كانت إطلالة صادق جلال العظم على الحياة الثقافية العربية مدوية منذ البداية؛ ففي سنة 1968 أصدر في بيروت كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» ليشكل علامة تأسيسية في النقد السياسي العربي آنذاك. ولم يلبث أن نشر في سنة 1969 كتابه الذائع الصيت «نقد الفكر الديني» ليصبح في أقل من سنتين أحد أبرز المثقفين العرب في المشرق العربي، الأمر الذي جعل ملحق جريدة «النهار» الثقافي يفرد له غلاف أحد أعداده وعليه عبارة «الدمشقي الكافر». والحقيقة أن صادق العظم هو، بلا ريب، شوط مهم في سلسلة طويلة من المفكرين العرب الذين ضربتهم هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 في الصميم، فألجأتهم إلى إعادة النظر في كثير من المفاهيم والبديهيات والعقائد والأفكار.
أطلقت هزيمة 1967 موجة عاتية من النقد الراديكالي الجريء الذي طاول المجتمع والأحزاب والنظريات السياسية والنظم الحاكمة والدين والتاريخ والأدب والفنون. ومنذ ذلك الوقت بدأ نقد الناصرية ونقد البعث ونقد الماركسية السوفياتية أيضًا. وتفاعلت عناصر شتى لتبدأ عملية تحول متسارعة في صفوف التيارات القومية العربية. فحركة القوميين العرب التي ارتبطت بالناصرية ارتباطًا وثيقًا، فكّت هذا الرباط، ودعت إلى ماركسية جديدة مقاتلة، فظهرت منظمة العمل الشيوعي في لبنان التي هي اندماج بين العناصر البعثية المتحولة إلى الماركسية (وضاح شرارة وفواز طرابلسي وأحمد بيضون وغيرهم) وعناصر حركة القوميين العرب الذين لجأوا إلى الماركسية بدورهم أمثال محسن ابراهيم ومحمد كشلي ونايف حواتمة. وفي هذا السياق ظهرت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية لتحرير البحرين والخليج العربي والجبهة القومية في اليمن (صارت الحزب الاشتراكي اليمني فيما بعد). وخضع حزب البعث لهذا المسار نفسه منذ انفكاك الوحدة السورية – المصرية في سنة 1961، أي قبل هزيمة 1967 بقليل. وفي خضم ذلك الاضطراب الكبير الذي تركته عملية الانفصال ظهرت مجموعة «لبنان الاشتراكي» (وهي مجموعة بعثية خرجت على الحزب) لتندمج لاحقًا بمنظمة الاشتراكيين اللبنانيين (قوميون عرب متحولون إلى الماركسية) ويشكلا معًا منظمة العمل الشيوعي. وفي سورية جرى تأسيس «حزب العمال الثوري العربي» (ياسين الحافظ وحمود الشوفي وعلي صالح السعدي وحمدي عبد المجيد) ليضم عناصر بعثية سورية وعراقية متمركسة. وفي تلك الأثناء أيضًا راح اليسار العربي الجديد يتبلور على قاعدة نقد الهزيمة واستلهام ينبوع حركات التحرر الوطني في العالم ولا سيما جيفارا في بوليفيا وهوشي منه في فييتنام، علاوة على الثورة الجزائرية. وبطبيعة الحال ظهر دحض النموذج الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، ونقد تجربته السياسية والاجتماعية، ورافق ذلك نشوء مجموعات لا تحصى من الشيوعيين المناوئين للاتحاد السوفياتي كالمجموعات التروتسكية المنتمية إلى الأممية الرابعة، والمجموعات الغيفارية والماوية والمجالسية وأنصار العمل المسلح.
التحولات
إذًا، بدأ تحطيم الأيقونات المقدسة بعد سنة 1967. وكان صادق العظم واحدًا من الذين ساهموا في هذه العملية بقوة، وشكّل لدى الشبيبة العربية التائقة إلى الحرية مثالًا للمفكر المناضل في الوقت نفسه. ففي خمسينيات القرن المنصرم وأوائل ستينياته كانت الشبيبة العربية، على العموم، غارقة في قراءة الأدب الرومنسي، وكانت الروايات الأكثر انتشارًا هي «بائعة الخبز» و«البؤساء» و«أحدب نوتردام» و«الشيخ والبحر» و«ثلوج كليمنجارو» و«كوخ العم توم» و«موبي ديك» و«ذهب مع الريح» و«آلام فارتر» و«قصة مدينتين» و«جين آير» و«الأم» و«توم سوير»، فضلًا عن بعض روايات النكبة الفلسطينية، ومعها «شجرة اللبلاب» و«لقيطة» لمحمد عبد الحليم عبدالله، و«نحن لا نزرع الشوك» ليوسف السباعي، و«الصبي الأعرج» و»الرغيف» لتوفيق يوسف عواد، و«الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، علاوة على روايتي «في ظلال الزيزفون» و«ماجدولين» لمصطفى لطفي المنفلوطي وغيرها الكثير من هذا الطراز. لكن، بعد 1967، وبالتوازي مع التحولات السياسية المتلاطمة، راحت تظهر روايات مختلفة مثل «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ لتواكب نقد الهزيمة على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي والعقيدي، وصار نقد السماء مقدمة لا بد منها لنقد الأرض. وهنا بالذات لمع صادق جلال العظم، ولا سيما حين انخرط، انخراطًا واعيًا تمامًا، في إثارة الدبابير من أعشاشها، وانصرف إلى نقد النظم السياسية العربية، ونقد السياسة الأميركية بالتحديد، الأمر الذي أدى إلى عدم تجديد عقده في الجامعة الأميركية في سنة 1968 (للمصادفة، فإن الجامعة الأميركية في بيروت التي كانت تدعى «الكلية الإنجيلية السورية» بُنيت في سنة 1866 على أرض كان يملكها مؤيد باشا العظم، وهو الجد الأعلى لصادق العظم)، ثم انثنى إلى نقد الفكر الديني، ولم يوفر المقاومة الفلسطينية التي كان أحد عناصرها النشطة. أما مشكلته مع الجامعة الأميركية فاحتدمت مع نشر دراستين له هما: «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» و»مأساة إبليس» (شكلت هاتان الدراستان عماد كتابه اللاحق «نقد الفكر الديني»). ثم تفاقمت الأمور أكثر فأكثر حين نشر في ملحق جريدة «النهار» (شباط/فبراير 1967) مقالة نقدية لاذعة للمؤتمر الذي دعا إليه شارل مالك في الجامعة نفسها تحت عنوان «الله والإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر». ونقم عليه شارل مالك، وسعى إلى عدم تجديد عقده في سنة 1968.
في تلك الأثناء، أي في أواخر ستينيات القرن العشرين وأوائل سبعينياته، كنا يافعين نفتش عن دروب للتمرد على آبائنا وعائلاتنا ومدارسنا ومجتمعنا وأنبيائنا. وكان غيفارا يأسر أفئدتنا، ومعه ثورة باريس في أيار/مايو 1968 وصيحة كوهين بندت «كونوا واقعيين، أطلبوا المستحيل»، فضلًا عن الفيتكونغ والجنرال جياب وهوشي منه وكاسترو. غير أن هؤلاء جميعًا كانوا بعيدين عنا جغرافيًا، فاستولى الفدائي الفلسطيني ذو الثياب المرقطة على حواسنا حين صار بيننا ومعنا، وراحت أشعار نزار قباني الغاضبة وبعض قصائد محمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان وأحمد فؤاد نجم تغمرنا بوعودها البهية.
في تلك الحقبة طرق أسماعنا اسم صادق جلال العظم، وبالتحديد غداة الضجيج الذي أثاره كتاب «نقد الفكر الديني»، ورحت أتعقب ما يكتبه هنا وهناك، وحضرت إحدى محاضراته في النادي الثقافي العربي في شارع عبد العزيز في بيروت، من دون أن أتعرف إليه مباشرة. وفيما بعد نمت صداقة مع العفيف الأخضر ومحمد الكبة وعبد كيوان، وصرنا نختلف إلى دكان أحمد الكبة (أبو محمد) في مبنى سينما أديسون في شارع بلس لنكتشف أن صادق العظم يقطن في الطبقة الرابعة من ذلك المبنى الذي تقطن فيه الفنانة التشكيلية هلين الخال الزوجة الأولى للشاعر السوري يوسف الخال. وبالتدريج صار دكان أبو محمد الكبة استراحتنا الأثيرة بعد أن يهدأ وجيف القلب جراء سجالاتنا التي لا تنتهي في جامعة بيروت العربية أو في هايد بارك الجامعة الأميركية، أو بعد غداء فقير في مطعم الأمين في طلعة «الهورس شو»، أو بعد مشاكسة قليلة التهذيب مع سياسيين منفيين نعثر عليهم في هذا المقهى أو ذاك (مطعم فيصل مثلًا أو الدولتشي فيتا أو الهورس شو أو ستراند… إلخ). وأمام ذلك الدكان تعرفت إلى فوز طوقان، تلك المرأة الرقيقة التي كانت تفيض اهتمامًا على ولديها عمرو وإيفان، والتي أصبحت، لاحقًا أفضل صديقة لزوجتي حتى رحيلها الفاجع في دمشق. ومنذ الوفاة لم تدخل زوجتي قط منزل فوز طوقان العظم في بيروت.
دكان اليساريين ومنزل المثقفين
في أسفل المبنى التي كان صادق جلال العظم يقطن فيه في رأس بيروت، يقع دكان أبو محمد الكبة إذًا، وهو مكان تاريخي، إذ لم يبقَ يساري في المشرق العربي لم يمر بهذا المكان. وكنا نتحلق في الفسحة الخارجية حول بعضنا، ونتجادل بصخب ونختلف بشدة، ويتعالى صراخنا، ومع ذلك لم يتأفف منا أحد من سكان الحي. وفي ذلك الدكان التقيت العفيف الأخضر ومعه محمد الكبة، وهو مقاتل سابق في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وكاتب ومترجم وابن صاحب الدكان. وقد سافر إلى ألمانيا ليتعلم الألمانية كي يترجم نيتشه، فعاد منها بالشيزوفرينيا، وهو يلوذ اليوم في منزل والده في مخيم برج البراجنة. والتقيت أيضًا مصطفى الخياطي وأسامة حامد وسعيد جواد وعلي بن عاشور وحسن قبيسي ومحيي الدين صبحي ومحمد حربي ويساريين عربا وأجانب من اتجاهات شتى متنافرة. وهكذا انعقدت صداقات مفعمة بالسياسة والأفكار والرؤى، وصارت فوز طوقان وولداها عمرو وإيفان، فضلًا عن جواد يوسف الخال، من لطائف ذلك الشارع الضّيق الذي يفصل مبنى سينما أديسون عن مستشفى الخالدي الذي أسسه الطبيب الحمصي مصطفى الخالدي، وأصبح معلمًا من معالم منطقة رأس بيروت. وفي صيف 1975 أقمنا خيمة كبيرة (جرس) عند شاطئ خلدة جنوب بيروت كي تكون مقصدًا للأصدقاء، ومهجعًا لهم بعد يوم نضالي مضنٍ. واستأنست فوز طوقان العظم بنا، وأقامت خيمة لها ولولديها إلى جانبنا. وفي أحد الأيام جاء صادق العظم إلى الخيمة ليصطحب عائلته، ومكث معنا، واستعر نقاش صاخب. وهكذا أصبحتُ صديقًا للعائلة كلها. وفي منزله سهرنا كثيرًا، وشربنا أكثر، وتعرفت إلى شقيقه سعيد الذي رحل في سنة 2014 وإلى شقيقته سونيا، وإلى والدته نزيهة خانم التي كانت تراقب نقاشاتنا بتبرم، فهي توقعت لصادق العظم أن يصبح يومًا ما، بعد عودته من جامعة «يال»، رئيسًا للوزراء في سوريا على غرار قريبه خالد العظم، لا أن يصبح يساريًا ذا شعر طويل وثياب عادية، وكنا نتضاحك لأمرها. وفي منزله الذي أقمتُ فيه بعد أن غادر وعائلته إلى دمشق جراء اشتداد الحرب الأهلية اللبنانية، تعرفت إلى حسن حنفي ونوال السعداوي ونايف بلّوز وفيصل درّاج وكثيرين جدًا، وكان نايف حواتمة الحاضر دومًا بيننا والغائب دائمًا، فصادق العظم كان عضوًا سابقًا في الجبهة الديمقراطية وباحثًا، في الوقت نفسه، في مركز الأبحاث الفلسطيني، وكانت النقاشات آنذاك منصبة كلها على قضية فلسطين والكفاح المسلح والماركسية والحرب الأهلية اللبنانية والخيارات السياسية المتعاكسة للفصائل الفلسطينية… إلخ.
قال لي العفيف الأخضر الذي أقام في منزل صادق العظم فترة: «صادق متقدم على المجتمع العربي مائتي سنة»، وكان يشير إلى استنارة عقله وسلوكه اليومي وعلاقاته بالناس وخصوصًا بأصدقائه وأنا واحد منهم. أما نزوعه إلى المعاصرة والتحرر الاجتماعي وحداثته الفكرية والمسلكية فهي كلها عناصر موجودة في جذوره، وبالتحديد لدى والدته ووالده جلال المؤيد العظم؛ فوالدته كانت ترسم وتتكلم الفرنسية علاوة على التركية والعربية، وتدافع عن السفور. ووالده الذي عاش في فرنسا فترة من الزمن كان عَلمانيًا ومعجبًا بجمال عبد الناصر. وصادق جلال العظم نفسه بدأ في الحزب السوري القومي الاجتماعي، أي ليبراليًا علمانيًا، ثم أصبح قوميًا عربيًا تقدميًا بعد العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956، وتحول بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، أو قبل ذلك بقليل، إلى الماركسية الثورية. ومع اندلاع الحوادث السورية «تشقلبت» خياراته السياسية أيما «شقلبة» الأمر الذي وقع لنا جميعًا على ما أعتقد.
أستاذ الفلسفة لا يكتب فلسفة
صادق العظم، في الأساس، أستاذ للفلسفة، وأطروحته للدكتوراه كانت عن كانط. لكن، من بين جميع مؤلفاته لا نعثر إلا على كتاب واحد في الفلسفة هو «دراسات في الفلسفة المعاصرة» (1981)، وهو عبارة عن محاضرات ممتازة تلبّي حاجة طلاب الجامعات. وقد تمكن صديقنا قيصر عفيف من إجراء حوار مطول وممتاز معه وأصدره في كتاب بعنوان «دفاعًا عن المادية والتاريخ» (1987)، وهو آخر دفاع عن الماركسية قبل سقوط الاتحاد السوفياتي. وفي إحدى المرات دخلت عليه في منزله وكان يعلِّم ابنه عمرو درسًا في المنطق، وجلست أستمع إليه. وحين انتهى قلتُ له إن هذا الدرس يليق بطالب جامعة في سنته الأخيرة، لا بتلميذ في المرحلة الثانوية… فضحك. وكان أصدقاؤه يتندرون عليه بالقول: «إن صادق العظم لو أراد كتابة رسالة غرام لكتبها على النحو التالي: أحبك للأسباب التالية: أولًا، ثانيًا، ثالثًا…».
كتبتُ نقدًا لمعظم كتبه التي صدرت في سبعينيات القرن العشرين فصاعدًا. وعندما صدر له كتاب «سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية» (بيروت: دار الطليعة، 1977) نشرت نقدًا له في جريدة «السفير» (31/10/1977)، وردّ عليّ أمير أحمد (وهو الاسم المستعار آنذاك للكاتب العراقي عبد الأمير الركابي) في «السفير» (5/11/1977)، ورددت عليه بدوري في 9/11/1977. ولم يطل الزمن إلا أيامًا قليلة حتى دعاني صادق إلى سهرة في منزله، وعندما ولجت المنزل وجدت فيصل دراج وقد اتسعت حدقتاه، وقال لي حين جلستُ إلى جانبه: اعتقدت أنكما متخاصمان بعد مقالتك والردود عليها. فضحكت وقلت: أخالف صادق الرأي أحيانًا، لكن أن أختلف معه فهذا من المحال، فهو صديقي أولًا وأخيرًا وأحبه كثيرًا وأحب أفراد عائلته بالمقدار نفسه. وقد انتظر صادق العظم حتى صدور كتابه «زيارة السادات وبؤس السلام العادل» (بيروت: دار الطليعة، 1978) ليفرد خمس صفحات لمناقشة مقالة كنتُ كتبتها في مجلة «دراسات عربية» (بيروت، العدد 4، شباط/فبراير 1978) وليرد على مقالتي التي نقدت فيها كتابه السابق. وعندما نبهته إلى أنه خصني بخمس صفحات، أي أكثر من محمد حسنين هيكل ومحسن ابراهيم، قال لي: تستحق ذلك.
«القومية» والقيامة
في حواري المطوِّل معه الموسوم بعنوان «حوار بلا ضفاف» (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1998) والذي صدر في طبعته الثانية بعنوان «حوار مع صادق جلال العظم» (2000) يقول: «السلفية الجديدة خصم جدّيّ. لكنها ردة فعل أكثر مما هي فعل جديد… الاخوان المسلمون كانوا ردة فعل على ثورة 1919 المصرية وعلى التحديث»، وشدّد على «ديمقراطية المواطنين الأحرار»، ورفض «الديمقراطية التوافقية للطوائف والعشائر والقبائل والإثنيات والأقليات». وفي بلادنا، أي بلاد الشام والعراق ومصر، ظهرت عقيدة الموت والقيامة (أدونيس وتموز)، وكان أعظم تمثيل لهذه العقيدة المسيح نفسه. وقد تطلعنا في بلادنا، بتأثير من صادق العظم وغيره، إلى أن تكون هزيمة 1967 موتًا لثقافة ولحقبة تاريخية انتهت، وانبعاثًا لثقافة جديدة وحقبة سياسية جديدة؛ موت للاستبداد العربي وقيامة للحرية في هذه البقعة المهمة من العالم. لكن هذا الوعد أخفق تمامًا. نعم، أخفق الوعد العظيم بالحرية، وكان من نتائج هذا الإخفاق أن الجماعات السلفية سجلت أولى انتصاراتها. وها هو العالم العربي بعد أقل من خمسين سنة على ظهور صادق جلال العظم يئن تحت معضلاته الشائكة والجاثمة فوقه كأهرام الجيزة. وقد توهم صادق العظم، كما توهمنا، أن «قومة» الناس في سوريا في سنة 2011 ستجلب الحرية والديمقراطية إلى بلاده فناصرها، وانخرط في لججها. وتجادلنا في ذلك مرارًا في بيروت قبل أن يغادر المشرق العربي إلى ألمانيا ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية برفقة زوجته الصديقة إيمان شاكر. وإخال أن صادق العظم قد تبين له اليوم أن سوريا ما عادت تشهد انتفاضة شعبية على الاستبداد والفساد كما ظهر في البدايات الأولى، بل حربًا أهلية صريحة ومكشوفة. والحروب الأهلية في العالم الثالث لا تنتهي، على الإطلاق، إلى تشييد نظام سياسي استنادًا إلى الحرية والديمقراطية، وإلى المواطنين الأحرار. هذا ما شهدناه في لبنان والعراق وأفغانستان وجنوب السودان والجزائر وغيرها. وفي معمعان هذا الموت السوري الذي لا يتوقف اخترتُ أن أرفع شعار «وقف الحرب الأهلية مهما يكن الثمن»، بينما راح صديقي صادق العظم يتكلم على «الأكثرية السنية» و»النموذج التركي» و»نحن وهم»، وهذا انقلاب على تاريخه الفكري البهي. ومع ذلك، فإن صداقتي لصادق العظم ومحبتي الغامرة له، وعلاقتنا الوثقى المديدة، وشراكتنا الفكرية والسياسية العظم، ذلك كله يجعل تجربتي الثقافية والإنسانية شريطًا جميلًا وأخاذًا يحتل صادق العظم وفوز طوقان العظم وعمرو وإيفان وإيمان شاكر شوطًا كبيرًا منه، وهي صداقة لا تنتهي على الأطلاق، وشراكة فكرية لا تنفصم.
———————-
صقر أبو فخر