حاوره: أحمد فرحات *
يكاد عالم الاجتماع اللبناني البروفسور فريدريك معتوق يختصّ بظاهرة العصبيّات العربية وغير العربية، سواء بسواء. ولا غرو، فهو أصدر سلسلة كتب متوالية حول الموضوع، بدأت بكتاب: “جذور الحرب الأهلية: قبرص، لبنان، البوسنة، الصومال”، مروراً بكتاب “صدام العصبيّات العربية” ووصولاً إلى كتاب “التقدم الحضاري العربي المعصوب” حتى الآن، إذ أخبرني شخصياً أنه يشتغل على مؤلفات أخرى في الفضاء العصباني العربي وغير العربي، يترك الإعلان عنها لحين صدورها أو قبيل هذا الصدور.
في رأيه أن العصبية قانون سياسي واجتماعي مستدام، يفعل فعله في الحياة العامة، مغالبةً وممانعةً. ومن هنا نحن بحاجة ماسة، كما يقول، إلى خيار حضاري جديد وقاطع، لا مكان فيه البتة للعصبية أو العصبيات. فعدم خروجنا من دوائر التفكير العُصباني، سيقضي بالفعل على عالمنا العربي برمته، أو على الأصح ما تبقى منه. ومن هنا هو يقترح “اختراع مبيد للعصبيات المستعصية” تزيلها من الوجود، انطلاقاً من أن جزءاً كبيراً من عصبياتنا القديمة قد أعيد تأهيله في العقدين الأخيرين وعلى نحو ديني ومذهبي مقيت وبغيض.
نعم، العصبيات العربية تكمل سيرها بأمان وطمأنينة حتى الآن، والسبب الجوهري في ذلك، أن أحداً لم يناقشها أو يقف في وجهها منذ الأزمنة الغابرة وحتى اليوم. هكذا، فمنذ عصر ابن خلدون، لم يبلور المفكرون العرب أي معرفة حقيقية بالعصبية تسمح بالدخول في موضوعها من دون استئذان التراث أو التقليديين، من فقهاء وسياسيين.
وفريدريك معتوق سيحاول القيام بالمهمة قدر استطاعته كما يقول، من غير أن يدّعي، في المقابل، إعطاء دروس في الظاهرة المتمادية، فجلّ ما يريده، هو دق جرس الإنذار قبل وقوع الكارثة العربية الشاملة.
هنا حوار بانورامي معه حول العصبيات وكيفية الخلاص منها كعائق نهضوي مشلّ وقاتل:
l د. فريدريك.. ما معنى أن تصدر كتاباً خاصاً بـ”صدام العصبيّات العربيّة” وآخر في الموضوع نفسه (سيخرج من المطبعة بعد أيام) في مثل هذا الزمن العربي المضطرب؟ ما الذي أردت قوله والدرس الذي دعوت إلى الاستفادة منه؟
uu مذ كنت طالباً في السبعينيات من القرن الماضي وأنا أتساءل عن أسباب تأخرنا وتخلفنا عن الركب الحضاري العالمي، على رغم امتلاكنا لكل ما نحتاج إليه من ثروات راهنة وتاريخ عظيم. وكنت أتساءل في هذا السياق لماذا لم تنجح حركة النهضة في استنهاض إنسان عربي حضاري جديد؟.
وللإجابة عن جميع هذه التساؤلات، كنت أعود إلى المقولات النظرية العامة الرائجة، القومية والتحررية واليسارية الاشتراكية. فجاءت الصدمة الأولى إبان الحرب الأهليّة اللبنانيّة، حيث تبيّن لي بأم العين أن التفكير والسلوك السياسي العميق، لا يقوم عندنا على إيديولوجيّات، بل على عصبيّات. فنشرت تبعاً لذلك عام 1994 كتاباً بعنوان “جذور الحرب الأهليّة: قبرص، لبنان، البوسنة، الصومال”.
لم تعجب المعالجة الكثيرين في تلك الفترة، ذلك أن مفهوم العصبيّة كان حتى ذلك الحين مرفوضاً بين معشر الكتاّب والمثقّفين. كان المثقّف ذا التكوين القومي أو اليساري يستهجنه معتبراّ إياّه مفهوماً تخطاّه الزمن. وكان المثقّف ذو البناء الفكري الديني يعتبره مدخلاً للطعن بالدين.
لذلك رغبت اليوم، وبعدما بات مستحيلاً في متابعة الاختباء من الشمس بالغربال، في أعقاب انتشار حروب العصبيات في سوريا والعراق واليمن وليبيا أن أضع الإصبع على الجرح وأن أُشيرإلى المكمن الحقيقي للداء الذي نعاني منه.
فنحن مرضى العصبيّات ولا نجرؤ على الإقرار بمرضنا العميق، بل نتهرّب دوماً من مواجهة الواقع باللّجوء، إما إلى الإيديولوجيّات الفارغة أو إلى الخطاب الديني المؤدلج. نقوم بتمويه الحقيقة ولا نفعل ما نقول. نفكّر ونمارس عصبيّاً، في ما نخطب إيديولوجيّاً ونعيش في فضاء المفارقة الدائمة.
من هنا، ولكوني عالم اجتماع لبنانيا ملتزما بالقضايا العربيّة التزامي بقضايا المجتمع اللبناني، رأيت أن من واجبي التعمّق الحقيقي بمفهوم العصبيّة، مع ما يقتضيه ذلك من إعادة التفكير بمكوّنات هذا المفهوم ومدرجاته المعاصرة في ضوء ما شهدناه خلال العقود الأربعة المنصرمة فتبيّن لي:
1 – أنّ صدام العصبيّات ليس مرضاً لبنانيّاً محصوراً، بل هو مرض عربي شامل
2 – أنّ العصبيّات القبليّة القديمة قد أُعيد تأهيلها على نحو ديني ومذهبي
3 – أنّ الشرخ السياسي المرافق لصدام العصبيّات ترافق مع شرخ اجتماعي ومعرفي
4 – أن عدم خروجنا من دائرة التفكير والسلوك العصباني سيقضي على العالم العربي والشرق الأوسط من الداخل بلداً تلو بلد ودولة تلو دولة.
لا أدّعي إعطاء أي درس في ما قمت به، جلّ ما أريده، هو دق جرس الإنذار قبل وقوع الكارثة الشاملة. فالعالم العربي مطوّق بالحروب الأهليّة العصبيّة، بالتالي فإن العمل على إطفاء العصبيّات واستبدالها بتفكير وسلوك بديل، هو المطلوب صوناً لمستقبل المجتمعات العربيّة الواقعة في فخّها.
الأمر الوحيد الذي ركّزت عليه في عملي هو ضرورة إدراكنا أن تفكيك هذا الفخ والخروج منه، هو من مسؤوليّتنا نحن في المقام الأول والأخير.
l لكن هل تعتبر نفسك أنّك وُفّقت علميّاً وعَمَلياًّ في ما ذهبت إليه من خلاصات في كتابك الجديد، خصوصاً وأنّك اعتمدت نظريّة إبن خلدون في العصبيّة نبراساً وهادياً، وهي نظريّة تعود إلى ما يزيد عن ستة قرون؟
uu سأجيب عن هذا السؤال، ولكن انطلاقاً من شقه الثاني. أعتبر أن نظرية ابن خلدون في العصبيّة صحيحة، غير أنّها بحاجة إلى تحديث، أي أنّها لم تفقد من راهنيتها ولا من دقّة ملاحظتها. فابن خلدون ينتمي فكرياً إلى زمنه؛ بيد أنّه ينتمي علميّاً إلى كل العصور. بمعنى أنّه تمكّن من تحليل ظاهرة اجتماعيّة-سياسيّة كبرى (العصبيّة)، ثم من فهم القانون الذي يسودها، تمهيداً لاستخلاص منطقها الداخلي الذي ينتمي إلى كل زمان.
لم يقم بيار بورديو بأفضل منه عندما توصّل، بعد عقود عدة وكتب عدة إلى طرح نظريّة الهابيتوس.
أما الفرق بين الإثنين، فهو أن نظريّة الثاني أكثر تماسكاً، كونها استفادت من النقاش والمجادلة والمقارعة الفكريّة التي رافقتها إبان حياة بيار بورديو في فرنسا القرن العشرين، الأمر الذي أفاده جداًّ في إعادة ترسيم معالمها على نحو أفضل، كتاباً بعد كتاب.
لم يستفد إبن خلدون في المقابل من أي إطار أكاديمي أو فكري عام مساعد، بل اشتغل وحده، كنابغة، في زمن تدهور الثقافة العربيّة. أما ما توصّل إليه، فمتقدّم جداًّ، إذ أنّه حصر عتبات العصبيّة الميدانيّة بثلاث (النعرة فالتذامر فالاستماتة). جل ما تمكنت القيام به، هو إضافة عنصر رابع إلى هذه العتبات “صناعة العدو” التي لا تستقيم من دونها حياة العصبيّة سياسيّاً واجتماعيّاً.
أما في مدى توفّقي علميا وعَمَليا في ما ذهبتُ إليه، فبإمكاني القول إني لم أخترع البارود، لكني اكتشفت الكبريت، حيث بيّنت كيف أن العصبيّة كبريت اجتماعي – سياسي حارق، يلتهم الجماعات بسرعة هائلة، ثم يلتهم عمرانها، فيعيده بعد حين إلى ما كان عليه قبل خمسين أو مائة سنة. والأمثلة على هذا الأمر واضحة في الحالة اللبنانيّة والسوريّة والعراقيّة والسودانيّة واليمنيّة والليبيّة راهناً.
على المستوى العلمي تمكّنت أيضاً من وضع معادلة رباعيّة تدور في فلكها العصبيات كلّها، ولا يؤدي أي منها إلى حل؛ حيث انه عند قيام الصدام بين عصبيّتين:
– إما أن ينشطر المكون الأول (أ) عن المكون الثاني (ب)
– إماّ أن يكون المكوّن الأوّل غالباً، والثاني مغلوباً
– إماّ أن يكون المكوّن الثاني غالباً والأوّل مغلوباً
– إماّ ان يتعادل المكونان على قاعدة لا غالب ولا مغلوب (والأمثلة كلها في الكتاب)
قد تبدو الصيغة الأخيرة هي الأفضل. بيد أنها، كما تبينه الحال اللبنانية، مجرّد صيغة تدامج تهتزّ عند كل استحقاق؛ الأمر الذي دفعني إلى استنتاج مفاده أنه في ظل دولة العصبيّة، أياً كانت صيغتها، السقف الوحيد اجتماعياً وسياسياً هو الاندماج لا التكامل.
في الاندماج تتجاور العصبيّات من دون أن تفقد جوهر منطقها القائم على الغٌلب او الغلبة. وبالتالي على السعي الدائم إلى الاحتراب سعياً إلى محو الآخر أو تحجيمه أو في أفضل الأحوال، المساكنة الشكليّة معه.
l ابن خلدون، في المحصّلة، لم يتعامل مع العصبيّة كمفهوم مقدس وأزلي، بل تعامل معها كمفهوم نسبي وعابر في سياق تطور الاجتماع والعمران.. ما تعليقك؟
uu تعامل ابن خلدون مع مفهوم العصبيّة بنباهة، لكنه لم يتعامل مع موضوع العصبيّة بحكمة، فلو تابعنا ما كتبه في هذا الصدد، نلحظ الآتي:
في معرض تحليله لموضوع العصبيّة، يشير ابن خلدون إلى أمر مهم، إذ بعد إعلانه أن العصبيّة القبليّة تقوم على رابطة الدم والنسب؛ وفيما الأولى عضويّة وطبيعيّة، فإن الثانية “أمر وهمي،لا حقيقة له”. أي أن رابطة الدم موضوعيّة ولا مجال لدحضها. أما رابطة النسب فرمزيّة؛ الأمر الذي يجعل مفهوم العصبيّة تركيباً حقيقيّاً في شق منه، وغير حقيقي في شقه الآخر.
هنا نلمس كم أن ابن خلدون كان قريباً من العقلانيّة الحديثة. فهو يستعين في هذه النقطة (كما في العديد من النقاط الأخرى في “المقدمة”) إلى ما يُعرف في النقد الحديث بالابتعاد المقصود عن الموضوع الذي يعالجه. وهذا أمر يحييه الكثيرون، وأنا منهم، حيث يتضح أن ابن خلدون يقيم مسافة مقصودة بينه وبين المفهوم الذي يتناوله بالتحليل.
بيد أن تحفّظه هذا لا يرقى إلى مستوى النقد المنهجي المتكامل. فهو على سبيل المثال، في مكان آخر من كتابه (الفصل 11 و 12 من الكتاب الأوّل) يطوّب العصبيّة ويعمد إلى تبريرها، حيث إنه لا يشير إلى غياب التعدّديّة في نظام العصبيّات فحسب، بل يبرّر هذا الأمر.
ففي معرض تحليله للرئاسة، في موقعها ودورها داخل عالم العصبيّات، يعتبر أن “المزاج في المتكوّن (الاجتماعي) لا يصلح إذا تكافأت العناصر. فلا بدّ من غلبة أحدها، وإلاّ لا يتم التكوين”. ثم يضيف قاطعاً: “فهذا هو سرّ اشتراط الغُلب في العصبيّة”. أي أنّه، في منطق العصبيّة، الغُلب قانون، والرئاسة واحدة؛ هي المكوّن الصافي الذي لا يقبل عنصراً دخيلاً عليه. لذلك يضيف ابن خلدون، “إن الرئاسة لا تكون إلّا بالغُلب، والغُلب إنما يكون بالعصبيّة”.
لذلك، عندما نقرأ ما كتبه هيغل في معرض تحليله للعصبية ودورها في حرب الثلاثين سنة التي وقعت في المانيا بين 1618 و 1648 نلمس مباشرة أنّ زمناً فكرياً كاملاً يفصل بين الفيلسوف الألماني وعالم العمران العربي.
يقوم هيغل بنقض العصبيّة في وجهيها المذهبيين: البروتستانتي والكاثوليكي، معتبراً ان صيغتها، دمجاً أو اقتتالاً، لا تفيد المجتمع، لكونها لا تبني دولة، بل دويلات، ولا مجتمعاً، بل مجتمعات، وأفقها مسدود. ويقدم هيغل بعد هذا النقد المنهجي بالطعن بمعنى دولة العصبية، مشيراً بوضوح إلى أن بديلها يكمن في دولة المواطنة الحديثة.
يعلن هيغل طلاقه الفكري مع العصبيّة، معلّلاً موقفه بالحجج والوقائع السياسيّة والاجتماعيّة على السواء. أما إبن خلدون، فلا ينتقل من التحفّظ إلى النقد المنهجي ونقض معنى العصبيّة كنظام سياسي للمجتمعات. بل، على عكس ذلك، يكتفي بتصوير المشهد العام الذي يقوم من حوله، بنباهة وذكاء تحليلي، ولكن من دون أن ينتقل إلى ضفّة فكريّة أخرى، مختلفة نوعياًّ عن تلك التي يعالجها فكرياًّ.
لذلك يستحيل علينا اعتبار ابن خلدون مفكراً سياسياً؛ فهو يشاهد ويحلل ثم يطوب ما شاهده، بحيث أن نباهته العلميّة تماشت مع استكانته الفكريّة.
من هنا ضرورة استكمال ما قام به ووصل ما انقطع في التفكير السياسي المتعلق بالعصبية ومعناها الأبعد المغيّب لدى ابن خلدون.
طبيعة ثانية للإنسان
= لماذا تتجدّد العصبيّات في مجتمعاتنا العربيّة في زمن الحداثة وما بعد الحداثة.. زمن انفجار العلم والتكنولوجيا والثورة الصناعيّة الرابعة؟ وإلى متى ستظل المصالح والمذكيات الخارجيّة لفعل العصبيّات تفعل فعلها السلبي في مجتمعاتنا؟
– العصبيّات عندنا لا تتجدّد، بل تكمل سيرها بأمان وطمأنينة. والسبب هو أن أحداً لم يناقشها أو يقف في وجهها منذ الأزمنة الغابرة. وقد أشرت للتوّ كيف أن ابن خلدون نفسه، العارف الأكبر في تكوينها وبناها، لم يقدم على نبذها فكريّاً، بل قام بتبريرها عبر تبرير الغُلب وتكريس الرئاسة العصبيّة، أي وجود صاحب الشوكة، الآمر الناهي في الرعيّة.
يُضاف إلى ذلك، أنه منذ عصر ابن خلدون، لم يبلور المفكّرون العرب أي معرفة حقيقيّة بالعصبيّة تسمح بالدخول في الموضوع من دون استئذان التراث أو الفقهاء أو السياسيين التقليديّين. بقيت أرض العصبيّة بوراً وظلّت نبتة العصبيّة تتمدّد فيها جذوريّاً بكل اطمئنان. عكّر صفوّها من حين لآخر نقد من هنا وتحفّظ فلسفي من هناك، لكن لم يظهر بعد أي مشروع قطع إبيستيمولوجي مع العصبيّة، لا سياسيّاً ولا ثقافياً ولا تربوياً. لذلك، وبتواضع جم، بادرت إلى هذه المهمّة التي لن تنتهي معي، ولن تقف عندما قدّمته.
أحاول فقط أن أسهم قدر استطاعتي في التحضير لهذه القطيعة التي أراها من جهتي مصيريّة. هناك ضرورة قصوى للإقدام على هذه الخطوة المؤلمة لسببين:
الأول، هو داخلي، ومن طبيعة معرفيّة. فنحن نعيش مرضنا (العصبيّات) ونتلذّذ به، ولا رغبة لنا بتشخيصه، خشية المساس بموروثات الماضي. وفي هذا المجال نشبه إلى حد كبير أسلافنا في القرنين السادس والسابع عشر الذين أبوا درس وفهم ومعالجة الطاعون الزاحف من مدينة إلى أخرى بالعدوى، معتبرين أن الطاعون نابع من المشيئة الإلهيّة، ولا تجوز مقاومته بالهرب من أمامه باللجوء إلى مدن أبعد.
شرح حسين بوجرّة هذه الظاهرة في كتاب جدّ مفيد له، مبيّناً كيف أن بعض الفتاوى المحليّة منعت الأطبّاء العرب (التي كانت تزدهر بهم الحضارة العربيّة) من القيام بدورهم الطبّي الوقائي. إلى أن قام أخيراً العثمانيون، بعد اطلاعهم على المعرفة الطبية الغربية المتعلّقة بالطاعون الذي ينتشر موضوعيّاً بالعدوى، بإعطاء الأمر بمكافحته طبيّاً بالوقاية منه وتطويقه بالأساليب الحديثة، لا بالدعاء وحده.
إلّا أننا لم نعتمد في مجال مكافحة العصبيّة بعد، ما قمنا باعتماده في مجال مكافحة داء الطاعون، بل إن سر العصبيّة لا زال حيّاً فينا وتنبض قلوبنا على وقعه من دون أن نبالي حقيقة بما يفعله فينا. وهذا نقص كبير في المعرفة لا يليق بنا.
السبب الثاني، هو خارجي وسياسي. حيث انه طالما لم نقفل بابنا أمام سيادة العصبيّات في حياتنا اليوميّة والعملية الداخليّة، ستبقى مجتمعاتنا عرضة للاختراق من الخارج الغربي والإقليمي بغير أسلوب؛ إذ نقدّم على الدوام للخارج، ومجاناً، أدوات عمله الميدانيّة. فنلقي لاحقاً اللّوم كلّه عليه، متناسين أن ثلثي اللوم يقع علينا وعلى قصورنا الفكري الاستراتيجي.
علماً أن الأمثلة واضحة أمامنا في صدد الفوضى المفبركة خارجاً، في لبنان والعراق وسوريا واليمن وليبيا…ويقيني، مع الأسف، أن الحبل ما زال على الجرار في شبه الجزيرة العربيّة.
l الدين يدعو إلى المحبّة والتسامح والتراحم، ومع ذلك نجد العصبيّة تفرض نفسها على كل شيء وتنجح أحياناً في جرّ الدين إلى ملعبها وتحاول النيل منه والإساءة إليه، حتى باسم الدفاع عنه أو المنافحة لأجله… ماذا تقول؟
uu العصبيّة ليست من الدين في شيء. جد لي، مثلاً، مقطعاً واحداً من الإنجيل أو آية واحدة في القرآن الكريم تبرّر وجودها، بل إن “سورة الشعراء” تشجب بوضوح أولئك الذين بمتهنون الشعر ويتنقلون بين القبائل لتجييش العصبيات واستنفار المشاعر العدائية.
العصبيّة الدينيّة والمذهبيّة عموماً، هي من صناعة بعض “المبشّرين المسيحيّين” في أثناء الحروب الصليبيّة، وبعض “الفقهاء المسلمين” في ما بعد. وقد قام هؤلاء بدور المنظّرين للعصبيات الدينية والمذهبية من خارج الكتب الدينية السماوية، وجاءت نظرياتهم كرديف للإيمان، وخصوصاً “نظريات” بطرس الناسك. وباختصار، استعان “المبشرون” في عملياتهم هذه على:
– خطاب تركيبي، متماسك وبليغ، يقوم على تحريك الثلاثيّة العصبيّة الخلدونيّة، من نعرة وتذامر واستماتة، مانحين لقب الشهداء على من قُتِل ومات في سبيل العصبيّة، لا في سبيل الدين
– حصر الإيمان في الانتماء المذهبي، ثم ربط هذا الأخير بالعصبيّة
– القطع المعرفي مع الآخر وبناء الجنّة الخاصّة المغلقة
– صناعة متقنة للعدو المفترض، بحيث يتبرّر وجود العصبيّة لدى الذات
وما من شك في هذا السياق، أن انتشار الفضائيّات الناطقة باللّغة العربيّة مطلع القرن الحادي والعشرين، قد جاء ضمن مشروع خارجي، مسكوت عنه داخلياً، أو غير مدرك محلياً، للتحضير للفتن المذهبية والحروب الأهلية التي انفجرت بعد عقد من الزمن تحت مسمى “الثورات العربية” المضلل. وقد أدّى ذلك كلّه إلى ابتعاد المجتمعات العربيّة المنكوبة عن الإيمان الديني الروحاني الحقيقي والارتماء في أحضان الانتماء العصباني الدموي.
l كيف تفهم العصبيّة الوطنيّة المبنيّة على حب الأوطان والدفاع عنها؟ أي عصبيّة يمكن قراءتها هنا وتخترق إيجاباً البنية الاجتماعيّة والثقافية والأدبية والأخلاقية المتخارجة عنها؟
uu حبّ الوطن شيء والعصبيّة الوطنيّة أو القوميّة شيء آخر. حبّ الوطن شعور طبيعي تكرّس في فكرة، وعمّ العالم كلّه منذ أقدم الأزمنة، وتجده لدى الشعوب كلها في مختلف القارات. ويتجلى هذا الشعور في سلسلة من الأخلاقيّات الإيجابيّة العامة. فمن يغار على وطنه يحرص على تقدّم بلده ويحترم مواطنيه، بحيث يتشارك معهم، دونما تحفّظ في السهر على الشأن العام. حبّ الوطن، شعور بناّء ومنفتح على الآخرين دونما تمييز. وهو شعور جعل معظم الدول الغربيّة تتقدّم مدنيّاً وحضارياً وإنسانياً.
أماّ العصبيّة الوطنيّة أو القوميّة فنفاق، لأنها تتجلى شوفينياً في موقف عدائي من الآخرين، في الأوطان الأخرى، وشهوة في غزوهم واستتباعهم.
وأشير في هذا الصدد إلى أن العصبيّة الوطنيّة أو القوميّة تقوم على انتفاخ أيديولوجي لمشاعر وسلوكات تدّعي حب الوطن، فيما هي تُستخدم لقهر أبناء وطن آخر، يُستضعف لهذه الغاية. فعندما يتجاوز حبيّ لوطني حدود موطني ويطمع في غزو وطن آخر، مجاور أو بعيد، يتحوّل إلى عصبيّة غازية.
لذلك، فإن حبّ الوطن والقوم موقف دفاعي واجتماعي إيجابي وبناّء ومُعتمد في كتب التربية المدنيّة. أماّ العصبيّة الوطنيّة التي عليها تُبنى لاحقاً العصبيّة القوميّة الشوفينيّة، فتفكير وسلوك شهواني سياسياً ومغرض إيديولوجياً وغير بناّء، لأنّه يعمل على إلغاء الآخر المفترض به أن يكون أخاً بحسب الخطاب المزيف المعتمد.
فالعصبيّة الوطنيّة والقوميّة الشوفينيّة – لا الاجتماعيّة والثقافيّة- تهدم الأوطان وتشتّت المجتمعات، بينما حبّ الوطن عنصر أساسي من عناصر بناء الدول العامرة.
l هل تدعو إلى عصبيّة الدولة المدنيّة العادلة ذات الرؤى والمفاهيم التعدّديّة المستمدّة من نموذج الدولة الليبراليّة الغربيّة؟
uu لا تقوم الدولة المدنيّة الحديثة على عصبيّة، بل على إزالة العصبيّات من القاموس السياسي والدستوري في البلاد.
ذلك أن العصبيّة منظومة تفكير وسلوك سياسيّة تقوم على مبدأ أوحد هو الغُلب، فيما تقوم الدولة المدنيّة الحديثة على مبدأي الحريّة والعدالة الاجتماعيّة. لذلك، فإن توجّه العصبيّة مختلف جوهريّاً عن توجّه التفكير الديمقراطي المدني. فالقطع الايبستيمولوجي الذي حدث في الحقل السياسي في الغرب، إبان الثورة الفرنسيّة ما بين 1789 و 1799 حصل تحديداً على قاعدة إعلان الطلاق مع العصبيّات، حيث جمعت المواطنة بين الكاثوليكي والبروتستانتي وغيرهما على قاعدة التكامل وذوبان العنصرين في مكوّن جديد واحد يحفظ حق الجميع دونما غلبة لأحد على أحد، لا في الحقوق ولا في الواجبات.
من هنا أتت الدولة الغربيّة الحديثة متعافية من الانتماءات العصبيّة ومنتمية إلى حقوق المواطنة وواجباتها. لا تسمح قوانين وتشريعات ودساتير الدولة الحديثة التي نشأت في الغرب بالاحتكام إلى العصبيّات الإثنية أو الدينية أو العصبية. والحرب المدنية التي حصلت في الولايات المتحدة الأمريكية لم تحصل على قاعدة أهلية بالمعنى العربي للمصطلح، أي على قاعدة صدام بين عصبيّتين متناحرتين، بل بين مشروع مدني يقول بإلغاء العبوديّة (المبنيّة على عصبيّة سياسيّة عرقيّة) وآخر يتمسّك بهذه العصبيّة.
أما رواسب هذه العصبيّة في سلوك شريحة من الأمريكيين، فهو أمرغير دستوري وتقع مخالفاته للمواطنة المدنيّة تحت طائلة المخالفات القانونيّة، ويُعاقب عليها المخالفون.
لذلك أرى ان خلاصنا لا يكون اليوم، إلّا ببناء دول حديثة تقوم على المواطنة المدنيّة وتفصل الدين عن سياسات الدولة بشكل واضح وعلني، من دون ان يعني ذلك إلغاء الدين من حياة الناس، حيث فيه كنز من الأخلاقيّات الراقية والروحانيّات السامية.
l هل هذا ممكن؟
uu طبعاً هو ممكن، وقد حصل في سنغافورة التي كانت قبل ستين سنة من أفقر دول العالم ومنقسمة داخليّاً إلى ثلاث إثنيّات: صينيّة/ بوذيّة و ماليزيّة/ إسلاميّة وهنديّة/ هندوسيّة. فقد تمكّن سياسيوّها، وفي مقدّمهم الرئيس لي كوان يو، من تحويل بلادهم من بلد من العالم الثالث إلى دولة حديثة من العالم الأوّل. بدأوا بمكافحة الفقر وتأمين سكن لائق لجميع المواطنين، ثم عمدوا إلى إلغاء الانتماءات العصبيّة في المناهج الدراسيّة. ونجحت التجربة بفضل صدق ونزاهة السياسيّين القيمين على تنفيذها.
لذلك اعتقد اننا بحاجة إلى لي كوان يو عربي، وإلى فريق عمل كالذي رافقه في مشروعه التغييري.
l في حديث لك نشر مؤخّراً تقول:”نحن مدينون للعصبيّة التي كانت إيبستيمولوجياً أول شكل متقدّم نوعياًّ للوعي البشري، حيث انه قبل تشكّل العصبيّة، كان الإنسان يعيش في ما يُعرّفه إميل دوركهايم بـ”التجمع”، في حين إنه بعدها بات يعيش في صيغة “التشارك”، لذلك فإن التخليّ عن هذا الإرث المعرفي الثمين، غدا صعباً جداً”.. لا بأس، هل المطروح في رأيك التخلي عن هذا الإرث، أو أننا أمام تقدم بطيء نحو زواله؟
uu في بداية أبحاثي حول العصبيّة، كنتٌ ميّالاً للاكتفاء بالانطلاق من الطور القبلي جرياً على ما هو متداول ورائج. بيد أن شروعي بتأصيل هذا المفهوم تاريخيّاً، على نحو ما نعتمده في سوسيولوجيا المعرفة، سمح لي، بملاحظة أمر مهم، وهو أن العصبيّة كانت، ما قبل التاريخ، الشكل الأوّل للفكر السياسي البشري، ذلك أن الإنسان الأول الذي كان يعيش في ما يُعرف بالقطيع البشري الأول، كان يتألف من عائلات صغيرة تعيش على نحو متفرّق، في المغاور أو في عباب الأشجار، محاطة بحيوانات أكبر وأضخم منها.
لذلك كانت تحتاج هذه الجماعات الصغيرة، المؤلّفة من أسر نواتية أو من أسر ممتدة إلى رابطة دم قويّة بين أفرادها تسمح لها بالدفاع جماعيّاً عن نفسها. من هنا جاءت في البداية كاستجابة بشرية مبنية على خطر أمني خارجي؛ ثم بعد ذلك، أي مع الانتقال إلى صيغة العشيرة فالقبيلة، اتخذت العصبيّة طابعاً سياسياً مركباً؛ ثم مع ظهور الأنظمة الملكيّة، تطوّرت الأمور أكثر، بحيث تمأسست العصبية، وأضحت رابطة دم ودين شديدة التماسك.
أي ان العصبيّة عرفت أكثر من تمظهر، منذ بداية التاريخ وحتى اليوم. لذلك هي مترسّخة في الأذهان والممارسات وكأنها طبيعة ثانية للإنسان.
غير أن هذا الواقع الموضوعي أو صعوبة التخلّي عن هذا التراث الفكري، لا يعني البتة استحالة التخلّي عنه. فالعصبيّة التي كانت في فترة من فترات التاريخ الإنساني حاجة أساسيّة، هي مسألة قابلة للتغير أيضاً؛ فإنسان المغاور أو الغابة، لم يتمسك بهذا النوع من سكناه أبداً، بل تغيّر سكنه بتغيّر ظروف حياته. فالعمران البشري فتح أمامه أشكالاً جديدة من السكن اعتمدها بعد حين.
وكذلك هي حال اعمالنا وسلوكنا الفكري والاجتماعي؛ إذ ليس لأننا نشأنا في البداية على الفكر الخرافي، أن علينا أن نبقى في أحضانه، كما انه ليس لأننا عشنا قسطاً كبيراً من حياتنا كبشر في ظل أنظمة عقائديّة وثنيّة، أن نبقى وثنيين.
تتطوّر الحياة ونكتسب معها الخبرات، وتزداد معرفتنا، فتتطوّر أفكارنا. لذلك لا بد من ان نتخلىّ عن الأقل تطوّراً والأكثر تخلّفاً، وأن نعتمد الأكثر تقدماً. فالتاريخ الإنساني المتحرك والدينامي يختلف عن التاريخ الحيواني الساكن والثابت. لدينا، هكذا، كبشر العقل المتطوّر نسبياًّ والذي يسمح لنا بالارتقاء في سلم معارفنا على نحو مطرد، ومن واجبنا، بالتالي أن نستخدمه، وأن نتطوّر.
صحيح ان العصبيّة ساهمت ذات يوم في إنقاذ وتكاثر وتطوّر العنصر البشري، لكن التجربة والعقل البشريين، قد ابتكرا مع مرور الزمن، وتقدم المعارف عقدا اجتماعياً وسياسياً أكثر تطوّراً.
العصبيّات الأوروبية الحديثة
l كيف تقرأ اشكال العصبيّات القوميّة والدينية التي تظهر بين الفينة والأخرى في الدولة الغربيّة الحديثة، وتحديداً في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا؟
uu هذه كلّها تعصّبات، لا عصبيّات. ما عدا في حالة الباسك الإسبان. فالعصبيّة شيء والتعصّب شيء آخر. وعلينا ألّا نخلط الحابل بالنابل. فالعصبيّة القوميّة مثلها مثل العصبيّة الدينيّة أو المذهبيّة أو القبليّة منظومة تفكّر وسلوك هادفة سياسياً تقوم على مبدأ واحد، هو الغُلب. وهدفها واحد، هو السلطة السياسيّة. لذلك فإن الباسك حاليّاً، كالإيرلنديين سابقاً، يستخدمون الصيغة القوميّة للوصول إلى السلطة، حيث انّه ينبغي ألّا ننسى أن غاية العصبية، كما يقول ابن خلدون، هي المُلك، أي السلطة السياسية.
لذلك عندما أرى فرنسياً أو بريطانياً أو ألمانياً يشهر غضبه القومي ضد عامل عربي أو إفريقي يعيش ويعمل في بلده، فهذا تعصب قومي. غير أن هذا التعصب القومي، مهما بلغ منسوب الشتائم فيه، يبقى من النوع الناعم، حيث أنه مسقوف وملجوم بتشريعات وقوانين دستوريّة تؤدي بصاحبه إلى المحكمة والسجن إذا ما تخطى حدود احترام حقوق الإنسان الآخر المدنيّة.
يشبه هذا النمط من التعصّبات القوميّة المسقوفة التعصّبات الدينيّة والمذهبيّة والدينيّة المنتشرة عندنا وعند سوانا على نحو واسع، في السلوك اليومي للناس.
تبدأ المشكلة الحقيقيّة عندما تعمد مجموعات واسعة بشكل منظّم، إلى خيار العصبيّة، حيث يُضاف هنا إلى النعرة والتذامر، العنصر الفاصل الثالث، ألا وهو الاستماتة، بحيث تغدو العصبيّة فوراً مشروع حرب.. حرب كامنة في زمن السلم (لا السلام) وحرب طاحنة عندما تدقّ طبول “بالروح، بالدم!”.
منسوب العداء في العصبيّة غُلبي، يهدف إلى الهيمنة على الآخر بالوسائل الصلبة الحديديّة والقاطعة. العداء التعصّبي نفسي- اجتماعي، في حين أن العصبيّة تنطوي على عداء سياسي خالص. لذا الفرق كبير بين الموقفين.
ومن هنا أنا لا أخشى التعصّب القومي، طالما أنّه لم يتحوّل إلى مشروع سياسي للهيمنة والسيطرة؛ وما أراه مصدر قلق موضوعي في الحقيقة يقع في خانة الأحزاب القوميّة الشوفينيّة العصبية التي تطالب بإلغاء الآخر أو نفيه أو تعريته من حقوقه كافة. فالأحزاب التي تنضوي تحت لواء العصبيّات على نحو مكشوف، في كل من النمسا وفرنسا والدانمارك، هي التي ينبغي التنبه لها والقلق منها، لا المواطن الأوروبي العادي الذي ينهر عاملاً عربياً تماماً، كما ننهر نحن عاملاً هندياً أو سريلانكياً.
محو العصبيّة قبل محو الأميّة
l تدعو إلى محو العصبيّة قبل محو الأميّة… كيف تستوي هذه المعادلة لديك، خصوصاً وأن عامل الأميّة هو الذي يسهم أكثر من غيره من العوامل في إذكاء العصبيّة؟
uu بدأت بكتاب جديد في هذا الموضوع تحديداً، حيث ان هذا الشعار الذي اعتمدته عنواناً لخاتمة كتابي “صدام العصبيّات العربيّة” قد استوقف وأعجب مختلف القرّاء النقاد. إلاّ أنّه بحاجة إلى بعض الشرح بكل تأكيد. ولهذه الغاية أراني مضطرا للتكلّم كعالم اجتماع.
صحيح أن عامل الأميّة يسهم بقوّة في إذكاء العصبيّة، تماماً، كما أن الفقر عامل آخر مهم في تفعيل الشحن لدى المجتمعات، ولكن هل أن محو الأميّة في لبنان أو العراق، مثلاً، أدىّ إلى محو العصبيّة؟ طبعاً لا، وهل ان محو الفقر في دول الخليج وتركيا وإسرائيل أدّى إلى إزالة العصبيّة من النفوس والنصوص على حد سواء؟ أيضاً لا.
l لماذا يا ترى؟
uu لأن العصبيّة من طبيعة معرفيّة عميقة؛ فهي تقوم على منظومة تفكير وسلوك تتحكّم بطرائق التفكير والتخطيط والتنفيذ. ومن هذا المنطلق، هي بمثابة برنامج ذهني متكامل يوجّه الخيارات والأفكار والمسالك في الحياة اليوميّة والعلميّة.
وعليه فإن العصبيّة تشكّل عنصراً من عناصر ما يُعرف بالتنشئة الاجتماعيّة، ولأنّها تأتي في موقع زمني سابق للعناصر الأخرى (التعليم، العمل)، يغدو فعلها تأسيسياً.
يبدأ تفعيل التفكير والسلوك العصباني في البيت ومنذ نعومة أظفار الطفل، الذي يلقنونه، وبشكل حميم، بكلمات بسيطة كـ”هم” و “نحن”، للتمييز بين هذا المذهب الديني وذاك، او بين هذا الواقع الاجتماعي وذاك. فينشأ في ذهن الطفل، ضمن هذه التربية البيتيّة التي يتلقّاها، تصنيف للأنا والآخر على قاعدة عصبيّة.
لذلك ولشدّة تأثّر الطفل بالإيعازات والصور والأفكار والأحكام العصبيّة المسبقة، يذهب إلى المدرسة، وهو مبرمج مسبقاً على عصبيّة ما. وقد أشار كل الذين درسوا سلوك وتفكير التلاميذ في المدارس في العالم العربي (ومنهم الباحث اللبناني عدنان الأمين) إلى أن العوامل الثانويّة للتنشئة الاجتماعيّة عندنا (التعليم المدرسي، الجامعي، العمل) تعجز عن التفوّق على عوامل التنشئة الاجتماعيّة الأوليّة (الانتماء العائلي والعقيدة الدينيّة أو المذهبيّة).
l بخصوص العصبيّة في الحالة اللّبنانيّة تقول إن هذه العصبيّة تعتمد وجهي الإله الإغريقي جانوس: وجه يدعو إلى الحرب وآخر يدعو إلى السلم، علماً أن هذين الوجهين يلتصقان برأس واحد، فيما يعود القرار في اعتماد هذا الوجه أو ذاك إلى صاحب الشوكة دون سواه.. ما معنى هذا الكلام سوسيولوجياً لديك؟
uu لا تنسى أن ابن خلدون كان قد أشار إلى أن العصبيّة “إنما تكون بالمغالبة أو بالممانعة”. يعني ذلك أن لها وجهين وسياستين.
فالسياسة الأولى التي تعتمدها، تكون بأساليب العنف الصلب والقهر العسكري والسيطرة. بعد ذاك تنتقل العصبيّة إلى أساليب العنف الناعم، حيث تكون مهمتها الأساسيّة الدفاع عن المُلك بحجبه عن الآخرين وبمنعهم من الوصول إليه.
مَن ذا الذي يقرّر اعتماد هذه السياسة أو تلك؟ ومن ذا الذي يقرّر الانتقال من المغالبة إلى الممانعة؟ هو صاحب الشوكة في العصبيّة دون سواه. قرار الحرب بيده وقرار السلم أيضاً. والجماعة العصبيّة التابعة له رعيّة طيّعة وحشد جماهيري يلتزم بقرار صاحب الشوكة، حتى ولو قام هذا الأخير بتبديل موقفه أو تحالفاته على نحو مفاجئ ومفارق. حيث يكتفي هنا أهل الرعيّة بالقول: “من المؤكّد أنّه يعلم لماذا يقوم بذلك”.
فالرعيّة في دنيا العصبيّات تفوّض التفكير عنها لصاحب الشوكة. فتارة تحارب القبائل الجيش الأمريكي في العراق، وطوراً تدخل في “الصحوات” التي يشرف عليها عدو الأمس. إذ لا عدو نهائياًّ في قاموس العصبيّات، بل مجرّد مواقف عدائيّة جاهزة تنتقل بحسب مصلحة العصبة من هذا الطرف إلى ذاك.
وقد شهدنا في لبنان، كما في العراق، في أثناء الانتخابات الأخيرة تحالفات غريبة عجيبة بين أحزاب عصبيّة كانت قبل أشهر قليلة تنصب العداء التام لبعضها البعض. غير أن دراسة موازين القوى (وهذا مفهوم مركزي لدى العصبّيات كلها) أظهرت ما كان كامناً، بحيث اكتشف الناخبون بذهول تقارب الأضداد وتوافق الأعداء.
l هل اتعظ اللبنانيون من الحرب الأهليّة التي عصفت بهم وببلادهم طيلة 15 سنة، أم أن المسرح تكسّر وما تعب اللاعبون؟
uu مع الأسف، لا اللبنانيون اتعظوا من الحرب الأهليّة التي عصفت بهم، ولا القبارصة اتعظوا مما حلّ بهم، ولا السودانيون توقّفوا عند حربهم الاهليّة الأولى (1955-1972)، بل اتبعوها بحرب أهليّة ثانية (1983-2005) حتى التقسيم النهائي لبلادهم إلى كيانين. (واوضاعهم الحالية اليوم غير مأمونة النتائج).
الحروب الأهليّة المبنيّة على اقتتال بين العصبيّات، هي تقسيم للنفوس سابق ولاحق للأعمال الحربيّة. فالمهزوم العصبيّ لا يعتبر نفسه مغلوباً دائماً، بل ينغمس في عمق مخزونه المعرفي والنفس- اجتماعي، تحت الأرض وبعيداً عن الأنظار.
هذا ما سميّته التمدّد الجذموري للعصبيّات التي تشبه في نموّها وانتشارها الأعشاب المستعصية التي لا جذور لها، بل سلاسل من العقد المتلاصقة، ولكن المنفصلة حيويا، الواحدة عن الأخرى. لذلك إن اقتلعت عقدة أو عدّة عقد من هذه السلسلة المتشعّبة الاتجاهات، لا يؤثّر ذلك بتاتاً على النبتة، حيث تنبعث نبتة جديدة بعد أقل من أسبوع من الجذمور أو العقدة التي بقيت مخفيّة في باطن الأرض.
وقد اتخذت العصبيّات هذا الطابع الجذموري في فترة لاحقة من تطوّر العصبيّة، أي بعد تواؤمها مع الأديان، وبخاصّة مع المذاهب. حيث قامت، في مرحلة ما بعد العصبيّات العشائريّة والقبليّة الصرفة، بتحسين نوعي لتجذمرها النفسي- الاجتماعي.
لذلك يكون مفعول العصبيّة سابقاً ولاحقاً للنزاعات، أو بالأحرى لأشكال التغلّبات كما يسميها على نحو أدق ابن خلدون، بحيث أن ما حصل من استمرار لاستعدادات الاقتتال بجميع أساليب العصبية في قبرص ولبنان والسودان، هو المصير الحتمي الذي ينتظر السوريين والعراقيين واليمنيين؛ حيث تحوّلت هذه البلدان لأمد طويل إلى أراضٍ تهدّدها هزّات أرضيّة عصبويّة.على الدوام؛ الأمر الذي يعني أنّه لا يعود يكفي الاستشهاد بالمثل اللبناني للكلام عن ظاهرة العصبيّة، إذ إن العالم العربي بمجمله بات يعيش على ما يُشار إليه في لغة الموسيقى بالتيمبو، أي النغم العميق المتواصل.
l ما الذي تراه من علاج للعصبيّات على أنواعها في عالمنا العربي؟ وهل سياسة الوئام قد تكون سيّدة الموقف في هذا المجال. باختصار أي بديل حضاري تقترحه هنا؟ ولماذا؟
uu ينبغي أن نخترع مبيداً للعصبيّات المستعصية؛ علماً أن طبيعة هذا المبيد، كي يكون فعالاً، ينبغي أن تكون حضاريّة، كما يشير إليها سؤالك.
في ما خص تركيب هذا المبيد، لا بد من أن نلجأ إلى مكوّنات معرفيّة أساسيّة. يدخل في المكوّنات العضويّة الأساسيّة المطلوبة:
– فهم جديد للتراث العربي، شرحاً ونقداً ومراجعةً
– فهم جديد للدين يتمحور حول روحانياته وأخلاقياته السامية
– فصل الشأن الديني عن القرار السياسي
– شرح طبيعة العصبيّة في تكوينها ومراميها ورهاناتها
– الدخول في مراجعة مفهوم الاندماج والعمل على مفهوم التكامل
– اعتماد التنوّع الثقافي كمبدأ خلاصي، لا كشعار تجميلي.
أماّ في ما يخصّ رش هذا المبيد الحضاري للعصبيّات الدينيّة والمذهبيّة مشرقاً، والإثنيّة مغرباً، فالأسلوب الأنجع يتمثّل بالعمل التربوي المتكامل: أولاً، في أحضان البيت الدافئة، أي في المؤسّسة العائليّة، ثم ثانياً في المؤسّسة المدرسيّة المعاد تأهيلها على مستوى المناهج، وثالثاً وأخيراً على مستوى المؤسّسة الإعلاميّة، في شقيّها الرسمي والخاص.
لكن ذلك كله، لا حظّ له بالنجاح إلّا بانضوائه تحت لواء دولة عربيّة جديدة تختار صيغة الدولة الحديثة دونما مراوغة او مواءمة أو توافقات. عندها فقط ستبدأ النهضة العربيّة الحقيقيّة التي أفشلت العصبيات صيغتها السابقة، والتي لم يعمل العرب على إبادتها من حياتهم، قولاً وفعلاً، فهي المرض المستعصي العميق. ومنها يبدأ العلاج أو لا يبدأ.. ومنها تبدأ النهضة أو لا تبدأ.