ترجمة: رضا الأبيض
مترجم تونسي
يصوّر البورتريه portrait الذي رسمه هانز هولباين الابن Hans Holbein the Younger لجورج جيزي George Gisze [1] أحد أعضاء مجموعة ستيليارد Steelyard، وهي مجموعة من التجار الألمان الذين مثلوا الرابطة الهانزية Hanseatic League في لندن في عهد هنري الثامن.
ما يمكننا رؤيته في هذا البورتريه هو رجلٌ ذو ملامح كئيبة، يحدّق خارج الصورة، ولكن أبعد من المُشاهد، ويرتدي زيًا متقن الصّنع ولكن غير مزخرف، وقبعةً مسطحة عادية.
جيزي محاطٌ بأشياء: طاولة مغطاة بقطعة قماش منقوشةٍ، تكدّست عليها دفاتر الحسابات وأقلامُ الريشة وصناديق النقود، والرفوفُ تمتلئ بأدوات القياس والخرائط.
إنّ تأثير غرفة عمل جيزي متناقض: فهي فوضوية، لكنها خانقة. مساحة للاستعمال مزيّنة بزهرة غير متناسقة (وموضوعة على نحو غير آمن) وُضعت في مزهرية زجاجية.
لقد تمّ تحديد ديكور وإكسسوارات الغرفة بعنايةٍ فائقة، مع تأثيرات زخرفة مفرش المائدة السّميكِ المتباينة مع حُبيبات الجدران الخشبية، ولمعان أكمام جيزي، وتموّجات شعره الريشيّة، والصناديق النحاسية الصفراء وزجاج المزهرية الدقيق..
إنَّ صياغة التفاصيل الدقيقة تتناقض مع عدم الاهتمام بقوانين المنظور. فالغرفة تبدو وكأنها موجودةٌ في مساحة غير حقيقية، وملامح وجه جيزي مائلة بزاوية مستحيلة، مما يسمح لنا برؤية الوجه بأكمله، وليس جزءًا منه فقط.
أمّا قطع الورق التي يبدو أنها تُركت هكذا في الغرفة فتحتوي على خطوط مقروءة، الكثير منها يكرّر اسم جيزي، بما في ذلك الرسالة التي في يده والموجهة إلى “جيزي الرائع، في لندن، بإنجلترا”.
وثمّة نقشٌ على الجدار الخلفي، مكتوبٌ بمزيج من اليونانية واللاتينية، ترجمته، “الملامح التي تراها هي صورةٌ دقيقة لجيزي” ويذكر أنّ عمره 34 عامًا، وسنة الصورة هي 1532. 1
وعلى النقيض من هذا المرجع الوثائقيِّ، هناك نقشٌ آخر، يبدو أنه محفور على الجدار نفسِه خلف كتف جيزي الأيسر، وهو أكثر انحرافا. نصّه: “Nulla sine merere voluptas” (“لا متعة دون حزن”). وقد تمّ توقيعُ هذه العبارة بواسطة جيزي نفسه.
يمنح البورتريه الذي رسمه هولباين لجيزي تأثيرَ تمثيلِ صورةٍ محدّدة لتاجر لندني محدّد في القرن السادس عشر في مكان عمله.
يمكننا أنْ نستنتجَ فكرة ما عن عمل جيزي من خلال هذه الأشياء: فهي تشير إلى أنه كان يقرأ ويكتبُ ويجيد الحساب، وأنه كان كثير الشّغل وثريًا، وأنه كان يدير أعمالَه خارج حدود إنجلترا. ولكن حتى الفحص السّريع للصورة يثير من الأسئلة أكثر مما يقدّم من إجاباتٍ.
على الرغم من ارتباطه ببازل، فقد جاء هولباين إلى إنجلترا مرتين -في 1526-1528، ومرة أخرى في 1532- وفي المرتين تخصص في رسم الصور الشخصية.
خلال رحلته الأولى حصل على رعاية توماس مور وأعضاء دائرته. في زيارته الثانية، بدأ برسم بورتريهات للتجار الألمان، ولكن سرعان ما لفت انتباه هنري الثامن.
كانت هذه واحدة من أولى بورتريهات هولباين في لندن خلال زيارته عام 1532.
كان جيزي تاجرًا وكان عضوًا في ستيليارد – الرابطة الهانزية في لندن.
لماذا رسم هولباين هذا التّاجر بالذات؟ وإلى أيِّ مدى يكون هذا التمثيلُ وفيّا للصورة النموذج؟ لماذا لجأ إلى مثل هذه الوفرة الفوضويّة من الأشياء، في حين أنّ مجموعة بسيطةً من الموازين ودفاتر الحسابات ستكون كافية للإشارة إلى تجارته؟ ماذا تعني العلاماتُ الموجودة على الحائط؟ وكيف كان جيزي: هل يمكن أنْ نعتبر شخصيته حزينة أم متعجرفة، أم هي لا هذه ولا تلك، أم هي كلاهما؟
ما يبدو للوهلة الأولى وكأنّ البورتريه تمرينٌ بارع في تقديم الأشياء الذائبة في الغموض عندما نأخذ في الاعتبار هيئة جيزي الغامضة، والبيئةِ المزدحمة والثقيلة، والتذكير الواضح بأنّ الحياة مليئة بالأحزان.
يبدو أن بورتريه جيزي يستحضر الصورةَ الحَرْفيّة لشخصٍ بعينه في وقت محدّد، لكنَّ عدم تحديدها يجذب الخيالَ ويمنع التأويلَ المغلق والنهائيَّ.
كان هولباين رسامًا ماهرًا بشكلٍ استثنائي، لكنَّ التوتراتِ والغموضَ الواضح في بورتريه جيزي ينطبق على معظم البورتريهات الأخرى.
يعرّف قاموس أوكسفورد الإنجليزي فنَّ البورتريه portraiture بأنه “تمثيلٌ أو تحديد لشخص ما، وخاصة الوجه، يُستمد من الواقع، عن طريق الرسم والتلوين والتصوير الفوتوغرافي والنقش…إلخ”
إنّ الجذور الدلالية الأخرى للمصطلح تربطه بفكرة التّشابه: من ذلك مثلا، الكلمة الإيطالية التي تعني بورتريه، ritratto من الفعل ritrarre، وتعني”تصوير” to portray و”نسخ أو إعادة إنتاج”.
ومع ذلك، فإنَّ هذا التعريف البسيطَ يتجاهل تعقيدات فن البورتريه. فالبورتريهات ليست مجرّد أوجه تشابه، وإنما هي أعمالٌ فنية تتعامل مع فكرة الهوية كما يتمّ إدراكُها وتمثيلها وفهمها في أزمنة وأماكن مختلفة.
إنّ “الهوية” يمكن أنْ تشمل سماتِ الشّخص وشخصيتَه ومكانته الاجتماعية وعلاقاته ومهنته وعمره وجنسه.
هذه الصفات ليست ثابتةً، ولكنها معبرة عن الانتظارات والظروف في الوقت الذي تمّ فيه رسمُ البورتريه. ولذلك لا يمكن إعادةُ إنتاج هذه الجوانب من الهوية، إذ لا يمكن إلاّ اقتراحها أو تخيّلها.
وهكذا، فعلى الرغم من أنّ البورتريهات لا ترسم إلاّ أفرادا، فإن الصفات النموذجية أو المتواضع عليها -وليس الفريدة- للشخصية هي التي يركّز عليها الفنانُ، كما هو واضحٌ في بورتريه جورج جيزي لهولباين.
لقد خضع فن البورتريه لتغييرات كبيرةٍ في الممارسة الفنية والمواضعات. إذ على الرغم من أن معظم البورتريهات تحتفظ بدرجة معينة من الواقعية، فإنها مع ذلكَ نتاج للمُوضات الفنية السائدة والأساليبِ والتقنيات والوسائط المفضّلة.
وبالتالي فإن فنّ البورتريه هو نوع فنّي واسع يقدم مجموعة غنية من الارتباطات مع الممارسات والانتظارات الاجتماعية والنفسية والفنية.
إن البورتريه يحتاج إلى دراسة مستقلة لأنه يختلف عن الأنواع أو الفئات الفنية الأخرى من حيث طرق إنتاجه، وطبيعة ما يمثّله، والطريقة التي يعمل بها كشيء مُعدّ للاستخدام والعرض.
أولا، تقتضي البورتريهات، من حيث إنتاجها، دائمًا وجودَ شخص محدّد، أو على الأقل صورة لذلك الشخص.
وعلى الرغم من أنّ هذا ليس هو الحالُ عالميًا، فإنّ إنتاج فن البورتريه يقتضي عادةً جلساتٍ تتطلب مشاركة مباشرة بين الفنان والشّخص (الأشخاص) أثناء عملية إنتاج العمل الفني.
وفي حالة الأشخاص المهمّين جدّا أو المشغولين للغاية بحيث لا يمكنهم القيام بزيارات متكرّرة إلى إستوديو الفنان، يمكن لرسّامي البورتريه استخدام رسوماتِهم أو صورِهم الفوتوغرافيّة.
في أوروبا في القرنين السّابع عشر والثامن عشر، كان بإمكان رسامي البورتريه تقليل عدد الجلسات من خلال التركيز فقط على الرأس وتوظيف رسّامِي أقمشةٍ محترفين لإكمال العمل.
فعلى سبيل المثال، كان لدى الفنان الإنجليزي السير بيتر ليلي Peter Lely كتابٌ نموذجي عن الوضعياتِ مكّنه من التركيز على الرأس، وهو ما تتطلّب من حرفائه الأرستقراطيين جلساتٍ قليلة.
وقد يُطلب من رسّامي البورتريه إنجازَ بورتريهات لأشخاص ماتوا، مثل بورتريهات الأطفال قبل القرن العشرين -الذين مات الكثير منهم قبل اكتمال البورتريه-. في مثل هذه الحالات، قد يتمّ نسخُ المطبوعات أو الصور الفوتوغرافية للشخص.
ومن حيث المبدأ، يمكن لرسامي البورتريهات الاعتمادُ على الذاكرة أو الانطباع في إنتاج أعمالهم، ولكنَّ الأمثلة الموثقة لمثل هذه الحالات نادرةٌ.
ومع ذلك، سواء اعتمدوا في عملهم على الجلسات المباشرة، أو قلّدوا نسخةً شبيهة، أو اعتمدوا الذاكرة فقط، فإن ممارسة فن البورتريه ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحضور الضّمني أو الصريح للجليس.
ويمكن أيضًا تمييز فن البورتريه عن الأنواعِ الفنية الأخرى مثل التاريخ والمناظر الطبيعية والطبيعة الميتة (الصامتة)، وذلك من خلال قيامه على التّشابه.
تُظهر جميع الصور صورةً للجليس محرَّفة أو مثالية أو جزئيّة، لكنَّ فنّ البورتريه كنوع فني مرتبطٌ تاريخيًا بفكرة المحاكاة أو التشابه.
هذا الارتباط المفترض للبورتريه بالنسخ والتقليد غالبا ما أدّى إلى رفض هذا الشكل الفني أو وضعه في مكانة متدنّية.
ولقد استمر التركيزُ على حاجة الفنان المبدع إلى ابتكار وتصوير صُوَرٍ مثالية منذ نظرية فن عصر النهضة حتى أوائل القرن التاسع عشر، وهو ما ساعد في نقل فن البورتريه إلى مستوى التمرين الميكانيكي، بدلًا من أن يكون فنّا جميلا.
إن اعتراض مايكل أنجلو Michelangelo الشهير على أن يرسم بورتريهات لأنه لم يكن هناكَ ما يكفي من النماذج الجميلة المثالية2 هو مجرّد مثالٍ على الموقف الرافض لفن البورتريه، الذي استمر قائما بين الفنانين المحترفين، حتى أولئك الذين، ومن المفارقة، كانوا يكسبون رزقَهم من رسم البورتريهات.
لقد ساد الميلُ إلى تقويض ممارسة فن البورتريه في فترة الحداثة في القرنين التاسع عشر والعشرين، عندما أدى خطابُ التجريب الطليعي إلى تفضيل التجريد على المحاكاة. ومع ذلك، استمر هؤلاء الفنانون، في عديد البلدان، في ممارسة هذا الفن، على الرغم من اعتراضاتِهم النظرية.
من ذلك مثلا أنّ بيكاسو Picasso أقام شهرتَه المبكّرة على لوحاتِ الطبيعة الميتة، التّكعيبيّة، لكنَّ بعض تجاربه المبكرة الأكثر فعالية في هذا الأسلوب الجديد كانت بورتريهات لتجار الأعمال الفنية، مثل دانيال هنري كاهنويلر Daniel-Henry Kahnweiler [2].
كان كانويلر تاجر أعمال فنيًة، وكان مسؤولًا إلى حد كبير عن بيع أعمال بيكاسو التكعيبية المبكرة، وبالتالي حماية الفنان من الحاجة إلى عرض لوحاته التجريبية والترويج لها بمبادرته الخاصة. لذلك كان قرار بيكاسو تصوير كانفايلر بأسلوبه التكعيبي المبتكر بمثابة تكريم مناسب لمؤيد الطليعة، ولكنه كان أيضًا جزءًا من ميل الفنانين الطليعيين لإنتاج بورتريهات لتجار الفن البارزين الذين ساعدوا في تعزيز حياتهم المهنية.
قدم بيكاسو تفاصيلَ كافية في هذا البورتريه لتمييز ملامح جليسِه. وخلافًا لبعض أعماله التكعيبيّة الأخرى، مثل كثير من لوحاته عن الطبيعة الميّتة، يظل الشّخصُ هنا واضحًا ومميّزًا، على الرغم من تجزئة شكل الوجه.
لقد تمَّ تفنيد المكانة الوضيعة للبورتريه المحاكى بوسائل أخرى. وعندما قامت الأكاديمية الملكية الفرنسية بتدوين التسلسل الهرمي للأنواع الفنية في القرن السابع عشر، احتل فنُّ البورتريه المركز الثاني بعد الرسم القصصي history painting.
وكانت الفكرة هنا أنَّ البورتريه يجب ألا يصوّر سوى الأشخاص الأكثر أهمية و/أو أولئك الذين ميّزوا أنفسَهم بالفضيلة أو البطولة. ولذلك اُعتبر فن البورتريه بديلًا للرسم القصصي في تقديم نماذج محاكاةٍ للمشاهد.
لقد تحوّل ازدراءُ فن البورتريه الذي بدا مصاحبًا للتجريد في أوائل القرن العشرين إلى افتتانٍ بعد الحرب العالمية الثانية، عندما احتل هذا الفنُّ مركز الصدارة في الممارسة التجريبية لفنّانين مثْل روبرت مابلثورب Robert Mapplethorpe وجو سبنس Jo Spence وسيندي شيرمان Cindy Sherman.
وهكذا كان لارتباط فنِّ البورتريه السائد بالمحاكاة تأثيرٌ سلبي وإيجابي، في آن، على سمعة هذا النوع.
والسبب الآخر الذي يجعل فن البورتريه فريدًا يكمن في تنوع أشكاله ووظائفه. إنّه، ربما أكثر من أي شكل آخر من أشكال الفن، يُقدّم عبر عديد الوسائط، إذ يمكن أنْ تكون البورتريهات في شكل لوحاتٍ ومنحوتات ورسومات ونقوش وصور فوتوغرافية وعُمْلات معدنية وميداليات. وقد تظهر كصور في الصحف أو المجلات أو على الفسيفساء أو الفخار أو المفروشات أو الأوراق النقدية..
ففي البيرو قديما شاعت البورتريهات على الأواني، وفي إنجلترا في القرن الثامن عشر راجتْ لفترة قصيرة البورتريهات المنسوجة من الشَّعر.
ويمكن أن تُظهر البورتريهات الأفرادَ أو المجموعات بطرق مختلفة، إما جزئيًا أو بشكل طفيف، مثل التماثيل النصفيّة أو الصور الظلّية، أو الكاملة في إطار محدّد بدقة.
ويمكن أيضًا أنْ نعثر على بورتريهات في سياقاتٍ ومواقعَ متنوعة: فهي تشترك مع الأنواع الأخرى في مكان مَا من صالات العرض والمنازل الخاصة، ولكن يمكن أيضًا حملُها باليد (على سبيل المثال العُمْلات المعدنية)، أو ارتداؤها كقلائد (منمنمات)، أو عرضها لتزيين الحدائق (التماثيل النصفية) أو كمعالِم عامة. كلّ هذه المحاميل تمنح البورتريه دلالات مختلفة.
إنَّ انتشار فن البورتريه يعني أنه ربما يكون الأكثر شهرة بين جميع أشكال الفن. وعلى سبيل المثال، كان العبْد الأقل تعليما في اليونان القديمة يتعرّف على وجه الإسكندر الأكبر على عُمْلة معدنية أو على نُصْبٍ تذكاريٍّ للفروسية؛ وكانت الأكوابُ التي ترسم عليها وجوه السياسيين المشهورين شائعةً في الحانات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية في القرن الثامن عشر. وفي القرن الحادي والعشرين، حتى أولئك الذين يجهلون الفنَّ قد يكون لديهم رفّ أو مكتبٌ مليء ببورتريهات أفراد الأسرة.
تنشأ الأبعاد الوظيفية لفن البورتريه وقيمته الاستعمالية وألفته وشعبيته، في جانب منها، من عدم تحديد البورتريهات. فهي تبدو وكأنها تتمتع بملموسية وثيقةٍ أو شيء حقيقي، لكن هذه التفاصيل هي حتما جزئية وتتم عبر وساطة، وتخضع لسياقاتِ إنتاجها وعرضها وتلقيها.
من كل هذه النواحي، يُعدّ فن البورتريه فئة فنية فريدة من نوعها. ومع ذلك، ثمة نوعان من المواقف النمطية السائدة حول فن البورتريه بشكل عام والتي تستحق أن يُنظر فيها قبل دراسة هذا النوع، بالتفصيل: الأولى هي أن فن البورتريه كانَ من اختراعات عصر النهضة؛ والثانية هي أنّ فن البورتريه هو شكلٌ من أشكال الفن الغربيِّ في الغالب.
وإذا كان من الممكن دحض الفكرة الأولى، فإنه يمكن القول إن الثانية صحيحة. فمن المؤكد أنَّ القول بأن ممارسة رسم البورتريهات لجالسين فرديين قبْل القرن الخامس عشر نادرة، هو قولٌ صحيح.
ومع ذلك، ثمّة أدلة على أن فن البورتريه كان موجودًا في وقتٍ مبكر من العصر النيوليثي (الحجريِّ الحديث)، عندما كانت عبادة الجماجم، البولينيزية تفضّل الرأسَ وتميّزه عن بقية الأعضاء. وبحلول عام 5000 قبل الميلاد، تمّ تشكيل الجماجم من الطين في أريحا3.
لقد كان العالم القديم مليئًا بالبورتريهات: ففي اليونان كانوا عادة ما يصوّرون الشّخصيات البارزة في شكل منحوتاتٍ جنائزية أو تماثيل عامة؛ وفي روما أصبح التمثالُ النّصفي الذي عليه بورتريه شخصيّ شيئًا مهمًا في المنازل الخاصة. وذُكر فنّ البورتريه من قبل كُتَّابٍ قدماء مثل بليني الأكبر Pliny the Elder وأرسطو Aristotle وزينوفون Xenophon وأفلاطون Plato وشيشرون Cicero وكوينتيليان Quintilian وهوراس Horace. وتمّ إنتاجُ بعض البورتريهات الأكثر تأثيرا في التاريخ في منطقة الفيوم في مصر الرومانية من القرن الأول إلى القرن الثاني الميلادي [3].
هذا مثال على إحدى بورتريهات الفيوم التي تم إنتاجها في القرن الأول إلى القرن الثاني الميلادي في مصر الرومانية.
ظهر عدد من هذه البورتريهات الطبيعية للغاية على توابيت المومياء. وربما تم رسم البورتريهات بأثر رجعي، ولكن من الممكن أيضًا أن يكون تم إنتاجها قبل وفاة الأشخاص الممثلين. وعلى الأرجح تمّ حملها في الموكب الجنائزية.
في القرن الأول الميلادي، كانت الفيوم مأهولة بمزيج من الأجناس، بما في ذلك الرومان (الذين حكموا)، والمصريون، واليونانيون. وربما يكون اختلاط التأثيرات الثقافية من هذه الحضارات المختلفة قد ألهم المزيج الفريد بين الطبيعة والوظيفة الطقسية في بورتريهاتهم.
وعلى الرغم من أن البورتريهات الشّخصية في فترة العصور الوسطى لم يبق منها إلّا القليل فإنَّ هناكَ بعض الاستثناءات التي يمكن ملاحظتها في شكل منحوتات جنائزية وبورتريهات الأباطرة، مثل الرسوم الفسيفسائية الضخمة في النصف الأول من القرن السادس، للإمبراطور جستنيان Justinian والإمبراطورة ثيودورا Theodora في كنيسة سان فيتالي في رافينا Ravenna.[4]
هذه الفسيفساء هي واحدة من سلسلة تشكل المخطط الزخرفي لكنيسة سان فيتالي في رافينا.
معظم السلسلة مخصصة لحياة المسيح، ولكنها تتضمن أيضًا هذا البورتريه لجستنيان.
يُظهر هذا البورتريه الأسلوب المنمق للفن البيزنطي في القرن السادس والاستخدام الواضح للرمزية الإمبراطورية.
لقد كان جستنيان واحدًا من أوائل الأباطرة الرومان الذين دعموا المسيحية بكل إخلاص، ومن الجدير بالذكر أن الملابس الرسمية التي يرتديها في الفسيفساء تعكس تلك الملابس التي كان يرتديها المسيح في الفسيفساء على الجدار المقابل.
ويعدّ القرنُ الخامس عشر نقطة تحول مهمة في تاريخ فن البورتريه لأنه يمثل بداية احتراف رسم البورتريه الأوروبي.
في كل من إيطاليا وهولندا، ظهرت البورتريهات الشّخصية للمانحين، لأول مرة في الرسم الديني مثل لوحة ميرودي الثلاثيّة Mérode Altarpiece (حوالي 1425) وثالوث The Holy Trinity ماساكيو Masaccio في سانتا ماريا نوفيلا، فلورنسا (حوالي 1427).
وفي العقود اللاحقة، بدأ فنانون مثْل فان إيك Van Eyck في فلاندرز (بلجيكا) وبيسانيلو Pisanello في إيطاليا في إنتاج بورتريهاتٍ مستقلة لأشخاص بعينهم.
منذ هذه البدايات، يوضح رسم البورتريهات في القرن السادس عشر تنوعًا أكبر: لقد بدأ وضع النماذج في أطر كثيرة التفاصيل، مثلما رأينا في لوحة جورج جيزي لهولباين [1]، وحلّت الأشكالُ الكاملة محل الأشكال النصفية كقاعدة، كما هو الحال في بورتريهات النبلاء التي رسمها الفنّان الإيطالي برونزينو Bronzino، وأصبحت شخصياتُ البورتريه متنوعة بشكل متزايد، بما في ذلك أقزام البلاط، والخياطون، وغيرهم من التجار (يظهرون بشكل ملحوظ في أعمال فيلاسكيز Velázquez وتيتيان Titian)، بالإضافة إلى الملوك، ورجال الحاشية، ورجال الدين.
إن الحضور المتزايد لفن البورتريه في نظرية الفن منذ القرن السادس عشر يشهد على تزايد الاهتمام به.
وتمّت ترجمة أطروحة فرانسيسكو دي هولاندا Francisco de Holanda بالبرتغالية حول فن البورتريه عام 1548 إلى اللغة الإسبانية عام 1563. ويمثل هذا العمل أوّل دراسة شاملة لهذا النوع من الفن.
والأكثر شهرة هو جيوفاني باولو لومازو Giovanni Paolo Lomazzo (1538–1600) في إيطاليا الذي خصّص قسمًا كاملًا في كتابه Trattato dell’ arte della pittura, scoltura et architettura (دراسة في فنون الرسم والنحت والهندسة المعمارية) عام 1584، لفن البورتريه. وفي إنجلترا، كتب نيكولاس هيليارد Nicholas Hilliard فنّ المنمنمات The Arte of Limning بين عامي 1598 و1603، على الرغم من عدم نشره حتى القرن العشرين.
أصبح فنّ البورتريه أيضًا موضوعًا للجدل الديني بعد أنْ درس مجلس ترينت Council of Trent (1545-1563) مكانة الفن في الكنيسة، كجزء من مراجعته للنظرية والممارسة الكاثوليكية.
في عام 1582، خصص أسقف بولونيا غابرييلي باليوتي Gabriele Paleotti أقسامًا من كتابه الشهير Discorso intorno alle immagini sacre e profane (خطاب عن الصور المقدسة والدنيوية) للتفكير في الجوانب المقبولة وغير المقبولة في فن البورتريه.
لقد رافقت هذه التغييرات التطور الكبير الذي حدث في احترافية الرسامين. وبحلول القرن السادس عشر، ظهر بعض الفنانين المتخصّصين في البورتريه. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر أصبح من الشائع في أوروبا، ثم لاحقا في أمريكا، أن يسافر رسّامو البورتريه المتجولون خارج العواصم من مدينة إلى أخرى أو من منزل إلى منزل لتقديم خدماتهم.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حاز العديد من الفنانين شهرةً وكسبوا ثروةً من خلال ممارستهم رسم البورتريه، أساسا.
وأدرك الفنانون، وكذلك جلساؤهم، القيمة الدعائية لعرض البورتريهات في المعارض العامة، وإمكانية اكتساب المزيد من الشّهرة من خلال بورتريهات تكون جريئة من حيث الأسلوب أو فخمة، أو تقدّم نظرة دقيقةً حول شخصية الجليس.
كان الفنانان الأمريكيان توماس إيكينز Thomas Eakins وجون سينجر سارجنت John Singer Sargent، والرسّام الفرنسي ديقاس Degas، من بين العديد من الفنانين في القرن التاسع عشر الذين أظهرت بورتريهاتُهم المعروضة مثلَ هذه الصفاتِ المذهلة.
ونظرا لكون رسم البورتريه أصبح أكثر من مجرّد ممارسةٍ احترافية متخصّصة، فقد أصبح جمهور الجلساء أكثر تنوعًا.
وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، بدأ رسّامو البورتريه في تجريب طرق جديدةٍ بشكل متكرّر لاستحضار شخصية الجليس أو مكانته الاجتماعية أو مهنته.
وفي حين ظل فن البورتريه التقليدي والرسمي شائعًا حتى يومنا هذا، فإن الفنّانين رسموا أيضًا بورتريهات لاستكشاف أنفسِهم، أو تقديم دوائرهم الحميمة، أو بمثابة بياناتٍ لأساليبهم وأهدافهم الفنية.
ليس هناك شكٌّ في أن هذه الممارسة واسعة الانتشار لرسم البورتريه يمكن أنْ تعود إلى عصر النهضة، على الرغم من أنَّ جذورها أقدم. ومع ذلك، ثمّة رأي آخر شائع وهو أنَّ فن البورتريه ظاهرةٌ غربيّة إلى حد كبير، وهذا الرأي من الصعب دحضه.
بالتأكيد، هناك بورتريهات في بلدان غير غربيّة، مثل الصين، حيث يمكن إرجاع تقليد البورتريه إلى الأسرة الحاكمة هان Han dynasty عام 200 قبل الميلاد4، أو الهند، حيث ارتبط شكلٌ خاص من أشكال الرسم المنمنم للصّور بالأسرة الحاكمة موغال Mughal في الهند، في القرن السابع عشر.
ولكن، نظرًا لكون فنّ البورتريه يقدّم أشخاصًا محدّدين، فإن ممارساته تزدهر في الثقافات التي تفضل فكرة الفرد على فكرة الجماعة5.
وكما بيّن ستيفن جرينبلات Stephen Greenblatt، فإنَّ عصر النهضة في أوروبا الغربيّة كان عبارة عن فترة من الوعي الذّاتي المتزايد، حيث بدأ التعبير اللفظي عن مفاهيم الهوية الفردية والمميّزَة6.
وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، تعزّزت هذه الاعتباراتُ من خلال التطور السريع لأنواع السيرة والسيرة الذاتية، ومن خلال الأفكار الواضحة بشكل متزايد حول الشّخص والشخصية.
وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، أدت التطورات الجديدة في علم النفس إلى استكشافاتٍ أعمق للفردية والشخصية.
إنّ هذا المسار التاريخي يشمل تطور فن البورتريه باعتباره ممارسة فنية مهمة ومنتجا ثقافيّا.
أمّا في العديد من الثقافات غير الأوروبية، فإنّ هذا الاستكشاف لطبيعة الفرد إمّا غير موجود أصلا أو لم يتطور بنفس الطريقة.
من ذلك، على سبيل المثال، أنّ جزءا كبيرا من فن الثقافات القبلية الأفريقية يعتمد الأقنعة[5]، ولكن القناع مصمّم بشكل منمق ويعمل على تقديم غطاء الشّخص عامة وليس شخصًا بعينه.
إضافة إلى ذلك، فإنّ حظر التصوير في الثقافات اليهودية والإسلامية التقليدية، أدى إلى جعل البورتريه من المحرّمات في جزء كبير من العالم غير المسيحي.
تؤدي الأقنعة مجموعة متنوعة من الأغراض الطقسية في المجموعات العرقية الأفريقية المختلفة. ومن بين هذه الوظائف، يمكن اعتبار القناع بديلًا عن الروح أو السلف الميت؛ وبالتالي يمكن أن تكون له خصائص تشبه البورتريه ويعمل على تقديم ملامح فرد معين. إضافة إلى ذلك، استخدمت الأقنعةُ أيضًا في العروض كجزء من الطقوس الدينية. هكذا كان يُنظر إلى قوة القناع على أنها تحل محل الشخص أو النوع الذي من المفترض أن يمثله. عُرف هذا القناع على أنه نشأ مع شعوب غريبو Grebo في ما يعرف الآن باسم ليبيريا. لقد كانت قبيلة الغريبو مجموعة لغوية وعرقية متخصصة في صناعة مثل هذه الأقنعة الغريبة.
وبالتالي فإنَّ إسناد هوية محددة لوجْه وجسد ممثّليْن هو من المؤكد ظاهرةٌ غربيّة. إن إشارة دولوز Deleuze وجواتاري Guattari إلى «وجهية» faciality الثقافة الغربية تدلّ على اهتمام الغرب المهووس بالوجه كدالٍ، ولكنها تدلّ أيضًا على ما يُعتبر وهمًا غربيًا عن الذاتية الفردية7.
إن فكرة الفردية نفسَها مبنية ومشروطة اجتماعيًا وتاريخيًا، ولذلك فإن فنّ البورتريه يقوم على هذا المفهوم الغربي بشكل خاصٍ، ويعزّزه.
الهوامش
*هذا المقال هو ترجمة لمقدّمة كتاب « فن البورتريه» Portraiture لشيرر ويست Shearer West (صص 9-17). والكتاب من منشورات Oxford University Press، سنة 2004.
– The full inscription (which contains both Latin and Greek words) reads: DISTIKON. In imaginem Georgii Gysenii Ist refert vultus, quam cernis, imago Georgi Sic oculos vivos sic habet ille genas Anno aetatis sua XXXIIII Anno domini 1532. For good discussions of this portrait in the context of Holbein’s other representations of the London Steelyard, see Thomas S. Holman, ‘Holbein’s Portraits of the Steelyard Merchants: An Investigation’, Metropolitan Museum Journal, XIV (1980), 139–58; and Oskar Bätschmann and Pascal Griener, Hans Holbein, London, 1997, pp. 181–4
– This story derives from Giorgio Vasari’s ‘Life of Michelangelo’, in Le Vite de’ più eccellenti pittori, scultori e architettori, ed. Paola Barocchi, Pisa, 1994, vol. 1, p. 118. The quotation concerns Michelangelo’s portrait drawing of Tommaso de’ Cavalieri. According to Vasari, Michelangelo ‘aborriva il fare somigliare al vivo, se non era d’infinità bellezza’ (‘hated making a representation from real life unless it was one of infinite beauty’). I am grateful to David Hemsoll for identifying the location of this quotation for me
-The best account of very early portraiture is James Breckenridge, Likeness: A Conceptual History of Ancient Portraiture, Evanston, IL, 1969.
-See Audrey Spiro, Contemplating the Ancients: Aesthetic and Social Issues in Early Chinese Portraiture, Berkeley, CA, 1990; and Craig Clunas, Art in China, Oxford, 1997, p. 49.
– For a philosophical investigation of the origins of modern ideas of identity, see Charles Taylor, Sources of the Self: The Making of Modern Identity, Cambridge, MA, 1989
– Stephen Greenblatt, Renaissance Selffashioning from More to Shakespeare, Chicago and London, 1984
– Gilles Deleuze and Félix Guattari, A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia, trans. Brian Massumi, London, 1988, pp. 167–90