ففي الوقت الذي نعمت به قطاعات اللغة، في موادها وأوصافها وتراكبيها ومستوياتها بعناية لافتة هي أخص ما كرسته لها النظريات اللسانية الحديثة على أنواعها من جهود، نجد الترجمة، كإحدى تحققات اللغة في نصوص وأوجه استعمال، تفتقر الى مثل هذه الدراسات، وتبدو أشبه بالقريب الفقير للنظريات المحيطة بـ" النص". ولا يأتي تدني العناية بها، والتفكير بمسائلها، سوى تأكيد متجدد على تدني الرتبة الموضوعة للترجمة في الحساب الاعتباري لا اللغوي الصرف، وهو أنها «خادمة» لغيرها، لا «أصلية» أو "أصيلة".
ومع ذلك تستحق الترجمة، في تحققاتها النصية أو في المدونات التي تجعلها مادة لتفكير، عناية أكبر لا لضمان وجودها وحسب بين النتاجات اللغوية حيث لها أن تكون، وإنما أيضا لتفكير مزيد في مسألة "النص" نفسها. وهو ما تدعونا اليه في صورة عفوية وتلقائية قراءة بعض الترجمات، سواء في اللغات الأجنبية أو في العربية ذاتها أحيانا.
ذلك أننا لا نتوانى عن الوقوف على ظواهر لا نصرف لها التفكير اللازم، مثل انتباهنا العجول، على سبيل المثال، إلا أن النص المترجم يبدو، في كله أو في بعضه، في بعض الأحيان أقوى تعبيرا عما هو عليه في أساسه "الأصيل"، ولا يخفف من تكرار مثل هذه الظواهر تقيد المترجم بـ "الأمانة"، شرط الترجمة التقني في أساسه الأخلاقي. ولو ذهب الناظر الى الترجمات بالتفكير بعيدا وتوقف في صورة أطول عند اعراضها ومسائلها، لتنبه أكثر الى أن الدراسات اللسانية لم تأخذ بمقتضى ما تقول به (في معرض دراستها للغات) في مسألة الترجمة. إذ أن الدراسات اللسانية لا تقر في غالبها بالتطابق بين اللغات، بل بـ «الفروق» (كما تقول العربية)، وأنها في أساس تكوين أية لغة. فكيف تقول الترجمة بأنها تطمح الى تحقيق التطابق (مع النص الذي تعمل على ترجمته)، فيما تقول النظرية اللسانية غير ذلك. ولعلها تقول أو تقوى على قول ذلك لو اقتصرت الترجمات على المواد العلمية أو القانونية، لكنها لا تقوى على ذلك من دون شك في النصوص الأدبية، ولاسيما الشعرية منها، التي تقوم على استعمال بل على تبديل استعمال سياقات اللغة ودلالاتها في حدودها المتواضع عليها. وأية قراءة لترجمات الشعر تظهر لنا أنهالا "تخون" (مثلما روجت العبارة الايطالية القديمة لذلك) النص الذي تعمل عليه في غالب الأحيان، بل «تكثره» أحيانا وبالضرورة، طالما أنها لا تنجح – حتى حين تطلب ذلك – في تحقيق التطابق المتوهم والقاصر بالضرورة الذي تنهض عليه نظرية الترجمة، ولاسيما في أسسها العملانية.
أن أسباب هذه الملاحظات وغيرها تعود الى ضرورات واقعة في القواعد التي يطلبها المترجم في النقل والى مقتضيات ناشئة عنها بالتالي، وهي تكشف وهم التكافؤ، أو حدوده على الأقل. فبمجرد ان يطلب المترجم نقل نص من لغة الى أخرى، وان وفق موازين متكافئة وحسابات سليمة تنشأ وضعية تكوينية، إذا جاز القول تجعل النص المطلوب نقله نصا – أصلا، بل أصليا، معززا بالعديد من الصفات التي تصونه وتحدده في صورة حاسمة على أنه «الأول» و "المتفرد" و«المرجع» وتجعل النص الآخر في وضعية الاستقبال والتتبع والتقيد، على أنه صيغة أو نسخة وحسب، حتى لو كانت أمينة.
والحديث عن الأمانة في النقل وعن سلامة الترجمة وصحتها، لا يعدو كونه في نهاية المطاف، حديثا لا يعزز النص الثاني على ما يبدو ظاهرا، بل النص الأول، إذ يؤكده في حصانته الطبيعية ويثبتها بالأحرى. وهو ما يدفعنا الى طرح السؤال : الا تكون الترجمة (أو النقل) أسلم لو أخل المترجم بمبدأ الأمانة، وسلك سبيل إنتاج نص آخر، له ما يبرره في انشائيته المخصومة ؟ ولكن أيكون المترجم مترجما في الحالة هذه أم منتج نص آخر انطلاقا من نص أول، وهو ما يدخل في حسابات «القناص» لا الترجمة في هذه الحالة ؟
النقاش مفتوح طبعا، إلا أن هز الأسئلة وغيرها تدعونا الى الوقوف على حال الترجمة على أنها مخصومة بين النصوص وتتطلب معالجات تنأى بها عن النقاشات التقنية ذات الحسابات الاخلاقية هل أحسن المترجم أو أجاد أو تقيد بالنص – الأصل ؟ هل كان أمينا أم خائنا؟ وتدعونا بالتالي الى الوقوف على نصوص الترجمة، لا على أنها من الدرجة الثانية، 1و صيغ او نسخ اصطناعية، وإنما على كونها نتاجات نصية، مثلها مثل النصوص الأصلية والأصيلة، لها ما يحددها كلها في «تناصيتها» المعلنة أو المضمرة، القسرية أو الاستنسابية.
ذلك أن النص المعد للترجمة لا يقع في فراغ، ولا تستقبله حيادية لغوية ما، بل «يملي شروطه»، إذا جاز القول، وان كان النص الثاني والتابع والمطلوب تقيده باقتضاءات النص الأول الأصل، و "الخلاق" بالضرورة. ذلك أن النص المستقبل لا يكفى النص الأول إلا وفق امكانات بنيته اللغوية، طالما أن اللغات ليست متطابقة الا في بعض موادها. وما نجده غنيا ودقيقا في اللغة قد لا يكون كذلك في لغة أخرى: فألفاظ الأسد والجمل والسيف والنظر وغيرها في العربية لا نلقاها وفق الاتساع والتنوع عينهما في الفرنسية أو الانجليزية، وهذا يعني ان اللغة لا تستقبل بالمعلق، بل بما هي عليه وبما تقدر عليه.
وهذا يعني كذلك أن علينا أن ننظر الى الترجمة من جهة المترجم، فمهما قلنا عن أمانته وغيرها من الصفات فإن ذلك لا يغيب كون المترجمين يخطفون في الملكات كما في الأداء، ولا يسعون الى الترجمة ولا يحققونها إلا بما وسعت أيديهم. ونخلص من هذا الى القول إن أساس النظرية التقليدية في الترجمة (وشعارها: الأمانة الخلقية) مضلل، ولا يؤدي الى الحل المنشود، وهو حل كمالي مستحيل التحقق في نهاية المطاف. وهو يتطلب من المترجمين – حتى لو تساووا في الملكة والأداء – ما لا تقوى عليه اللغات بوصفها ثقافات وأوجه استعمال في نهاية المطاف.
وعلينا البحث بالتالي عن نظرية أخرى للترجمة :
– أن تكون أكثر واقعية ولكن من دون أن يعني ذلك اجتنابها للتشدد في تطلباتها اللغوية والفنية والثقافية.
– ان تكون أكثر قربا كذلك من أحوال اللغات في تبادلاتها، من دون أن يعني هذا، لا التخالط التبسيطي ولا التباين الافتعالي بينها.
– أن تكون أكثر قربا من احوال اللغات في تناقل حمولاتها، فتكون دورة التناقل حيوية وتخصيبية.
وهو ما نجده في مفهوم "التوسط" لا الترجمة. ويعني «التوسط» إنهاء علاقة الأول بالثاني، والأصل بالتابع وأن نعتبر النصين (المطلوب ترجمته وترجمته) متوازنين ومستقلين في آن، على الرغم من ادراكنا بوجود نص للترجمة وبوجود نص مترجم عنه. ويؤدي الى النظر الى «التوسط» على أنه واقع بين نص الترجمة، من جهة، وبين بنية لغوية ومترجم محدد ذي أداء لغوي، من جهة بانية، والتوسط في هذه الحال يعني الانفصال والاتصال في آن، على أن الاتصال، هنا يتخذ شكلا وحيدا، وهو انتقال النص من لغة باتجاه لغة أخرى، هو لا ينتقل بل يتجه، وهو يصل من دون أن يحل في عين المكان، بل فيه وخارجه في آن. وهذا يعني أن علينا أن ننظر الى النص الذي نترجمه على أنه تحقق نصي للممكنات الموجودة في اللغة، ما يدعو المترجم الى دراسة هذه الممكنات في لغة الاستقبال. وهذا يؤدي أحيانا – كما نعرف، وكما يحدث لبعض المترجمين أحيانا – الى أن يكون النص المستقبل ابلغ وأجمل وأمكن، في مجموعه، في بعضه، مما هو عليه النص الذي نترجمه. ونكون بذلك قد قلبنا قلبا تاما نظرية الترجمة التقليدية، إذ ان الأول أصبح الثاني، والثاني أصبح الأول، ولم يعد التباين قائما على الأمانة في النقل، بل على التفاضل، إذا جاز القول، بين الممكنات التعبيرية، ووفق هذا المنظور تصبح الترجمة أقرب الى التأليف منها الى النقل، ويدخل نقد الترجمة، وفق مقتضيات هذه النظرية الجديدة، في نقد النصوص عموما، بما فيها من جانب «تناهي» كذلك.
هذا ما خبرته في الترجمة عموما، ولاسيما في ترجمة شعر شديد نضمه، إذ بدا لي أنني أزيد عليه، وأنني أتخفف منه، من دون أن أقصد ذلك. وهذا يعود الى أن التركيب في شعرها يستند الى مواد غزيرة في منطلقها، وشديدة الحذف في حاصلها، ما يجعل العبارة الشعرية محدودة العدد وقوية الدلالة، أشبه بأحجار قليلة ذات احتمالات تركيب وتعيين في المكان، عديدة ومتنوعة. هذا لا يعني أن شعرها ينهل من الفكري، أو الذهني، بل من «تحققات» تلحظها العين واللمسة أحيانا، أي من تحققات تؤدي اليها اعتقالات الذات في المشاهد البشرية، يوميا وفي حركاتها المستديمة والمتتابعة، هكذا نراها تتوقف عند «المدن» أو عند "الطعوم" وعند موضوعات يمكن لنا أن نعتبرها موضوعات مدبرة ومختارة للمعالجة والصياغة إلا أننا نتحقق، في حاصل الأسطر الشعرية، مما تحمله وتعرضه، من كونها قد نهلت من معين مشاهداتها وانفعالاتها ومما جرى في هذه اللحظة، أو في سابقاتها. بل يبدو لنا أن قراءة شعرها، والقيام بترجمته خصوصا، يوضحان لنا حقيقة التركيب الشديد الذي تقوم عليه القصيدة، والذي يخفي غالبا العمليات العديدة التي قامت عليها توليدات القصيدة وتدفقاتها وعروضاتها، وتوضح لنا قراءة شعرها، وترجمته خصوصا، أن التركيب ذد البناء التجريدي أحيانا أو الذي لا تتضح حسيته أو مشهديته التامة في قصائدها يخفي في «الطرق المختصرة »، طرق التركيب والتكثيف التي انتهت اليها معالجات الشاعرة لشعرها في «مختبرها»، العديد من المعاينات الحسية والمعايشات الحارة وترددات التجربة.
في نهاية المطاف
في طرف الحركة الفارغة
والنظرة المتواضعة
في طرف القلوب المتعبة
والأرق الذي من دون صور
في طرف الصباحات الزنخة
والدروب التي من دون إيمان
العين في عين الموت
تجتاح سهول الصمت
وهناك تمردي
قوى تمردي
طانة ونشطة
تجتاح سهول الصمت
العين في عين الموت.
النوارس
أعطيك ثلاثة نوارس
لب الثمرة
طعم الحدائق على الأشياء
نجمة مستنقع خضراء
ضحكة القارب الزرقاء
جذور القصب الباردة
أعطيك ثلاثة نوارس
لب ثمرة
فجرا بين الأصابع
ظلا بين الصدغين
أعطيك ثلاثة نوارس
وطعم النسيان.
الجبال
تحت سماء متشققة مثل محارة
سلكت درب الجبال
حتى التينة الجافة
هنا صنوبرات تنحني
وتسقط في المهاوي
الرياح المختبئة تسحب أثر
خطواتي
أركض صوب الجسر الصموت
الذي يضم الوهاد
(…..)
لا خاتمة أبدا لهذا
حتى لو وقع الحمل من على كتف
الراعي
الذي يهرب تحت دثاره كما لو أن له
جناحي بومة
حتى لو الشجرة ذات الأغصان
تكسرت في وسطها.
الآبار
وضعت حبة البخور على السندان
لكي أتنصت الى صوت الآبار
الصوت الذي يحمل الضفاف
طفولة الساقية
رعب الخسوف
وسكر الهجرات
أنا الذكرى
وأنا التهديد
على كل حجر أطلقت
اسم شمس.
زمن موتي
حين سيأتي زمن موتي
ماذا ستقوين، يا صغيرتي، على فعله
مثل ثوب في الريح
يجف البكاء
ماذا سأحمل معي
ولا حتى صرختك
التي كانت تتقافز في
مثل جدي صغير
صغيرتي ابتعدي
حين أصير ترابا
وهذه الأم التي من غياب ومن
عاج
اهربي لم تعد هي أنا.
صورة أولى من عصيان
المرأة التي من دون ذكريات
رحلت عن حقل الأسلاف الحزين
صوب الأعشاب العالية
في صباحات الغضب
تعدو متشحة بأثوابها المعتمة
بين القطعان المتفرقة
لا شيء حولها
وحدها قرية جرداء
تثقل على الرابية.
منتصبة في حاضري
منتصبة في حاضري
الماضي والمستقبل أزهار فصولي
كان يمكن ألا أكون
وأن أتجاهل هذه القصة
ومصير الحب
مغامرة من دون أي سبب كان
كان يمكن ألا أكون
وأكون ميتة أكثر من الموتى
منتصبة في حاضري
ولا يزال الماضي والمستقبل فصولي.
أنا لا أتكلم إلا في الحاضر
بما هو متوافر "هنا"
أبني لغتي
وتنقذني كلماتي
من أنفاس المابعد.
أنا لا أتكلم إلا في الحاضر
لكن الطرق كلها طرقي.
مروحة باطنية
أصبح الطريق المؤدية إليها.
عشت كل عبارة
قبل أن أقولها.
اجتزت كل كلمة
قبل اجتيازها.
مقيمة في اللحظة
صمت يصونني-
مدن يعددها
ماء الماضي الغامض
هل ينتهي حقلي
إذا امتنعت عن المضي؟
وأين أتوقف
إذا مضيت؟
حرية
انهض من بلد لا يسود فيه أحد،
وتعبره شقوتى وعصافير.
اليد ترسم المستقبل، والقلب
أطرافه،
نداء يمنح يدي أشرعة والتكشيرة
تكدرها.
أنهض من بلد لا شعار له، ولا
حبل للرسو،
للموت أحكامه المبرمة، هنا وهناك!
غدا يتحقق مداه، وفي الربيع براهينه
هناك أمكنة في كل مكان قابلة لأن
نثبت فيها.
الوجه المنتصر
الظل ينام في سهولنا،
يتمدد في آبارنا، ويلغي بيوتنا
الحياة كثيرة، والقارب هش للغاية
لكي يعبر وحيدا الصور والزمان.
أحيانا تصبح نهرا لا ينعكس فيه
شيء.
تصبح رمالا بددتها الرياح.
تحت النجمة الجامدة: هذا العابر
الذي يترنح.
هذه السنديانة التي من دون
عصفور، هذا العصفور الذي من
دون حليف.
ترى ترى من جديد المراعي النازفة،
البؤس مديد، والمدن عابرة
الحب ينحل والشمس تبقى هي
هي،
ولا ترى في أي مكان الجلاد
مصروعا.
الحياة كثيرة، والقارب هش للغاية
لكي يعبر وحيدا الصور والزمان
لكننا نجد دوما صوتا لصوته،
لكننا نجد دوما نظرة لمشقته.
أغني الوجه المنتصر.
وحده، الوجه
أضاعت الشجرة العصفور
والطريق فجره،
حمامة تحتضر ضد الليل.
أين هم رفاقنا؟.
أين هي المملكة إذن؟
لمن تتكلم،
ولماذا أكتب؟
نعيش غالب الوقت مثل أخيلة
أخيلة، نحن ثمرتها.
الرجل الذي يحارب بأسلحته
وقناديله،
الرجل الذي يسقط طريحا، جريحا في
المغاور،
يعيش من جديد في نيسان المعارك،
في أزرق الدموع، في الزهرة العميقة.
نعيش غالب الوقت مثل أخيلة
أخيلة، نحن ثمرتها.
لن أعرف أبدا
لن أعرف أبدا من يسكنني
لن أعرف أبدا من يبقيني يقظة
لن أحسن تسمية الطعم
ولن أقوى على قول اتساع الدروب
غير أن الدروب تتسع
وكانون الأول يعدو صوب آيار
لا أعرف لأي سبب
تقضم الأقمار الظلال
ولا في أي موت تتجدد الساعات
ولا أعرف لصاح من-
مدفوعين بأي هلع
وبأي جراح منبهة-
نحاصر غدا.
أنا
من يرحل عني ويسكننى
من يخرجني من مكمني ويتهرب
مني
من يحول مجراه فيما احتبس
من يتوثق فيما أهرب
من هو- وهو من دون عنقود،
من هو- وهو الطعم نفسه،
الذي يحاصرني ويسلخنى
ويتركني في الوديان
وهو ناشف مثل القشر
ومتواضع مثل الآبار
من هو منقاري أو أرضى البائرة
من يتلقفني ويجتازني؟
من يعصاني ويتحداني؟
من يهدهدني ويخطفنى؟
من يصالحني؟
أحبك، أيها العصفور المعادي
لا نموت من الموت
بل من حمل النهار في ألف شظية
وشظية
من كوننا فريسة أحد وجوهنا
وحسب،
ومن جعل بيوتنا المكان الوحيد.
لا نموت من الموت
بل من الزبد الذي يفقد ذاكرته التي
لصدغي المحيط
(….)
حياة مخططة على حيواتنا
بأية شباك أصطادك؟
أحبك أيها العصفور المعادي.
بأية لعبة نلعب؟
ماذا نفعل غير
تقليب أخيلتنا فى حدائقها،
في الوقت الذي يفرقع الكون
ويهرب في البعيد؟
ماذا نفعل غير
زيارة الزمان،
في الوقت الذي يتهندس فيه موتنا
في القريب؟
ماذا نفعل غير
قرض الأفق،
فيما في البعيد
في القريب-
الصدمة الكبرى.
محاولة 1
سعيت الى الالتحاق بأرضي، على
الأرض،
بكلماتي، في حبكة الصمت،
وبعرض البحر، في الغناء المخفي.
تراودني رغبة قول اللقاء الممكن،
وانتزاع المكان من شبكة الملاجيء،
ولوي الكلام حتى تقاسمه.
ثم، إلقاء التحية على هذا،
وهو أكثر تحررا منا:
موتنا،
موتنا الأكيد!
هو حجر الزاوية الذي يضلل
الفصل،
وهو الرفيق الذي يوقع الزمان من جديد.
هذا
الذي تمحو صورته الحدود
يستعيد، هنا، وجهنا المشترك،
ويعيد في هذا العالم،
تنظيم أوقاتنا المبددة.
عودة الى الوجه
أسهر على بوابة الكلمات
أتبين امبراطورية الصور.
محيطات تمسك بب،
حيوات تخصبني.
أتقطع في الأراضي المتعادية،
أشع شموسا في كتل.
وإذا ما عدت الى الوجه
فشوقا الى الصلصال الطري.
واذا ما احتفلت بالوجه،
فذلك لفتحته على الوحدة.
القلب المبحر
بعيدا عن العبادات
التي تحيلنا الى رماد،
وعن المعابد
التي تجهد السماء في فتح طريق اليهما،
بعيدا عن قوى البرونز
التي تدحرها قوى أخرى،
لننتخب الحياة مرة أخرى
على قمة النهار الجريح.
الثمرة الخطرة بدلا
عن حروف الرخام،
البحث دائما
من دون أن نعرف أبدا:
قوس عبر الأدغال،
وجنات عبر الكمائن،
بدلا عن الجدارية المشؤومة
لحقيقة مخنوقة.
يذوب الزمان مثل الشمع،
ولا تنفك القيود
إلا للقلب المبحر.
الفارق
غالبا أسكن جسدي
حتى تجويف الإبط
أرتسم في هذا الجسد
حتى أطراف الأصابع
أتبين بطني
أتذوق نفسي
وأبحر في شراييني
في سرعة دمي
الى وجناتي ترتكز النسمة
يداي تلمسان الأشياء
وجسدك يقيمني على جسدي
غالبا لكي أكون جسدي
عشت
وها أنا أعيش
غالبا من نقطة من دون مكان
أتبين هذا الجسد
مطروقا من الأيام
ومحاصرا من الزمان
غالبا من نقطة من دون مكان
أسبق هذا الجسد
ومن الفارق هذا
أعيش
بالتناوب.
مواجهة
أحيانا أقف بالمرصاد
للميت الذي سأكون
من ناحيته
لا يحتاج السهل لبنائين
ولا الزمان لقياس
نداء الأجساد انقطع
الاشاعات تتبدد
والوجه اكتمل
ثم أدور دورتي في حركة واحدة
وألتحق بوقتي
كل شىء أمامي
كل الالغاز تسبرني
وأجنحتي تتداعى كلها
أدخل
مواجهة
في أموال
الأحياء الصاخبة.
حياة 4
حين ينير الحلم أجسادنا الكثيفة
مؤلفات اندريه شديد
من أصول لبنانية، من مواليد القاهرة التي عاشت فيها صباها، قبل أن تعود الى لبنان لسنتين وتستقر في باريس منذ العام 1946 حتى أيامنا هذه. كتبت غير نوع أدبي (الشعر، الرواية، القصة، القصة القصيرة والمسرحية وغيرها)، وفازت بالعديد من الجوائز الأدبية منذ العام 1966 م، سواء في الشعر أو في القصة القصيرة، وأشهرها جائزة مالارميه وجائزة الأكاديمية الملكية البلجيكية وجائزة الأكاديمية الفرنسية وغيرها، من مؤلفاتها:
في الشعر:
نشرت شديد غير مجموعة شعرية منذ العام 1949، تزيد على أربع عشرة مجموعة، وما لبثت أن جمعت مختارات منها في كتابين "النصوص من أجل قصيدة" (1949- 1970) و"قصائد من أجل نص " (1970- 1991).
وهي المجموعات الشعرية التالية "نصوص من أجل وجه" (1949)، "نصوص من أجل قصيدة" (1950)، "نصوص من أجل الحي" (1953)، "نصوص من أجل الأرض الحبيبة " (1933)، "الأرض المشاهدة " (1937)، "البلد المزدوج " (1965)، "نزوات " (1962)، "غناء مضاد" (1969)، "وجه أول" (1972)، "اخوة الكلام" (1976)، "احتفال العنف" (1976)، "مغاور وشموس" (1979)، "محن الكائن" (1983)، "كم جسدا وكم روحا" (1984- 1991) وغيرها.
ومن الجدير ذكره أن دار "سيجرز" الفرنسية خصتها بدراسة مستفيضة عن شعرها (متبوعة بمختارات من شعرها)، في سلسلتها المرموقة "شعراء اليوم "، وذلك في العام 1977).
في السرد:
أصدرت شديد ما يزيد على ثلاث عشرة رواية وقصة وقصة قصيرة، منها "اليوم السادس " (1960)، "الباقي على قيد الحياة" (1963)، "الآخر" (1969)، "المدينة الخصبة" (1972)، "نفرتيتي وحلم اخناتون " (1974)، "درجات الرمل " (1981)، "البيت من دون جذور" (1983) "الصبي المتعدد" (1989) وغيرها.
ولقد جرى اقتباس روايتين من أعمالها للشاشة الكبيرة "اليوم السادس" (من اخراج: يوسف شاهين، وبطولة داليدا) و "الآخر" (من اخراج برنار جيرودو، وبطولة فرنشيسكو رابال) كما جرى اقتباس روايات وقصص قصيرة للمسرح، مثل: "نفرتيتي وحلم اخناتون "، و"الآخر" و"درجات الرمل"
نشرت فلاماريون في سلسلة " ألف صفحة وصفحة" مجموعة من رواياتها في مجلد واحد، في العام 1998.
في المسرح
وضعت شديد ما يقارب العشر مسرحيات منها "بيرينيت مصر"، والأعداد"، "الشخص "، "المرشح الأخير" وغيرها.
كما ألفت كتبا مختلفة للأطفال
ترجمة: شربل داغر (ناقد ومترجم من لبنان)