين يتدربون على المصارعة الاغريقية الرومانية على شاطيء ريميني. أود أن أحتفظ على الأقل بالقليل من قوة الشباب، ولا أبدو مسنا حتى لو كنت كذلك، وذات مرة منيت نفسي بالعثور على ينبوع الشباب.
أخبرني أحد أصدقائي عن مكان في رومانيا نسيت اسمه يمكنك أن تتلقى فيه معالجات سرية خاصة. وأظن أنهم يعصبون عينيك ويطعمونك غدد خروف. واذا دخلت وأنت في سن السبعين، ستصبح في الواحدة والسبعين قبل الخروج، ولكن حين تخرج لا تبدو في الواحدة والسبعين، بل في التاسعة والستين.
لذلك حين تجاوزت السبعين سألت صديقي الذي كان يكبرني في السن قليلا وكان قد ذهب الى هناك، عن مكان العيادة، فقال: انه لا يستطيع أن يتذكر.
كنت أتظاهر بالمرض وأنا صغير للحصول على عناية زائدة، وتمارضت وأنا شاب للنجاة من جيش موسوليني وفي منتصف العمر كنت أستعمل الوعكة تحاشيا للتكريمات والمهرجانات التي لم أجد شيئا آخر أعتذر به عنها، وأخيرا أصبح العجز في الشيخوخة واقعا، وسأفعل الآن أي شيء حتى لا يعلم الناس بالحقيقة، لأن ضعفي يشعرني بالخجل والارتباك.
إن إحدى علامات الكبر هو سؤال الصحفيين: لو قدر لك أن تعيش حياتك مرة أخرى ماذا كنت ستغير فيها؟ وأقدم جوابا ما لأنني لا أحب أن أكون فظا. ولا أخبرهم عن الصورة التي تخيلتها لأنهم سيرون فيها عبثا وتفاهة، وما من أحد يحب أن يكون موضوعا للسخرية.
أتخيل نفسي طويلا ونحيفا وقادرا على رفع الأثقال. ها هو ذا الشيء الآخر الذي كنت سأقوم به. كنت سأرفع أثقالا.
لم أشعر في أي يوم أن جسدي على ما يرام. في البداية شعرت أنني نحيف جدا، وكنت أخشى أن يراني أحد في ثياب السباحة، لذلك لم أتعلم السباحة مع أني عشت قرب البحر وأحببت البحر. وفيما بعد شعرت أني سمين جدا، وطري جدا. وكنت أنوي تخصيص بعض الوقت من أجل تقوية جسمي، إلا أنني كنت مشغولا أو متكاسلا على الدوام.
من الصعب أن تكون عاشقا جيدا إذا كنت تخجل من جسدك. لقد كنت شابا نحيلا لم يقدر على زيادة وزنه. وما أزال أشعر في أعماقي بذلك.أرتقي أحيانا مجموعة من الدرجات ركضا، فأفاجأ بأنني لا أستطيع القيام بذلك كما كنت أفعل قبلا. وأصاب بصدمة حين أجد نفسي ألهث من مجرد التفكير في بذل الجهد تقريبا.
أنا أعيش في الحاضر. أما المستقبل فإن الانشغال الجاد به أمر لم يتيسر لي. فهو بالنسبة لي نوع من الواقع المتخيل في القصص العلمية. لم أتخيل نفسي كبيرا قط حتى بعد أن كبرت. يخيل لي أنني ما أزال شابا، ولكنني لا أرى نفسي في المرآة هكذا. لذلك لا انظر الى نفسي فعلا عندما أحلق ذقني، وهذا يؤدي الى جروح كثيرة. ومن سوء الحظ أن اللحية لا تناسبني. إن التناقض بين الواقع والصورة التي في خيالي هو سبب استمراري في رسم نفسي شابا ونحيلا كما أشعر في داخلي حتى الان.
لقد فتنتني فكرة الرجل الطائر منذ أيام الشباب، وحتى وأنا صبي فكرت في القدرة على الطيران. وكنت أعلم دائما بذلك. وحينما كنت أطير في الأحلام كنت أشعر بالخفة. لقد أحببت تلك الأحلام فقد كانت أحلاما بهيجة.
كنت أحيانا أطير بجناحين ضخمين يمكن أن يردهما أي واحد، بل كانا من الضخامة بحيث يصعب التحكم فيهما. وكنت لا أحتاج الى جناحين في أحيان أخرى، بل كنت أطير تسيرني قوة في داخلي. كان لي قصد حينا. وحينا كنت أستكشف فقط.
وهذا غريب لأنني لا أكره شيئا أكثر من كرهي للسفر بالطائرة. وأنا لم أرغب في الطيران مطلقا إلا من غير طائرة.
كان زملائي والعاملون معي يسألونني: لماذا أردت أن أصنع فيلما عن الرجل الطائر؟ كانوا يعرفون أنني أكره السفر بالطائرة. وكنت أجيب: "إنه استعارة". وكان هذا يسكتهم.
بدأت أشعر بالعجز عن الطيران في الأحلام في منتصف العمر، أو فيما يمكن أن ندعوه الشيخوخة المبكرة. وربما أنني كنت قادرا على الطيران، فإن المعنى الذي يتضمنه هذا التحول واضح. كنت في الماضي أعرف كيف أطير، وأتحكم في قوتي تماما، أما الآن فقد جردت من ذلك.
إن فقدان موهبة كهذه مصيبة كبيرة. وأنا الذي كان لدي الموهبة عرفت أكثر من غيري دهشة التجربة.
واستنتجت أن سبب عجزي عن الطيران هو سمنتي الزائدة. وكان الجواب بسيطا، وهو اتباع حمية. والأجوبة البسيطة كثيرا ما لا تكون بسيطة كما تبدو لنا. إن اتباع حمية أمر بسيط دائما. ولقد التزمت بها مئات المرات. كنت دائما أبدأ الحمية في ذهني، وهناك كانت تنتهي. وهناك أيضا كنت أقوم بالرياضة البدنية التي من شأنها أن تعطيني جسما أتباهى به. كانت حميتي تدوم حتى الوجبة التالية، ثم كنت أكل أكثر من أي وقت مضى. إن التفكير بالحمية كان يجيعني جدا. إنه الخوف من الحرمان، وهو نوع من سيكولوجيا المجاعة. وهكذا زادني التزام الحمية سمنة.
أنا أعرف أن علي أن أواجه احتمال الا يطير ج. ماستورنا أبدا، وهو الذي صاحبني فترة طويلة من حياتي. والآن أدرك أنني قد طرت حقا. لقد طرت عندما كنت أخرج أفلاما.
إن الموهبة نعمة عندما تقدر ويستمتع بها. وأعتقد أن أعظم موهبة أملكها في الحياة هي مخيلتي البصرية. إنها منبع أحلامي، وهي التي مكنتني من الرسم، وهي التي تسوغ أفلامي.
إن الأفلام ثابتة في الزمن، أما أنا فلا. وحين أوضع في موقع ألمح فيه واحدا من أفلامي المصنوعة منذ ثلاثين عاما يزداد شعري بذلك.
يقول أحدهم: «تخيل: لقد صنعت ذلك الفيلم منذ ثلاثين عاما خلت!» وهم يطولون المدة دائما. لا، أنا لا أستطيع أن «أتخيل» ذلك، فهو يبدو لي وكأنني صنعته البارحة.
لو سألني أحدهم قبل هذه السن: ماذا تعني الشيخوخة ؟ لقلت: «إن الشيخوخة تعني إلغاء حفلة قصف ولهو في أواخر النهار». يمكن أن استمر مادمت اعتقد أنني سأصنع فيلما. وعند نقطة ما لن يتحقق ذلك، فأكون قد تقاعدت، ولكن لن أعلم بالأمر. من المهم الا تعلم اللحظة التي يحدث فيها هذا. أنا لا أفكر في الشعور بالشباب أو الشيخوخة، بل أفكر في الصحة. هذا هو المهم. وأود أن أعيش طالما أنا أتمتع بالصحة.
عندما تعيش خمسين سنة مع شخص آخر، فإن جميع ذكرياتك تكون مودعة في ذلك الشخص مثل حساب في مصرف الذكريات المشتركة. ولا أعني بذلك أنك ترجع اليها دائما. أنت في الواقع تكاد لا تسأل الناس الذين لا يعيشون في الماضي: هل تذكرون تلك الليلة التي…؟ أنت لا تحتاج الى ذلك. وهذا هو الوضع الأفضل فأنت تعرف أن الشخص الآخر يذكر. وهكذا يكون الماضي جزءا من الحاضر مادام الآخر حيا. وهذا خير من دفتر القصاصات. لأن كلا منكما دفتر قصاصات حي. قد يكون الماضي أكثر أهمية بالنسبة الى الذين ليس عندهم أولاد، ولا يرون أنفسهم في المستقبل جينات حية في أشخاص الأولاد والأحفاد. لذلك أفكر أنا وجيوليتا في مستقبل الأفلام التي صنعناها كيف سيتذكرها الناس ؟ وكيف سيرونها؟ وهذه الفكرة هي الأهم بالنسبة الينا.
وحين أقول «أفلامنا» فأنا لا أعني فقط تلك الأفلام التي أدت فيها جيوليتا دور البطولة. فلقد كانت معي خلال العمل في جميع الأفلام، حتى حين كانت تبقى في البيت. كانت تشملني بالاهتمام والرعاية. كنت اتصل بها دائما وهي في البيت تعد لي العشاء في أي ساعة.. لقد كانت فعلا مساعدي الأول. وفي أكثر الأحوال كنت أريها ما كتبت قبل أن يرده أي انسان أخر.
لم أطلع أحدا على شيء حتى جيوليتا، قبل أن أعده إعدادا تاما. كان من المهم أن تكون بنيته واضحة في ذهني قبل أن أفني به الى أحد، والا قال لك الآخرون: «يمكنك أن تفعل هذا»، أو «يمكنك أن تفعل ذاك». وفي هذه الحالة لن أكون حازما، لأن الشخصيات لن تكون قد اكتسبت وجودها في ذهني. وما إن تكتسب وجودها الخاص حتى تكتسب حياتها الخاصة. وحين أعرف كل شخصية معرفة عميقة، أعرف ما تفكر فيه، وما يمكن أن تفعله، ولذلك لا يمكن أن أخون أيا منها.
إن حياتي العملية لم تكن قط عملا فعليا، بل إجازة طويلة إن عملي وهوايتي شيء واحد. فعملي هو صناعة الأفلام، وهوايتي هي صناعة الأفلام، وصناعة الأفلام هي حياتي. كان بين يدي وعقلي ارتباط ما من أجل الالهام والابداع. ربما خطرت لي فكرة من غير أن يكون معي قلم، ولكن مخيلتي لم تتحرض فعلا إلا والقلم في يدي. كان ونبرد الأفلام الجيدة حولي مهما جدا. وبالطبع كنت في غنى عن الأفلام في احلامي، ولكن عند الاستيقاظ كان لابد من تدوين ما تخيلته في المنام. وحفظ هذا التدوين البصري للقمة في كتب أحلامي.
إن الالهام يعني في نظري إقامة صلة مباشرة بين ما يدركه عقلنا وما لا يدركا تماما والابداع الفني له متطلباته التي تبدو للمؤلف لا غني عنها. إن جميع التفاصيل الحقيقية تأتي من الالهام. والتوافق والمشاعر الطيبة مفيدة للعفوية اللازمة.
حالما أبدأ العمل على فكرة تتدفق أفكار أخرى. وكثيرا ما تكون غير مرتبطة بالأولى. وتتنافس كلها قائلة: «أنا، أنا، أريد أن أولد». وكل واحدة تحاول أن تستقوي على غيرها.
حين انصح جيوليتا بالاقلاع عن التدخين يظن الناس أنني أفعل ذلك لأنني أشتاق الى التدخين الذي أقلعت عنه منذ زمن بعيد. ليس هذا هو السبب. فأنا أقلعت عن التدخين عندما بدأ صدري يؤلمني بعد ذلك أحببت الا تدخن جيوليتا، أن تقلع خاصة عن عادة التدخين طيلة الوقت. وليس مصادفة أن تدخن سرا في الأدوار التي أدتها على الشاشة. كنت أعتقد أنه مضر بها، كما عرفت أنه مضر بها، لقد أصبحت رائحة الدخان تضايقني، ولم أفهم سببا لاستمتاعي به في الماضي.
أظن أن جيوليتا اعتقدت أنها سوف تسمن إذا توقفت عن التدخين. وهي كأن تراني برهانا حيا على ذلك، مع أني تركت التدخين بعد أن سمنت. وأصبح ذلك مصدرا للخلاف بيننا بحيث أننا لم نخصص لها غرفة للتدخين في شقتنا فقط، بل كانت تأخذ أيضا غرفة مستقلة في جناح الفندق الذي كنا ننزل فيه أثناء سفرنا.
لا أعرف كيف أكون صاحب "سياسة صائبة". لقد سمعت هذه العبارة وأنا في أمريكا. لا أعرف ما هي "السياسة الصائبة" في الوقت الحاضر، إضافة الى أنني لا أرغب في معرفتها. إنني أعبر عن ارائي مع أني أعلم أن الخطأ لابد منه أحيانا، وخاصة أن معلوماتي العامة محدودة. من المؤكد أنني لا أصدق ما أقرأ لأنه مطبوع ليس غير. وأظن أن الكفار أيضا يلفق من الأخبار أكثر مما ينقل بسبب آراء القائمين عليه. وبسبب ما يخلقه التكرار الكثير من انطباع زائف عن الواقع. ولم أهتم مطلقا بالانتماء الى النوادي أو الأحزاب أو ترديد أقوالها.
لقد توهمت طويلا أن الموت شي ء يصيب الآخرين. ولما دنوت مما يدعى متوسط عمر الانسان أدركت أن مستقبلي محدود. رميت معظم أوراقي، ولم أترك شيئا يزعج جيوليتا أو يزعجني لا أولاد لي تشغلني اعالتهم، فأفلامي هي التي ستمكني في المستقبل، أو أرجوان تفعل ذلك.
كثيرا ما أسمع الناس يقولون: إن أفضل ميتة هي أن تعيش عمرا مديدا ثم تغمض عينيك ذات ليلة وتموت وأنت نائم موتا مفاجئا. ذلك هو الموت الذي لا أرغب فيه.
عند نهاية حياتي، وفي فترة الغيبوبة القريبة من الموت، أتمنى أن أرى رؤيا تكشف لي أسرار الكون، وبعد ذلك أستيقظ، وأتمكن من صناعة فيلم عن تلك الرؤيا.
أخاف أن يقعدني المرض والعجز الجسدي عن العمل. أنا لا أترقب الموت، فأنا ما خشيته مطلقا كما أخشى الكهولة وتداعي الجسد. أنا لا أتمنى أن أعيش مئة سنة.
كنت طفلا معتل الصحة يشعر بالدوخة، ويعاني ضعفا قال عنه الطبيب إنه عيب في القلب. لقد قال ذلك، وربما كان يعني أن متوسط عمري المتوقع سيكون قصيرا. وها أنذا قد عشت عمرا طويلا وكافيا لاثبات خطئه. وبما أنني اعتبرت طفلا مريضا، فقد أحطت بالكثير من العناية الخاصة. وهذا لم يقلقني على الاطلاق، بل جعلني أشعر بالتميز، إن الموت يكتنفه غموض رومانسي.
إن شعوري الآن مختلف. فلو أصابني مرض وأعجزني عن العمل لكان ذلك موتا في الحياة بالنسبة لي. تقلقني فكرة العجز. وعدم ممارسة الجنس ثماني مرات في الليلة الواحدة.
حسنا ! ربما سبع مرات.
عندما كنت صغيرا، كان كل واحد من أترابي يقول: "عندما أكبر سأكون…"، أما أنا فلم أقل ذلك. لم أستطع أن أتصور نفسي في المستقبل. كنت عديم الاهتمام بذلك. لم أقدر في الحقيقة على تصور نفسي واحدا من أولئك الكبار الذين كانوا يحيطون بي.
ولعلني اكتهلت من غير أن أكبر لذلك السبب.
ترجمة عارف حديفة (مترجم من سوريا)