– أين نحن، الآن، يا باء؟
– نحن على مفترق الطرق، يا ألف.
كان (ألف) يتلوى، وكان اليوم، وكان به مغصا لا رواح منه، كان يتطلع إلى الفضاء المحيط به بعدائية واضحة، وكأنه ملوث بالدم، وعندما أبدى رغبته الصارمة في زيارة الأسواق، من جديد (وكأنه بذلك سيرد الرد المناسب والحاسم على طلائع دمشق الذين سبق ذكرهم ) لم يبد أي من "الربع" تحمسا لذلك، مع انهم لم يجرؤوا على الاعتراض عليه، أيضا. وهو ما حدا "بابن الوراق " الى أن يعلق بلآمته المعهودة : "كيف يسير أمور الناس من لا يمكن الاعتراض على رغباته وأهوائه "؟
لا لم يكن (ألف ) في وضع يسمح لأحد بالاعتراض عليه! كان التجهم البادي على قسماته لا ينبئ، إلا بالاضطراب، باضطراب قاهر لا يتصل، ولكن، أي اضطراب كان يتخل أحشاءه ليبدو هكذا، للعيان ؟ كنت أتملاه، ذاهلا، وأنا أستعيد، بالرغم مني، كلمات "ابن الوراق" العتيدة : "الحاكم بحر" أو هكذا يجب أن يكون، بحر لا تعكره الريح العارضة، ولا تلهيه القربي عن القصاص". والذي كان يضيف متبهورا باستياء: "ولكن، أنى لنا بمثل هذا؟"
ذلك النهار، تصر ألف أبهة الضوء بتصميم، وقربه تحلقنا ممتثلين، كنا نتداور حوله مثل أفراخ القطا في الحماد، تلك التي كنت اصيدها بنعومة وعلى الجمر أشويها ن اشويها وأنا أثرثر معها بلا انقطاع، وكأنها كانت بحاجة ملحة الى سماع كلماتي، أنني أقدم لها خدمة بذبحها والتهامها، من أين كنت سأكل لولاها، ومن أي جرن سأشرب ؟ كان وجودي مرتبا بوجودها. وحياتي بموتها تبا لما من حياة !
ذلك اليوم، وقف أن، بجلال، في قلب الفضاء الدمشقي، وهو يتساءل
بامتعاض (اين نحن..)، مع انه كان يعرف الجواب، سلفا (كما صرت أعرف الأن )، لكأنه بسؤاله المغرض، هذا، كان يريد أن يتخلص من أذى حل، عنوة، عليه.
كان يتساءل، وهو يتملى المكان،حوله، بحنين، وأنا لن يرده إلى الأبد! مكان حدد هو، نفسه، مسبقا، عتبات حريته ورؤاها، حدد موانعه، ومسامحه، وقنن إطروحات تجاوزها، وحدود خرقها، أيضا، لم كان
يتساءل، في وجه العالم، بمثل ذلك الارتباك، إذن ؟ أيكون اكذب على
الذات أموا كونيا حقا؟ أيكون سهلا الى هذا الحد؟ كيف لي، بعد الآن، الركون إلى ما أرى وأسمع ؟ الى ما أحب وأكره؟ الى ما أناصر وما أناحر؟ كيف لي أن أثق بالضوء وبالصوت ؟
اللعنة !
في ذلك الجو من التوتر والاضطراب الغامر، رد باء بهدوء، وتصميم : (نحن على..) رد بتهيب وحذر، وكأنه يزن كلماته لئلا تسقط منه على القاع، ومع ذلك، كان نوع من الرعب الخفي يملأ نفسه، نفسه التي بدت وكأنها تريد التخلي عنه، وهو يرغمها على الصمود، يرغمها، متمثلا
قول "الخارجي" الحكيم : أقول لها وقد طارت شعاعا من الابطال ويحك لا تراعي. فانك لو طبت بقاء يوم عن لأجل المسمى لن تطاعي، وما للحي خير في حياة اذا ما عد من سقط المتاع.
ووجدتني أتساءل، مضطربا، أنا الأخر، وكأنني أصبت بالعدوى،بعدوى الرعبة والخوف : أي القسمات في الكائن يكشف عن الكذب ؟ وأيها يشف عن الصدق ؟ أتساءل صامتا، وحزينا، وأنا ألاحق الارتكاسات، ولكن ما جدوى تساؤلاتي، وأنا طيع ومريع ؟
وفجأة، تدخل جيم،تدخل شارحا، بلطف كبير(دون ان يطب منه أحد ذلك )، قالعا تساؤلاتي التي مللت من تكرارها:
– من هنا (وأشار إلى يساره ) أسواق الحرفيين : الحدادين، والحذائين، والخشابين، والنجارين، والدباغين، وبائعي الخردوات، وذوي الاسمال، والقمامين، وغيرهم، ومن هنا (وأشار الى يمينه ): أسواق الصياغين، والجواخين، والذهابين، وأهل النقد والورق، وخزاني البر والحنطة والبقول، والتجار على اختلاف مذاهب تجارتهم، تجار دمشق الذين هم عمادها وركنها الأساسي.
وبعد أن سكت قليلا، أضاف، بنوع من التحدي المعلن : وإن رأى المغرضون الأمر على خلاف ذلك.
صار (دال ) يمد أطرافه بعيدا عنه، ويلمها باستياء اليه، لكأنه كان يريد أن يلفت الأنظار إلى ما كان يملأ احشاءه من كلام. من كلام لم يعد قادرا على حبسه، لكأنه صار يريدهم أن يروا ما كان يراه هو، وحده، دون غيره من الناس، حتى انني سمعته يتمتم دون أن أفهم مما كان يقول شيئا!
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يفوتني فيها تفسيره إلإ أنها كنات المرة الأساسية، كما أسست، ووجدتني ألوم نفسي حانقا، مرددا قول "ابن الوراق" اللئيم : "كيف يمكن أن يكون المرء، غبيا الى هذا الحد، ومغلقا"؟ كنت أعرف انني مازلت بيدا، بعيدا جدا، عما كنت أطمح إلى الوصول اليه، إلا أن ذلك لم يخفف من كربي شيئا، ولأول مرة شعرت أن "نقطة الوصول" (إن كان ثمة وصول ممكن، أصلا، كما يقول ) لم تعد تهمني بقدر ما صار يهمني السبيل اليها، والسير فيه.
وسط ذلك الحصار، احسستني وحيدا ومعزولا! أتطلع من وجه إلى وجه، دون أن التقي بتعبير يفرج الغم عن نفسي، لا، لم أكن مهيأ، بعد، لاستقبال المعارف والأفكار التي كانت تتطاير حولي.
تنطاير في الفضاء، معلنة عن كل شيء: عن كل ما كنت احسبه خبيئا، وبلا قرار، وهو لم يكن سوى البداهة، نفسها! ولكن…
وكأن ألفا لم يسمع مما قيل شيئا، سأل باء، من جديد، سأله بترو كبير، وكأنه في حيرة حقيقية من أمره :
– ومن أن تريدنا أن نمشي، الأن، يا باء؟
– الطريق التي تسلكها، هي طريقنا، يا ألف.
قال باء عاى الفور، وكأنه قد حضر الجواب من قبل، وإن هل ألف واقفا في مكانه بلا حراك، ماذا حدث من بعد؟
أسست ان جيم يريد أن يسحبنا، أولا، الى سوق الصاغة والمرابين، أهل النقد والورق، وجماعي المال و"الأهوال" (على حد قول ابن الوراق العليم ) إذ رأيته يقوم بحركات مدروسة بدقة لا تترك مجالا للافلات منها، وقام
(دال )، على الفور، بغيرها!
ملأتني أفكار وتصورات، ملأتني مفاهيم شتي حولا، وحولهم (وحولي)، كنت أريد أن ألم، خلال لحظات (هي من التسارع والفوت، بحث لا يكن لأحد أن يم، خلالها، بشيء) باشياء كثيرة، أشياء كانت قد فاتتني منذ أمد طويل، بم كنت أريد أن ألم، في الحقيقة، إن لم يكن بأحداث حياتي البائسة التي لم يلتفت أحد اليها، حتى ولا أنا نفسي ؟
وهل كان بامكاني أن أفعل ذلك، وأنا لم أكن إلا منفعلا ضئيل الشأن ؟ ومع ذلك،كان علي أن أحاول، كما أحسست قلت اللحظة الهادرة كالبركان.
وكأن (دال ) أحس بتشابكي مع الحالات والأحداث، التصق بي، فجأة، وهو يكرر: "لقد فقد كل عفوية انسانية، هذا الجيم": ولما رأى علائم السرور ترتسم على وجهي الذي كان غائما وربيطا، أضاف بحرص على التسارر والتوادد: "انه يخطط لكل شيء لكل ما يفعله، ولما لا يفعله، أيضا". وبعد أن تنفس بسرعة، أكمل حانقا: "إنه يخطط حتى لتغوطه"! ولابد إنه رأى علائم ابتسامة متواطئة ترتسم على شفتي اليابستين، إذ تابع بجدية صارمة، هذه المرة : "بعفويتنا الإنسانية، علينا أن نقاوم تخطيطاته اللعينة ". أه أخيرا، نطق ! قلت في صمتي، وأنا أكاد أن أنط، فرحا، في الفضاء.
لست أدري أي شغف ملأني، آنذاك، إذ وجدتني أناديه بصوت عطوف (وكأننا ربعة حقا): "(دال")! بلى ! ناديته بموت خفيت، متوددا، مقلدا صوت "ابن الوراق" عندها ينادي أحدا يجله. وعلى الفور احترف إلي، سعيدا، ومتعجبا، معا، وينوع من الفضول والتلذذ سألني:
تناديني؟
بقيت صامتا (لم يكن لدي ما أقوله له ) ! وبقي متأهبا لسماع ما كنت أريد أن أقول،لا، لم أكن. بحاجة إلى القول ليدرك هو ما لا يدرك.
كان اصفاؤه، وحده، كافيا، كافيا لإدراك كل شيء،لإدراك كل ما كنت أريد أن أقوله دون تورط بالشرح، ولقد أحسست،فعلا، أحسست إنني قلت له،صمتا، كل ما كنت أريد أن اقوله، كل ما خبأته منذ سنوات، منذ أول لقاء عاصف بالقلب.
في تلك اللحظات المنفلتة من المعقول، كاد (ألف) ومعه "باء"، يسبقهمها "جيم" أن يتوجعوا إلى أسواق الصاغة والجواخين و..(وقد توجموا فعلا) رغم إلحاح "دال"، وتهيؤاته، لجرهم إلى أسواق الحرفيين وأشباههم، لكن الضجة المباغتة التي غزت فضاءنا، على غير انتظار منا، هي التي عطلت كل شيء.
-2-
وكأن (ألف ) توجس خينة (لم أعهدها فيه ) توقف عن المسير، فورا، وهو يسأل :
– من هم هؤلاء الحق، يا (باء)
– هم أهل الحرفة والفاقة، يا (ألف).
قال (باء ) مرددا، وكأنه في اللحظة الحرجة،تلك، غدا شخصا آخر، ولما رأى العجب يركب وجه (ألف)، وكأنه لم ينهم مما أراد (باء) شيئا (مع أنه قد فهم كل شيء) اضاف (باء) بتواطؤ شديد:
– جاءوا اليك، خشية الا تجيء أنت اليهم.
– وهل حدث أن خذنا أحدا يا (باء)!
قال (ألف ) بلا تردد أو مواربة، لكأنه الغيم وقد أثقله المطر، صمت (باء)، وأرغمه على الصمت تكاثر الخلق حولنا بسرعة أدهشتني، لكأنهم النمل وقد دعته حاجة قصوى إلى الخروج من غيرانه، لكانهم كانوا معنا على موعد مسبق وفي هذا المكان، في هذا المكان الضيق، في قلب السوق القديم، حيث تبدأ الأسواق، كلما، من بعد.
في خضم كل الجموع الغائرة علينا من كل نحو، كيف لي أن أظل أمنا في مكاني؟ وأي وقاء، يمكن أن يحميني من إغواء الحركة ومن أهوائها؟ من أن سينبثق العنف ؟ وكيف سيكون لونه، ومداه ؟ كنت أتساءل عن ذلك في قلبي، في قلبي الذي امتلأ بالتوتر والاضطراب.
ولأول مرة لم يكن توتر الخوف هو الذي سد علي منافذ روحي! كان توتر غريب لم ألفه من قبل. أيكون الالتحام المفرط للعالم حولي هو الذي أرعبني وأدماني؟ أيكون العنف المعلن في ذلك الفضاء الممتلئ بالسكون وراء ذلك، كله ؟ من يدري؟ أي غباء يسكن نفس الكائن، ويخويه ؟ وأية بلادة إنسانية تدفعه إلى تكرار الأسئلة التي بلا أجوبة ولا نوع ؟
لا! فلأنظر حولي، ولأسكت، أسكت ريثما تأخذ الأمور مسارها، ريثما تكتمل صيروراتها التي لا يمكن تلافيها، لعلها تنحسم أمامي، وعلى الفور، وبالفعل، وجدتني أتحرف حولي باحثا عن الانفجار، عن الكائن الذي سيسوق الليل إلى مهاويه، ولكن، أي القسمات في الكائن ينبئ عن المخبوء؟ وأي شغف يدفعه إلى ارتكاب المحظور حتى ولو كان منظورا كنت اعبر من تساؤل إلى أخر، بلا توقف، وأنا أبحث، في بحر البشر المتلاطم، عن (دال ).
أخيرا، رأيته، وقد كان لصقي! كان يعد خطواته التي لم يعد يخطوها (من كثرة الألسن والعيون )، كان يتململ في مكانه، مستريبا، شاهلا رأسه، وكأنه يتناوق نحو الغيم ! كان وجها مليئا بالتمتمة والغضب ! لكأنه أيقن، هذه المرة، أن ما كان ينتظره قد حان. "ولم يكن ينتظر إلا خوفه المرعب من غضبة الناس" كما كان "ابن الوراق" يقول (وكما بدأت أفهم، الأن، بلا شرح لم، كان الرعب الحشوي الجليل، رعب التحرر المفاجئ من البلادة والخوف لم مثل من يرتكب غرقا لا نجاة فيه ) هو الذي فتح منافذ نفسي وأفواه قلبي السرية علي العالم، ذك اليوم، وهو الذي تكفل، أنذاك، بشرح كل شيء لي: بشرح ما لا يكن لأحد شرحه لأخر.
ضاق الأفق، سريعا، ذلك النهار، وامتلأت الدروب، وكبر الجمع، كبر وهو يقترب منا أكر فأكثر، حتى كادت المنافذ أن تنسد في وجوهنا، كانت جموع الحرفيين، وأشباههم، تنهمر انهمارا علينا، من أين كانت تنبع لك الوجوه المتسعة بالضيق ؟ ماذا كانوا يريدون ؟ وأية غاية يتوفون ؟ كدت أتساءل بحماقة، من جديد، وكأنني ست من هذا العالم من هذا العالم الضالع في الكيد.
وكأن (دالا) كان داخل رأسي، قال برصانه : "اهدأ سنعرف الأمر في الحال ". وفعلا، هدأت، هدأت حتى عن التفكير لكأنما كان بإمكاني أن أفعل شيئا غير هذا ومع ذلك، كدت أسأله بفظاظة (بفظاظة لم أعهدها في نفسي):
ولكن لم لا تقول شيئا؟ وكأنني سمعته يردد في عمته الذي غدا كلاما : «الفتنة لا تحمد عتباها».
لم يدع « ابن الوراق » الفرصة تفوته فعلق بلآمة وخبث : "هو ذا، تماما، (دال ) لا يمكن له أن يتجاوز حاله القديمة، حتى في الوضع الجديد"، وعندما راني أتفجر تساؤلا، أضاف : "والفتنة، أحيانا، تحمد عقباها".
وقبل أن يرتد إلي طرفي، صار يتقص مني (ومن نفسه) وكأنه أصيب بالجرب، يتملص وهو ينظر بحمأة الى الناس، ينظر بحنق اليهم، وكأنه يريد أن يخزهم "ليثوروا"، مرددا في وجهي الذي امتلأ شحونا: "كيف يمكن إعادة الكائن إلى القمقم، وقد خرج، أخيرا، منه"؟
ووجدتني أستعيد كلماته، هذه، التي جرحتني في خنوعي، أستعيدها، صامتا، وأنا أرى إلى الوجوه، وجوه أولئك الصافنين، ووجوه المواقفين حولنا بخشوع منتظرين النظرة الأخيرة منا، أه "لكم هو مضحك وجه الكائن الباحث عن التواقيع ".
من قال؟ المهم، لم قاله؟ أيكون قد قال ذلك ليقنعني بضرورة "الثورة،؟ أم كان يورده حجة لا تدحض على أن الكائن، لابد أن يدرك يوما، ضرورة التمرد للتخلص من القمع الذي يرزح فيه، عجبا "لابن الوراق" هذا الذي زعم ان البراهين لا تهمه، كيف يصر، أحيانا، على "ضرورة البرهان على ما لا يحتاج إلى برهان".
وعندما سألته عن مبرر تلك الضرورة،"أجاب : "لأن الناس غالبا ما تكتفي برؤية ما تراد، دون أن تسعى إلى ادراكه"، وبعد أن أمن صمتي وإضغائي، تابع "والمكشوف، احيانا هو المخبوء بعينه"، ماذا كان يريدني أن أفهم من ذلك؟ ومن هم الناس الذين عناهم، إن لم يكونوا، أنا نفسي؟
من جثوة وقف (ألا)، وقف سلطة، ذلك اليوم، كان قد جثا بتأثير الجموع التي انهمرت علينا مندافعة كالغيث، كأنه جثا يحييها وفجأة، وقف، وقف بكبرياء في الاوسط حول تجمعنا بسرعة، وكأننا نريد أن نحميه، ان نحميه من أذى محتمل، أذى كنا نراه قادما من بعيد، قادما مثل برق قصي لا تعوه المسافة عن الوصول، برق ام نعد، في الحقيقة، قادرين على تلافيه على تلافي صعقته وقروحه، قروح هذه العيون المستاءة، المتربصة بنا، مثل عيون الذئاب الخاتلة على العين.
خليل النعيمي (روائي عربي يقيم في باريس)