إيريني سمير حكيم
في حالة فنية خاصة من المذاق السايكودرامي، يتغلغل فيلم “الجريمة” من تأليف وإخراج شريف عرفة، في أعماق إنسان، تهشَّمت نفسه ما بين شخصيات أخرى، قضت على مستقبله منذ ماضي طفولته، فمزَّعت أهدافه بين رغبات الآخرين الضائعة، ليعكس بأشلائه المتناثرة، العديد من العقد النفسية المعقدة التكوين، ليس داخل نفسه وحسب، بل وفي دواخل نفوس أخرى من المحيطين بمكونات حياته المتألمة والمؤلمة، ليقدم الفيلم في النهاية تعبيرًا عن نفس تائهة متخبطة في مرايا نفسها المهشَّمة، ودرسًا في قسوة تأثير التنشئة المهترئة القيم والتربية، ليرسم صورة معبرة عن خطورة ما تحمله النفس في الصغر، من براعم إيذاء للآخرين في الكبر، وأشواكٍ مع العمر تكبر، فتخنق بها نفسها!.
وفي تحليل جذور الاضطرابات والعقد النفسية، التي كوَّنت الأحداث التي عاشتها الشخصيات الرئيسية في هذا الفيلم، نجد أنَّ مشكلة “عادل” تبدأ منذ الصغر، حيث اخترق طفولته حدث كالرصاصة العابرة للأزمنة والأمكنة والجثث، وكانت تلك الرصاصة هي خيانة أمه لأبيه، وقتل عشيقها لأبيه في مشاجرة حين اكتشافه للخيانة، فتربى مع جده الذي تخلَّص من حياة والدته انتقامًا لابنه المهدور شرفه ودمه، على يد زوجته الخائنة وعشيقها، وأخذ على عاتقه أن يربي عادل على وقودٍ من الكُره والغل والانتقام.
ومن هنا أصبح “عادل” فريسة نفسه المُهشَّمة على صخرة أحداث عائلته المتناحرة، ليصبح هو نفسه عدوًا لنفسه، متربصًا بها في زوايا مشاعرها وأفكارها، فانقسمت عليه، وأصبح مصابًا بالفصام، الذي أرجح عقله بين الواقع والخيال، في محاولة عقلية غير مباشرة للهروب من أعباء وأثقال الواقع، التي ألقيت على كاهل طفل صغير، لم يكتمل نموه بعد.
ماهية الفصام وتأثيره على حياة عادل
الفصام “Schizophrenia” اضطراب عقلي مزمن وشديد، يؤثر في طريقة تفكير الشخص وشعوره وسلوكه، ومعه يفقد الشخص استيعابه للواقع من حوله وقدرته على التعامل معه؛ ويؤدي إلى اضطراب تدريجي بطيء يصيب الشخصية بالتفكك والتهدم والتصدع، إذ يصبح كل جانب من جوانب الشخصية يعمل وحده من دون تنسيق وتكامل مع الجوانب الأخرى، مما يؤدي إلى تفكك في حياة المريض العقلية والانفعالية والسلوكية، والحركية والجسمية(1).
وللفصام أنواع مختلفة، منها الفصام البارانويدي Paranoid schizophrenia، وهو ما كان مصابًا به عادل في الفيلم، ويعاني مرضى هذا الفصام بالغرق في أوهام أنهم ملاحَقون أو مطارَدون من قبل شخص آخر أو طرف معيَّن، وتكون مصحوبة بهَلاَوِس وضلالات حسية، مثل أنه يسمع أصواتًا لأشخاص يعرفهم، لكنهم لا يتحدثون إليه في الوقت الراهن، وقد تزداد هذه الأعراض سوءًا أثناء العزلة، فمريض الفصام البارانويدي لا يمكنه التفريق ما بين العالم الحقيقي والخيال، لذلك فهو يؤدي إلى اضطراب العلاقة مع العالم الخارجي، فينسحب مريض الفصام من الواقع، وينخرط بعالمه الذاتي والداخلي، أما عن سبب نشوء الفصام، فتوجد دلائل علمية تثبت دور العوامل النفسية، حيث يسبق الأعراض الفصامية عادة ضغوطات نفسية شديدة، مثل انفصال الوالدين أو وفاة أحدهما في سن صغيرة(2).
وفي هذا نجد الطفل عادل، تنقسم ذاته ما بين الوعي واللاوعي، والواقع والخيال، ويصبح مُمَزَّع الحضور بين اشتياقه واحتياجه لأمه، وكُره جميع من حوله لها، فاحتضر إدراكه أمام هول الأحداث، وانفصم عقله، كما انفصمت مشاعر قلبه، بين عاطفتين الكُره والحب الدفين لأم فقدها إلى الأبد، وأب ذُبِح حضوره معنويًا وفعليًا أمام خيانة والدته وعواقبها، فالأب والأم قد قُتِلا، ولم يبقَ سوى جده، الذي طالبه بما هو أقوى من كيان أي طفل، فارتدى عادل قناع الكُره، على عقل يحفل بالفصام، فانطوى وانعزل عن الواقع أكثر، وانخرط ببطولة وهمية في عالم المخدرات في الكِبَر، لعله يجد في واقعه السري شعورًا بالوجود والحضور والتأثير، ليكون هو البطل فيه، وليس جده أو والده أو أمه، محاولًا أن يكون هو القائد والمسيطر في عالم خلقه لنفسه، يحفل ببطولات لا يتمتع بها في الواقع والعَلَن، الذي يفقد فيه القدرة على التواصل بشكل طبيعي، ويَظهَر فيه أعراض مرضه دون سيطرة منه على نفسه، فهرع إلى عالم يسيطر هو فيه على الآخرين لا العكس، فلقد فعل بنفسه ما فعله عقله معه، وهو التأرجح بين عالمين!.
تخلل عقدة نفسية أخرى ذات وجهين متناقضين
لم تتوقف حياة عادل في عبورها من الطفولة للنضج، عند عقدة الوجود، والبحث عن تحقيق هدف الحضور في الحياة، التي أجبرته على مسح شخصيته وماضيه، ومع فقدانهما فقد التواصل مع حقيقته ومستقبله، فلقد كانت هناك عقدة نفسية أخرى تنخر في كيان عادل، إبان عبوره لمراحل عمره المختلفة، وهي: البحث عن والدته في امرأة أخرى، في زوجة!.
يقال إن الرجل يسعى إلى الارتباط من امرأة تتشارك في مجموعة صفات وطبائع مع أول امرأة أحبها في حياته، أو كان منوطًا به أن يحبها!، وهي أمه، فهذا هو ما توصل إليه باحثون في جامعة تروكو في فنلندا، حيث أجروا دراسة شملت 70 رجلًا وامرأة، قاموا فيها بمقارنة وجه الشريك بوجه المعني بالأمر، فقارنوا وجه الرجل بوالد الفتاة، وقارنوا وجه المرأة بوالدة الرجل، لمعرفة الشبه بين زوج ووالد المرأة، وزوجة ووالدة الرجل، لكن النتائج كانت أنَّ الأزواج لم يكونوا يشبهون آباء الزوجات لا من قريب ولا من بعيد، لكن الرجال في المقابل اختاروا الزواج من نساء شديدات الشبه بأمهاتهن، وفق ما نشرت الباحثة “أرزولا مارتشينكوفسكا”، الأستاذ في علم النفس التطوري في الجامعة التي قامت بالدراسة(3).
وفي هذا يرى بعض الباحثين النفسيين، أنَّه انجذاب يرتبط بصورةٍ ما لتطور نفسي باطني، متعلق بعقدة أوديب التي رسَّخ لنظريتها العالم النفسي سيجموند فرويد، وفيها يميل الطفل الذَكَر لأمه منذ الصغر، ويرتبط بها ارتباطًا يجعله يشعر بالغيرة من والده، لأنَّه ينافسه في التصاقه بها واهتمامها به، وفي هذه الفترة يتشكل القالب الفكري الأساسي للطفل، ومفهومه عن جنسه ودوره الاجتماعي.
من المفترض أن تنتهي عقدة أوديب عند الأطفال بمجرد بلوغ العام الخامس، حيث يدرك الطفل في هذه المرحة العمرية، أنَّه لا يمكنه أن يكون مكان والده، ومن ثم يبدأ في تشرب صفات والده، والتأثر بسماته الشخصية والسلوكية.
ولكن في حال ما لم تمر هذه المرحلة بشكل طبيعي لدى الطفل، فإنَّها قد تؤدي لشخصية مرضية، وتتسبب في “قلق الانفصال”، وهو اضطراب نفسي يصيب بعض الأطفال، ويتمثل في الخوف من ابتعاد الطفل عن أمه، والذي بدوره يتسبب في تطور مرضي آخر وهو “الرهاب الاجتماعي”، فيخاف من الاندماج، ويفقد الرغبة في التواصل مع المجتمع، فيفشل في إقامة صداقات طبيعية مع الآخرين، حيث يكون طوال الوقت ملاصقًا لوالدته، وغير قادر على الانفصال والاستقلال عنها.
لهذا قد يبحث الطفل عندما يكبر عن شريكة حياة تشبه والدته، حيث إنَّ أول اتصال للرجل مع المرأة ممثل في قربه من والدته، فإنَّ الأم بالنسبة له تعتبر نموذجًا يرغب الرجل في السعي له من اختيار زوجته، لتكون شريكته في الحياة، فهو يرى في زوجته نسخة مُحدَّثة عن والدته، فكلتاهما تهتم بمأكله ومشربه ونومه وسعادته.
عقدة أوديب بوجه متناقض مع نمطيتها
وهذا التطور الأوديبي في نفس الذَكَر، لا يتعلق بعاطفة الحب وحسب، بل بمشاعر الكُره أيضًا، وبتوصيف أدق، الكُره الذي يحمل في اللاوعي مشاعر دفينة للحب، أو رغبة خفية في إصلاح العلاقة، وذلك وفقًا لرأي البروفيسور “ويليام بولاك”، الأستاذ في كلية الطب في جامعة هارفارد الأمريكية، الذي يرى أنه “إذا ما كان للرجل علاقة مضطربة أو متضعضعة مع أمه البعيدة عنه، أو المقصرة أو المهملة، فإنَّه غالبًا ما سيختار زوجة بدون وعي منه تشبهها، في رغبة لا شعورية منه، لإعادة إصلاح أو ترميم ما تحطم في العلاقة بين الرجل وأمه، لكنه غالبا ما يفشل، لأن تلك المرأة لو كان يمكن إصلاحها، لفعلها والده”(4).
لهذا نجد عادل الوارث الكُره لأمه، كان يبحث بلا وعي عن امرأة تشبهها، فانجذب لـ”نادية”، وتعلق بها في لحظات، هي التي كانت كما قال “كل حاجة غلط”، ولكنَّه دون وعي لم ينجذب ويقترب منها وحسب، بل تزوج وأنجب منها، فلقد حمل عادل في نفسه عقدة أوديبية صميمة، متخذة صورة مغايرة عن الحالة التقليدية لعقدة أوديب، فلقد عاش طيلة حياته على أنَّه يكره أمه، ولكنَّه كان في الحقيقة طفلًا تائهًا يبكي أمه التي تركته في شوارع الحياة وحيدًا، كان يلعنها بلسانه، ولكن قلبه وعقله المشتتين، كانا يسألان وجودها ويصرخان مناديين عليها في صورة أي أنثى تشبهها، ولهذا عندما وجد نادية عانق وجودها بكل ما فيه من كُره وحب، وهكذا التصق عادل الفصاميّ العقل بنادية المضطربة نفسيًا باضطراب الشخصية النرجسية!
النرجسية عمومًا والمرأة النرجسية خصوصًا
وتعني النرجسية حب الذات والأنانية، وهي اضطراب في الشخصية يتميز بالغرور والتعالي، ومحاولة الكسب، ولو على حساب الآخرين، يكون لدى صاحبها شعور مبالغ فيه بأهمية الذات، وأوهام النجاح والقوة والإعجاب المفرط بنفسه، الذي يجعله يؤمن بأنَّه شخص فريد من نوعه، وشعوره دائما بأنه يستحق الأفضل، لذلك يصل معه الأمر أن يكون استغلاليًا ويحسد الآخرين ولا يتعاطف معهم، ولهذا يُعتبَر النرجسيون سوط عذاب لمن حولهم، وكل من يقترب من دوائرهم الشخصية، فهم يملكون ميلًا مهولًا للخيانة رجالًا ونساء، وذلك لأنَّهم يعتبرون أنفسهم الأكثر جاذبية وقدرة جنسية، ويعتبرون شركاءهم مجرد انعكاسات لرغباتهم في زيادة شعورهم بالفخر نحو أنفسهم والتلذذ بالذات!(5).
أما عن المرأة النرجسية بشكل خاص، فهي تتمتع بشخصية ساحرة في معاملاتها، فهي دائمة الابتسامة، لكن ابتسامتها تُخفي وراءها ثعلبًا خطيرًا، مهووسة بمظهرها الخارجي، فهي بحاجة مستمرة إلى من يمدحها ويبجلها، ويسيطر على تفكيرها الاعتقاد بأنَّها رفيعة المستوى والكل يغار منها، لديها دومًا شغف مشتعل لحب السيطرة والهيمنة على جميع من حولها، تفتقر التعاطف مع الآخرين، ضاربة بمشاعرهم عرض الحائط، لا تستطيع قبول النقد أو اللوم مطلقًا، وتتلذذ بكسر القواعد والمعايير الاجتماعية(6)، وفي الزواج تكون مخادعة دائمًا، ومنتقدة للزوج طوال الوقت، تستغله كواجهة اجتماعية فقط دون مشاعر حب حقيقة أو امتنان، فتعامله أمام الناس بشكل مختلف تمامًا عن حقيقة واقعهما الزواجي، لتُظهِر مدى سعادتها هي وزوجها، حتى يغار من يراها من الرجال ويحسدوه، ليتمنوا جميعًا أن تكون زوجاتهم مثلها!، وذلك فقط حتى تعطي رسالة للجميع أنَّها ناجحة في اختيارها وحياتها، ولكن في الواقع هي أول من تهينه، وتُحقِّر من دوره في حياتها الشخصية وحياتهما الزوجية.
والعلاقة الحميمية بالنسبة للنرجسية، هي ليست مشاركة حب، بينما هي أسلوب للتملك والتعلق والسيطرة، فقد تبادر الزوجة ذات الشخصية النرجسية بإغواء وإغراء زوجها، لأن ذلك يعنى بالنسبة لها مدى قوة التأثير والسيطرة على الزوج، بل وقيادته كليةً، والتلاعب به كخاتم في إصبعها(7)، فالأمر بالنسبة لها لعبة لتركيع الرجل لها عن طريق رغباته الجنسية، والاستمتاع بتغذية ذاتها المريضة بشعور الرغبة والتبجيل المعنوي والحسي، وعدم القدرة على المقاومة والرفض.
ويعود سبب هذا الاضطراب إلى الطفولة، ربما يكون لسبب وراثي، فقد يكون أحد الوالدين يعاني من اضطراب الشخصية النرجسية، أو لسبب حدوث صدمة في فترة الطفولة، مثل الإيذاء الجسدي أو الجنسي أو اللفظي، يزيد من احتمالية حدوث هذا الاضطراب في الشخصية لدى الطفل أو الطفلة.
نادية النرجسية
إنَّ هذه المواصفات التي ذكرها علم النفس، لتوصيف المرأة النرجسية بشكل عام، تتجلى بحذافيرها على سمات شخصية نادية، في نشأتها ونشأة هذا الاضطراب النفسي بداخلها، حيث تعرضت في بداية طفولتها للإهمال والتهميش، والتربية غير العادلة بينها وبين أخيها الذكر، وتمييزه عنها بامتيازات خاصة من قبل أب نرجسي وأم خانعة، فورثت عن أبيها النرجسية هربًا من أن تكون نسخة مكررة عن أمها عديمة الشخصية.
ومن ثم قررت بطموحها السوداوي أن تحطم كل عراقيل أمام مصلحتها الشخصية، بفاعلية الغِلّ النرجسي، الذي مكَّنها من تدمير علاقات من حولها ببعضهم، حتى أصبحت هي الوحيدة محل الثقة والتدليل والاحترام، بتطبيق نظام فرِّق تسُد، لتبقى هي الوحيدة الصامدة في حياتها ونجاحاتها، مسيطرة على الجميع وممسكة بمقاليد التحكم في كل شيء، في البيت والعمل، وذلك بسبب تمكنها من السيطرة على القائد النرجسي في حياتها، أبيها، فقد كشفت أسراره، وجعلته يظن أنَّها حافظتها الوحيدة، وسهَّلَت تمرير رغباته النرجسية على حساب أمها، لضمان ولائه وتعزيزه لها على حساب أخيها، وكل شخص وأي شيء، سيطرت عليه فسيطرت على كل شيء.
واستمرت نادية في حياتها لصيد غرائز رجال، لتُغذي لديها شعور الشبق الذاتي للتلذذ بالذات، حتى اقتربت من عادل نكاية في آخر، واستمرت في علاقاتها المشبوهة بالرجال حتى بعد زواجها منه، كانت تحاول التقرب من خطيبها السابق، بعد أن تزوج وأنجب من أخرى، والذي رفضها للمرة الثانية عند تقربها منه في حفل عيد ميلاد ابنها، وكشف لها معرفته بحقيقة محاولاتها، وهي الرغبة في التسلط والتملك لأنَّ هو من تركها سابقًا لا هي، قائلة له “أنا ماترفضش”، وعندما رفضها سعت للانتقام منه أمام الجميع أثناء الاحتفال، وهذا تصرف طبيعي جدًا بالنسبة للمرأة النرجسية فهي تفتقر للشعور بالآخرين وبقيمة العلاقات، فهي ليست أمًا بالمعنى السويّ، إذ تستخدم الجميع لتحقيق مصالحها حتى لو كانوا أبناءها!.
ولم تكن علاقتها بزوجها سوية على أية حال، بالرغم من كل محاولات عادل للحفاظ عليها، وإعطائها فرصة للتغيُّر بعد الزواج، فقد كان يعلم كيف كانت قبل أن يعرفها، وماذا تكون في أعماق نفسها السوداء، ولكن محاولات الطفل المقيَّد بعقدة أوديب، القابع في أعماق نفسه، باءت جميعها بالفشل، فقد كانت تُحقِّر منه دائمًا وتنعته بالرجل الضعيف أو منعدم الرجولة، ولم تأبه بكشفه لخياناتها، بل مهددة إياه بالمقابل، بفضح سر فصامه.
كان عادل أسيرًا أوديبيًّا لصراع بين فصامه ونرجسيتها، وفي لحظة انتقام قرر عزلها عن الحياة، بالسجن مدى الحياة في قفص كما الحيوانات المفترسة، تاركًا لها ميكرفونات يتحدث لها من خلالها ويستجوبها لمعرفة حقيقة ما بداخلها، ليكون وسيلة دفاع عنه أمام ابنه في المستقبل، مانعًا نفسه عن قتلها، لكي لا يواجه ابنه نفس مصيره عندما قُتلَت أمه، لقد كان عادل يحاول أن يسيطر على الواقع، محاربًا كل الأمراض النفسية التي تحاصره من كل الجهات، تلك الأمراض التي كانت تسكن الشخصيات المحيطة به، في النطاق البعيد والقريب، في الماضي والمستقبل، بل أيضًا الأمراض النفسية والعقلية التي تنهش أعماقه هو نفسه!.
استحضار الروح الكارمينية
وفي تجسيد المأساة العاطفية والحسية بين عادل ونادية، استوحى عرفة من رواية “كارمن” الشهيرة لبروسبير ميرمييه، بعض السمات التجسيدية الفنية لشخصية “كارمن”، لاستخدامها كإسقاط على شخصية نادية، وكذلك علاقتها بـ”خوزيه” أي عادل، وظهر هذا كطيف خفيف في الملبس، من حيث اختيارها للون الأحمر في أغلب ملابسها، وشعرها المموج، وتركز هذا الإسقاط بشكل أكبر وأوضح في سمات شخصيتها، وانعكاسها على خوزيه وتعامله معها، وانعكاسه في بعض الأحداث والحوارات بينهما، وعلى سبيل المثال نجد ذلك الاستلهام، في تعبير عادل عنها في وصفها “كانت كل حاجة غلط”، وأنه كان من المفترض ألا يقترب منها، ولكنَّه اقترب واقترب، وهذا هو ما حدث بين كارمن وخوزيه بالفعل، وعبَّر عن ذلك خوزيه بنفسه عن كارمن قائلًا:
“سحرتني فلم أحفل بشيء”، ليستطرد قائلًا: “وتناسيت أوامر رؤسائي وتناسيت كل شيء”
(8)، فلقد تناسى عادل كذلك، أوامر جده، بألا يتزوج من امرأة على شاكلة أمه، وتناسى تحكيم العقل ليتراجع عن انجذابه لها، فلقد كان من الحكمة والمنطق، ألا يكرر خطأ والده، ونتائجه المأساوية.
كما نجد ذلك في وصف كارمن بنفسها عن نفسها لخوزيه: “صدقني أنك بخير طالما كنت بعيدًا، لقد وقعت على الشيطان بعينه ممثلًا في شخصي”، ولطالما ذكر عادل هذا الوصف عن نادية في الفيلم، ومن الجدير بالذكر أن هذا ما يصف به متخصصون، الرجل أو المرأة النرجسية على المستوى النفسي أو الاجتماعي، ثم يُصِّرح خوزيه مُعلِّقًا على تذكره لتحذيراتها هذه له، معترفًا: “وكانت على حق فيما قالت، ولو أنني ترويت وحكّمت العقل، لكان خليقًا بي ألا أفكر فيها ثانيةً، ولكنني لم أعد أفكر في سواها ..”(9)، وهذا يُكمل تجسيد الحالة التي كان عليها عادل، والتي ذكر فيها أنَّه ترك كل حذره من الاقتراب والارتباط، من امرأة شبيهه لوالدته، ولكنه لم يستطع سوى أن يقترب منها ويرتبط بها بالفعل.
وكذلك في استعداد نادية للموت على يدي عادل، بكل تبلد ولا مبالاة، صارخة فيه “اقتلني”، فلقد حدقت كارمن في عيني خوزية، طالبة منه ذلك، عندما أدركت أنه كان ينوي قتلها(10).
ولقد كان توظيفًا في محله لـ”تيمة” الشخصية الكارمينية في الأعمال الفنية، من شريف عرفة في هذا الفيلم، العاكس للمد النرجسي والجزر الأوديبي، المُجسَّدين في شخصيتي بطلي العمل، فظلال كارمن في الأعمال الفنية المختلفة، غالبًا ما تُستخدَم كإشارة للمرأة المتمردة غير المكترثة، ولو أنَّ مثال نادية هنا، أشد حقارة من جوانب شخصية كارمن!، فكارمن بالأساس هي شخصية غجرية تُقدِّس الحرية، شأنها شأن بقية أبناء جنسها من الغجر، وكان الكثير من تصرفاتها ينتمي إلى تقاليد غجرية، وأعراف طبيعية بالنسبة لقومها، والتي لم تكن بدافع النرجسية بحد ذاتها، إنَّما بدافع اللاانتماء الذي كان من المبادئ المقدَّسة للغجر!.
وتأكد ذلك في قول خوزيه في نهاية القصة، بعد اعترافه بقتلها، إنَّها: “مسكينة .. كانت تستحق أن يُصلي الرجل من أجلها .. فما كان ذنبها أنها عاشت تلك الحياة التي عاشتها.. وإنَّما كان ذنب النَّوَر الذين أنشأوها تلك النشأة”(11).
أما نادية فقد استعرض عرفة نشأتها، وأسباب قسوتها ودونيتها النفسية، إلا أنَّه وجدها مستوجبه الموت في حبكة الفيلم، حتى وإن كان هذا بغير يد عادل، لكن من دون أن يؤثر دراميًا لتحقيق الميل إلى الشفقة نحوها!، فلقد كان استعراضًا لأسباب التشوه النفسي في طفولتها وحسب، دون إشفاق على الرغبة الشيطانية الواعية، التي كانت تنغرس في كيانها بإرادة مُدرِكة.
لقاء لاضطرابين على
أرض النشأة المشوَّهة
كان لقاء عادل بنادية، هو لقاء بين اضطراب دماغي مع اضطراب نفسي، تسبب فيه عقدة نفسية دفينة، أوديبية مُقنَّعة بقناع الكُره والنفور من الأم، مستترة تحت طبقات سنينية سميكة من البُغض، والرغبة الوهمية في الانتقام، يسكن في جذورها حب دفين ورغبة في الملاقاة والمصالحة.
لم تكن نادية هي المقصودة من اللقاء، بل كانت الأم لعادل، ولم يكن عادل لنادية هو المقصود باللقاء، بل رجولته المُحتاجة إليها، هي مراد نادية ومقصدها، كاحتياج مؤقت لتحقيق كيد نرجسي خالص.
أوجَد عرفة هذا اللقاء ليتحدث من خلاله، عن أهمية التربية ومدى تأثير النشأة، على التكوين النفسي في فيلم الجريمة، باستعراض حياة ثلاث شخصيات رئيسة، هم عادل الذي كان ضحية لخيانة أمه، والتربية الناقمة العدوانية لجده، ونادية ضحية نرجسية أبيها وخنوع والدتها، وابنهما حسين الذي كان ضحية للتشوهات النفسية لأبيه ولأمه، وكان مصيره أنَّه قُتل في طفولته، قبل أن يدرك الحياة التي عليه أن يحياها في أمان وسوية!.
محاولة فنية جيدة لها ثغراتها ونقاط قوتها
يعتبر الفيلم محاولة جيدة لمناقشة الأمراض النفسية، ولكنَّه ينال تقديرًا خاصًا، لأنَّه قام بعرض ترابط وتشابك بين تلك الأمراض، وتقديمها بصورة هادفة، حيث جعلها ضوءًا مُسلَّطًا على دور التربية والنشأة، فتحليل وتفصيل المرض هو في حد ذاته جزء كبير من العلاج.
ولكن بالرغم من الإبداع في جوانب العمل، والمجهود المبذول فيه على كافة المستويات، إلا أنه تخلله بعض الثغرات ونقاط الضعف، حيث افتقر الأداء التمثيلي إلى قدر من التفاصيل التعبيرية النفسية، في بعض المشاهد التي كانت في احتياج لاجتياح مناطق نفسية خطيرة وعرضِها للمُشاهد عند كلا البطلين، حيث احتاج الأداء إلى دراسة تمثيلية نفسية أعمق، لدواخل الشخصيات المُجسَّدة، بالنسبة لدور أحمد عز نجد قدرًا كبيرًا من الإجادة والاجتهاد الواضح في الأداء، والقدرة على التحدي بالظهور في قالب جديد عن أدواره السالفة، ولكن احتاجت شخصيته بعض التفاصيل الخاصة بحالة الشخص الفصامي، فلقد تمكَّن من تجسيد بعضها، ولكن مازال الدور مفتقرًا لبعض آخر منها.
وكان أداء منة شلبي مندرجًا أيضًا تحت هذه المشكلة، ولكنه كان أكثر تورطًا فيها، حيث كان أداؤها مناسبًا فقط في حالات الوضوح النرجسي، من الغضب والعصبية والتلاعب الواضح، لكن هناك أعماق شيطانية كما وصفها الفيلم، كان لابد من أن تظهر بحذر أكثر من الوضوح والمباشرة، التي ظهرت بها طيلة المشاهد كامرأة لعوب وعصبية وأخت تتشاجر مع أخيها، فالشخصية النرجسية وتلاعبها يحتاج إلى تعبيرات مستندة على دراسة أكبر للتفاصيل المرضية، ليكون الأداء انعكاسًا للواقع، وفي هذه الأزمة المنتسبة لأداء البطلين في بعض النقاط، لا يُستثنى من مسؤوليتها، دور كتابة النص من سيناريو وحوار لمحمد محرز وأمين جمال، والإخراج لعرفة، بالرغم من تقديمهم لمناطق أخرى نفسية في الفيلم، بإتقان وحرفية حقيقية.
كما احتاج النص إلى بعض التوضيحات اللفظية، للإشارة إلى التعريف بهذه الأمراض النفسية والعقلية التي يناقشها الفيلم، حتى وإن كانت إشارة مختصرة وغير تفصيلية، فغياب هذا قد تسبب في التقليل من تقييم الفيلم، من قِبَل الكثير من المشاهدين، وهذا أمر ظالم كثيرًا للمجهودات التي بُذِلَت فيه!، فليس من العدل الفني أو الحكمة الدعائية، أن يتم وضع المسؤولية الأكبر على المُشاهد، في تجميع خيوط المعاني المُرسلة كلها في الفيلم، برمزياتها وحقيقة مسمياتها، وذلك لم يكن يضر بجانب التشويق على الإطلاق، ولكنَّه أمر لابد منه، لأنَّ العمل ليس موجهًا لمتخصصين نفسيين، وليس منوطًا بكل مُشاهد أن يكون قارئًا جيدًا في هذا المجال، ليتمكن من تحليله والقدرة على الاندماج فيه، ولهذا وجد الكثير من المشاهدين فجوات درامية وغير منطقية في الأحداث، وفي بعض انفعالات الشخصيات ودوافعهم، لذلك ولأنَّنا بصدد محاولة فنية صادقة، نريد تكرارها بأفضل مستوى لها يمكن أن يكون، ومن الجيد أن يؤخَذ في الاعتبار هذه الملاحظات، لأداء أدوار نفسية قادمة أكثر محاكاة وتصديقًا، لتأثير أكبر وإفادة أكثر.
كذلك قد تبين الاجتهاد التمثيلي في أداء بقية الممثلين، أيًا كان حجم الدور، وعلى رأسهم أداء الفنان رياض الخولي في دور الجد، والذي لم يكن دوره سوى مشاهد قليلة وصغيرة جدًا في الفيلم، إلا أنَّه كان شيقًا ومكتملًا ومؤثرًا، والذي استطاع به أن يجسد ملامح شخصية توحي للُمشاهد من بعيد، أنَّها شخصية نرجسية، ربما تكون قد أدت بسيطرتها المريضة والعنيفة إلى ضعف شخصية ابنه، أي والد عادل، ولربما كان هذا السبب الرئيس في كونه فريسة سهلة لشخصية نرجسية، أي أم عادل، التي ما كانت نادية إلا تكرارًا تعيسًا لها.
وكذلك الفنان ماجد الكدواني، الذي يقدم دور ضابط بصورة مختلفة تمامًا، عما قدمه في أعمال أخرى من قبل، ولقد استطاع أن يُقدِّم من خلاله حضورًا إنسانيًّا سويًّا في حياة عادل، برغم أنَّه كان مُطارِدًا حقيقيًّا له، وليس عدوًا داخل عقله فقط، فقد كان في مَكَانة تجعله مسيطرًا عليه، ومتحكمًا بمصيره، أكثر مما كان عليه جده أو أمه القابعة في مشاعره وعقله، ولكنَّه كان أكثر رفقًا ورأفةً به، وأكثر تعاملًا إنسانيًا داعمًا له، حتى على المدى البعيد في حياته.
لقد كانت هناك فرصة جيدة لاستغلال موهبة الفنان القدير السيد رجب، ولكن النص لم يُعط أبعادًا للشخصية تسمح بإظهار بصمته الإبداعية الخاصة، التي كان من الممكن تحقيقها، حتى وإن كانت مساحة الدور صغيرة، وفي دور الطبيب النفسي تميز أداء الفنان نور محمود، بإجادته السَلِسَة للأداء، وذلك كعادته الأدائية، كما أن نمط شخصيته وطريقة كلامه ونبرة صوته الشخصية، التي تبدو في الطبيعة وكأنها تنتمي لزمن الستينيات والسبعينيات، جعلته مناسبًا لهذا الدور نمطًا وتمثيلًا، وكأنه أحد أطباء السبعينيات بالفعل، أما في دور توفيق خادم عادل، فقد كان أداء الفنان محمد جمعة مُشبعًا بتعبيرات الوجه ولغة الجسد، التي يبدو كم حرص على توظيفهما جيدًا بكثافة وتنسيق، في إظهار جوانب شخصية الفيلم وانفعالاتها المختلفة والمتنوعة.
ولقد دعمت موسيقى المبدع أمين بوحافة هذه الأجواء الحافلة بالتشَّوُش والغضب والغموض، وكانت السينوغرافيا من ملابس وديكور، متقنة التفاصيل، جيدة العناصر.
التحرر من عقدة الخواجة
فيلم “الجريمة” من الأفلام السايكودرامية، التي يتضح فيها الاجتهاد في كل جوانب العمل، وتستحق الإشادة بمحاولاتها الجادة في كافة التخصصات السينمائية العاملة في الفيلم لما وَصَلَت له من عمق، بل تستحق التقدير على نحو خاص لمَا قدمته من مستوى درامي نفسي، حافظ على الأجواء المحلية لصناعة الفيلم، فلم يُجِد شريف عرفة استخدام عصر السبعينيات، لتوظيفه كساحة لأحداث الفلاش باك الخاص بزمن تنفيذ الجريمة وحسب، ولكنَّه أجاد أيضًا أن يقدمه دون وجود نزعة أمريكية مسيطرة على طريقة إخراجه، أو على أداء الممثلين، أو مكونات تنفيذ العمل، وهذا أمر أرى أنَّه من السهل الممتنع، قام به مخرج مخضرم يعرف كيف يقدم عملًا مصريّ الروح، يشتهر بمناقشته الأفلام الأمريكية، وذلك لأنَّه يعرف كيف يستخدم الأدوات المتاحة له بحرفية، ويحمل مبدأ خاصًا به، غير لاجئ للرائج لنوال رضا جمهور بعينه، وهذا ما هو إلا امتداد لانسيابية الروح المصرية الخالصة في أفلام شريف عرفة، التي يهمشها ولا يهتم باتباعها أو يدرك قيمتها الكثير من المخرجين الشباب المشهورين في الآونة الأخيرة، وهذا في الحقيقة، ما هو إلا عقدة “نفسية واجتماعية” نُطلِق عليها “عقدة الخواجة”!.