ليلى جاسر سلامة
في صباح مُثلجٍ أفاق أنفي الملسوع من شدّة البرودة محتشدًا داخل فتحتيه رائحة برتقال آتية من بعيد. صحوتُ جائعًا. وضعتُ نعالًا بلاستيكيًا رقيقًا. ارتديت بُرنُسًا فوق ثوبي البني. وخرجتُ بهيئتي تلك. لا مشكلة! فلا أحد يعرفني في هذا البلد. المدينة عاجزة تمامًا، الطرقات منبوذة. الغيمات متراخية والسماءُ تمطرُ عطرًا برائحة الثلج. الناس في سبات، والقطط والكلاب الضالّة كذلك. والأرض على امتدادها كانت بساطًا أبيض ناعمًا كالسكّر المطحون المنثور. كانت تلك أيامي الأولى في مكان غريب، وكنتُ جائعًا جدًا! مشيتُ في الزقاق القريبة من مسكني للبحث عن مطعم يحضّرُ مقليات شهيّة مثل مطعم “نوير”، لم أجدْ وبحثت عن دكّان أو حتى بائع متجول وأيضًا لا شيء. نوافذ المنازل مغلقة بإحكام، تتسلّل منها رائحةُ النعناع، يُهيأُ لي أنه شاي بالنعناع فأشعر بالدفْء قليلًا. أحتاج إلى بضعة حبّات من الطماطم الطريّة، خبز ساخن، بيض، قطعة جبن مثلًا، أو حليب كامل الدسم في كيس شفّاف، سمكة أو سمكتين ورديتين، فلفل أخضر حار، بهارات مشكّلة، زيت، سكّر وملح ..ووو. استأنفتُ المشي، جميع المحلّات مغلقة واللافتات مغطّاة بطبقة كثيفة من الصقيع. امتدّ صوت قرقرة معدتي إلى أطراف قدميْ المتنملتين فهرعتُ مسرعًا والهواء البارد يجري بسرعة أكبر مني، إنّها بضعُ خطوات تفصلني عن الفلفل الحار؛ امتدّ بصري مسافة 300 متر ضوضائية ثمّ وقعَ على حشد كبير من الناس. استطال أنفي المتجمّد يعانق مذاق البطيّخ، فواكه حلوة كالكمثرى المثيرة وربما أجد موزًا فألفه في رقائق عجين مع شوكولاتة نوتيلا، إيهٍ.. تتفرّد تلك المسافة برائحة جلود مدبوغة. إنّه السوق الشعبي ….أو من المحتمل أيضًا أنه يجاور سوق الخضار والفواكه المركزي.. نعم، إنّه كذلك! أنا ابن خضّار، ويمكنني أن أفكر مثل أبي! الناس لا يجتمعون إلّا في تلك الأماكن فالسوق الشعبي على مقربة من سوق اللحوم والأسماك وفيه ركن للمزارعين. الآن أستطيعُ أن أشتمّ رائحة البرتقال بدقّة. الناس هنا يُسمّونه (سوق الحسبة). تمطّطتْ مشيتي وصارتْ خطواتي تفترسُ الطريق المعبّدة برائحة الثلج . كانوا رجالًا يصطفون في طوابير طويلة ممتدة وربمّا أبعدُ من أي مسافة عرفتها، قرْقَفهم البرد وجمّد شعورهم بالزمن، طقطقة أنفاسهم متواترة. وقفتُ في آخر الطابور.. آخر الواصلين حاولتُ مطّ بصري إلى أبعد نقطة ممكنة. الكلُ متأهب. على عجلة من أمرهم. يذوبون الثلج بتململهم الساخن. ماذا عساي أن أفعل بين تلك الجموع؟ سأنتظر قليلًا لعلني أحظى ببعض الخبز والسمك والحليب والفلفل والكمثرى…ووو. اليوم سيكون فطوري وغدائي وعشائي ملكيًا. لمحتُ كل من ينتهي دوره يخرج ومعه كيس خيش صغير تتعاشق خيوط نسيجه، ولكني سأخرج بغنيمة. الانتظار باردٌ جدًا ولكن يستحق! أحد الذين خرجوا كان يرفع شارة النصر. من حقّه أن يفعل ذلك، لأنّ الوقوف في طوابير ممتدة تحول بين أنفي وبين قطعة خبز شهية يُفسدُ متعة الاستنشاق. أخذ بصري–بشكل منمّق- يجيءُ يمنة ويروح يساراً. الكلُّ ماضون وشارات النصر تعلو وتعلو وتعلو مع كل أكياس الخيش .ازرقّت أصابعي من قسوة البرد كورق العنب في أكياس التجميد! لا بدّ أن يأتي دوري! لا بدّ أن الأسعار هنا مثالية ومعقولة. هذا بلد غني بالزراعة، في الواقع بالكاد ترى شوارع مزفّتة بقدر ما ترى ترابًا أحمر. لا لون أصفر هنا . لا يوجد ملحٌ رطبٌ في الهواء. رسمتُ لوحة زيتية لسوق الخضار والفواكه هنا. أخذت المسافة تقصر كلّما خرج أحدهم من الطابور، وكنتُ أدعو الله وأردد بعض تمائم دخول السوق أن أصل وما يزال هناك بعضٌ من الكلأ، الطابور مثل حبل طويل يقصرُ شيئًا فشيئًا, إنه يقصرُ ورائحةُ البرتقال تضعف. تفرْقعت تخيلاتي فجأة عندما التفّ الشاب الذي يتقدمني حانقًا متعجبًّا. افترسني بتحديقه وحاجبيه المنعقدين وقال لي: يا حبّة الطماطم.. تسخرُ من حالة الاستنفار؟! تمطّطتْ شفتاي كبصري، كقدماي وكجميع ملامحي البلهاء، وسألته مدهوشًا: “ما هذا المكان؟” ردّ علي بينما يطقطقُ أصابعه الخشبية: “هذه طوابير التعبئة العامة في طريقنا إلى الجبهة يا أطال الله عمرك وقصره!” ارتعشت الكلمات على لساني: استنفاررررر، نفدتْ من أنفي رائحة البرتقال والكمثرى والنعناع, لا سمك ولا نوير ولا خضّار. انصبّت الألوان الزيتية على اللوحة التي رسمتها وغدتْ تُطاردني، مالي ومال حالة الاستنفار، علتْ شارات النصر. رفعتُ ثوبي البنّي وزممتهُ في فمي فأطلّ سروالي الفضفاض، ثمّ، وعلى أطراف أصابع قدميْ المغروزتين في الأرض نفذتُ بجلدي بعيدًا ألهثُ مُلحفًّا في برنس النوم كرأس ملفوفٍ يتدحرج أمام كاسحات الثلج.