المؤلف: محمود رجب ( استاذ الفلسفة بجامعة القاهرة -مصر)
الناشر: دار المعارف – مصر
صدر في صمت كتاب "فلسفة المرآة " للاستاذ الدكتور محمود رجب، فلم ينل حظه من التقييم أو ما يستحقه من التقريظ إلا قليلا، ولم يلفت انتباه أحد سوى قلة قليلة من المشتغلين بالفلسفة – أمثال د. فؤاد زكريا – ممن يعرفون بحكم ألمعيتهم وتخصصهم الأكاديمي كيف يرنون قيمة الأعمال الفكرية والفلسفية ويقدرونها حق قدرها. وبذلك يظل هذا الكتاب مجرد كتاب من الكتب المطروحة في الأسواق جنبا الى جنب مع كتابات أخرى لا يستحق أكثرها قيمة المداد الذي كتبت به أصولها. ويبدو أن هذا قد أصبح الآن حظ الكتابات الفلسفية العميقة التي تكتب بلفة أكاديمية وتطرق موضوعات كونية وأنطولوجية وانسانية عامة. في حين يكفي لكتابات أخرى تلعب على منطقة ساخنة في واقعنا الثقافي أو الإسلامي الخاص أن تتطاير كالشرع بأقل مجهود من الكاتب، وبأ قل القليل من الدقة المنهجية وعمق الرؤية وأصالة التنظير. ولكن أصحاب الكتابات الفلسفية والفكرية الحقيقية ربما يجدون لأنفسهم العزاء حينما يتذكرون ما لاقاه كتاب شوبنهاور الخالد "العالم إرادة وتمثل"» الذي لم يلفت انتباه أحد، ولم يقدره حق قدره سوى جيته، وظل الكتاب طي الإهمال والنسيان الى أن جاءت شهرة شوبنهاور وذيوع كتابه بكتابات أخرى لم تكن سوى مجرد تبسيط وشروح على هذا الكتاب الأصلي. ويبدو أن هذا هو حظ الفيلسوف الذي ينبغي أن يرضى به فيما قسمه الله من حظوظ بين من يحترفون الكتابة.
ولا ندعي أن بإمكاننا في هذه العجالة القصيرة أن نتناول كتاب.فلسفة المرآة. تناولا نقديا وافيا، وانما بمقدورنا فحسب أن نقدم هنا عرضا تبسيطيا لمضمونه الفكري ولقيمته الفلسفية:
يقع الكتاب في مقدمة بعنوان "الفلسفة والمرآة" وبابين أولهما بعنوان "ظاهرة المرآة "، والثاني بعنوان "تجربة المرآة ". وفي مقدمة الكتاب يبرر لنا المؤلف اتخاذ ظاهرة مألوفة بسيطة كالمرأة موضوعا للبحث والتساؤل الفلسفي، على أساس أن مكر هذا التساؤل عن الظواهر المألوفة البسيطة وان كانت له أصوله في التقاليد الفلسفية إلا أنه قد أصبح يشكل اهتماما ملحوظا في الفكر الفلسفي المعاصر، وخاصة مع الفلاسفة المتأثرين بالمنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) أمثال: هيدجر وسارتر وغيرهما من الفلاسفة الوجوديين. ولذلك فإننا يجب أن نطرح جانبا ذلك التصور التقليدي الشائع عن الفلسفة على أنها بحث يقتصر على أمور عقلية تنظيرية بالغة التجريد. حقا إن البحث الفلسفي بطبيعته بحث كلي، ولكن لا بمعنى أنه يقدم لنا تنظيرات عامة مجردة عن الكون والوجود والحياة ولكن بمعنى أنه يستبصر الكلي والعام في – ومن خلال – الجزئي والعيني والمشخص، أي يستبصر ماهية الظاهرة ومعناها الكلي في الظاهرة نفسها. وهذا هو ما أظهره لنا الفلاسفة الفينومينولوجيون بقوة، فأصبحنا نجد دراسات فلسفية لموضوعات أو ظواهر مألوفة في حياتنا من قبيل: الجسم، والضحك، والقلق، والغثيان، والهم، بل وحتى نظرة التلصص من ثقب الباب كانت موضوعا لتحليل سارتر الفينومينولوجي في كتابه "الوجود والعدم".. الخ، وكأن مهمة الفيلسوف المعاصر قد أصبحت تتمثل في أنه يلتقط لمحة أو لمحات كلية من الوجود والحياة كما تتجلى في أشياء عيانية وجزئية. ومن هنا تقترب مهمة الفيلسوف من مهمة الفنان الى حد كبير، وقد لاحظ هوسرل نفسه (مؤسس الفينومينولوجيا أو الظاهراتية) هذا التقارب أو التشابه الكبير بين الرؤية الفنية والرؤية الفينومينولوجية، أعني الرؤية أو الخبرة الفلسفية حينما تسعي الى الكشف عن معنى ظواهر جزئية. ومن هنا فنحن نعتقد -وهو أمر سوف نبرزه في موضع لاحق – أن كتاب "فلسفة المرآة "، نفسه يجسد محاولة فينومينولوجية أصيلة لاستبصار وتحليل ماهية الظاهر لا (ظاهرة المرآة) باعتبارها ظاهرة وان كانت جزئية، إلا أنها تعكس تجليات لمعان كلية تتعلق بالوجود العام والوجود الانساني. ولا عجب بعد هذا أن نجد هذه الظاهرة تتمثل في أعمال المصورين، وتشغل اهتمامات السيكولوجيين، وتثير وجدان وتأمل أصحاب الخبرة التصوفية مثلما تثير انتباه وتأمل الفيلسوف. وهذا ما يتكشف لنا عبر كل فصل من فصول الكتاب.
الفصل الأول من الباب الأول بعنوان "المرآة.. أنواع" يقدم لنا تعريفا للمرآة باعتبارها صورة منعكسة لأصل: فأي شي يمتلك خاصية السطح العاكس أو القدرة على أن يعكس صورة ما هو مرآة، وهذه الصورة المنعكسة تلازم الأصل دائما. وهذا التعريف يصدق على المرآة بمعناها الحقيقي وبمعناها المجازي، ولكل منهما أنواع: فالمرأة الحقيقية تشمل المرآة الطبيعية التي لم تتدخل فيها يد الإنسان بالصناعة أو التطوير مثل: الماء وسائر الأجسام الملساء اللامعة جنبا الى جنب مع أشياء الطبيعة التي تدخلت فيها يد الإنسان بالصقل والصنع حتى يصبح سطحا عاكسا، وهي المرايا الصناعية وأشهرها المرايا الزجاجية التي ظهرت بالبندقية في القرن السادس عشر لأول مرة، وكانت تمثل أعجوبة سحرية انتشرت بين سائر الناس وافتتنوا بها، حتى أصبحت موضوعا أثيرا لدى الفنانين في أعمالهم الفنية، فكانت بداية لنمو فكرة الوعي الذاتي والاستبطان وادراك الهوية أو الشخصية،وباختصار بداية لفكرة الوعي بالذات. أما المرايا المجازية فإن المؤلف يقترح تصنيفا رباعيا لها من خلال تحليله للنصوص التي تمس ظاهرة المرآة، وهذه الصور المجازية الأربع هي: 1- مرآة الله 2- مرآة العالم 3- مرآة الإنسان 4- مرآة السحر.
وحسبنا أن نوجز إيجازا لاشك أنه سيكون مخلا فيما يتعلق بتفاصيل أفكار المؤلف هنا، فنقول: إن "مرآة الله " تعني أن الله لا يمكن رؤيته مباشرة، وانما يمكن رؤية نوره منعكسا على شيء آخر أو متجليا فيه، مثلما تجلى نوره على وجه موسى حينما كلمه، ومثلما صورت الأساطير الشمس كمرآة إلهية تعكس نور الله، وهو أيضا ما صوره "دورر" في لوحة جعل فيها أبوللون – رب النور والشمس عند الرواقيين والأفلاطونيين – ممسكا بمرآة شمسية تعكس هذا النور الالهي (اسم أبوللو) بحروف معكوسة مقلوبة في هالة من الضوء متوهجة… الخ، أما "مرآة العالم" فتعني تصور العالم باعتباره انعكاسا لقوة إلهية أو قوة محركة للكون قد تكون مفارقة له كالمثل الأفلاطونية، أو مباطنة ومتجلية فيه، ومن الأصول العديدة التي نجد فيها هذا التصور، فكرة ابن عربي عن الخلق التي تنطلق من الحديث القدسي: " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق ". أما مجاز «مرآة الانسان» فالمقصود به تصور الإنسان باعتباره عالما أصغر تنعكس فيه عوالم أخرى كالمثل العليا للحق والخير والجمال. ويحضرنا هنا قول ابن عربي: "أتحسب أنك جرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر". كذلك فإن قول رسول الله (ص) "المؤمن مرآة أخيه"، يجسد هذا التصور المرآوي للإنسان في جانبه الأخلاقي.وفضلا عن ذلك فان أعضاء الإنسان نفسها، وخاصة الوجه والعين، هي مرآة لعالمه الباطني: انفعالاته ومشاعره وعواطفه. ويكفي أن نستشهد هنا – إضافة الى تحليلات المؤلف العديدة – بقول هيجل: العين يبصر بها الانسان ويكون مبصرا، يرى ويرى. أما "مرآة السحر" فهي المرآة من حيث هي أداة سحرية ذات قدرات عجيبة خارقة للعادة والطبيعة. وهذا الجانب من المرآة يشكل موضوعا يمتزج حوله الخيال العلمي مع الخيال الأسطوري الخرافي. ولا عجب في هذا، فقد انبثق كثير من حقائق العلم من الخيال الأسطوري كما يبين لنا المؤلف، وكما أكد على ذلك كثير من فلاسفة العلم المعاصرين أمثال فيرابند وتوماس كون. والمؤلف يضع أمام تأملنا حشدا من الأساطير القديمة التي يتجلى فيها ذلك الخيال الأسطوري الذي انبثق عنه الخيال العلمي حول قدرات المرآة: كالقدرة على تحويل وتشكيل صور الكائنات، خاصة الكائن الإنساني، الى حد التشوه والمسخ أحيانا، والى حد الموت والهلاك أحيانا أخرى، على نحو ما نرى في مرايا السحر الأسطورية العديدة: كمرآة نرجس، ومرآة ديونيسوس، ومرآة سيدوسا (التي تمسخ من ينظر اليها حجرا، وتمكن بريسيوس بمساعدة أثينا من استخدام ترس لامع مصقول ليأسر صورة سيدوسا تجنبا للنظر المباشر اليها، وبذلك استطاع جز رأسها وهو ينظر الى صورتها منعكسة في الترس). وهناك أمثلة عديدة على مرآة السحر الخرافية في مجال الأدب: حيث تكشف هذه المرآة لمكبث مصير ملوك اسكتلندة، كما استخدم أوسكار وايلد مجاز هذه المرآة السحرية في روا يته «صورة دوريان جراي». وفضلا عن ذلك هناك المرآة التي هي أقرب الى الخيال العلمي، كمرآة أرشميدس التي تقوم على أساس أن انعكاس الضوء عن مرآة مقعرة وتجمعه عند نقطة واحدة، يمكن أن يحرق الجسم الذي يكون عند هذه النقطة ؟ وبالتالي يمكن توجيهها لأغراض عسكرية مثل حرق سفن الأعداء.
وبوجه عام يمكن القول بأن هذا الفصل هو بمثابة تحليل فينومينولوجي لبنية ظاهرة المرآة، استعان المؤلف في رصده بمصادر عديدة متنوعة بصورة مدهشة، وهو تحليل يمدنا بالأساس اللازم نحو انطلاقات المؤلف التالية لبيان أثر المرآة ودورها في حياتنا ووجودنا بوجه عام، وهذا هو موضوع الفصل الثاني بعنوان "كرم المرآة ".
وهنا نجد أن المؤلف يبين لنا فضائل المرآة انطلاقا من معنى الانعكاس أو الصورة المنعكسة باعتباره يؤسس ماهية المرآة أو الظاهرة المرآوية. والواقع أن مفهوم الانعكاس هذا هو ما يبرر للمؤلف هنا – كما هو الحال في سائر الكتاب – مد نطاق فلسفته في المرآة من المعنى الحقيقي المحدود للمرآة الى المعنى المجازي الواسع. فكل ظاهرة يتحقق فيها معنى الانعكاس هي إذن ظاهرة مرآوية أو تشارك في تحقق معنى المرآة. وهكذا فإننا من خلال معنى الانعكاس يمكن أن نتأمل لا فحسب فضائل المرآة، وانما أيضا تجربة المرآة على كافة مستوياتها الوجودية (كما سيفعل المؤلف في الباب الثاني). وفعل الانعكاس كفعل ماهوي للمرآة ينطوي على دلالة مزدوجة يفصح عنها الفعل العربي "يعكس": فالمرأة تعكس بمعنى تنقل صورة أمينة أو صادقة للأصل، وتعكس بمعنى تنقل صورة معكوسة أو مقلوبة. وهذا الفعل المزدوج لمفهوم الانعكاس هو أصل مفهوم "الهوية والاختلاف" في إدراك الانسان لصورته المرآوية (فهي صورة الإنسان هو نفسه، ولكنها في نفس والوقت ليست هو نفسه.. إنها مجرد صورة للأصل)، وهو أيضا أصل مجاز المرآة الذي يستخدم على انحاء متباينة. فكثير من المتصوفة الإسلاميين – وخاصة ابن عربي – يستخدمون فعل الانعكاس المرآوي لبيان ما بين الحق والخلق من هوية واختلاف، ومشاهدة وجه الحق في مرايا المظاهر الوجودية، أي إدراك وحدة الله في كثرة مخلوقاته، وادراك كثرة المخلوقات في وحدة الله. ونجد هذا الانعكاس المرآوي ماثلا في المحاورات الأفلاطونية بين صورتي سقراط وأفلاطون، فكلاهما وجه للآخر؟ حيث إننا لا نجد في المحاورات سقراط، وانما نجد صورة سقراط التي رسمها أفلاطون، فعندما يتحدث سقراط لا نعرف من الذي يتحدث: هل هو سقراط أم أفلاطون ؟ وبالتالي لا نستطيع أن نعرف الوجه الحقيقي لأي منهما، فنحن نعرف الصورة المرآوية المزدوجة لكل منهما: سقراط الأفلاطوني، وأفلاطون السقراطي. وفي مجال المسرح تستخدم غرفة المرايا لأغراض مختلفة، وتتيح غرفة المرايا للممثل – وفي إطار علاقة الرائي بالمرئي – أن يشاهد نفسه بعيون الآخرين، أي الجمهور، فينظر الى نفسه من بعد ومسافة، ويستطيع أن يرى نفسه من الخلف ومن جميع الزوايا. وفعل الانعكاس المرآوي يرتبط ارتباطا وثيقا بفعل التأمل الانعكاسي ؟ ولذلك يشار الى التأمل والانعكاس بلفظة واحدة هي Reflection، وكما يقول أحد المتصوفة الألمان: "التأمل تمرئي"، أي نظر انعكاسي في المرآة (والمرآة هنا هي مرآة العقل أو النفس أو الوعي.. الخ). فالتأمل الإنعكاسي هو عملية يرتد فيها العقل الى نفسه ليعيد النظر فيما يعقله أو يستبصره بهدف الفهم، فهو إذن تفكر. والحكمة نفسها هي تأمل ؟ ولهذا جعل المثال ميشيل كولومب تمثال الحكمة امرأة تتأمل نفسها في مرآة.وعلى الرغم من وجود أغاليط للمرآة أو لفعل الانعكاس المرآوي، فإن هذه الأغاليط لا تخلو من قيمة معرفية ؟ إذ تحدث المرآة تحولات للشكل المنعكس بالغة الإثارة ومثيرة للخيال، سواء لدى العلماء أو الأدباء وهنا يستعرض المؤلف أمثلة لا حصر لها لكرم المرآة في مجال الخيال العلمي والخيال الأدبي والفني بوجه عام، حيث استعان العلماء والفنانون على السواء بأغلاط المرآة المقعرة والمحدبة والمستوية. وهنا ينبغي أن نلاحظ أن الأغاليط تعني عكس صورة مغايرة للأصل المعكوس – كالتصغير والتكبير على سبيل المثال – وهو أمر لا يخلو من قيمة حتى في مجال الحياة العملية، ولا يخلو من دلالات مجازية معرفية في عالم الفن والخيال.
أما الباب الثاني المعنون "بتجربة المرآة "، فيعد أكثر أجزاء الكتاب عمقا ومتعة في وقت واحد: لأنه ينقل البحث في المرآة الى مستوى التجربة الإنسانية الحية أو المعيشة. إنه تناول للمرآة باعتبارها ظاهرة ابستمولوجية (معرفية) يفهم الانسان من خلالها نفسه أو يعي ذاته، وقديما كانت الحكمة السقراطية الخالدة تطالبنا بمعرفة النفس: اعرف نفسك. وتجربة المرآة – كما يتناولها المؤلف – تصبح بهذا المعنى ضربا من ضروب هذه الحكمة من خلال تجربة وجودية تمدنا بطريق من الطرق التي تقودنا الى هذه الحكمة أو تقربنا منها.
والفصل الأول من هذا الباب بعنوان "أنا – آخر" ويتناول فيه المؤلف تجربة المرآة من حيث هي تجربة إنسانية تنطوي على ديالكتيك علاقة الأنا بالأنا الآخر والداخل بالخارج. فتجربة المرآة حينما نفهمها بالمعنى الواسع – أو بالمعنى الماهوي لمفهوم المرآة – هي تجربة أو وعي بمعنى الهوية والاختلاف معا: إدراك الأنا أو الوعي بالذاتية من خلال إدراك الصورة باعتبارها أنا آخر، أي تعمق الوعي بالذاتية أو الهوية من خلال إدراك الاختلاف، حينما يعي الانسان صورته "الأخرى" التي "تظهر" له أو تتحقق في الخارج وتصبح مرئية سواء من خلاله أو من خلال الآخرين. واذا كانت تجربة المرآة تجربة واعية، فإن ذلك يعني أنها ترتبط بمدى نضج الوعي الإنساني، ويمدى صحته أو اضطرابه: ولذلك تتفاوت هذه التجربة من حيث درجة وأسلوب حضورها لدى البدائي والطفل والمضطرب عقليا. فلان تجربة المرآة هي وعي بالذاتية أو الأنا باعتباره مختلفا عن الأنا الآخر (صورة الأنا) ؟ فإن هذه التجربة تكاد تكون منعامة لدى الإنسان البدائي الذي يفتقر الى الوعي الذاتي، ويحيا على مستوى الوعي الطبيعي على حد تعبير هيجل: فالوعي لدى الإنسان البدائي هو وعي لا يدرك فيه الشخص هويته باعتباره مختلفا أو متميزا عن الآخر، سواء كان هذا الآخر هو الآخرون من أبناء قبيلته أو الطبيعة أو الحيوانات والنباتات، أو حتى صورته الأخرى. فهو وعي لا يعي ذاته، ولا يستطيع ممارسة تجربة التأمل الانعكاسي (عكوف الذات على نفسها وتأمل نفسها باعتبارها مختلفة عن الموضوعات الأخرى التي تقوم خارجها). وهذا هو السبب في أن البدائيين أمثال قبائل الزولو – فضلا عن قدماء المصريين والأغريق واليونان – لا يميزون بين ظل الإنسان أو خياله وبين روحه، ويتجنبون النظر الى صورهم المنعكسة على صفحة الماء كي لا يلتهمها تمساح أو جنيات فتسلب أرواحهم. وربما يكون هذا هو الأصل البعيد لأسطورة نرجس، ذلك الفتى المليح الذي هلك من طول تأمل صورته الجميلة في الماء. أما لدى الطفل الذي يحيا في مجتمع أو ظروف حضارية، فإن تجربة المرآة تتحقق هنا من أولى مراحل تطور الوعي بالشخصية أو الهوية ؟ فالطفل – كما لاحظ علماء النفس – يبدأ في عمر مبكر (ابتداء من الشهر السادس) في إدراك أو استجابة معرفية مصحوبة بالتهلل والانفعال والفرح حينما يدرك الصور التي تنعكس أمامه على سطح المرآة، وخاصة صورته هو. فهنا يبدأ وعي أولي بأن "الأنا الآخر" – والآخر عموما – يكون متميزا عن "الأنا" أي ليس هو الأنا. أما في حالات الاضطراب النفسي والعقلي التي تعاني ازدواجية الباطن والظاهر أو الحقيقة والمظهر، فإن تجربة المرآة تتحقق على نحو يضطرب فيه التمايز بين الأنا والأنا الآخر أو بين الأصل فى الصورة، فلا يرى الشخص هنا في الآخر (سواء لحان الآخر هم الآخرون أم صورته المرآوية) مجرد صورته، وانما يرى في الآخر ويخلع عليه حقيقته الباطنية التي يريد اخفاءها: ولهذا نواه يخاطب (أو يحطم أحيانا) صورته المرآوية – التي تتبدى للآخرين أو في المرآة الفعلية – ظانا أنها تعكس حقيقته الباطنية. ولقد استخدم كثير من الأدباء "تكنيك المرآة" في تصوير شخصيات تعاني من مرض نفسي مثل حالات ازدواج الظاهر والباطن على نحو يدفعها في النهاية الى تحطيم الذات أو الانتحار، مثلما فعل أوسكار وايلد في تصويره لدوريان جراي الذي كان يرى في صورته المرآوية كل الآثام التي يرتكبها منطبعة على وجهه وروحه، ومثلما فعل شكسبير في تصويره للحالة النفسية والعقلية (الجنون) الذي انتهى اليه الملك لير، وأصبح يرى في إدجار – الذي كان في مثل حالته النفسية والعقلية – مرآة أو ظلاله، فهو يتحدث الى إدجار كما لو كان يتحدث الى صورته المرآوية.
أما الفصل الثاني والأخير الذي يحمل عنوان "الراوي – المروى عليه"، فيعد بحق تأصيلا فلسفيا لفن السيرة الذاتية انطلاقا من مفهوم المرآة. والمؤلف يلتقط استبصارات لمؤرخ الحضارة لويس ممفورد حول تأثير صناعة المرأيا الزجاجية على ازدهار فن السيرة الذاتية الحديث في القرنين السادس عشر والسابع عشر: فالمرأة المجلوة تستطيع أن تقدم صورة حقيقية للذات أو دخيلة النفس الإنسانية (لا مظهرها الخارجي فحسب): فهي تعكس آثار السن والمرض وخيبة الأمل والإحباط والضعف، مثلما تعكس الصحة والفرح والأمل والثقة.. الخ. ولا شك أن حاجة الإنسان الى أن يرى ذاته أو صورته المرآوية (بالمعنى الحقيقي والمجازي للمرآة) تشتد في فترات التفكك النفسي، لا فترات الانسجام مع العالم أو التوحد به ( والحقيقة أن هذا – في رأينا الشخص – لا يصدق فحسب على الذات الفردية أو الأنا وانما يصدق أيضا على ذات أو شخصية الأمة التي تبحث عن هويتها في فترات الضياع والتدهور، ويحضرنا هنا قول هيجل: إن بومة منيرفا لا تحلق إلا عند الفسق، قاصدا بذلك أن الحكمة – وبومة منيرفا هنا رمز للحكمة – التي تنبثق من تأمل التاريخ تنشأ في فترات التاريخ الحالكة للشعوب، كما في الليلة الظلماء ينبثق الفجر). وما يهمنا هنا هو تلك العلاقة الوثيقة بين مفهوم "المرآة "، ومفهوم "تأمل الذات"، فالواقع أن ظهور المرآة الزجاجية لم يكن له تأثير فحسب – كما لاحظ ممفورد – على اكتشاف العلوم لعالم الطبيعة من خلال الأدوات التقنية المصنوعة من الزجاج كالميكروسكوبات والتلسكوبات والمرايا..الخ وانما أيضا كان له تأثير على تعميق الوعي بمفهوم "تأمل الذات" من خلال المرآة كنافذة يطل منها الشخص على عالمه الداخلي، ومن هنا كان تأثيرها على فن السيرة الذاتية.
والمؤلف ينطلق من هذا الاستبصار الأساسي لدى ممفورد ليحفر تحته ممتدا الى ما وراءه زمانيا، وممتدا به الى آفاق أكثر رحابة؛ ليؤسس بذلك تأصيلا فلسفيا متينا لفن السيرة الذاتية على أساس مفهوم المرآة أو التأمل الانعكاسي للذات، أي التأمل الذي يكون فيه العارف هو موضوع المعرفة أو يكون الراوي هو المروى عليه من خلال فعل الكتابة الذي يقوم في هذه الحالة مقام المرآة. ويؤصل المؤلف هذه التجربة المرآوية لفن السيرة الذاتية من خلال وصف لأصولها الفلسفية الابستمولوجية التي تبلورت مع ديكارت الذي تؤسس فلسفته مرحلة الوعي بالذات العارفة التي تتأمل نفسها. ومع ذلك، فإن المؤلف يرتد الى مرحلة أبعد كان فيها فن السيرة الذاتية متحققا بالفعل في أعمال كثير من الفلاسفة والفنانين والأدباء والمتصوفة. ومن الأمثلة على السير الذاتية الكبرى: كتاب "الاعترافات" لأوغسطين، و"المنقذ من الضلال" للغزالي، وكتاب "الرسائل" لمونتني الذي يتوقف المؤلف عنده بوجه خاص مبينا كيف تتجلى فيه التجربة المرآوية لفن السيرة الذاتية باعتبارها تجربة تنطلق منها الذات لتجوب العالم والآخرين، ولكن لتراهم من خلال الأنا، فهناك ارتداد باستمرار الى الأنا، ووعي بأن الآخر الذي نبحث عنه ليس سوى الأنا الذي يمارس التجربة. فالآخر أشبه بصورة مرآوية للأنا تتحقق من خلال فعل الكتابة،كما هو الحال في تجربة مونتني الذي يعترف فواحة في "الرسائل" قائلا: "اني أنا موضوع كتابي".
* * *
إن كتاب "فلسفة المرآة " له شخصية مميزة تكسبه أصالة فكرية ومنهجية، والأصالة الفكرية للكتاب تبدو على الفور للعين الخبيرة حينما تتفحص الكتاب حتى من الناحية الشكلية: بدءا من لوحة الغلاف التي اختارها المؤلف بنفسه، واهداء الكتاب الموحي الذي يوجهه المؤلف لأستاذه الدكتور فؤاد زكريا قائلا: "الهوية في الاختلاف" في إيجاز موح بمضمون الكتاب وتوجهه الفكري؛ ومرورا بالعناوين الرئيسية والفرعية واللوحات الفنية النادرة ذات الدلالات الفلسفية الخصبة: وانتهاء بهوامش الكتاب واحالاته المرجعية التي تتنوع بصورة مدهشة عبر مجالات الفلسفة والفن والسيكولوجيا والتصوف واللاهوت، ونادرا ما يحمل أحدها عنوان المرآة صراحة أو مجازا، مما يدل على الجهد الفذ الذي بذله المؤلف في قراءات متنوعة والاستعانة بنصوص متباينة ليروضها أو يقودها كأدوات يمتطيها لتأصيل رؤيته.
والمنهج الذي ينتهجه المؤلف – دون تصريح بذلك – هو المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي)، وهو منهج لوصف الظواهر كما تتبدى أمام الوعيه وهو بذلك يسهم الى هذا المنهج من حيث تطبيقه على ظاهرة كانت هناك حولها تلميحات أو تصريحات من هنا وهناك، أو حتى معالجات قيمة من زاوية جزئية معينة، دون أن يشكل هذا فلسفة موحدة أو رؤية فلسفية متكاملة. والواقع أننا يمكن أن نذهب الى ما هو أبعد من ذلك لنؤكد أن منهج الكتاب ليس مجرد "فينومينولوجيا"، وانما هو أيضا " فينومينولوجيا للفينومينولوجيا"، ويمكن إيضاح هذين المستويين من البحث في الكتاب على النحو التالي:
لا شك أن تجارب المرآة نفسها حينما تمارس بطريقة واعية أو قصدية، هي نوع من التجارب الفينومينولوجية، أي وصف وتأمل لتجارب شعورية.فالتأمل الانعكاسي – وهو ظاهرة مرآوية، أعني تحدث في تجربة المرآة – هو إحدى الطرائق الهامة في المعرفة التي تتحقق من خلال خبرة
فينوهينولوجية، أعني خبرة وصفية مباشرة،ولذلك فإننا عندما نمارس تجربة الانعكاس (أو تجربة المرآة)، أعني عندما نصف ونحلل ما يظهر أمام وعينا في هذه التجربة وصفا مباشرا لنفهم معناه، فإننا بذلك نمارس تجربة فينومينولوجية بمعنى ما، كما هوا لحال مثلا في السير الذاتية بمعناها الحق حينما تحاول أن تتلمس المعنى فيما يظهر للوعي أثناء فطر التأمل الانعكاسي.
ولكننا في كتاب "فلسفة المرآة" لا نجد مجرد أمثلة فقط على هذه التجارب المرآوية (الانعكاسية) التي مر بها أناس ما على اختلاف صفوفهم، ولا مجرد تحليل لماهية وبنية هذه التجارب – الطريقة الفينومينولوجية، وانما نجد أيضا تأملا انعكاسيا لهذه التجارب الانعكاسية. فكأن المؤلف يمارس بذلك نوعا من التأمل الانعكاسي لتجربة التأمل الانعكاسي نفسها، فهو يستحضر أمام وعيه التأملي تجارب التأمل الانعكاسي حتى حينما تمارس بطريقة لاواعية، ليكشف لنا عن معناها وأساليب ظهورها أو تحققها،و هو بهذا المعنى يمارس نوعا من فينومينولوجيا الفينومينولوجيا.
والمؤلف لا يدعي أنه يمارس بالفعل هذا المنهج بالغ التعقيد، ولا ينشغل بأن يزعم ذلك، وانما هو يقدمه لنا ببساطة من خلال ممارسة فعلية، تاركا للعارفين بها تقديرها حق قدرها. ولا شك أن في مواضع معينة من الكتاب تفصيلات واستطرادات فيها طابع الشروح الإسكولائية المجهدة بالنسبة للمؤلف، في حين أنها ربما تكون غير ضرورية بالنسبة للقارىء العام أو بالنسبة للسياق العام للكتاب. ولكن الكتاب في مجمله محاولة فذة لتقديم إسهام حقيقي في مجال الإبداع الفلسفي قلما نجد له نظيرا في ثقافتنا العربية المعاصرة.
سعيد توفيق
(استاذ الفلسفة وعلم الجمال بجامعتي القاهرة، والسلطان قابوس)