كأن علي بن عاشور لم يمت. لم يعرف بموته أحد. عرفوا , لكن لم يصدق موته أحد. صدقوا, لكن لم يقتنع بموته أحد. عرف أصدقاؤه أنه مات, فصدقوا, لكنهم أنكروا ذلك في نفوسهم, فبقي فيها حيا. هكذا, مات علي ولم يمت. مؤكد, على الأقل, أن عليا لن يموت قبل زمن طويل.
لم يعرف أحد أن علي بن عاشور مات.
حتى صديقه أنا, عرفت وصدقت – وإن بصعوبة – في نهاية الأمر, ولكن حدث أني لم أيقن. سهوت عن ذلك. راح فكري, فبقي في نفسي ولم يمت.
لم يعرف أحد من أصدقائه في ثلاثة أقطار العالم: المشرق والمغرب وما بينهما فرنسا, أنه مات, ما زالوا حتى الساعة يسأل أحدهم الآخر عن علي وعن أخباره وصحته, حتى إذا ما أجيب بخبر وفاته, صعق وقال: أمعقول هذا? ثم مضى غير مصدق.
كان علي خيالا , مزيجا أثيريا , مزاجا يطغى فيه الروح على الجسد. كان, على هزاله, قويا , وعلى هزله جادا , وعلى صمته بليغا . لم يعرف علي الصحة الوافرة المكتنزة شحما ولحما , بل عرف الصحة الجيدة المتوازنة, فكان دائم الحركة والحيوية والنشاط; لذا استطاع أن يتحم ل في سجنه ألم المرض الذي اشتد عليه إذ ذاك وألم القهر معا . كان هزال جسده من ك ب ر النفس لا من سقم الصحة, وهذا من طبيعة الأمور: »نفس كبيرة ي تعب مراد ها الجسد«; فعلى كيلوواته الأربعين التي لم يزن جسده أكثر منها يوما في حياته, كان يتمتع بقدرة على الاحتمال والجهد اللذين لا يقوى عليهما أصحاب الأوزان الثقيلة, فكان وزنه لا يغرق في المشروبات الروحية التي ي غر ق فيها أحزانه, بل كان يبقى صاحيا شفافا , غالبا ما يصل الليل بالنهار حين تستغرقه قراءة كتاب لشاعر أو روائي أو مؤرخ أو فيلسوف, من غير أن يحفل في نهاية القراءة بأن قرأ كتابا , فعلى عكس المثقفين الذين كانت الموضة تقضي بأن يتباهوا بكتاب قرأوه, كان علي يتبسم حين يسأل عما يقرأ, ولا يجيب. كان يطوي الكتاب في أعماقه فلا يخرجه إلا حين يقتضي الأمر في مكانه الصحيح بالضبط, في مقال أو في ندوة فكرية أو سياسية عامة يدعو أو يدعى إليها ويشارك فيها.
كانت مقالاته, على ندرتها, (فقد كان مقلا) يترق بها أصدقاؤه والذين قرأوا له فأسرتهم كتاباته, للاستمتاع بما يقرأون. أذكر على سبيل المثال تلك المقالة – التحقيق الصحفي (في ملحق النهار, في أغلب ظني) الذي بقي فترة طويلة موضع حديث المثقفين في بيروت والصحفيين الذين, فيما بعد, حاول عدد منهم تباعا أن يفعل الشيء نفسه انطلاقا من الفكرة نفسها, والتي رمى علي من ورائها إلى التأريخ – بمعنى ما – للواقع الذي كانت تعيشه الحركة الوطنية واليسار اللبناني – الفلسطيني, من خلال سيرة أربعة مقاه في بيروت هي: مقهى التوليدو (في منطقة الفاكهاني) ومقهى الجندول (كورنيش المزرعة) ومقهى الاكسبرس (الحمرا) وقبلها مقهى الهورس شو. كان ثمة »تاريخية« لهذه المقالة/التحقيق الصحفي تكمن في كونها دشنت في بيروت نوعا من الكتابة الصحفية الساخرة من أوضاع »اليسار« و»المقاومة« في لبنان. ولعل عليا كان متأثرا بكتابات صديقه عبد الأمير عبد الله في »الكفاح العربي« الذي كان سباقا إلى هذا النوع من الكتابة النقدية الساخرة من الأوضاع »السائبة« التي سادت لبنان في ظل هيمنة المقاومة الفلسطينية.
كتب علي في »السفير« و»النهار« و؛»الكفاح العربي« و»الهدف« و»المستقبل«. وكان يمتاز على المثقفين اليساريين بأنه لم تكن لديه سمة »الرصانة والرزانة« التي تميزهم والتي تجعلهم مضحكين. كان بمعنى ما »مثقفا خليعا«. لم تنتقص خلاعته شيئا من مكانته لدى كبار رؤساء الصحف (نبيل خوري, طلال سلمان, وليد الحسيني, عصام محفوظ, الخ…) ولا من احترام معارفه وأصدقائه ومشاعر الإعجاب التي يكن ها له كل الذين عرفوه شعراء وكت ابا وصحفيين. على أن ما لم ي نش ر مم ا كتبه كان أكثر مما ن شر: أذكر مثلا ذلك الحوار الذي حد ثني به صديقي الطي ب ولد العروسي والذي كان قد أجراه مع علي بن عاشور في أحد لقاءاتهما.
لم ير الحوار النور أبدا بعد ذلك الوعد. ووفاء بالوعد والعهد, تكف ل صديقه ولد العروسي بنشره بإمكاناته الخاصة الذي لا يفي إلا بنزر يسير من حق علي علينا نحن أصدقاءه الذين لم نفعل شيئا تقريبا في هذا الصدد لأنه مازال في نفوسنا إنه لم يمت.
وأذكر أيضا ذلك الكتاب الذي ضم فيه كل المقالات الجريئة التي كانت ترفض الصحافة نشرها بحجة أنها مقالات تذهب بعيدا في جرأتها النقدية وصراحتها; فجمعها تحت عنوان واحد: »لكمات نقدية« وضعها في عهدة سهيل إدريس ولايزال أصدقاؤه ينتظرون صدوره يوما عن دار الآداب, إذ لايزال إدريس يتري ث في نشره (ربما لأن في بعض كلمات هذا النقد لكمات كان يمكن أن تؤدي بحياة من تسدد إليه وتخرجه من دائرة الأدب والصحافة التي يزعم أنه منها).
كان علي يلجأ أخيرا إلى حل »ثوري« فـ»ينشر« كتاباته بنفسه وبيده: كذلك البيان الذي كتبه بخط اليد ووزعه (فوتوكوبي) على المارة في شوارع الدائرة الخامسة في باريس حيث يكثر رواد المقاهي من المثقفين والأدباء والصحفيين العرب. كما أذكر الرسائل التي كان يبعث بها من سجنه إلى أصدقائه وكنا نتداولها ونتلوها لبعضنا بعضا.
كان علي جسرا بين جماعات المثقفين العرب (الذين يعرفهم ويعرفونه جميعا) المتنقلون منهم بين بيروت وبغداد ودمشق وباريس والجزائر, والثابتون منهم في هذه العواصم: يستحيل أن تذكر علي بن عاشور في بيروت ولا تذكر صديقه عبد الأمير عبد الله وشل ته محمود المختار ونصري الحجاج (ل خوي ) وسهيل الخطيب وداود الرز, وألا تذكر خوسيه وخافيير الاسبانيين اللذين كانا عنوان استهتار المقاومة الفلسطينية برأسمالها الانساني, وألا تذكر مظف ر النواب وكاظم عوي د وصقر بوفخر ومحمد بوشحيط ومحمد كبي وأباه بومحمد.. يستحيل مثلا أن تتصو ر علي بن عاشور في الجزائر من غير جماعة »الثلاثي المخيف«: الطاهرين (الطاهر وطار والطاهر بن عيشة) والعفيف, وفي باريس من دون الطي بين ولد العروسي والصحراوي, يستحيل أن تذك ر علي بن عاشور بلا عبد القادر الجنابي وأجواء شل ته السوريالية ومجلته »الرغبة الإباحية« (محمد عوض, فريد العريبي, علي فنجان..).
كان علي همزة وصل بين هذه الجماعات, يعرفها جميعا وتعرفه جميعا, من غير أن تكون فيما بينها معرفة مباشرة. كان رمزا لهذه الجماعات جميعا, ولذا لم يمت علي بن عاشور, بل تلك حقبة من تاريخ جيلنا, هوت ولم يشعر بها أحد رغم عظم الكوارث التي تسببت بها وسببتها, فكأنها هباء طار في الهواء.. كان علي فلذة من تلك الحقبة التي ما زالت مع ذلك, ماثلة في تاريخنا, تنتظر من يؤرخ لها ويستخلص عبرها ودروسها بحق وصدق.
بين الأدباء والروائيين العرب كثيرون يحسدون جبرييل جارثيا ماركيز على عالميته القائمة على حدث محل يغفل يبرع في استخراج ما انطوى فيه مطمورا بذرة , شجرة بحجم العالم. نكبر ماركيز لكن لن يصل بنا الأمر إلى حد الاكتفاء بالاستجداء والجري وراء »ماركيزي« العالم عالميي الشهرة, ففي العرب مواهب لا عد لها, ولم يحن بعد أوان استقالتها إلى الكتابة بـ»الأنجلوفونية« أو »الفرنكوفونية«, ومازال بإمكانها أن تخرج وبالعربية شجرة بمستوى عالمي من حدث »عادي« إنما ترقد فيه بذرة تلك الشجرة الكونية: علي بن عاشور جادت به ثورة الجزائر مطهما بالأحلام الكبيرة: تشرعت أبواب العالم أمام العالم العربي, وبات ممكنا حمل نفس عربي يسهم في تقدم العالم وتطويره وتغييره, جاء من شرق الجزائر إلى العالم العربي والأوروبي فدرس الطب في دمشق و»تعاطى« السياسة والصحافة في بيروت وباريس حيث تعر ض لعدوان تنضح منه رائحة العنصرية عندما أفلت عليه أحدهم كلبه الدوبرمان فهشم وجهه وكاد يقتله, وهو النحيل الساعد كما قلنا. لكنه شديد الساعد على نحوله كما قلنا أيضا , فاقتص بن عاشور بنفسه من المعتدي, منتزعا حقه بيده, بعد أن يئس من قيام العدالة بذلك. سجن بن عاشور ثم طرد من فرنسا. عاد إلى مثلث دمشق – بيروت – تونس, وانقطعت أخباره عني وعن عدد من أصدقائه الذين كنا نراه ونلتقي به مرارا في باريس. إلى أن نمي إلينا أن حادثا وقع له في تونس العاصمة من غير أن يقول لنا من كنا نظن أنهم أصدقاؤه هناك حقيقة هذا »الحادث«..
مات علي بن عاشور ولم يصدق أحد . نعي وأ ثبت نبأ وفاته من أصدقاء له بالجزائر وتونس, ولكن… لا أعرف لماذا علي بن عاشور ما زال عندي خارج الموت والحياة, ربما لأن ثمة مكانا أضع فيه من يخرجون من الحياة ولا أريد لهم أن يكونوا في الموت, لأني أريد لنفسي أن أكون فيه وأفض له على الحياة والموت معا .. مكان ألتقي فيه وعبد الأمير عبد الله صديقي وصديق صديقي علي بن عاشور, ورشيد صباغي, صديقي وصديقه, الذي توفي في حادث مأساوي في باريس مؤخرا , ونخلة فريفر صديقنا المشترك كذلك, كما ألتقي فيه آخرين ربما كانوا لا يعرفون علي وعبد الأمير ونخلة ورشيد لكنهم منهم طينة وجبلة.
حسين قبيسي كاتب من لبنان