سامي المسلماني
شاعر تونسي
-1-
هشاشة
الحياةُ هشَّةٌ مثل سمكاتٍ خرجت لتوّها من الماء
ترتعشُ بين خطَّين متوازيين
لكنَّهما يلتقيان
الحياةُ هشَّةٌ كمنحدرٍ عاجزٍ عن إيقاف التفاهة
لكنَّه ماهر في الدوران مع عجلة السقوط
ربما لذلك يلتصق بي الخوف مثل وشمٍ قديم
وشم عصفورٍ في ذراعي الأيمن يرتعد من البرد في أوج الصيف
وشم قلبٍ في رقبتي ينتظر السكتة في كل لحظة
وشم شجرةٍ على صدري ترتجف دون ريح، وتنقطع أنفاسها دون فأس
وجه حبيبتي على خدِّي ينتظر دمعتي الأخيرة ووردتي الهشَّة
عبثًا تحاول تخزين عطري!
-2-
عثرات
أظنُّ دائمًا أني أسير إلى الأمام
لكنِّي أدركتُ مؤخرًا
أني أسير عكس أيامي،
أنا أنظر إلى نقطة بعيدة
في الأفق،
أيامي ملويَّةُ الأعناق،
ما زالت عيونها
معلقةً بجناح بئر
رغم أن السيَّارة مروا في سبيلِهم
ورغم أن الذئبَ
افترسَ ساقَه، وامَّحى!
الدمُ عن القميص…
أيامي مشدودة إلى الوراء
وكأنها تعاقبني،
كأنها تنكّل بي
لأني لم أؤمن يومًا بعلم الكلام
ولم أنغمس يومًا في مخبر كيمياء؛
كي أصنع ذهبًا
أو وهم ذهب…
البطل يموت غالبًا في آخر الرواية،
لكني عنيد،
أحاول إقناع نفسي دائمًا بأن البطل
قد لا يموت إذا سقط
في بئرٍ عميقة
وأبقى بصرَه ثابتًا
على دائرة الضوء أعلاها…
أنا عنيد، ولكنِّي متفائلٌ أيضًا،
لأني ما زلت أعتقد في يوم مختلف،
خطواته بطيئة
ولكنَّه على الأقل يسير معي نحو
نفس تلك النقطة
في الأفق البعيد…
كم كنت واهمًا!
كل الأيام صنعت من نفس الطينة
تلك الطينة التي يمتزج فيها القش بالغرق…
ظننت ذاك اليوم مختلفًا
فإذا به يوهمني بالضوء أمامي
وأنا أقبع وحيدًا
في آخر العتمة…
لست سوى صيَّاد
يطلق رصاصة على ظلِّه
ويعودُ إلى بيته
مضرَّجًا بدمائه
ويشعل النار ليطهو
ما بقي من قلبه، ولسانه!
-3-
تحليق
أبتهل إلى الأرض؛ كي ينفتح باب واحد في السماء
لمطر غزير، ينقر فقط نافذتي
أريد أن أرى وجهي يسيل على زجاجها،
وينزلق مثل عقل لا تعنيه من (سيزيف) إلا تلك النحلة التي حامت أمام وجهه
وهو يدفع صخرته الشهيرة،
ولا تعنيه من يوسف قصة الشر الذي سكن وجوه إخوته
بقدر ما تعنيه المسافة الفاصلة بين فوهة البئر وصفحة الماء الدائرية،
ولا يفكر طويلًا إلا في تحليل ألوان الثياب التي كان يلبسها القعقاع في ساحات الحروب
أيتها العنقاء لا تفيقي من مرقدك،
لا نحتاجك كثيرًا،
لدينا ما يكفي من عصافير تحلق تحت سماء رمادية
أيتها الأشجار،
آن الأوان؛ كي تجربي العدو أيضًا
أيتها السماء لا تبتعدي كثيرًا،
بصري صار أضعف.
-4-
طيران
طفلة صغيرة تنظر إلى أبيها على فراش الموت،
نظر إليها وقال:
أشتهي البرتقال
بسرعةٍ جلبت البرتقال،
قالت أمها:
لقد مات.
أسرعت إلى غرفته وقالت دون أن تبكي:
أنا آسفة أبي؛ لأني أسقطت حبات البرتقال
السماء ليست بعيدة كما يصوّرها الكبار،
ترخي الخيط لطائرتها الورقية؛ كي تعانق السماء،
شيئًا منها يطير أيضًا،
إنه مكتوب على ظهر الطائرة:
“ما زلت أنتظرك أبي”
أنا في الخمسين الآن لكن لي طائرتي أيضًا،
أتفنَّن في تلوينها ورسم قرنفلتي المميّزة،
أشعر، جيِّدًا، بقدميّ
تبتعدان بضعة سنتيمترات عن الأرض،
إنها البداية فقط.
فالسماء ليست بعيدة جدًّا
مثلما يصوّرها الحفّارون.
-5-
حيرة
أنا حائر حقًّا،
إلى حدّ الآن لم أعرف كيف أموت،
ولا أدري هل ما كنت أتنفسه
هو الحياة حقًّا،
أم هو فتات؟!
خبز لم يهتدِ إليه النمل بعد
كل ما عرفته أن ملكة النمل تشبه الحياة
في أمر واحد فقط
وهو أنها لم تجد ذكرًا حقيقيًّا
يهبها الأجيال القادمة
لم يبقَ لي الكثير،
بعض أنفاس تشق طريقها المغبرّ
بصعوبة نحوي،
لم يبقَ الكثير،
بعض غيمات تتظاهر بأنها لي،
لم يبقَ الكثير،
بعض خطوات عالقة بين أشجار
نفض الخريف أوراقها
فاصفرَّ الهواء
الأمل يبقى قائمًا،
ما بين نفَس، وغيمة، وخطوة
قد أهتدي إلى المخبأ السريّ
للحياة، وأعرف كيف أموت؟!
-6-
ضوء
في الوقت الذي أقرأ فيه كتابي تحت شجرة خروب شابة،
آلاف الأسماك في بحار شابة أيضًا،
تشرب الضوء المتسرب من صفحة الماء
لا تكف عن ملاعبة قناديل البحر
وهي ترسل خيوطها النورانية
في كل اتّجاه تسابيح صامتة، وعميقة
تتسابق بين أعشاب البحر وصخوره المرجانيَّة
فتنعكس الألوان والأضواء على أجسادها الانسيابيَّة
في مشهد غزلي متحرك
ويمتلئ اللجّ بالمرايا
فإذا بكوكبة الأسماك تغدو كواكب،
وإذا بكل سمكة تصبح مجموعة من السمكات والذوات
مثلي تمامًا عندما أقرأ كتابي تحت شجرة خروب شابة.
-7-
عسل مؤجَّل
منذ القديم،
تُغمس الرؤوس الخطيرة المقطوعة
في العسل
لأن أمامها رحلة طويلة
إلى رأس أخطر،
لكنه لم يقطع بعد..
في الطريق إلى الرأس الأخطر،
تتشبث الأشجار بالتراب
وتتيح فرصة أوسع لأغصانها؛ كي تتعانق
وتلامس نسيمًا حرًّا
وتدعو النحل المشرد إلى بناء ممالكه الحلوة…
الجبل المحاذي للطريق
نحو الرأس الأخطر،
يقبل المنافسة
ويصغي جيِّدًا إلى همسات الأغصان
التي تحذق لغة العسل؛
كي يصوغ من صخوره جحرًا دافئًا
وبعيدًا عن حقد الدبابير…
الأزهار البرية لا تدخل المنافسة؛
لأنها تخلع رؤوسها كل خريف
والنحل يعرف طريقه إليها
ويعرف أيضًا متى ترتدي
رؤوسها الجديدة
ومتى ينضج الرحيق
في عروقها..
الرأس المغموس في العسل
في منتصف الطريق
إلى الرأس الأخطر،
النحل أمام اختيار صعب
لكنَّه قريبًا، سيعثر على ملاذ
لا تدركه الدببة
أنا أنهكني هذا النص
وأكاد أوقن أنه لن يكتمل إلا بعد قطع رأسي
-8-
لست…
رغم أني لستُ متشائمًا،
أرى الدوائر فوهات غادرة تمتص الهواء من حولي،
أرى المثلثات بالوعات تجذب إليها كواكب طالما حلمت بالتحليق فوقها،
أرى المستطيلات قبورًا تُحفر ليلًا، ونهارًا
لكني لست متفائلًا، أيضًا؛ كي أمحو الليل بقطعة قماش!
-9-
تأمّلات
على عشب طريّ أستلقي،
كم هي رائعة زرقة السماء!
أهرب للحظات من التفكير في لحظة
أكون فيها تحت الأرض
أستلقي على ظهري أيضًا، لكن
لا عين لي، لا قلب، لا عشب…
زرقة السماء تذكّرني بالبحار،
كل ما فوق الأرض نجده في قيعان البحار،
السهول، الجبال، الأودية…
الربيع، والخريف…
العواصف والأمطار والرياح…
الشمس والقمر،
لذلك نحن أسماك بريّة
والأسماك أناس بحريون،
الفرق الوحيد هو أننا نأكل بعضنا بعضًا بحقد،
أما الأسماك فهي تأكل بعضها بعضًا بحبّ!
-10-
دون سبب..
الرسام لا يصدّق أنه رسَّام جيد
إلا إذا رأى دمًا غزيرًا
يفيض من أذنه المقطوعة
الشاعر لا يصدّق أنه شاعر جيد
إلا إذا مات باكرًا قبل أوانه
الزرع هنا لكنّ الحصاد دائمًا هناك
خارج نفسي أهرول مسرعًا نحو الألوان،
يتساءل الآخرون حول الأسباب،
هم لا يعلمون أن الجميل المجهول لم يكن له سبب قطّ
مثل القرنفلة تمامًا،
تخزّن أسبابها في بئر الوجود السحيق
وتنشر تويجاتها أمام الشمس
دون سبب أخرج من جسدي؛
كي تتبعني النحلات الصغيرة
والفراشات الطائشة
نحو حقل منسيّ.
دون سبب واضح تتجمع الحياة
في لوحة.. في قصيدة
ودون سبب واضح تخرج رصاصة ضاحكة
وتصيب بطن رسَّام
أو رأس شاعر
أو صدر راقصة فلامينغو…
دون سبب واضح يعانق الموت
الشاعر وهو في قمة الحياة،
ودون سبب واضح يموت
وهو لا يعرف إن كان شاعرًا جيِّدًا حقًّا.