بعدما انشغل فوكو، لوقت طويل بالفلسفة السياسية لأفلاطون والدور الذي يلعبه فيها الخطاب الصريح والمباشر) Parrêsia ( سيشرع في هذا الدرس الذي ألقاه يوم 23 فبراير من سنة 1983، بالتأمل عميقا حول تيمة حقيقة الفلسفة ؛ متسائلا عن مكمن الحقيقة الفلسفية عند أفلاطون ؟
يرمي فوكو إلى الإجابة عن ذات السؤال مفضلا قراءة رسائل أفلاطون وبخاصة رسالته السابعة VII المشهورة. يمكن رصد ثلاثة أبعاد هنا بجلاء. أولا ، كون الفلسفة لاحقيقة لها دونما توفر شرط الإصغاء : يتطلب الأمر نوعا من الاستعداد الملموس للانتباه وإبداء حسن النية ، وهذا بالضبط هو ما لم يجده أفلاطون عند Denys de Syracuse . أما الحقيقة الفلسفية الثانية فتكمن في اشتغال الذات على الذات : فالفلسفة لاحقيقة لها إلا إذا كانت موضوع مران دؤوب وعملي. أما البعد الثالث فيتجلى في: رفض الكتابة. إن هذا الرفض الأفلاطوني المشهور للكتابة ، هو ما يرى فيه فوكو لا نوعا من الإعلاء من شأن اللوغوس Logos ) الذي يفيد هنا : les mathêmata ، أي مضمون المعرفة( بل نوعا من الامتياز الذي تحضى به مسألة بناء علاقة متواصلة مع الفلسفة لا على نحو تعليمي أو تلقيني ، لكن على نحو « العيش مع/وبصحبة الفلسفة » Un vivre avec .
النــص
أول مسألة متناولة في هذه السلسلة من النصوص التي أعمل على تحليلها لكم هي مسألة الإصغاء l’écoute . فالفلسفة لن تغدو خطابا ولا حقيقة إلا إذا كانت منذورة للإصغاء. بيد أن المسألة الثانية فتتعلق بالخطاب الفلسفي على اعتبار أنه لن يغدو حقيقة إلا إذا كان ملازما لنا يؤخذ به ويمارس عمليا، عبر سلسلة من التمارين. أما الآن، فنحن أمام صنف ثالث من النصوص، وهي تلك التي تعود إلى ذلك الاختبار الذي أخضع له أفلاطون Denys أو تتصل بالأحرى بالطريقة التي عجز على منوالها Denys عن التجاوز الايجابي للاختبار الذي كان يخوضه. يوضح النص السابق، إن لازلتم تتذكرون ، بان الأمر يتعلق باختبار épreuve ، وهو اختبار منهج يعرضه أفلاطون كتقنية حاسمة وناجعة. وفي السطور أو الصفحات الموالية، يوضح أفلاطون كيف خسر ذات الاختبار. والواقع أن هذا العرض، هذا العرض الطويل )*( هو ما يمكن مقاربته على النحو التالي :
أولا ، خسران Denys. كيف ولماذا خسر Denys ؟ ما الخلل الذي طال علاقته بالفلسفة فانتهى به إلا الفشل ؟
ثانيا، الجانب الايجابي في هذا النقد لـ Denys كما في فشل Denys ذاته ، اقصـد التصور
)*( درس لميشال فوكو لم يسبق له أن نشر.
)*( قد يبدو للقارئ أن ثمة نوعا من التكرار في العبارات لكن ذلك يعود بالضبط لطبيعة النص الشفاهية.
النظري الكامن وراء هذا الفشل. لنعرض، أولا للجانب السلبي. فكيف خسر Denys في اختبار الفلسفة؟ كيف خسر بالأحرى في هذا الاختبار، التطبيقي للفلسفة Pragma de la philosophie ، على اعتباره اختبار يتصل بتلك الحقيقة الفلسفية، التي هي متضمنة بالضرورة في الـ Pragmata، أي في التطبيقات الفلسفية ذاتها ؟ إن هذا الخسران ، هو ما يعبر عنه أفلاطون بطريقتين ويستدل عليه بدلالتين.
أولا ، الدلالة السلبية كليا، وتكمن في مايلي : كون Denys رفض بالضبط ان يسلك ذلك الطريق الفلسفي الطويل الذي تم إرشاده إليه . إنه على الأصح لم ينصت/يصغ إلى أول درس من دروس الفلسفة، بحيث يعتقد أنه على دراية مسبقة بكل الأمور سواء منها الهامة أوالأكثر أهمية .ta megista إنه مستفيض في علمه بها حد استغناءه عن كل رغبة في التعلم. هذا أمر بسيط، لكن ثمة مسألة أخرى؛ ففضلا عن هذا النكوص الذي أبداه Denys وعزوفه عن مواكبة الطريق الفلسفي الطويل أي عزوفه عن التعاطي للتمارين والتطبيقات الشاقة، قلت فضلا عن كل ذلك ارتكب Denys خطأ بشكل مباشر ومفاجئ . لقد ارتكب خطأ على نحو ايجابي. وهذا الخطأ هام للغاية. لقد كتب Denys بالفعل نصا فلسفيا. وفي كتابته لهذا النص يتجلى بحسب أفلاطون دليل عجزه عن ملاقاة الحقيقة الفلسفية. لقد كتب هذا النص من لدن Denys في الواقع بعد زيارة أفلاطون ؛ ولئن ذكره أفلاطون ففقط كدلالة بعدية تؤكد على أن زيارته لا يمكنها أن تكلل بالنجاح، مادام Denys قادرا على أن يقدم فيما بعد على كتابة نص حول المسائل الأكثر أهمية في الفلسفة، لا لشيء إلا لكي يثبت انه ذو جدارة في مجال الفلسفة ويبين أن المخطئ إنما هو أفلاطون. وهنا، بحسب قول أفلاطون، يكون Denys قد ارتكب خطأين. يتجلى الخطأ الأول في كونه أراد أن يتبنى تلك النصوص التي هي في الحقيقة ليست غير نسخ للدروس التي تلقاها Denys.لكن ليس هنا يكمن جوهر المؤاخذة ويّستخف بالأمور. ذلك أن الرغبة في الكتابة عن مسائل الفلسفة هاته كما عن هذه المسائل الأكثر أهمية في الفلسفة إنما هي ما يوضح جليا جهلنا التام بالفلسفة.
إن هذا النص الرئيسي بطبيعة الحال، هو ما يمكن الاستئناس به فضلا عن نص آخر معروف غالبا ما نستدل به كذلك لتوضيح وتبيان مدى رفض أفلاطون للكتابة. اقصد بهذا النص الذي يستجلي رفض أفلاطون للكتابة، نص الرسالة الثانية II ، حيث عند متمه تقريبا يقول أفلاطون : « فَكِرْ إذن في هذا الأمر، واحترس حتى لا تدفع الثمن ذات يوم غاليا، جراء ما قد تتركه الآن يّديع بشكل بشع. فالضمانة الكبرى تكمن في الإمساك عن الكتابة، لكن مع الحفظ عن ظهر قلب، ذلك لأن مصير كل نص مكتوب إنما هو المجال العمومي. فأنا بدوري، لن أكتب أبدا حول هذه المسائل. فليس ثمة من مؤلف يمكن عزوه لأفلاطون، ولن يكون. وكل ما يدرج حاليا تحت هذا الاسم إنما هو لسقراط إبان ريعان شبابه. إلى الوداع، واعمل بنصيحتي. وحالما تكون قد قرأت هذه الرسالة، احرقها » )1( .
ينبغي على كل حال، ألا تنسوا بأن هذه الرسالة الثانية II ، رسالة جاءت بالتأكيد بعد الرسالة السابعة VII التي أشرحها لكم، وهي إلى حد ما تلخيص لها أو هي على الأصح صيغتها الأفلاطونية الجديدة. ففي نص الرسالة VII الأكثر قدما، يبدو لي أن مسألة رفض الكتابة قد صيغت على نحو مغاير وبنمطية أخرى تختلف نسبيا. أما ونحن أمام نص الرسالة II الذي سبق لي أن قرأته لكم، فالواضح أن التيمة العامة ، إنما هي تيمة السرية L’ésotérisme . إن ثمة نوعا من المعرفة لاينبغي إفشاءها. ذلك أننا بإفشائنا لهذه المعرفة نكون محط عدة مخاطر. فكل مؤلف نسب لأفلاطون لايمكنه ولاينبغي له أن يعزى لأفلاطون بل حتى الرسائل التي كتبها ينبغي حرقها. إن قرار السرية هذا، يعود بلا شك إلى التأثير الفيتاغوري الكبير …الخ . لكن الأمر يختلف كليا فيما يخص مسألة رفض الكتابة هذا، ونحن بصدد نص الرسالة VII التي أريد أن اشرحها لكم الآن.
لقد نشر Denys إذن مجموعة من النصوص تبناها ككاتب، تدور حول كل المسائل الرئيسية في الفلسفة. والحالة هاته فنحن على حد تأكيد أفلاطون لايمكننا الحديث عن هذه الأمور الهامة في الفلسفة، ذلك أن الخطاب الفلسفي لن يصادف حقيقته Son ergon حالما اتخذ شكل ماتيماتا mathémata. وهنا ينبغي النظر الى لفظة الـ mathémata في معناها المزدوج . فالماتيماتا هي معارف لكن أيضا وفي نفس الوقت صيغ/أشكال للمعرفة formules de la connaissance. إنها في آن واحد، المعرفة مضمونا والطريقة التي بها تقدم هذه المعرفة على شكل mathèmes أي على شكل عبارات/صيغ تجد أصلها في mathêsis أي التعلم من حيث هو تعلم العبارات الملقاة من لدن الأستاذ/المعلم والتي يصغي إليها التلميذ، ويحفظها عن ظهر قلب لتغدو بالتالي لب معرفته .إن مسلك الماتيماتا هذا ، وهذه الصيغنة للمعرفة على شكل عبارات، تلقن وتحفظ وتدرك، كلها، بحسب نص أفلاطون ليست بالسبيل الذي تسلكه الفلسفة بالفعل. إن الأمور لا تجري على هذا النحو، فالفلسفة لا تّتعلم باتباع مسلك الماتيماتا.كيف تّتعلم إذن ؟ إن الفلسفة بخلاف ذلك يؤكد أفلاطون نتعلمها عبر ما يدعى بـ Sunousia peri to pragma ، وفي موضع بعيد شيئا ما يستعمل فعل suzein .تعني لفظة Sunousia « الكينونة مع » l’être avec « إنها الاقتران والاتصال. إذ غالبا ما يفيد لفظ Sunousia في التعبير الإغريقي العمومي معنى الاتصال الجنسي Conjonction sexuelle. لكنه هنا لايفيد أبدا ذات المعنى ، ولا أعتقد إذا ما كان ينبغي الذهاب بعيدا في التأويل، فتقول بان هنالك نـوعا من العلاقة شبيهة بالاتصال الجنسي مابين الذي يتعاطـى الفلسفة والفلسفة:
)1( Platon , lettre II, 314 b.c in oeuvres complètes, tome XIII – I , lettres, Paris, éd. les belles lettres, 1977, Trad. J.Souilhé, P10-11
بل الأصح أن هذا المجبر على خوض غمار التجربة الفلسفية ينبغي عليه أن « يعيش بصحبتها» Vivre avec « إن عليه أن يسكن معها، وفي حضنها avec là أيضا. حاولوا استحضار كل المعاني الممكنة للفظ cohabiter .إن كون كل من يتفلسف مجبر على السكن مع الفلسفة هو ما سيعتبر بمثابة الممارسة/التطبيق الفعلي للفلسفة كما لحقيقتها. تعني لفظة Sunousia المساكنة cohabitation مثلما تعني لفظة Suzein العيش مع « Vivre avec ». ويتساءل أفلاطون، عما سيحدث جراء هذا الـ Sunousia كما جراء هذا Suzein ؟ بفضل ذلك فقط تتوهج الأضواء داخل النفس، بفضل ذلك فقط تستنير الأضواء داخل النفس كأضواء ، أي تماما مثلما يشتعل فتيل المصباح عندما نقربه من النار .أن نكون بالقرب من الفلسفة مثلما يحدث عندما نكون بالقرب من النار، حتى يشتعل المصباح داخل النفس، أو حتى يشتعل المصباح على نحو ما تشتعل النفس، فهنا وبهذه الطريقة بالذات ستلقى الفلسفة فعليا حقيقتها. لامناص للمصباح إذن، ومنذ اللحظة التي سيشتعل فيها من إقاتة ذاته والتزود بوقوده هو ذاته. مما يعني أن الفلسفة ما أن تشتعل داخل النفس حتى تكون مجبرة على أن تقتات بفضل النفس ذاتها. إنه لبهذه الطريقة ذاتها، وعلى نهج هذا التساكن cohabitation وعلى مقاس الأضواء التي تتوهج وتنير وتتغذى من النفس ذاتها، فقط يمكن للفلسفة أن تحيى. وكما ترون فالأمر مخالف تماما لما يحدث أثناء الماتيماتا. في الماتيماتا ليس ثمة من وجود لـ Sunousia ، مثلما Suzein ليس ضروريا. المطلوب هنا إنما هو صيغنة الـ mathèmes ، أي مضامين المعرفة. ينبغي تلقين هذه الـ mathèmes (المحتويات المعرفية) وحفظها في الذاكرة (…). أما وحالتنا هاته فبالعكس، إذ ليس ثمة من صيغ formule لكن نوعا من التعايش. ليس ثمة من عملية تعلم العبارة من لدن احد، بل اشتعال مفاجئ ومباغث للضوء الداخلي للنفس. كما ليس ثمة أبدا تدوين لعبارة ناجزة داخل النفس ولا حتى نزولها فيها، بل إمداد دائم للفلسفة بالوقود الكامن في النفس . لاحظوا أنه في هذا السياق، لايمكننا اعتبار الفلسفة هي ما قد يّتعلم عبر شيء ما ، كمادة مكتوبة. مادة مكتوبة تصوغ المعرفة على شكل ماتيماتا بالضبط. ماتيماتا سوف تلقى من لدن معلم ما، لتلميذ ما، ليس له إلا أن يحفظها عن ظهر قلب. وعلى كل حال، فأفلاطون إن لم يقبل أبدا، بكتابة أي كتاب حول الفلسفة رغم كونه المؤهل لذلك أكثر من أي كان، فذلك ليس إلا لأن الفلسفة لا يمكنها أن تلقن على شكل الماتيماتا.
أكيد، يضيف أفلاطون ، أنه إذا كان ذلك ممكنا، أي إذا كان بالفعل من الممكن كتابة الفلسفة على شكل عبارات mathèmes تلقن من حيث هي كذلك، فسيكون ذلك أفضل ما في الوجود . فلو كان بوسعنا على حد تأكيد أفلاطون أن نضيء)*( الطبيعة tên phusin لكل الناس، لكان ذلك أمرا جيدا،
)*( أن نبدد كل الظلمات المنتشرة في الطبيعة فتتضح كل الأمور.
لكنه في الواقع سيكون إما تافها أو خطيرا . سيكون خطيرا بالنسبة لأولئك الذين هم جراء جهلهم الفعلي بأن الفلسفة ليس لها من حقيقة أخرى غير حقيقة تطبيقاتها الخاصة، يعتقدون أنهم على دراية بما تكونه الفلسفة، فينتهون بذلك إلى التفاخر والغرور واحتقار الآخرين. أما بالنسبة للآخرين ، أقصد أولئك الذين يدركون فعليا أن الحقيقة الفلسفية تكمن في هذا التطبيق كما في التمرن عليها أو في تمريناتها بالأحرى ، فالتعليم عبر الكتابة والتلقين من خلال الكتابة سيكون إجمالا بلا جدوى.
بيد أن أولئك الذين يعرفون فعلا ما تكونه الحقيقة الفلسفية ويعملون بهذه الحقيقة الفلسفية ، فليسوا في حاجة إلى نظير هذا التكوين/التلقين المكشوف ، على شكل الماتيماتا، يكفيهم نوع من الـ endeixis ، يكفيهم نوع من التلميح/الإشارة.
المرجع :
Magazine littéraire n° 435, octobre 2004
ترجمة : حسن اوزال
كاتب من المغرب