في الذكرى المئوية لرحيل الشاعر العُمانيّ أبي مسلم بن ناصر بن سالم بن عُدَيّم البهلاني، تُفرد مجلة “” ملفّا خاصًّا يشتملُ على زوايا نظر مُتباينة في عوالم البهلاني، قدّم فيه الباحثون رؤى تستكِنه جوانب من شخصيّته الفريدة، الزاخرة بالتنوّع والثراء. هذه الرؤى هي حصيلة أوراق عمل قدمت بمناسبة مرور مائة عام على وفاة البهلاني، في ندوة أقامتها جمعية الكتاب والأدباء في أكتوبر 2020.
وقد تعددت المنابع التي شكّلت شخصية أبي مسلم البهلاني، فقد وُلد في قرية مَحْرم الواقعة في أحضان وادي بني رواحة بولاية سمائل عام 1860 م، فنشأ هناك في بيت علم وثقافة ودين، وتلقّى تعليمه الأوّلي عند أبيه سالم بن عديّم البهلاني، ثم لازم شيخه حمد بن سليم الرواحي. إلى جانب ذلك نلمس تأثّره الكبير بشخصية سعيد بن خلفان الخليلي بوصفه عالمًا مجتهدًا، وعارفًا صوفيّا، فضلا عن انهمامه بالفعل السياسيّ في عمان آنذاك. ثم شكّلت رحلته إلى زنجبار أحد أهمّ المؤثرات الأساسيّة في حياته، فقد ارتحل إلى الديار الإفريقية عام 1878 م وعمره لم يتجاوز الثامنة عشرة بعد، في عهد السلطان برغش بن سعيد، وهناك تفتّحت آفاقه العلميّة، وبدأت شخصيّته بالتبلور والترقّي.
وفي زنجبار استقطبه السلاطين لتقلّد مهمّة القضاء، فقد تسلّم أبو مسلم منصب القضاء، ثم أصبح قاضيا للقضاة فترة طويلة من الزمن، حتى طلب التقاعد في عهد السلطان علي بن حمود، فتفرّغ بعدها للتأليف والعمل الصحافي.
ولقد ترك أبو مسلم البهلاني إرثا شعريّا زاخرًا بالتنوّع والفرادة، لا سيما استنهاضيّاته الوطنيّة الهادرة، القارّة في الذاكرة العُمانية الحديثة؛ تلك القصائد التي لم تُزوه “أرسان” الأقدار التي طوّحت به في المهجر الإفريقي البعيد؛ من أن يبثّ فيها انهمامه بشؤون وطنه عُمان، والتي انسكب فيها لواعج وأشواقًا إلى “معاهده” و”مرتبعه”، راعفةً باغتراباته وحنينه، وهو القائل:
نزحتُ عنها بحكم لا أغالبُه
لا يغلبُ القدرَ المحتومَ إنسانُ
نأيتُ عنها، ولكن لا أفارقها
بلى كم افترقت روح وجثمانُ
كأنّني واغترابي والغرام بها
حيٌّ قضى، خلّفته بعد أحزان
هي النوى جعلتني في محاجرها
مثل الخيال، ورُوحي ثَمّ جُثمان
وإلى جانب ذلك، نقرأ في إنتاجه الشعري روحًا عرفانيّة صوفيّة؛ فقد استغرقت الإلهيّات والأذكار والمدائحُ النبويّة جزءًا كبيرًا -إن لم يكن الأكبرَ- من مُنجزه الإبداعيّ، مواكبًا خُطى أقطابِ التصوّف في عُمان: جاعد بن خميس، وابنه ناصر بن جاعد، وسعيد بن خلفان الخليليّ. هكذا تستحيلُ القصيدة عند أبي مسلم أداةً تستجيب لأغراضه؛ فقهًا وتنسّكًا وتصوّفًا واستِناهاضًا وَطنيًّا هادِرًا.
هذه اللغة الشعريّة الزّاخرة، يوجد لها في المقابل ما يوازيها على مستوى العمل الصحافي، الذي توّجه بريادة صحفية في عُمان، فلقد ترأس أبو مسلم البهلاني تحرير جريدة النجاح (1911) أوّل صحيفة عُمانية في المهجر الإفريقي، في ذلك الوقت المبكر من عُمر الصحافة العَربيّة.
ولقد ترك البهلانيّ، إلى جانب كلّ ذلك، عددًا من المؤلفات في الفقه والعقيدة والمديح النبوي وأدب الرحلات، فقد ألّف في العقائد كتاب “العقيدة الوهبيّة”، وفي الفقه كتاب “نثار الجوهر” الذي بسط فيه نثرًا الأبواب الفقهيّة والأحكام الشرعيّة التي اشتملت عليها منظومة جوهر النظام للسالميّ. وفي أدب الرحلات كتاب “اللوامع البرقيّة” الذي وَصَف فيه نثرًا وشِعرًا رحلة السلطان حمود بن حمد إلى عددٍ من الأقطار الأفريقية. كما ألّف البهلانيّ كتاب “النور المحمدي والكنوز الصمديّة في التوسّل بالمعاجز المُحمديّة” وكتاب “النشأة المحمديّة في مولد خير البريّة”، إلى جانب كتاب “النّفس الرحمانيّ” الذي ضمّ نتاجه الشعريّ في التصوّف والسّلوك. ورغم مرور مائة عام على رحيل البهلاني، إلا أنه ما يزال حتى اللحظة ملقيًا بظلاله وتأثيراته الشعرية على تجارب من جاء بعده، على المستوى المحلي والعربي.
ولقد شكلت مواقف أبي مسلم السياسيّة، مثار سؤال واختلاف، ففي حين نجده يقضي أمدًا طويلا في البلاط السلطاني بزنجبار، قاضيًا ومستشارًا ومادحا؛ نجده في جانب آخر يبعث الرسائل المطوّلات والقصائد الثائرة مُستنهضاً القطر العماني الأم لبعث دولة الإمام في الداخل مقابل السلطة الحاكمة في مسقط.
تناولناه في هذا الملف، شاعرا كما قدمه لنا الكاتب والأكاديمي محمد المحروقي، ودرس اشتغاله الصحفي كل من الأكاديمي والباحث عبدالله الكندي والشاعرة شميسة النعمانية، كما تناول الجانب السياسي الباحث ناصر السعدي، وتتبع أثره في الشعر العماني المعاصر الشاعر يونس البوسعيدي.
هذه الشخصية الحاضرة في الوجدان العُماني، المحاطة بكل هذا التنوّع والثراء والاختلاف، بما أثّرته من فعلٍ وطنيّ، وأثر معرفيّ، وممارسة ثقافيّة، جديرة بأن تدرس وتبحث، سيّما وأن كثيرًا من تراث أبي مسلم قد تعرّض للفقدان والتشويه والابتسار، نتيجة لتجاذبات سياسيّة أو أهواء أيديولوجيّة ضيقة؛ بما يدعو إلى النبش في الأرشيفات لاستكمال ما نقص، وترميم ما تم تحريفه وابتساره.
البهلاني شاعرًا
سجّل مشاعر قومه في مرحلة دقيقة من تاريخ عُمان
محمد بن ناصر المحروقي
تصادف هذه الأيام الذكرى المئوية على رحيل شاعر العرب، أشعر العلماء وأعلم الشعراء؛ أبي مسلم ناصر بن سالم بن عدّيم البهلاني، الذي رحل عن عالم الفناء إلى عالم البقاء في الأول من صفر 1339هـ/15 أكتوبر 1920م. وأودّ الإشارة السريعة إلى مكانة أبي مسلم البهلاني في الذاكرة العمانيّة المعاصرة لارتباطه الشديد بالأحداث السياسيّة التي مرّت بها عمان في مطلع القرن العشرين، وتعبيره البليغ الرائد عن الروح الجمعيّة العمانية إزاء تلك الأحداث التي عصفت بالمنطقة، وبالإمبراطوريّة العمانيّة بشقيْها الآسيوي والأفريقي. لقد كانت قصائده الطوال تمجّد الوطن وتدعو إلى الحريّة والثورة على الظلم والظالمين، وتبشّر بغدٍ مُشرق لأمّة الإسلام في ظلال الإمامة الشرعيّة التي يوجبها الدين، وفقاً للرؤية المذهبيّة الإباضيّة. وعلى المستوى الشخصيّ، فقد كنت كغيري كثيرين من مواليد ستينيّات القرن الماضي وسبعينياته نستمع إلى تلك القصائد مسجّلة على أشرطة سمعيّة، يترنّم بها القرّاء، ولا ننسى تخصيصًا قراءة الشيخ سالم بن عبدالله الحارثي لقصيدة “الفتح والرضوان في السيف والإيمان”. فقد كانت أولى الأشرطة المسجّلة لقراءة الشعر العماني، إطلاقاً. وكنت منذ الطفولة أحفظ أبياتاً منها، أترنّم بها بيني وبين نفسي أو مع آخرين. وهذه التجربة الطفولية وجّهتني لاحقا في مرحلة الماجستير لدراسة شعر أبي مسلم البهلاني، ضمن الدفعة الأولى لرسائل الماجستير في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة السلطان قابوس. وهو اجتهاد له وعليه. وحسبه أنّه نقل مستوى التّعاطي مع شعر أبي مسلم من المستويات التي يمكن أسميّها “النخبويّة الشعبيّة” إلى المستوى الأكاديمي الأوسع. فمع سيرورة شعر البهلاني شعبيّاً فإن هناك حجباً تمنعه من الذيوع على المستوى الرسمي: إعلاماً وتدريسًا، لها مبرراتها في سياق بناء دولة عصريّة جديدة، تسعى للتخلّص أو للتخفّف من الإرث القبلي والإمامي.
أولاً: النشأة والمؤثرات:
في قرية تزنّرها الوديان وتحرسها الجبال الشاهقة ولد أبو مسلم ناصر بن سالم بن عديم البهلاني في قرية محرم، من أعمال ولاية سمائل بداخلية عمان؛ بل في لبّ عمان، عام1277 هجري/ 1860 ميلادي. كان أبوه، حين مولده، قاضياً للإمام عزّان بن قيس البوسعيدي على نزوى. وعمل جدّه من قبل قاضياً لليعاربة. ونشأ أبو مسلم في أسرة علميّة عريقة. واهتم والده بتعليمه منذ صغره، وفقًا لإمكانيات التعليم المحدودة الموجودة آنذاك، المقتصرة على العلوم الشرعية والعربيّة. وأبرز أستاذين له في مرحلة التكوين هذه، إلى جانب أبيه، هما الشيخان محمد بن سليّم الرواحي، والشيخ القطب سعيد بن خلفان الخليلي. وقد لازم أستاذه الأوّل درساً وسلوكا، وتعلّم من مؤلفات الشيخ الخليلي الذي توفي والشاعر في عمر العاشرة، تقريباً. والشيخ الخليلي أحد مجدّدي المذهب الإباضي في العصر الحديث، ومجدّد الإمامة الإباضية في عمان بمبايعة الإمام عزان بن قيس البوسعيدي. وتمثّل التلميذ وإعجابه بشخصيّة شيخه نراه بوضوح في التقديم التالي لتخميس قام به الشاعر لقصيدة من قصائد شيخه. يقول أبو مسلم: “إن شهرة سيّدي القطب الجليل العارف بالله سعيد بن خلفان الخليلي طيّب الله ثراه وأكرم مثواه شهرة الشمس في كبد السماء، وقد بلغ من علمي الظاهر والباطن مبلغاً عظيماً دلّت عليه آثاره، وله كلام في السلوك والحقيقة دلّ على قدم راسخ في الكمال والتكميل، وعلى مقام عالٍ من المعارف اللدنية، ودرجة سنيّة من مراتب الذوق”. وقد ترجم أبو مسلم ذلك الإعجاب بتخميس قصيدتين سلوكيتين من قصائد الشيخ الخليلي، أسماهما: “درك المنى في تخميس سموط الثنا”، و”ثمرات المعارف وطيبات العوارف”.
وهذا هو المكوّن الأول المباشر لشخصيّة أبي مسلم البهلاني، وهو المكوّن الديني المذهبي الإباضي بمجموعة أفكاره المميّزة له في المسائل الاعتقادية: كالرؤية والخلود، والمسائل السياسيّة المرتبطة بوجوب الثورة على السلطان الجائر وإقامة الإمامة وتنفيذ شرع الله تعالى على الأرض. يقول أبو مسلم:
لا يقبل الله دينا غير دينهم
ولا يكون الهدى إلا بما دانوا
هم الإباضيّة الزهر الكرام لهم
بحجّة الله فوق الخلق سلطان
ويتصل بهذا المكوّن، فكريّاً وأدبيّاً، إعجاب أبي مسلم بتجربة الشراة في العصور الإسلامية الأولى. وهي تجربة تمحورت حول أفضليّة التقوى على النّسب في ولاية المُسلمين، عملًا بقوله تعالى: “إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”. وهو مبدأ جاهر به الشعراء الشراة في مقطوعات مشهورة من بينها ما قاله الشاعر عيسى بن فاتك الخطي:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا فخروا ببكر أو تميم
كلا الحبيّن ينصر مدّعيه
ليلحقه بذي النسب الصميم
وما حسب ولو كرمت عروق ولكنّ التقي هو الكريم
وهي قطعة من شعر هو ابن لحظته، نظم على صهوات الخيول في ميادين المعارك، دون تنقيح ولا مراجعة فلحق به بعض الخطأ كما في البيت الثالث أعلاه.
وقد خصّص أبو مسلم قصيدة كاملة في الانتصار للشراة، هي قصيدة رائية، أولها:
سميري وهل للمستهام سمير
تنام وبرق الأبرقين سهير
وفيها يقول:
جزى الله أهل النهروان رضاءه
وما فوق مرضاة الإله أجور
شراة سراة لا يحط غبارهم
وإن أبلجت فوق الأمور أمور
ندين لوجه الله طوعًا بحبّهم
وما شنآن الملحدين مضير
والمكوّن الثاني لشخصية أبي مسلم هو المكوّن الأدبيّ، المتمثّل في موهبته الشعريّة الضخمة، واطلاعه الواسع على الشعر العربي في عصوره الزاهية: الجاهلي والأموي والعباسي. وذلك ما سنوضحه في المحور الآتي المتصل بالشعر والشعريّة. أمّا المكوّن الثالث فيتمثل في تجربته الحياتيّة وسفره إلى شرق أفريقيا في مرحلة عمريّة متقدّمة نسبيًا، عندما كان في عمر الثامنة عشر، تقريباً. وفي زنجبار التي كانت مدينة تضم ثقافات عديدة ولغات متباينة وتنفتح على العالم الغربي انفتاحاً كبيراً، وعلى العالم الإسلامي إبّان الدولة العثمانية انفتاحًا إيجابيًا أتاح لمثقفي زنجبار الاطّلاع على الحركات النهضوية لقادة الفكر العربي آنذاك، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وجرجي زيدان. ومع هذا التأثر الثقافي والحضاري الكبير نشأت في زنجبار المطبعة السلطانية والصحافة العربيّة ونشرت المؤلفات الشرعية والعربيّة، وظهرت مؤلفات في أدب الرحلة تعكس ذلك الثراء مثل: “اللوامع البرقية”، و”تنزيه الأبصار والأفكار” و”الدرّ المنظوم في ذكر محاسن الأمصار والرسوم” و”رحلة السلطان خليفة بن حارب” و”رحلة أبي الحارث”. وكان أبو مسلم البهلاني في الريادة لتلك الحركة الصحفية والكتابة الأدبيّة، والنشر في صحافة زنجبار والقاهرة.
ثانياً: الشعر والشاعريّة:
والشعر عند الشيخ ناصر بن سالم البهلاني أداة من بين أدواته الأخرى في خدمة قضيّته الاستنهاضيّة الوطنية لإحياء الإمامة الإباضيّة في عُمان، وتخليصها من هيمنة الإنجليز، ومن الموالين لهم من العُمانيين. ويشغل همّ الأوضاع السياسيّة في عمان فكر البهلاني اشتغالاً يدفعه لتحرير أول صحيفة عربية في زنجبار هي صحيفة النجاح عام 1911م. إن سقوط إمامة الإمام عزّان بن قيس البوسعيدي واستشهاد الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي ودور الإنجليز في ذلك الصراع بين الإمام والسلطان تركي بن سعيد، وما ترتب على ذلك من هجرة الموالين للإمام عزان إلى شرق أفريقيا، ومن بينهم والده الشيخ سالم بن عديّم البهلاني خلق لديه عداء للإنجليز وللمناوئين للإمامة في عمان. وعندما هاجر الشاعر إلى زنجبار رأى تغلغل النفوذ الإنجليزي في شرق أفريقيا، وتاقت نفسه الحرّة إلى التخلّص من تلك السطوة وذلك التسلّط. وإن فرض عليه الواقع التعايش مع الأمر ما استطاع إلى ذلك سبيلا. هذا التعايش الذي يجد في الفكر الإباضي قبولاً له وتبريراً معقولاً له في إطار “التقية الدينيّة”. حاول الشيخ المواءمة بين ما يجد وبين ما يريد، حتى تحين “اللحظة المناسبة” لإبراز موقفه والاصطفاف مع الفريق الذي ينتصر له. وببيعة الإمام سالم بن راشد الخروصي انطلق شعر أبي مسلم مناصرًا هذا الإمام ومُناصحًا له، وزادت آماله في الخروج من زنجبار والعودة إلى عمان للمشاركة في الدولة الناشئة للإمام الخروصي. يقول أبو مسلم البهلاني في نونيّته المشهورة:
يا سالم الدين والدنيا ابن راشد خذ
أمانة الله والأقدار أعوان
أنت الضليع بها حملاً وتأدية
إذ كلُّ همِّكَ تدبير وإتقان
أحدر وأصعد وأيقن أن صاحبها
سيف من الله لا تحويه أجفان
يسوسها مؤمن بالله معتصم
وخير ما دبّر الأملاك إيمان
لا يصرف الفكر في شيء فيخلفه
لأنه من فيوض الكشف ملآن
وفي الأبيات إشارة واضحة إلى الإمام نورالدين عبدالله بن حميد السالمي، رائد هذه الحركة، كما كان سلفه الشيخ سعيد بن خلفان رائد بيعة الإمام عزان بن قيس. وقد وجّه أبو مسلم رسالة نثريّة إلى الإمام الخروصي بها نصائح جمّة لفرض التعليم إجباريّا، وتحسين العلاقات مع الدول والمنظمات الإسلامية، وإخراج عمان من عزلتها المغلقة لتنفتح على العالم، وغير ذلك من النصائح.
هذه هي القضيّة القاعدية في شعر أبي مسلم البهلاني، وهي مبثوثة في شعره جميعاً بأغراضه المختلفة لاسيما الشعر الديني والشعر الوطني. وهذا ما جعل أبا مسلم شاعرًا تاريخيّاً يجد شعره المتميّز تجاوباً مع أبناء وطنه، وشهرة وذيوعاً بينهم.
ويكشف شعر البهلاني أسلوباً خطابيّا يقوم على النداء والتكرار والتذكير بالماضي وإثارة الهمم، وما إلى ذلك من أساليب لغوية ومضمونيّة. كما يكشف عن ثقافته الواسعة وهضمه لقصائد مشهورة مع استقلال صوته وطغيان نبرته، مما ينسي نصوص الانطلاق أو نصوص المعارضة. والأمثلة على ذلك الهضم للتراث الشعري العربي كثيرة، نذكر منها:
قصيدته الأشهر “النونيّة” التي مطلعها:
تلك البوارق حاديهن مرنان
فما لطرفك يا ذا الشجو وسنان
نظر فيها إلى قصيدة أبي الحسن البستي التي مطلعها:
لكل شيءٍ إذا ما تمّ نقصان
فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
وقصيدته الرائية المشار إليها أعلاه نظر فيها قصيدة أبي نوّاس:
أجارة بيتينا أبوك غيور وميسور ما يرجى لديك عسير
ذلك فضلاً عن تخميسه لقصائد الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، ومعارضته لمقصورة ابن دريد. وفي دراسة لنا منشورة بكتاب “الشعر العماني الحديث؛ أبو مسلم البهلاني رائداً”، خلصنا إلى الملحوظات الآتية:
تحرّر أبي مسلم التام عن النص المعارض غرضاً وأسلوباً وتوجّهاً. فقد عارض شاعراً متحرراً هو أبو نوّاس الحسن بن هاني (ت814هـ)، وشاعراً ملتزماً كابن الفارض عمر بن أبي الحسن (ت1234هـ).
حازت قصائد الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي (1870م) مكانة متقدّمة فقد عارضها ثلاث مرات. وهي من أشد المعارضات التحاماً على مستوى الموضوع وترتيب الأفكار، عبر التخميس.
تنكشف المعارضات في شعر البهلاني عن طريق التشاكل الموسيقي بين النصين. أمّا على مستوى المضمون والأسلوب والتأثير فنجد استقلالاً تاماً لنص البهلاني.
فهو شاعر قويّ الشاعريّة، هضم شعر الأسبقين، وأعاد سبكه بأسلوبه الخاص المنماز عن أساليب أولئك الشعراء السابقين.
ثالثا: الدَّيْن والواجب:
إنّ أبا مسلم البهلاني شاعر قوميّ كبير سجّل تاريخ بلاده ومشاعر قومه في مرحلة دقيقة من مراحل التاريخ العماني الحديث. ومواكبته لتلك الأحداث تظهر في كثرة المخطوطات والكراسّات التي تحفظ شعره، شبه كامل أو قصائد متفرقة منه. وقد رصدنا 17 مخطوطة منها، منذ زمن طويل. ونعتقد أن العدد الفعلي لتلك المخطوطات قد يبلغ الثلاثين، وربما يزيد. وحينها وجدنا أن المخطوطة المعنونة بـ “ديوان الشيخ أبي مسلم البهلاني”، وجامعه وناسخه ابن أخ الشاعر وتلميذه، الشيخ سالم بن سليمان بن سالم بن عديّم البهلاني، وتاريخ نسخه 22 رجب 1376هـ، وعدد صفحاته 400 صفحة يمكن اعتماده نسخة أمًّا لديوان أبي مسلم البهلاني.
ومن مظاهر احتفاء العمانيين بشعر البهلاني أن كان ديوانه أول ديوان عماني يطبع عام 1928م بالقاهرة، وعدد صفحاته 80 صفحة. مما يدل أنه مختارات من شعر البهلاني فقط. ثمّ طبع بالقاهرة ودمشق ومسقط، وأخيراً بيروت دون أن يتّبع في ذلك الجمع والطبع ما ينبغي أن يتّبع من تحقيق لذلك الديوان وجمعه من مضانه من المخطوطات المختلفة والمطبوعات القديمة والمقابلة بينها. كما طال النحل شعر أبي مسلم، فقد أسندت طبعة 1957م قصيدة إلى أبي مسلم مطلعها:
الله أكبر رزء نكّس العلما
وأسّس الحزن في ألبابنا ألما
وهي قصيدة في رثاء الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، المتوفى عام 1953م، بينما توفي أبو مسلم عام 1920م، أي قبل ذلك بكثير. وقد تعرّضت قصائد أبي مسلم للحذف والتغيير وتبديل العناوين التي وضعها الشاعر.
وغنيّ عن القول إن شعر البهلاني يحتاج اهتماماً من الباحثين لتحقيقه وإخراجه إخراجا علميّاً دقيقاً. وحاله مشابه لحال أغلب الدواوين العمانية التي طبعت دون تحقيق محكم، أو دون تحقيق البتة.
البهلاني.. رائد الصحافة1
ترأس تحرير أول صحيفة عُمانية (1911)م
عبدالله الكندي
يعدّ ناصر بن سالم بن عديّم البهلاني رائد الصحافة العمانية المطبوعة، وإليه ينسب إصدار أول جريدة عربية عمانية في زنجبار عام 1911م. وأشار فيليب دي ترازي إلى ريادة البهلاني الصحفية، وتحديداً في الجزء الرابع من موسوعته الصحفية بعنوان “تاريخ الصحافة العربية”، موثقاً نشأة جريدة النجاح على يد أبي مسلم البهلاني بتاريخ 12-12-1911م2. وفي ذات الاتجاه ذهب أديب مروة في كتابه بعنوان “الصحافة العربية: نشأتها وتطورها”، ودراسة Mariam Hamdani بعنوان “3Zanzibar Newspapers 1902-1974” ، ودراسة Brennan, Fahey, & Sadgrove بعنوان “Newspapers of Muslim East 4Africa” . لقد ارتبط مشروع البهلاني الصحفي بمؤثرين أساسيين ساهما في دعمه وريادته الصحفية في جزيرة زنجبار. يتعلق المؤثر الأول باهتمامه واشتغاله المبكر بحركة الطباعة والمطابع في زنجبار وخاصة مشروع المطبعة السلطانية على يدي السلطان برغش بن سعيد بن سلطان5 حيث أسسها عام 1880م في محلة كيبوندا بزنجبار6 . واتضح للمؤلفَين أن أبا مسلم البهلاني كان من الشخصيات التي أشرفت على الطباعة في هذه المطبعة7 . وبقراءة تاريخ رحلتيه إلى زنجبار، يتضح أن البهلاني بدأ الاشتغال بالطباعة والمطابع في فترة رحلته الثانية إلى تلك الجزيرة، التي بدأت عام 1887م، أي بعد سبع سنوات من تأسيس المطبعة السلطانية. في حين أن رحلته الأولى إلى زنجبار كانت قد بدأت عام 1878م8 . ومن أدلة علاقته بالحركة الطباعية في زنجبار في تلك الفترة المتقدمة، كتابته لقصائد تقريظ عن عدد من الكتب التي أصدرتها المطبعة السلطانية في الجزيرة، ذكر فيها مزايا تلك الكتب وملامح مما تحتويه. ومن تلك القصائد، ما نظمه أبو مسلم في تقريظ كتاب “منهل الوارد” للشيخ أحمد بن أبي بكر الشافعي، وتقريظ كتاب “هميان الزاد إلى دار المعاد” للشيخ امحمد بن يوسف أطفيش، وتقريظ كتاب “حاشية الترتيب” لمؤلفه محمد بن إبراهيم الورجلاني، وتقريظ كتاب “مدارج الكمال” للعلامة نور الدين السالمي9 . وفي هذه المطبعة وغيرها، نشر البهلاني قصائده ومؤلفاته الأولى، وفي مقدمتها كتابه “اللوامع البرقية في رحلة مولانا السلطان المعظم حمود بن محمد بن سعيد بن سلطان بالأقطار الأفريقية الشرقية”، الذي طبعته مطبعة جازيت زنجبار عام 1899م10 .
أما المؤثر الثاني الذي ارتبط به مشروعه الصحفي فقد تمثل في بداية الحركة الصحفية في زنجبار التي تعود -حسب بعض المصادر- إلى عام 1892م عندما صدرت “الجريدة الرسمية لزنجبار وشرق إفريقيا” The Gazette for Zanzibar and East Africa كأول صحيفة مطبوعة، وكانت في عهد السلطان علي بن سعيد بن سلطان11 .
في ظل هذه المؤثرات ووسط هذه البيئة التي بدأت تتشكل لاستيعاب العمل الصحفي والاهتمام به وتشجيعه في زنجبار، بدأ البهلاني مشروعه الصحفي الرائد بتأسيس جريدة النجاح. ويشير الشيباني إلى أن مطبعة النجاح التي طبعت جريدة النجاح تأسست بواسطة عدد من أعيان زنجبار حيث طرح مشروع تأسيسها للاكتتاب العام عام 1328 هـ /1910م، وبلغ مجموع الأسهم المستكتبة 130 سهمًا بقيمة إجمالية بلغت 3250 روبية12 .
أطلق البهلاني مشروع صحيفته الرائدة “النجاح” عام 1911م، وكان يومها متفرغاً لها بعيداً عن أي وظيفة حكومية، حيث أشارت بعض المصادر إلى أنه طلب الإعفاء من وظيفة القضاء قبل إصدار صحيفته مباشرة، وهو بذلك أعطى وزناً ومقاماً أكبر للعمل الصحفي في زنجبار، خاصة أن مشروعه جاء في مقدمة الصحف العربية التي يصدرها العرب العمانيون في زنجبار وشرق إفريقيا. ذلك أن اهتمام هذا القاضي بل ورئيس القضاة في وقت من الأوقات، ومستشار مقرب لأكثر من سلطان من سلاطين زنجبار، وفقيه وعالم وشاعر، بالعمل الصحفي له مدلولات كبيرة وانعكاسات مهمة على هذا المجال وما سيأتي بعده من مشاريع.
ومن هنا كانت – ولا تزال – القيمة التاريخية لتأسيس جريدة النجاح كأول جريدة عربية عمانية في زنجبار ارتباطاً بشخصية مؤسسها ومكانته العلمية والفكرية في عمان وزنجبار، ومن ريادة المشروع الصحفي نفسه، باعتبار أنّ جريدة النجاح كانت باكورة مشاريع الصحف العربية العمانية التي تصدرها شخصيات ومجموعات عمانية في زنجبار.
وتنبغي الإشارة إلى أن أبا مسلم البهلاني أسس جريدة النجاح عام 1911م، وفي ذلك العام بدأ عهد السلطان خليفة بن حارب البوسعيدي13 . ويصف أحد الباحثين أن النفوذ البريطاني في زنجبار وصل إلى ذروته في عهد السلطان خليفة بن حارب، وفي هذه الفترة أيضاً تحول الإشراف على زنجبار إلى وزارة المستعمرات بعد أن كان ذلك الإشراف من مسؤوليات وزارة الخارجية14 .
أصدر أبو مسلم البهلاني جريدة النَّجاحِ، وهي جريدة جامعة شبه أسبوعية، كانت تصدر في الشهر ثلاث مرّات عن حزب الإصلاح، ظهر أول أعدادها في شوّال 1329هـ (12 أكتوبر 1911م) في أربع صفحات، وتوقفت عن الصدور في مطلع 1332هـ (أغسطس 1914م).
كما كتب مقالات في عدد من الجرائد مثل: جريدة النجاح بزنجبار وجريدة الأهرام بمصر، وله مراسلات مع علماء عصره، منها رسائل إلى محمد بن يوسف أطفيّش الجزائري.
مقالات البهلاني
لم يطلع المؤلفان إلا على مقالَين صحفيين نشرهما البهلاني في صحيفته النجاح، وذلك لقلة الأعداد المتوافرة من هذه الجريدة أصلاً لدى الباحثين ومراكز التوثيق المختلفة، كذلك إن تاريخ نهاية عهده بالجريدة إدارةً وتحريراً غير محدد، لكن الثابت أن الجريدة ظلت تصدر منذ بدايتها عام 1911م وحتى عام 1914.
كما سيتضح في القسم التالي من هذه السيرة. يضم العدد رقم (8) من جريدة النجاح والصادر بتاريخ 22 ديسمبر 1911م مقالاً للبهلاني في الصفحة الأولى بعنوان “المجد لله”، وذلك باعتباره يومها محرر الجريدة كما أشارت الجريدة في رأس صفحتها. وبعد مقدمة أكد فيها البهلاني أن “سياسة الله خلف كل أمر يدبره المرء ويسعى لتحقيقه”، ذلك أن “الله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء”، ينتقل إلى النبأ الجديد الذي تناقلته وكالة رويتر “البرق الذي وزعته شركة رويتر“ عن تنازل السلطان علي بن حمود عن عرش المملكة السلطانية. وفي مقابل الحزن الذي أحدثه خبر تنازل السلطان علي بن حمود عن الحكم، عبّر البهلاني عن سعادته “باستواء جلالة سيدنا ومولانا الهمام المظفر خليفة بن حارب بن ثويني بن سعيد بن سلطان”. ويواصل في ذات المقال مدح السلطان خليفة بن حارب وأن الحوادث القادمة ستثبت ذلك15 . عبّر البهلاني في هذا المقال عن موقفه السياسي من سلاطين زنجبار وخاصة السلطان علي بن حمود والسلطان خليفة بن حارب، وقدّم من خلال هذا المقال دعمه الشخصي للسلطان خليفة بن حارب. والمقال بشكل عام يعكس صورة من صور توظيف المقالات الصحفية والصحف بشكل عام في تلك الفترة في خدمة النظام السياسي.
أما المقال الثاني الذي نشره البهلاني في جريدة النجاح، فكان بعنوان “الأغراض والإيمان” وظهر كجزء من مخطوط ديوان أبي مسلم بخط ابن أخيه، وظهرت في المخطوط إشارة صريحة إلى أن المقال نشره البهلاني في النجاح في فترة إدارة وتحرير الشيخ ناصر بن سليمان اللمكي عام 1913م، وأنه هدف منه إلى طلب إغاثة العمانيين في أثناء حرب الإمام الخروصي مع مسقط التي “التاذت” بالإنجليز16 .
ابتدأ أبو مسلم مقاله بالحديث عن الناموس السماوي الذي يضع الأمور على فطرتها وأنه واعٍ تماماً له “لا أحاول من كل نفس ترك جِبِلَّتها، ولا خلع كل ملابس شرورها، ولا أربأ بالذبابة أن تقع على القذر وهو معاشها، ولا أنصح الحية الرقشاء أن تتخلص من سمومها وهي جوهرها، كل ذلك لا أمد يداً إلى التماسه، ولا أثق بأمل في حصوله، لأني أصبح طالباً للمحال، خصماً للطبيعة، عدواً للعالم، وبالأقل حجرة في طريق سير الفطرة”. ثم أكمل البهلاني موضحاً أنه يتبع ناموس الله ولا يكترث بشيء من شرور العصر لأنه “تابع لإماميْن مؤديين إلى السعادة والاطمئنان والكمال والفضيلة، وبهذه التبعية المقدسة أفتخر ويفتخر من ذهب مذهبي”.
وأكمل البهلاني مقاله متسائلاً: “هل من يُنكر عليّ اقتفاء وتقليد ناموس جاء من صوب الله، يضمن لي الحصول على الفضيلة بحذافيرها..”، ثم قدَّم نصائح لأخوته في “الآدمية” وفق تعبيره لئلا يقعوا في خبائث “الناووس المظلم” وآفاته ومصائبه “أيها الإنسان يا شقيقي في الآدمية ونسيبي في الفطرة.. إنك لم تخلق لذلك وليس الطريق هنالك، ارجع وراءك إلى محجة بيضاء، ناصِبُها القرآن، ودليلها خاتم الرسل، وغايتها الفردوس الأعلى ورضوان من الله أكبر”.
ثم مهـَّدَ أبو مسلم لموضوعه بذكر أهمية الدور الذي تقوم به جمعية الهلال الأحمر وبقيمة أصوات الداعين إلى إعانة المسلمين سواء في طرابلس الغرب والبلقان أو الدولة العثمانية “الحامية الكبرى للإسلام وأهله”، بعدها انتقل إلى الموضوع الرئيس الذي كتب المقال لأجله قائلاً: “بهذه الوسيلة، وبكل فضيلة تحلت بها هذه الجمعية، أدعوها وأدعو أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله في مشارق الأرض ومغاربها إلى إعانة المجاهدين في سبيل الله في الإمارة العمانية، الرافعين للعلم الأبيض، علم العدل والسلام والأمان”، مبرراً لدعوته بـ“القوم يجاهدون في سبيل ربهم، وإطلاق حريتهم من مربطها وبعثها من مدفنها، وفي المحاماة عن أوطانهم وذراريهم ومساقط رؤوسهم ومدافن أئمتهم وعلمائهم وأصولهم، وعن التربة التي فيها نبتوا وعليها نبتوا”.
وبهذا المقال يؤكد أبو مسلم انتماءه الكبير وولاءه العميق لدولة الإمامة، وسعيه إلى مناصرتها بالحرف في كل ما استطاع إليه سبيلا، كما يعكس بلاغته وفصاحته وعلو شأنه ليس في الشعر فحسب، بل وفي النثر أيضاً.
جريدة النجاح (1914-1911م)
يعتبر العدد الثامن من أعداد جريدة النجاح الصادر بتاريخ 22 ديسمبر 1911م أول عدد متوافر من هذه الجريدة، -حسب اطلاع المؤلفَين. وإذا كانت الجريدة حسب إشارتها الصريحة بأنها تصدر في الشهر ثلاث مرات، فإن عددها الأول يكون قد صدر في أكتوبر 1911م. وكما يتضح من العدد الثامن من أعدادها، فإن الجريدة صاغت ثلاثة شعارات لها في رأس الصفحة الأولى هي: (إن أريد الا الإصلاح ما استطعت) و(كل من ثابر على العمل أدرك النجاح)، و (النجاح لحزب الإصلاح). كما حددت الجريدة في الصفحة الأولى منها سعر الاشتراك للحصول على نسخها، وثمن النسخة الواحدة، وأجرة نشر الإعلانات. ووصفت الجريدة نفسها بأنها (جريدة وطنية أدبية علمية إخبارية تاريخية تجارية تصدر في الشهر ثلاث مرات)، وهو الوصف الذي يستبدل اليوم بـ(جريدة سياسية شاملة). ولم تغفل الجريدة أيضاً في رأس صفحتها الأولى الإشارة إلى مسؤول الجريدة الذي يستقبل الرسائل والبريد وكان اسمه يومها (جابر بن صالح)، أما محرر الجريدة فهو أبو مسلم البهلاني، أما عنوان الجريدة فكان شارع البرتغاليين (البرتكيس) في زنجبار. وتعكس هذه المعلومات فهماً لما ينبغي للجريدة المطبوعة توفيره من معلومات للقراء، باعتبارها وسيلة جماهيرية لها موعد صدور محدد، ولها سعر اشتراك ومكان للبيع والوصول، وسعر محدد للإعلان، إلى آخر تلك المعلومات المهمة التي كانت ولا تزال المطبوعات تهتم بها كجزء من شروط تقديم المطبوعات الدورية للقراء وعامة الجماهير.
رأس أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني تحرير جريدة النجاح منذ بدايتها، ولم يتضح للمؤلفين تاريخ نهاية فترته التحريرية والإدارية. ويشير محسن الكندي إلى أن ناصر بن سليمان اللمكي ومحمد بن علي بن عامر الطائي كانا من الشخصيات التي تناوبت على تحرير النجاح وإدارتها بعد أبي مسلم17 . ولم تستطع النجاح أن تعيش كثيراً، حتى إنها لم تكمل من العمر ثلاث سنوات، إذ توقفت تماماً حين نُفي إلى الهند أحد أبرز محرريها وهو الشيخ ناصر اللمكي وذلك في يوليو عام 1914م. ويبدو أن المقيم البريطاني في زنجبار شكك في ولاء هذه الجريدة للإدارة الإنجليزية في تلك الفترة، ما دفع تلك الإدارة -حسب الريامي- إلى إغلاقها18.
وتدل بعض الأعداد المتوافرة والمتفرقة من جريدة النجاح على بقائها واستمرارها فترة تقترب من أربع سنوات منذ أكتوبر 1911 إلى أغسطس 1914م.
ومما ينبغي تأكيده هنا أن هذه الجريدة أسست مطبعتها قبل إطلاق الجريدة نفسها، -كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وتأكيداً لاهتمامها بالطباعة كقاعدة انطلاق للعمل الصحفي وكمشروع تجاري أيضاً، نشرت النجاح في العدد الثامن منها نص الإعلان الآتي:
“تعلن شركة مطابع النجاح العربية أنها قد استحضرت مطبعة من الطراز الحديث وأنها مستعدة من الآن فصاعداً لطبع أي كتاب على اختلاف حجمه والإعلانات والعنوانات التجارية وغيرها من الكرتات والمجلات والجرائد وما أشبه ذلك باللغة العربية ومستعدة لتجليد الكتب والدفاتر بالجلد والقماش وغيرهما فمن أراد شيئاً مما ذكر وشرفنا بالحضور بمحل إدارة المطبعة الكائن بشارع البرتغاليين في زنجبار فإنه يجد ما يسره من حسن الأحرف والأسعار المهاودة وليس الخبر كالعيان”19 .
هوامش
الورقة مستلة من كتاب “رواد الصحافة العُمانية” رياض الريس 2020
دي ترازي، فيليب (1933). تاريخ الصحافة العربية. المطبعة الأدبية: بيروت. ص. 270 و 350. صدر الجزآن الأول والثاني من هذه الموسوعة عام 1913، وصدر الجزء الثالث عام 1914، أما الجزء الرابع فصدر عام 1933. وكانت الإشارة إلى جريدة النجاح في الجزء الرابع من الموسوعة.
Hamdani, Mariam (1981) Zanzibar Newspapers 1902-1974. Unpublished Diploma Thesis. School of Journalism, Tanzania.
Brennan, James, Fahey, R.S., and Sadgrove, Philp “Newspapers of Muslim East Africa”. Unpublished paper sent by R.S. Fahey to Abdullah Al-Kindi on July 2002.
ولد السلطان برغش بن سعيد بن سلطان البوسعيدي عام 1837م، وتولى حكم زنجبار بعد وفاة أخيه السلطان ماجد عام 1870م، وشهدت زنجبار في عهده تطورات سياسية وثقافية وعلمية واقتصادية، وشجع العلم والعلماء، ما أسهم في هجرة العلماء العمانيين إلى زنجبار، وأسس المطبعة السلطانية وبنى قصر العجائب وأدخل الكهرباء وسكَّ عملات نقدية ذهبية، توفي عام 1888م بمرض السل ودُفن في المقبرة الملكية بزنجبار. الموسوعة العمانية (2013)، المجلد الثاني، وزارة التراث والثقافة، مسقط، ص.464 -467.
الشيباني، سلطان (2015). مرجع سابق. ص. 170.
الشيباني، سلطان (2015). مرجع سابق. ص. 170.
وزارة التراث والثقافة (2013) الموسوعة العمانية. مرجع سابق ص. 3592.
الحارثي، محمد (2010). الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني، منشورات الجمل، بغداد، بيروت. ص. 791-805.
الشيباني، سلطان (2015). مرجع سابق. ص. 188-189.
Hamdani, M. (1981) Zanzibar Newspapers 1902-1974. Unpublished Diploma Thesis at Tanzania School of Journalism.
الشيباني، سلطان (2015). مرجع سابق. ص. 190.
ولد السلطان خليفة بن حارب بن ثويني البوسعيدي في مسقط عام 1879م، وتوجه إلى زنجبار عام 1893م بدعوة من عمه السلطان حمد بن ثويني، ونُصِّبَ حاكماً بعد تنازل السلطان علي بن حمود عن الحكم، اهتم ببناء المدارس والمستشفيات وتعبيد الطرق، وفي عهده افتتحت أول مدرسة للبنات عام 1927م، امتد حكمه 49 عاماً ويعد أطول سلاطين زنجبار حكماً، توفي عام 1960م ودفن في المقبرة الملكية بزنجبار. الموسوعة العمانية (2013)، المجلد الرابع، وزارة التراث والثقافة، مسقط، ص 1308 – 1310.
الشبلي، أحمد (2009) الأوضاع السياسية في زنجبار في عهد السلطان خليفة بن حارب البوسعيدي (1911-1960). رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة السلطان قابوس. ص. 89-94.
البهلاني، ناصر (22 ديسمبر 1911) مقال بعنوان “المجد لله”، (في) جريدة النجاح، العدد 8، ص. 1.
معلومات حصل عليها المؤلفان من الباحث سلطان بن مبارك الشيباني، وحصلا منه أيضاً على ذلك المقال مكتوباً عن المخطوط بخط الباحث الشيباني بشكل سهّل من قراءته ومتابعة مضامينه.
. الكندي، محسن (2009) الصحافة العمانية المهاجرة وشخصياتها الشيخ هاشل بن راشد المسكري نموذجاً. رياض الريس للكتب والنشر: بيروت. ص. 42.
الريامي، ناصر (2009). مرجع سابق. ص. 119. يشير الريامي إلى تلغراف صادر من المقيم البريطاني في زنجبار يعبر فيه عن عدم ولاء جريدة النجاح للإدارة الإنجليزية، ما دفع هذه الإدارة إلى إغلاقها.
جريدة النجاح. العدد الثامن (22-12-1911). ص. 4. مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي. مسقط.
البعد السياسيّ
قراءة في رسالة البهلاني إلى الإمام سالم بن راشد الخروصي
ناصر السعدي
كتب أبو مسلم البهلاني رسالة في عام 1915م، وأرسلها إلى الإمام سالم بن راشد الخروصي (ت:1919م)، وقد تضمنت الرسالة أفكارًا سياسية قدمها البهلاني على شكل نصائح للإمام. تهدف هذه العجالة إلى تقديم رؤية تحليليّة لمضمون تلك الرسالة دون غيرها من مؤلفات البهلاني ونصوصه وأفكاره ونظراته السياسية عموماً. والرسالة المذكورة نشرت في كتاب “موسوعة عمان الوثائق السرية” في حوالي ثماني صفحات1 .
أولا
التكوين السياسي لأبي مسلم البهلاني:
ولد أبو مسلم البهلاني حوالي عام 1860م في بلدة محرم من أعمال سمائل، وعاش جزءًا من طفولته في ولاية نزوى إبان تسلم والده القضاء فيها للإمام عزان بن قيس (ت: 1871م)، فقد كان والده من الرجال الذين قامت على أكتافهم تلك الإمامة، وبعد انتهائها، وتسلم السيد تركي بن سعيد (ت:1888م) السلطة؛ توترت العلاقة بين العلماء والسلطان بما فيهم سالم بن عديم البهلاني، الذي انتهج نهج المعارضة، وكان مناصراً للحركات السياسية التي ظهرت ضد السلطان، حتى إنه كتب رسالة يدعو فيها القبائل إلى نصرة المعارضة رغبة في “الجنة بكل مداها، التي أعدت لمن يخشون الله ومن يخدمونه عند الشدائد” 2. ثم هاجر والد أبي مسلم إلى زنجبار، وحتى هذه الهجرة لا تخلو من دوافع وأسبابٍ سياسيّة، ذلك أن السلطان تركي قد ضيّق الخناق على العلماء، وتتبعهم بالقتل والسجن، ومن استطاع الخروج من عمان خرج3 .
في ظل هذه البيئة السياسيّة المتوترة نشأ البهلاني الابن، ثم لحق بوالده إلى زنجبار بعد سنين، وهنالك تولى القضاء، وكان ملازماً للسلاطين، وسخر جزءًا من قلمه لإعلاء مكانتهم وقدرهم في أعين الناس، ووثّق جزءًا من رحلاتهم وجولاتهم السياحيّة4 . وهذه العلاقة التي جمعت البهلاني بالسلاطين في زنجبار، كان لها أن تمر دون ضجيج، لولا التغيير الذي طرأ على موقف البهلاني ومناصرته إمامة سالم بن راشد الخروصي، فقد رأى بعضهم أن مواقفه تتسم بالازدواجية، كما أن مناصرته للإمام الخروصي أزعجت السلطة في زنجبار. ومع ذلك فالأمر ليس بهذه البساطة، فميول البهلاني للإمامة لم تظهر فجأة، والدليل على ذلك تأليفه سيرة بعنوان “السياسة بالإيمان”، وهذا الكتاب ألّف قبل ظهور إمامة سالم بن راشد الخروصي، ويتضح من العنوان ما قاله البهلاني عن كتابه، من أنه ألفه لهذه الغاية؛ أي لمناقشة الشروط الموضوعية لإقامة الإمامة.
وهذا يعني أن البهلاني وبالرغم من علاقته الوطيدة بسلاطين زنجبار؛ إلا أن ميوله نحو فكرة الإمامة كانت مخبوءة، وعلاقته بالسلطة علاقة هدنة وتقية، وبمجرد أن زالت شروط التقية وأسبابها بظهور دولة الإمام سالم بن راشد الخروصي تغيّرت مواقف البهلاني كليّاً، واستبشر بقيام الإمامة5، وفرح فرحاً شديداً، فكتب مقالاً في جريدة الأهرام حمل تعاطفاً مع الإمامة ، كاشفا فيه مواقفه الحقيقية، دون أن يهتم بالعواقب التي قد يسببها ذلك المقال6.
ثانيا
السياق الزمني والظرفي للرسالة:
كتب أبو مسلم البهلاني رسالته بتاريخ (13 ربيع الثاني 1333هـ \27 إبريل 1915م)، وهذا التاريخ يعني أن الرسالة كتبت وأرسلت بعد سنتين من قيام إمامة سالم بن راشد الخروصي، وليس واضحًا سبب تأخر البهلاني في كتابة الرسالة ! ولكن يبدو أن علاقة البهلاني بالسلطة مع بدايات قيام الإمامة كانت علاقة حسنة ثم ساءت لاحقاً، وتحديداً بعد كتابة البهلاني مقالاً نشره في جريدة الأهرام المصرية، وقد أشار البهلاني إلى هذا الأمر بين ثنايا الرسالة، مما يعني أن الرسالة كتبت بعد توتر العلاقة بين البهلاني والسلطة في زنجبار، ثم أرسلها إلى الإمام، وأرفق معها نصين: الأول: قصيدة النونية، وتحمل دعوة للقبائل العمانية لمناصرة الإمام سالم بن راشد الخروصي، وقد ترجى البهلاني من الإمام أن يكثر من نسخ القصيدة وأن يشهرها بين شيوخ القبائل، والهدف كما يقول: “عساها تحرّك من عواطفهم وتهز من أريحياتهم، ولهذه الغاية وضعناها على هذه الوتيرة سياسيةً منا للدين وتحريكًا لعواطف المسلمين”. أما النص الثاني فهو سيرة بعنوان “السياسة بالإيمان”، يقول عنه البهلاني إنه ألفه قبل “أن يمنّ الله علينا بظهور دولتك- دولة الإمام سالم بن راشد الخروصي- المؤيدة بمشورة وطلب من أعز الأصحاب وأحب الأحباب الشيخ سليمان بن سيف اليعربي، فمنّ الله تمامه، وعلى أثر تمامه بأيام جاءتنا البشائر ببزوغ شمس الحق، فكان الواقع هو عين موضوع الكتاب”.
ومضمون هذين النصين يتفق مع المضمون العام للرسالة، فهذه النصوص الثلاثة هدفها الأساس نصرة الإمامة، وتقديم نصائح سياسية بغرض المحافظة على الكيان السياسي الوليد، أو كما عبر البهلاني نصًّا بهدف “إعطاء السياسة حقها الديني في تربية هذه الأمة”.
ثالثا
المضمون السياسي للرسالة
يدور مضمون الرسالة حول ثلاث قضايا مركزية، أولاً: أساس شرعية دولة الإمام سالم بن راشد الخروصي. ثانيا: علاقة الإمامة بالمجتمع\الرعية. ثالثا: مصادر\مراجع حراسة الدين والدنيا. وعالجت الرسالة هذه القضايا الثلاث استنادًا لرؤية كاتبها واتجاهاته، وليس بالضرورة تعبيراً عن مصادر أخرى.
أساس شرعية دولة الإمام سالم بن راشد الخروصي:
الرسالة كتبت بفكر الفقيه، لذلك طغت المفاهيم والمفردات ذات الحمولة الدينية، لا سيما عند الحديث عن الأساس الذي تستمد منه إمامة الخروصي شرعيتها، إذ عمد البهلاني إلى استخدام ألفاظ وتعابير ورموز تحمل أبعادًا دينيّة، مثل: خليفة الله، والخلافة الكبرى، وولاك- الله قسما من بلاده، كما في النصوص الآتية:
” خليفة رب العالمين العبد الصالح القائم بأمر الله سالم بن راشد الخروصي”.
“إن الله نظر نظرة في عباده فرآك للوقت أصلبهم عوداً …”.
” لله السياسة الكاملة … وولاك قسما من بلاده وحكمك على طائفة من عباده…”.
” إن الله لم يورث الخروصيّ ملكاً وسلطانا دنيوياً، ولكن قلده سلطاناً نزل به جبرائيل من فوق سبع سماوات …”.
حسب هذه الصورة التي أعطاها البهلاني لمنصب الإمام، فهو نائب عن الله ووكيل له، ويملك السلطة المطلقة التي لا تقبل المداولة والمناقشة، فالإمام الخروصي هو اختيار من الله وخليفته في الأرض على العباد والبلاد. وهذه الصورة التي رسمها البهلاني تخالف نصوص الفكر السياسي الإباضي؛ فالإمام غالباً يُوصف بأنه وكيل للأمة ونائب لها، ومن النادر جداً أن يوصف الإمام في التاريخ الإباضي على أنه خليفة الله، وفي العادة يعرف بإمام المسلمين أو أمير المسلمين، وأحياناً خليفة رسول الله، ولذلك فإن “خليفة الله” أمر طارئ على الثقافة السياسية العمانية عموماً. ومع ذلك؛ هل البهلاني استخدم هذه الألفاظ ذات الأبعاد الدينية في سياق المجاملة؟ يحتمل ذلك.
أساس علاقة الدولة – أي دولة الخروصي – بالمجتمع\ أو بالرعية:
يتضح في حديث البهلاني الأساس الديني الذي تستمد منه دولة الإمام الخروصي شرعيتّها، كما يتضح كذلك الأساس الذي تستند إليه علاقة الدولة بالرعية، ولكون الإمام خليفة الله في أرضه بحسب هذا المنظور، فإنّ الرعيّة لا تملك خيارًا إلا الطاعة، فطاعة الإمامة نابعة من طاعة الله، إذ يقول في هذا الصدد:” إن الله أوجب على المكلفين من أهل مصرك طاعتك، والانقياد لأمرك ونهيك فأوجب عليهم حقا ظاهره لك وباطنه لله، وليس لك من الأمر شيء … إنما أنت حافظ الحجة، وسيف الحد تأمر بما أمر به، وتنهى عمّا نهى، فأوجب على نفسك شرط الله”. وهذا يعني أن العلاقة تتأسس على الإلزام الديني، وليست علاقة عقلانية قائمة على مبدأ التعاقد السياسي، وأداء الحقوق والواجبات، فالرعيّة عليها أن تطيع الإمام، والأخير عليه أن يخاف الله في الرعية، فهو ليس مسؤولاً أمام الرعيّة؛ إنما أمام الله.
ويقدم البهلاني كذلك تصوّراً لغاية الدولة، وهي غاية تربوية أبويّة؛ لذلك استخدم مفردة التربية أكثر من مرة بين ثناياً الرسالة، حتى وهو يتحدث عن واجبات الإمام وحقوق الرعية الأصيلة في العدل والإنصاف نجده يستخدم مفردات تحمل معاني المِنّة والإحسان الهبة، مثل: تجاوز عنهم، ارحمهم، ارفق بهم، تودد إليهم بالعدل، حتى العدل هنا يقدمه البهلاني منّةً من الإمام، وليس حقاً أصيلاً.
وقد تعرّض البهلاني في رسالته كذلك إلى الآفات والعوارض التي قد تصيب الدولة، وتؤدي إلى انهيارها، وهي آفات وعوارض قد تصيب الرعيّة أو رأس الدولة نفسها، فما يصيب الرعيّة منها، يتمثل في الآفات الاجتماعية، أو بتعبير البهلاني ” الآفات النفسية والقاذورات الشيطانية” المتمثلة في جرأة العامة، والضغائن فيما بينهم، وهنا إشارة إلى تفكك اللحمة الوطنية، وتأثيرها في مسار الدولة. أما ما يصيب الدولة، فيتمثل في غياب العدل واستخفاف الخاصة بمنصب الإمامة.
وحاول البهلاني أن يضع تصوّراً لكيفية توتر العلاقة بين الدولة والرعية، أو ما يمكن أن نسميه تجوزاً حدوث الثورة وخروج الجماهير على الدولة، وقد عبّر عن ذلك بنص بليغ، فالرعية كما يقول” …لها نفار كنفار الوحوش وطغيان كطغيان السيول، ومتى قدرت على أن تقول قدرت على أن تصول، وإنما أيديها تبع لألسنتها، فلن تملك ألسنتها حتى تملك جسومها، ولن تملك جسومها حتى تملك قلوبها، ولا واسطة للاستيلاء على القلوب إلا بالمساواة بالعدل عن العام والخاص…”.
وصنّف البهلاني الرعية إلى ثلاثة أصناف، وقدم للإمام نصائح في كيفية التعامل مع كل صنف، فالصنف الأول يقول البهلاني “فضلاء مرتضون بحكم السياسة يعلمون فضيلتك وعظيم عنائك ويرثون لك من ثقل أعبائك، فهؤلاء نصحك فاستبق مودتهم ببشر اللقاء، واستجلب نصائحهم بحسن الإصغاء..”. أما الصنف الثاني ففيهم ” خير وشر ظاهران فاستصلحهم بالترغيب والترهيب”. والصنف الأخير هم ” سفلة رعاع أتباع لكل داع، لا يمتحنون في أقوالهم وأعمالهم بنقد، ولا يرجعون في الموالاة إلى عقد، فترك معاقبتهم على صغار الجرائم مدعاة لهم إلى ارتكاب العظائم..”.
ثالثا
حراسة الدين وسياسة الدنيا:
ضمّن البهلاني رسالته خطوطًا ونصائح عامة، لكيفية إدارة شؤون الدولة داخليًا وخارجيًا، سواء ما يتعلق بإدارة الجوانب الدينيّة أو الدنيويّة، إذ يقول ” أيها العبد الصالح – الإمام سالم بن راشد الخروصي- إنك في سلطانك الديني بين بحرين عظيمين مخطرين، أحدهما وهو أعظمهما هو بحر الشريعة…أما البحر الثاني فهو بحر السياسة”.
إدارة ” بحر الشريعة”.
يستطيع الإمام النجاة من غمرات هذا البحر، حين تكون سفينته السيرة المحمدية، بتعبير البهلاني، ويسير فيه سيرة متبصرة، و”مهتديًا السنة السنية” ومتوخياً “الطريق التي سلكها رسول الله وسلكها خلفاؤه على أمته، وأمناؤه على ملته”. كما دعا البهلاني الإمام بضرورة الاهتمام بتثقيف الناس بالمعرفة الدينية، وذلك عن طريق، إنشاء مطبعة تعود ملكيتها لبيت المال، مهمتها طباعة الكتب والنشرات الدينية، وفتح المدارس والاهتمام بالتعليم، وقد ركّز البهلاني على قضية التعليم، وطلب من الإمام أن يجعل التعليم إلزامياً، لأن عمان لم تسقط “هذه السقطة إلا من جهة الجهل، الجهل أم المصائب في الدين والدنيا، بودي- يقول البهلاني- لو ساعدني العلماء …على الرأي الذي أراه، وهو جواز جبر الأولاد على التعليم، وهي مصلحة عظيمة في الأمة، ثم تجعل نفقة الفقراء منهم على بيت المال ونفقة أبناء الأغنياء على آبائهم، وهي طريقة سياسيّة دينية تدل لها أصول من الكتاب والسنة…”. وأخيراً وليس آخراً؛ دعا البهلانيّ الإمام أن يهتم بالجانب الإعلامي للإمام، ويقول نصًّا: ” بودّي لو صنف أحد العلماء عنكم منشوراً في صورة رسالة تهدى إلى جميع المسلمين في جميع الممالك”.
إدارة ” بحر السياسة”
عبور هذا البحر يكون آمناً، إذا اقتفى الإمام سيرة رسول الله، ومع ذلك فالحاجة ماسّة إلى الاعتماد على رجال أكفاء، إذ يقول البهلاني ” فما أحوجك أن ترمي كل حادثة بحجرها، وتداوي كل جرح بمرهمه، معك بحمد الله من رجال الحنكة والتجارب والسياسة وذوي الأصالة في الرأي من لا يألوك جهداً في المناصحة…”. ثم يقترح البهلاني ضرورة توسع الإمامة في علاقاتها الخارجية، وتحديداً مع البلاد والجمعيّات والشخصيات الإسلامية، مثل: أمير نجد وأمراء الساحل، والدولة العثمانية، وشريف مكة، وسلطان لحج. واقترح البهلاني التواصل مع سليمان بن باشا الباروني، وجمعيات الهند الإسلامية. والغاية المرجوة من هذه العلاقات كما يقول البهلاني إظهار الوحدة الإسلامية، وإن ” أهل الإسلام قد ارتبط بعضهم ببعض وجمعتهم الجامعة الإسلامية وعواطف الإخاء الإيماني والوئام”.
هوامش
للمزيد حول الرسالة، انظر: الحارثي، محمد بن عبد الله، موسوعة عمان الوثائق السرية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006م)، ج1، ص: 390-397.
الحارثي، الوثائق السرية، ج1، ص: 1194.
للمزيد حول علاقة السلطان تركي بن سعيد بالعلماء، انظر: السعدي، ناصر بن سيف، العلاقة السياسية بين العلماء والسلطة في عمان 1749-1913م، أطروحة دكتوراه، غير منشورة (مسقط: جامعة السلطان قابوس، 2020م)، ص:176-180.
كتب أبو مسلم البهلاني قصيدة بعنوان ” اللوامع البرقية في رحلة مولانا السلطان المعظم حمود بن محمد بن سعيد بن سلطان بالأقطار الأفريقية الشرقية”.
الحارثي، موسوعة الوثائق السرية، ج1، ص:390-397.
نفسه، ص:395.
حضور أبي مسلم البهلاني في الشِعر العُماني المعاصر
يونس بن مرهون البوسعيدي
يبرز أبو مسلم البهلاني بصفته الشاعر الأول في المشهد الشِعري العُماني، متجاوزًا من جاء قبله وبَعْدَه بأبعادِ شخصيته التي انطبعتْ على شِعره وصحيفةِ حياته وساكبًا رمزيّته الشِعرية على الجيل الذي أتى بعد من الشعراء العُمانيين، فأبو مسلم كان شاعر الملاحم الطِوال بالأغراض الشِعرية المتعددة؛ خصوصا الاستنهاضية الوطنية، والابتهالات الدينية الصوفية أو ما يسمّيها العمانيون “السلوكية”، وكان المفتي الشرعيّ والفقيه الأصولي المتبحّر، وكان السياسيّ الذي سافر مع السلاطين إلى أوروبّا وغيرها ودوّن رحلاتهم، وكان الصحافي الذي تماسّ مع قضايا وطنه في الرقعتين الجغرافيتين العُمانيتين آنذاك، بل تماسّ مع القضايا الإقليمية في الوطن العربيّ، وكان الإصلاحيّ الذي كان يدعو للقضايا التنويرية في حينها، وكان صوت الأيديولوجيا الإباضية الممتدّة فكريًا من شِعر الشراة، ناهيك عن الأبعاد الأخرى من شخصيته التي تتكشفُ بالأبحاث والدراسات التي ترسمُ ملامحَ أخرى لأبي مسلم البهلاني والتي منحتْهُ السيرورة الأوسع واللقب الأفخم في المشهدِ الشِعري العماني، فهو “شاعر العرب والمسلمين” و”عالم الشعراء وشاعر العلماء”، وهو اللقب الذي عُرف به وذاع صيته به، و”شاعر العرب” كما لقّبه نور الدين عبد الله بن حميد السالمي بهذا اللقب، و”شاعر العصر” كما لقّبه محمد بن يوسف أطفيّش الجزائري بهذا اللقب. و”شاعرُ الكون”، إضافة لهذه السيرورة والألقاب الفخمة، فقد طبع شخصية أبي مسلم البهلاني الشِعرية شيءٌ مِنَ المسحة الفنتازية في عُمان، فقد كان ديوانه الشِعريّ من أوائل الدواوين الشِعرية وأكثرَها طباعة؛ بل كانت ترسل نصوصه إلى عُمان والخليج العربي للنشر، ودخل ميدان معارضتِهِ العديد من الشعراء العمانيين، خصوصا قصيدتَيْهِ الشهيرتين النونية والنهروانية، إذ يقول أبو مسلم في مقدمة نونيّته الشهيرة:
تلك البوارق حاديهنّ مرنانُ
فما لِطرفك يا ذا الشجو وسنانُ
شقتْ صوارمهُا الأرجاء واهتزعتْ
تُزجي خميسا له في الجوِّ ميدانُ
تبجّستْ بهزيمِ الودقِ منبعقًا
حتى تساوت به أكمٌ وقيعانُ
وتقول مقدمة نهروانيّته:
سميري ، وهل للمُستهام سميرُ
تنامُ وبرقُ الأبرقين سهيرُ
تُمزّقُ أحشاءَ الربابِ نصالُهُ
وقلبي بهاتيكَ النصالِ فطيرُ
تطايرَ مُرفضُّ الصحائفِ في الملا
لهنّ انطواءٌ دائبٌ ونشورُ
وكان بعض الشعراء العمانيين يصرّح في عتبة كتابتِهِ لقصيدته المقصورة أنه يعارض مقصورة أبي مسلم البهلاني وليس مقصورة ابن دريد، وكان أكثر شاعرٍ عمانيّ تُتداولُ نصوصه صوتيًا بالطريقة التقليدية، فمع مطلع القرن العشرين وظهور شرائط “الكاسيت” حلّق شِعر أبي مسلم البهلاني بأصوات الشيخ محمد بن علي الشرياني، وصوت الشيخ علي بن محسن السوطي والرواحي، ولاحقا بصوت مسعود المقبالي مما عمّق حضوره شِعريا وفكريا في الطبقة الشِعرية والمثقفة وحتى السياسية في الإقليم العماني التاريخي شِعرًا وفقها، إذا استذكرنا أنّ نصوصه الاستنهاضية امتدت كالسحابة على الجغرافيا القبلية لذلك الإقليم، وعمّق ذلك الفنتازيا والأسطورة في شخصية أبي مسلم الشِعرية لحد أنْ تكون قصيدته كشفًا غيبيًا يرسلها أبو مسلم البهلاني للإمام سالم بن راشد الخروصي ينبّئُه فيها بوفاته بإشاراتٍ مبطّنة في قوله:
مولاي أبشرْ لن تزال مجيدا
حفظ الإله مقامك المحمودا
إقبال دهرك بالبشائر مُؤْذِنٌ
تزجي جدودا أشرقت وسعودا
نظرتْ إليك من السعادة عينها
فارفع يديك لتشكر المعبودا
وعْدٌ تحققه المشيئة قد أتى
ولسوف تعرف ذلك الموعودا
قرُبَ الزمانُ وأشرقتْ أيامُهُ
ليس الزمان بما أقول بعيدا
سترى العجائبَ مسرعاتٍ ترتمي
تحيي جهارا ميتا مفقودا
وخُذِ الإشارة من لسانٍ صادقٍ
حتى تشاهد يومك المشهودا
ولقد أتيتك قبلها بإشارتي
وأظن أنك تذكر المعهودا
أبدى الزمانُ بما يُكِنُّ ضميرُهُ
وترى زماناً بعد ذاك جديدا
أخليفة الرحمنِ أيقنْ بالقضا
ليس القضاءُ بحيلةٍ مردودا
فإذا انقضتْ “يس” “طه” بَعدها
أسقطْتَ بندًا إذْ رفعتَ بنودا
وإذا انقضتْ “حاميمُ” قام محمدٌ
للاستقامة طالعا مسعودا
هذا كتابي قد تركت لذي الحجا
مفتاحَهُ في قفله معقودا
هذه الفنتازيا الهائلة لأبي مسلم على الصعيد الوجداني الشِعري، انتقلت أثيريًا إلى الأجيالِ اللاحقة، وانطبعتْ في كينونةِ شِعرها، فنجدُ أنّ تعدد صُور شخصية أبي مسلم البهلاني بأبعادِها المختلفة هي الزوايا التي ركَنَ إليها الشعراء العمانيون ليسلّطوا عليها صُوَر تأثيره على أثرِهم، ويقولُ الأستاذ أحمد بن عبدالله الفلاحي مصوّرًا أبهة حضور أبو مسلم البهلاني في المجتمع العماني (” ابن عديم ” هو الاسم الأكثر شهرة حينما كنا صغارا في مجال الشعر، ولعل الكثير من آبائنا وأمهاتنا لم تكن لهم معرفة تامة باسمه الكامل أو كنيته الشهيرة، ولكنهم يعلمون تمام العلم أنه شاعر عمان الأكبر الذي لا يدانيه شاعر آخر في منزلته وعلو مكانه، وربما كان بعضهم يحفظ أبياتا من أشعاره وخاصة من قصيدته النونية، وكانت النونية آنذاك تمثل ملحمة عمان الكبرى كمثل نونية عمرو بن كلثوم عند بني تغلب في الأعصر العربية البعيدة مع الفارق أن تلك لقبيلة واحدة وهذه لشعب بكامله )1 .
“شاعرُ عُمان الأكبر” الصفةُ التي دبّج بها الفلاحيُّ أبا مسلم البهلاني ناداه بها كذلك الشاعرُ سالم بن علي الكلباني في النصِّ الذي ألقاه في الندوة التي أقيمت للاحتفاء بأبي مسلم، حيث قال الشاعرُ الكلبانيّ:
وعُمانُ اليومَ يا شاعرها
لم تعُدْ تبعدُ عنها الكرماءَ
وعُمان اليوم يا شاعرَها
لم تعُدْ تحيا خمولا وانطواءَ
وعُمان اليوم يا شاعرَها
لم تعُدْ تحضُنُ إلّا الصُلحاء2
قصيدة الكلباني هذه التي اقتطعْناها واقتطعنا منها نظرته للشِعر البهلاني، يذهبُ في النظر إلى عنصر السيرورة الشاعرُ سيف بن محمد الرمضاني، في قصيدة كتبَها بمناسبة مرور ثمانين عاماً على وفاته، وكان أبو مسلم حاضرًا في عنوانها (في حضرة أبي مسلم)، وتجده فيها أنّه شاعر الوطن بامتداد شِعره من سمائل بلد الشاعر أبي مسلم، فصحار ومسقط وظفار، فكأنما شعرُ البهلاني غيمة تتمدد، فيقولُ:
إذا غنّى سمائلَهُ بِصُبْحٍ
فقبْلَ الظُهر تنشدها صحارُ
وإنْ ذاعتْ بمسقطَ أغنياتٌ
له في الحالِ تعزفُها ظفارُ
تربّعَ صوتُهُ في كل بيتٍ
ولكنّ الصدى صممٌ وعار3
انتشار وأثرُ شعر البهلاني في الشِعر العُماني حرّض زُمرَةً من الشعراء العُمانيين على اتّخاذ أبي مسلم البهلاني أسوةً شِعرية لها، تجري في ميادين نصوصها محاولةً الجرْي في آفاقه بالمعارضة الشِعرية الصريحة لنصوصه أو باستلهامِ حضورِهِ، وهذا ما فعله الشاعر سالم بن علي الكلباني، حين وجد في أبي مسلم البهلاني رمزًا شِعريًا كبيرا يناديه في حلبةِ الشِعر، يشربُ من كؤوسِهِ الإبداع الشِعري، ويستفتيه في الإبداع، فيقول الكلباني:
كلما استعرضتُ أشعارك في
خاطري، اهتزّتْ أحاسيسي انتشاءَ
وأجِلْ طرْفكَ تنظرْ فئةً
رغم أنفِ الشِعر صاروا شعراءَ
قُل لمن يمضعُ شِدقيهِ بما
يُمعِضُ السامع أكثرتَ الغُثاءَ
هان قدْرُ الشِعر إنْ كان كما
سخّروهُ اليومَ بيْعًا وشِراءَ
لو رضينا شِعرَهم تنظمُهُ
لملأنا صحف الدنيا هراءَ
قيل لي أصدر ديوانًا “أبو
كاسبٍ” أبدعَ فيه كيف شاءَ
قلتُ والحسرةُ تجري في دمي
أحسنِ اللهم للشِعر العزاءَ4
وكذلك يذهبُ الشاعرُ أحمد بن هلال العبري، الذي صرّح بذلك رمزًا وإشارةً، مستفتحًا قصيدته في أبي مسلم بمفتاحٍ شهير للبهلاني، وهي (سميري) التي بدأ بها البهلانيُّ “نهروانيتَهُ” الشهيرة، وينظمُ في قصيدتِهِ إشاراتٍ لأهم قصائد البهلاني، فيقولُ العبري:
سميري في الغداةِ وفي الرواحِ
مِنَ الأشعارِ ديوانُ الرواحي
“هو الله” الذي آتاكَ فيضًا
لِسِرٍّ قد تأذّن بانفتاحِ
وفي “الأسنى” مِنَ الحضراتِ نهرٌ
بِـ “يا اللهِ” ترويني قداحي
و”بسمِ الله يا رحمن هبْ لي”
وبسم الله قوِّ عُرى جناحي
“سميري” إنني أشتاقُ دومًا
فخُذ ما شئتَ من لجج البواحِ5
وبهذا النهج الاستذكاري يذهبُ كذلك الشاعر هلال بن سيف الشيادي حين الحديث عن أبي مسلم، فهو يقرُّ بسعيِهِ إلى أنفاس شِعر أبي مسلم ليشرب من بئره، ويسير الشيادي في الركب الذي سار فيه سواه من الشعراء الذين استحضروا أهم نصوص أبي مسلم البهلاني باستخدام مفاتيح أبي مسلم الأسلوبية في الشِعر، ويبدو أثرُ النونية جليًا في نصّ هلال الشيادي بملاحظتنا لكلمات “البوارق، مرنان، وسنان” :
أبا مسلم روحي لروحك ترتقي
لتلقاك في سطر من الحب مشرقِ
وأسعى على أنفاس شعرك خاضعا
وأشرب من بئر الهدى المتدفقِ
وقفتَ شموخا حولك الشعر كله
يغرد في تبيانك المتورّق
بوارقُ أشواقي بدتْ في حنينها
وللشعر مرنانٌ وحاديه مُرهِقي
فلا ثَمّ وسنانٌ ولا طرف نائم
ولا شيء غير الشجو يجري بمنطقي6
بهذه الخُطّةِ أي استحضار أشهر نصوص أبي مسلم استذكارًا، يبدع الشاعر أشرف العاصمي في نصه “تسابيحُ غيمةٍ على كفّ البهلاني” ، فهو يتسلسل في عوالمِ أبي مسلم بموسيقا الشِعر الحقيقي، فيتغلغل في الأثير البهلاني، ولا يتماسّ معه سطحيًا، فيقول:
اللهُ .. حينَ يفزُّ الحرفُ من فَمِه
بقوسِه قبلَ ما يرميه قد وَصَلا
سميرُهُ مستهامُ البرقِ بعثَرَه
من ومضِه نادمــتْ أطيافـــُـه زُحَـــلا
وللبوارقِ مرنانٌ إذا لَمَعَتْ
في عينِهِ خِلتَه بالضوءِ مُكتَحِلا
ألطافُهُ مَدَدٌ منها معارجُه
ضمت حقيبتُه في عُمْرِهِ دُوَلا
وبإبداعٍ مماثلٍ ممزوجٍ بالمسحةِ والقاموسِ القرآني يتّسق مع شخصية أبي مسلم الفقيه، ويُجلّي التأثر بِشِعره، يطلبُ الشاعر خليل بن خلفان الجابري من أبي مسلم أنْ يستفتح الشعر المريد بآيةٍ، وأنْ يمرج قصائده مع الكسوف، أو بقبضةٍ قبضها من أثرِ الرسول، كلّ هذا جاء بعد يقين الشاعر خليل الجابري أنّ الشاعر أبا مسلم البهلاني باقٍ ولو أفنتْ العصورُ معاهَدَه وجسده:
أَفْنَتْ مَعَاهِدُكَ العُصُورَ ولا أرى
بَعدَ انتِفَاضِكَ للحُرُوفِ نِدَاهَا
هَلَّا مرَجْتَ مع الكُسُوفِ قَصَائِدِي
عَلَّ الْتقَاطَكَ جَوْهَراً مَغْنَاهَا
أَمْ قَبْضَةً لِلسَّامِرِيِّ قَذَفتَهَا
وقَبضْــتَ مِنْ أثَرِ الرَّسُــولِ سوَاهَا
فاسْتَفْتِحْ الشِّعْرَ المرِيـدَ بِآيَـةٍ
قَـدْ لا تَرَى عنْدَ النّزُولِ عَدَاهَا7
وبقيتْ صورةُ “أبو مسلم” الشاعر الكبير هي الحاضرة أولا في ذهنية ووجدان الشعراء، لذلك أطلق عليه العمانيون الألقاب الفخمة، كلقب (شاعر العرب والمسلمين) ثم يأتي بعد قرْنٍ من حضوره الجسدي من يناديه بلقبِ (شاعر الكون) وهو اللقبُ الذي افتتح به الشاعر هلال بن سعيد الحجريّ قصيدته التي خاطب فيها أبا مسلم، ومنْ ثَمّ صرّح الشاعرُ هلال بن سالم السيابي في هامشِ كتبَهُ في نصّه لهذا اللقب في قصيدتين نونيّتينِ تعارضانِ بصريح الشكل والمضمون نونية أبي مسلم البهلاني، يقولُ هلال الحجريّ:
يا شاعرَ الكون، كلُّ الكون أجفانُ
لدمعةٍ ذرفتْها منكَ أحزانُ
والجميل أنّ الشاعر هلال الحجري لم يصف أبا مسلم البهلاني بِشاعر الكون وحسب، بل وجدَه وطنًا شِعرياً، ووجد فيه ثورةً وتمرّدًا، وأنه نفخَ في الشِعر أسرار الوجود، فكسرَ الشِعر من ربقة الوزن، وكأنما يريدُ الحجريُّ بهذا أنْ يلمّح لحداثةٍ شِعرية وجدها في أبي مسلم البهلاني، فيقول:
كمْ شاعرٍ رافقته الريحُ عاصفةً
منْ علّم الريحَ أنَ الشِّعْرَ أوطانُ؟!
سُبْحانَ ثورتكَ الكُبرى وغُرْبتِها
إنْ كان يكفي اغترابَ الروح سُبحانُ!
نفخْتَ في الشِّعْرِ أسرارَ الوجود، فلم
يستعبدِ الشِّعْرَ أجراسٌ وأوزانُ
علّمتَنا أن هذا الشّعرَ مملكةٌ
فيها التمرّدُ والترحالُ تيجانُ
وعلى نسق الحجريّ، يؤكد الشاعر هلال بن سالم السيابي كونية الشاعر (أبو مسلم البهلاني) بهذه الجملة حين يعنون نونيّته التي يعارض فيها نونية (أبو مسلم البهلاني) ويعيد فيها نداءه بها، فيقول
يا شاعر الكون هذا الكون أوزان
لِمَا نظمت ، وشهب الأفق ندمان
ويسترسلُ الشاعرُ هلال بن سالم السيابي في هذه المعارضة، في خطابٍ طويل له مع أبي مسلم، ينضحُ جليًا بالتوقير والإعجاب بِشِعره، ويُبازي بها عمالقة الشِعر العربي كجرير، عاضدًا قوله بطلبِ البرهانِ بالبيان، وغير مكتفٍ بالمعارضةِ الشكلية فحسبْ، بل يستخدم كغيره من الشعراء قاموس أبي مسلم البهلاني الشِعري:
يا شاعر الكون هذا الكون أوزان
لِمَا نظمت، وشهب الأفق ندمانُ
وللنجوم صرير لا يطاوله
إلّا ” البوارق ” يحدوهن مرنانُ
وللسماء هتافات مقدسةٌ
أنّى اتجهت ، وللتسبيح ألوانُ
ردَدتْهنّ على وجدٍ فرددها
في الخافقين من الأملاك أعوانُ
أتتْ إليكَ القوافي وهي طائعة
حتى كأنك للإحسان سلطانُ
فما جرير ، وما أقطاب دولته
إذا ذُكرتَ ، وللتبيان برهانُ
تباركَ الله ، ماشعر كشعرك في
عُرْفِ الأنام ، ولا دُرٌّ ومرجانُ
بل يذهب الشاعرُ هلال بن حمود السيابي إلى مغالاة المريد في شيخهِ، ويذهبُ به الحُبّ بعيدًا حين يصوّر شِعر أبي مسلم البهلاني بأنه كالقرآن، وأنّ البهلاني ابتكرَ شِعره فلم تسمعْ بها أذنٌ مِنْ قبل، ولم تبصرْ مثلها عين، وغيرها من الصفات التي تدلّ على إعجاب وتأثّر بشيخه مسترسلا في ذكر أشهر نصوص أبي مسلم:
يا شاعر الكون ، كل الكون آذان
إذا صدحت ، وكل الكون ألحان
وكل قافية قد قلتها شمخت
على السها فكأن القول قرآنُ
تُراك أرسلتها من حيث ما سمعت
إذن ، ولا بصرت والله أعيانُ
فطوّفتْ بأقاصي الأرض سائرة
وزمجرت أبحر منها وخلجانُ
سارتْ مسير النجوم الزهر باذخة
ورنّ منها بسمع الكون مِرنانُ
تلك البوارق” جابت كل منحدرٍ
وكل منعطف والأفق جذلان
واستنهضتْ بشباها كل منحدر
وكل منعطف فالأفق شهبان
وفي “معاهد تذكاري” سناً وقناً
ينقد من حدها رضوى وثهلان
كأنها صرخة بدرية أنف
أنفاسها بجلال المجد إيذان
وفي وفي “تعلقت بالرحمن ” مملكة
أركانها أبدا رحمى ورحمان
وصورةُ الشاعر الكبير الفخم يُعيد الشاعر هلال بن سالم السيابي التقاطها في صورةٍ تتناسبُ مع البُعدْ الديني والفقهي الموروث، وهي الربط بين وحي القرآن ووحي الشِعر، ويتضح تناسبها مع استخدامها في نداء الشاعر لأبي مسلم البهلاني، وما يُعرف عن شخصية البهلاني الشِعرية الكبيرة والفقهية، فيقول الشاعر هلال السيابي:
إنّ الذي أنزل القرآن معجزةً
أعطاك معجزة بالشعر تزدانُ
التمازج الفقهي في شخصية أبي مسلم البهلاني التقطَهُ كذلك الشاعرُ سيف بن محمد الرمضاني، بل يُسبِغُ على أبي مسلمِ لقبًا شرفيًا آخر، وهو لقبُ “أمير الشِعر” وهذا لقبُ أعمق دلالةً من أمير الشُعراء، كونه يذهب لجوهر الشِعر لا لشخص الشاعر، فيقول سيف الرمضاني نصّه “في حضرة أبي مسلم” :
ركابُ الشِعر قد زفّتْهُ، بينا
عليهِ العِلْمُ مِنْ ولَهٍ يغارُ
خيولُ الشِعر أسرجَها فثارتْ
وكانت لا يُشقّ لها غبارُ
أمير الشِعر في زمنٍ تداعى
له الأهلونَ فاحتاروا وماروا
تأثُّر الشاعرُ العمانيّ المعاصر بأبي مسلم البهلاني لم يتأطر في اتخاذهِ رمزًا شِعريًا فحسبْ، بل ذهبَ لاتخاذهِ أمثولةً فكريَةً شِعرية، إذا استذكرنا أنّ أبا مسلم البهلاني حمل لواء الفكر الإباضي بالشِعر، وما قصيدتاه الشهيرتان “النهروانية والنونيّة” وغيرهما إلّا صحيفةً دفاعية عن الفكر الإباضي وأحداث تكوينه وتبلوره، نجدُ أن الشاعر سليمان بن سامي الحسني يذهب لمعارضة أبي مسلم البهلاني في قصيدةٍ أخرى شهيرةٍ لها، وهي قصيدة:
أشــعَّــةُ الحــقِّ لا تـخـفـى عـن النـظـرِ
وإنــمــا خــفــيــتْ عــن فـاقـد البـصـرِ
وكــلمــة اللّه لم تــنــزل مــحــجــبــة
عــن البــصـائر بـيـن الوهـم والفـكـر
نـادى المـنـادي بـهـا بـيـضـاء نـيـرة
حــنــيــفــة سـمـحـة لم تـعـي بـالفـطـرِ
أقــامــهـا اللّه ديـنـاً غـيـر ذي عـوج
جــاء البــشــيـر بـهـا للجـن والبـشـر8 ومن هذا المنحى يجدُ الشاعر سامي بن سليمان الحسني في أبي مسلم البهلاني أنموذجًا قويًا في استدعاء التاريخ الفكري الإباضي، واستحضار أحداث المحكّمة والنهروان الشهيرة وغيرها في نصوص بألفاظٍ استخدمها أبو مسلم البهلاني كثيرًا، في قصيدة معارِضَةً قلبًا وقالَبًا فيقولُ الشاعر سامي بن سليمان الحسني:
قف بالعراق بشطٍّ جانب النَّهَرِ
بالنهروان بدمع سيكب همِر
بالأبرقين ونُحْ فيها على سلفٍ
على الشراة السراة الزُّهَّد الضُمُر
عفِّر جبينك في أرض مقدسةٍ
سقى ثراها دماء السادة الطُّهُر
وهكذا تعددت البورتريهات لأبي مسلم في نصوص الشُعراء العُمانيين، مع التباين والاختلافات في الزوايا التي رُئِي من خلالها، ومع ذلك فنستطيعُ القول أنّ التماسّ الذي وجدْناه من خلال هذه الأمثلة العشوائية من النصوص كان تماسًّا متنوعاً، تجلّى ذلك في نداءاتِهم أبا مسلم الشاعر ومعارضة نصوصه الشهيرة خصوصا النونية والنهروانية، أو الإشارة لشيوع شِعر أبي مسلم في الجغرافيا العمانية كما برز عند الشعراء هلال بن سالم السيابي وسالم بن علي الكلباني وسيف الرمضاني، ولعل مردّ ذلك هو أنّ الشاعر العُماني لم يقلق في بيئته كما قلَقَ أبا مسلم فيستعير تغرّبه مثلا، وهو ما حاول الشاعر هلال الحجري التقاطه بنسبةٍ ما، كما أنّ أبا مسلم كان متأثرًا بالواقع الذي عايشه فعبّر عنه بِشِعره، وهو ما تقاطع معه الشاعر سليمان الحسني وإنْ كان بزاويةٍ أيدلوجية. وليس من نافلة القول أنه من خلال مطالعتي المتواضعة للشِعر العماني المعاصر، فإنني أجدُ أن أبا مسلم البهلاني هو الشاعر وربمّا الرمز العُماني الأكثر حضورًا في النص الشِعر العُماني المعاصر.
هوامش
أبو مسلم شاعر عُمان المتميّز. مقال لأحمد بن عبدالله الفلاحي بمجلة نزوى عدد يوليو 2000م
من نص مطبوع أرسله لي الشاعر فهد بن سيف المنذري، الذي أعدّ دراسة ماجستير في شعر سالم بن علي الكلباني.
المجموعة الشِعرية “فانوس” ص43، سيف بن محمد الرمضاني،
المصدر السابق
نص منشور في إصدار تذكاري بدار الخليل بن أحمد لتعليم الشِعر والعروض، والذي كان أصدره الشيخ عبدالله بن أحمد الحارثي، وأنشِد النص في احتفال أقيم في ذكرى أبي مسلم البهلاني.
نص بعثه لي الشاعر هلال الشيادي.
الشاعر خليل الجابري، مجموعة صلاةٌ في الحب، دار كنوز المعرفة، الأردن ، 2012م
ديوان أبي مسلم البهلاني ، مصدر