ما الذي يجعل من قصيدة . أو نص أدبي . شعرا؟ وفي سبيل الاجابة عن هذا السؤال ، ما الذي ينبغي تحديده أو البحث
عنه ؟ وكيف يمكن السير في هذا السبيل ؟ هل يمكن أن يكون إلا سيرا نحو هدف غامض؟ نحو هدف لا يلوح إلا متباعدا. يغري بنتفقه . ولكنه يفلت دائما من محاولات الامساك به . أو ليس تاريخ النقد _ نقد الشعر _ تاريخا من الافتتان بذلك الهدف ومن اللهاث وواءه ؟ وإذا كانت مناهج النقد على أنواعها قد سعت . بطرق مختلفة الى اجتراع الأدوات والمقاييس والأساليب التي قد تساعد في الكشف عن جماليات الشعر وأسرار صنعته ، فإن أيا منها لم يدع التوصل الى قدو كاف من الطمأنينة حيال ما أنجزه ، بل أقر بصعوبة هذا التوصل ، وأقر بعدم قدرته على الاكتفاء بذاته أو الاستغناء عما عداه كيف لنا أن نقف ونحكم على شعرية نص من النصوص ؟ هل نحن في حاجة الى تحديد مسبق لماهية الشعر أو للشعرية (poeticite)؟ وهل ينبغي لكل دراسة تتصدى لنصوص شعرية أن تتسلح بمفهوم معين للشعرية ؟ وتاليا هل تتعدد المفاهيم المتعلقة بالشعرية تبعا لتعدد الدراسات والدارسين ؟
الأسئلة التي وردت ليست بالجديدة ، وانما هي أسئلة تظل مطروحة في استمرار ، لأن محاولات الاجابة عنها محكومة دائما بتغير الأزمان والأذواق ، كما أنها متنوعة في كل آن تبعا لتنوع المنطلقات والوسائل ، ومن هذه المحاولات ما يقوم _ في بحثه عن الشعرية _ على تحليل للكلام الشعري ، وعلى تفكيك للعبارات لأنه ينطلق من رؤيته الى الشعر ظاهرة لغوية في المقام الأول ، ولأنه يرى تاليا أن التعبير الشعري هو فن من فنون استخدام اللغة وخصوصية ذلك التعبير (أو شعريته ) إنما تكمن في كيفية هذا الاستخدام .
كان لمثل هذه المحاولات حضور في القديم والحديث . وسوف نتوقف قليلا عند اثنتين منها: الأولى مثلها عبدا لقاهر الجرجاني في تراثنا العربي، والثانية مثلها رومان ياكوبسون أحد علماء الألسنية البنيوية ، وذلك قبل أن ننتقل الى الكلام على أمور تتعلق بالكتابة الشعرية ، وبلغة الشعر ، وتتصل بالبحث عن «الشعرية ».
بين الحرجاني وياكوبسون
أولا : في تراثنا النقدي والبلاغي، مهد عبدالقاهر الجرجاني سبيلا للتحليل اللغوي (النحوي) في الكشف عن خصائص التعبير الأدبي أو الشعري، وقد بنى عبدا لقاهر نظريته في " النظم " التأليف على تقدير كبير للنحو، أو بالأحرى لمعاني النحو وأحكامه ، التي عرفها في كتابه "دلائل الاعجاز" بأنها "هي الطرق والوجوه الى تعلق الكلم بعضها ببعض "(1). وقد أسهب الكلام على معاني النحو هذه ، من تقديم وتأخير ، وتفكير وتعريف ، وفصل ووصل ، وحذف وتكرار… وما الى ذلك ، مقدما الأمثلة الكثيرة _ من شعرية وغير شعرية _ على هذه الأساليب في نظم الكلام ، مشيرا الى أن التأليف ليس مجرد تطبيق لقواعد النحو، وانم هو توخ لمعانيه ، أو توظيف جمالي لهذه المعاني إذا صح التعبير. بكلمة أخرى، هو عملية استنسابية ذوقية ، هو تأليف من نوع خاص ، والكشف عن كيفية هذا التأليف إنما يكون بحثا عن مستواه الأدبي أوالشعري.
النحو إذن هو المعيار الداخلي الذي أقره عبدا لقاهر لوصف الكلام والحكم على مزايده ، فأنت – كما يقول في دلائل الاعجاز – "لا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده ، أو وصف بمزية وفضل فيه ، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل الى معاني النحو وأحكامه ، ووجدته يدخل في أصل من أصوله ويتصل بباب من أبوابه"(2)
أما الطريقة التي يقرها عبدا لقاهر في النظر الى مزايد التركيب اللغوي، فتقوم أولا على تفكيك العبارة ، التي هي وحدة الكلام ، كشفا عن بنيتها النحوية . يقول عبدا لقاهر " إنك لا تشفي العلة ولا تنتهي الى ثلج اليقين حتى تتجاوز حد العلم بالشيء مجملا الى العلم به مفصلا، وحتى لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه "(3).
أعطى عبدا لقاهر لمعاني النحو إمكانيات كبيرة . ووجد فيها ما يتحكم بوجوه التعبير الأخرى، وأبرزها أساليب البيان كالاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز : "لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو"(4) .
أراد عبدا لقاهر للنحو أن يقبض على الشعر، فيما تناوله من أمثلة شعرية . وأبرز ما قدمه من آراء ميزته عن غيره من النقاد العرب ، هو توحيده بين المعنى والتركيب النحوي في مستوى العبارة . هذا التوحيد من شأنه أن يجعل كل بحث عن خصائص التركيب النحوي بحثا _ في الوقت نفسه _ عن خصائص المعنى الذي ينطن ي عليه ذلك التركيب .
قد لا يكون التحليل النحوي كافيا للكشف عن خصائص التعبير الشعري من جميع النواحي اللفظية والدلالية ، إلا أن عبدا لقاهر وجد فيه المدخل المناسب ، بل الأنسب ، لذلك الكشف . لقد أعطى لمعاني النحو تقديرا كبيرا، ووجد في التركيز عليها أثناء تحليل النصوص منطلقا أساسيا لاضاءة هذه النصوص .
ثانيا : احتفت الألسنيات الحديثة بالتحليل اللغوي سبيلا للبحث عن الشعرية . فالشعر كما يعرفه ياكوبسون : "هو اللغة موظفة جماليا"(5). وياكوبسون يرى "أن موضوع العلم بالأدب ليس الأدب ، بل الأدبية Litterarité أي يجعل من عمل ما عملا أدبيا"(6).
وقد حدد ياكوبسون مراحل للبحث عن خصائص النص الأدبي كعمل متميز. ويمكن تلخيص هذه المراحل بما يأتي :"
1 – تحليل المظاهر الصوتية للعمل الأدبي .
2- تناول مشكلات التعبير .
3- النظر الى تكامل الصوت والمعنى في كل لا يقبل التجزئة "(7). وفي كلامه على المرحلة الثالثة قدم ياكوبسون مفهومه للقيمة المهيمنة ، وهي العنصر المركزي للعمل الفني، الذي يسود باقي العناصر ويحددها ويحولها. إنا هو الذي يضمن تماسك البنية الأدبية ، ويميز العمل الأدبي:"فالصفة المميزة للغة الشعرية الموزونة مثلا هي بكل وضوح صورته العروضية شكلها كابيات "(8) يركز ياكوبسون على العلاقة الخفية التي توفرها اللفة الشعرية بين جانبها الصوتي وجانبها الدلالي ، اللذين لا يكف الواحد منهما عن تحويل الآخر واغنائه . ويمثل على ذلك بلازمة الشاعر إد غار ألن بو
(Poe )في قصيدة له بعنوان «الغراب ». تلك اللازمة هي كلمة "Nevermore " "التي ترينا من خلال عدد قليل من الحركات الصوتية مخزونا لا يستهان به من الدلالات المتصلة بالغراب ، وبما ينطوي عليه لفظه من مضمون نظري جمالي وانفعال (النحس ، الشؤم ، الحزن ، الكآبة …الخ )، إذ تجدنا مباشرة أمام سر الفكرة المتجسدة بالمادة الصوتية "(9).
في مقابل اللغة العادية التي لا تشكل سوى أداة للقفاهم ، يرى ياكوبسون أن "الأمر في اللغة الشعرية يتعلق بتبدل جوهري في العلاقة بين الدال والمدلول"(10). ويطرح السؤال الآتي : أين نعثر على الشعرية ؟ على ذاك الذي يجعل من النص الشعري شعرا، ويجيب كالآتي: "نشعر بشعرية النص عندما نحس بالكلمة ككلمة ، لا بديلا لشي ء أو تفجيرا لانفعال ، عندما لا تقتصر الكلمات بتركيبها ودلالاتها، على كونها علامات مطابقة للحقيقة ، بل تكتسب وزنها الخاص وقيمتها الخاصة "(11)
ويعقب ياكوبسون على ذلك بسؤال آخر: لماذا يجب الا تتطابق العلامة مع الشي ء في الشعر؟ويجيب أيضا كما يأتي : "لأنه الى جانب الوعي المباشر بتطابق العلامة والشى ء، هناك الوعي المباشر باختلافهما. لا مفر من هذا التناقض "(12) .
هكذا يرى ياكوبسون في اللفة الشعرية تناغما بين عناصر متناقضة وذلك سواء في مستوى الكلمة أو العبارة أو النص . والاستعمال الشعري للكلمات هو تكثير لمعانيها بوضعها في حقول دلالية جديدة تنطوي عليها العبارات ، أي أنه تحويل واغناء لما وضعت له الكلمات في الأصل . وقيما يتعلق بكيفية هذا التحويل والاغناء ، ينبغي أن يقوم التحليل اللغوي الباحث عن الشعرية .
الكتابة الشعرية وتاريخ الكلمات
الكتابة الشعرية في جانب كبير منها هي إحساس بتاريخ الكلمات . وما نقصده بتاريخ الكلمة في لفة معينة هو ما جرى لها من تنوع وتلون ، تبعا لاستعمالاتها المتنوعة والمتعددة ، وخصوصا في الشعر، أو لنقل في الأدب ، حيث يتسنى للكلمات أن تخرج من الحدود الدلالية التي رسمتها لها المعاجم . بتعبير آخر، نقصد بتاريخ الكلمة ماضيها من الاستعمالات التي ربما أدت بها الى مزيد من التوهج ، أو الاستعداد للحياة مجددا في استعمالات جديدة وربما أدت بها الى شيء من الانكفاء أو الابتعاد عن حقول التجارب القائمة . في الشعر، لا تنفك الكلمات تراوغ معانيها، وتطرب إزاء هذه المعاني وهي تتكاثر في استمرار.
ومهمة الشاعر القادر على أن يتحسس تاريخ الكلمات إنما تتلخص في سعيه الى استعمال الكلمات كما لم تستعمل من قبل ، ومنحها بذلك حياة جديدة ، أو بالأحرى جعلها كائنات جديدة . بهذا تكون مهمة الشاعر صعبة وخلاقة في آن .
يتعامل الشاعر مع كلمات ليست ملكا له . ولكنه إذ يتعامل معها إنما يسعى الى امتلاكها. هكذا على الشاعر أن يسكن في كلماته . وهذا لا يتم له الا إذا استطاع أن يسكن الكلمات في سياقات أو تعابير من صنعه ، تقدر أن تنم عنه ، أي عن نكهته الخاصة . قبل ذلك ، أي قبل أن يمتلك الشاعر كلماته ، تكون تلك الكلمات – بالنسبة اليه : مسكونة بالآخرين ، من الأسلاف وغيرهم .
هل يفرغ الشاعر كلماته التي يستعملها في تعابيره من كل نكهة لأسلافه ؟ يقول الشاعر والناقد ت . س . إليوت : "لو أقبلنا على الشاعر دون تحيز مسبق ، لوجدنا أن الأجزاء المتفردة في شعره هي تلك التي يؤكد الموتى من الشعراء أسلافه خلودهم فيها"(13).
هل أراد إليوت أن يقول إن الشاعر المتفرد أو المجدد هو الذي يحسن الاقامة الى جانب أسلافه في كلماته وتعابيره ؟
لقد اشترط إليوت في الشاعر، لكي يكون حديثا أو معاصرا، أن يمتلك حسا مرهفا بأدب بلاده ماضيا وحاضرا وأن يمتلك ما سماه إليوت بالحس التاريخي إزاء التراث والعلاقة بالتراث عند إليوت مسألة أعمق من محاكاته أو التمثل به ، فالتراث في نظره "لا يورث ،. واذا رغبت فيه عليك أن تبلغه بجهد عظيم "(14).
يريد إليوت للشاعر الحديث أن يظهر في كتابته علاقته بتراثه الأدبي، ومدى استيعابه له ، وتاليا مدى حضوره فيه ومدى إسهامه في الاضافة عليه . كأنما أراد إليوت للشاعر الحديث في لفة معينة ، أن يرى الى نفسه ضمن سياق من التطور الذي خضع له الأدب في تلك اللغة . كأنما أراد له أن يرى في الكلمات التي يعبر بها كائنات لها تاريخ من التحولات ، فيحسن إذاك أن يجاور أولئك الذين رسموا تلك التحولات ، مضيفا الى انجازاتهم انجازات جديدة تميزه الى جانبهم ، وليس في معزل عنهم .
"اللغة هي مادة الأدب "(15) ، كما تقول النظريات الأدبية الحديثة . واللغة هي كلمات ، قبل أن تكون عبارات أو جملا أو تراكيب . والكلمات التي يتخذها الأديب مادة أولية لبناء قوله أو نصه ، ليست علامات فارغة أو محايدة ، بل إنها مضمخة بتجربة هذا الأديب ، ومن ضمنها رؤيته الى تجارب الآخرين ، وخصوصا تجارب سابقيه ، حيال هذه الكلمات . ولكن الحياة لا تكتب للكلمات بوصفها مفردات ، وانما تكتب لها بناء على وجودها في أنساق لغوية ، تختلف وتتطور من وقت الى آخر ، ومن أديب الى آخر.
هذا الأمر كان قد تنبه له عبدا لقاهر الجر جاني ، عندما جرد الكلمة المفردة من كل قيمة ناجزة تستند الى معناها القاموسي ،وعمل على تقدير قيمتها التعبيرية تبعا لموضعها في سياق الكلام . ولهذا رأى أن تأليف الشعر لا يقوم بتخير كلمات فصيحة واستبعاد كلمات غير فصيحة ، كما ردد غيره من النقاد. وانما قال بأن الشعر لا يقوم إلا بابتكار العلاقات النحوية الجديدة والمتميزة . ما بين المفردات . وانطلاقا من ذلك ، لم يقبل بالمفاضلة بين الكلمات المفردة : "فالألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ، ولا من حيث هي كلمة مفردة . بل تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ ومما يشهد لذلك أنك تري الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ، ثم تراما بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع اخر"(16) .
الفصاحة إذن ليست ميزة تتفرد بها كلمات دون أخرى. هذا ما قاله عبد القاهر الجرجاني، مخالفا معظم النقاد العرب ، الذين جعلوا الفصاحة للألفاظ في ذاتها. الفصاحة عند عبدا لقاهر تكون للكلمات المنضوية في تأليف معين ، أي تكون للتركيب النحوي، فتكون تالية للمعني. ذلك أن عبد القاهر قد وحد بين التركيب والمعنى في العبارة ، وقال إن كل تغيير في الأول ,هو تغيير في الثاني.
الا يمكننا إذن أن نقول إن الفصاحة للكلمات هي مرآة لا تتجلى من خلالها صفات ذاتية لهذه الكلمات ، وانما تتجل لها صفات مكتسبة عبر تاريخ من الاستعمالات ؟ وما أراد عبد القاهر التنبيه اليه هو أن كل مؤلف عليه أن يمتلك الاحساس بذلك التاريخ لكي يتمكن من إنشاء العلاقات الجديدة والمبتكرة في تعابيره الخاصة .
الكلمات ليست علامات فارغة أو محايدة ، واللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير عن الأفكار. إن اللغة هي ذات مفكرة كما يقول الشاعر والناقد الفرنسي بول فا ليري :"يرى فاليري أن اللغة ، بمعنى من المعاني ، تفكر أكثر من الفكرة نفسها ويقول إن قيمة الشعراء هي في قوة التقاطهم بالكلمات لما يرونه باهتا في أفكارهم "(17).
لقد حاولت النظريات الحديثة أن تقني على كل فصل بين اللغة والأفكار، خصوصا في الكتابة الشعرية . وبات القول في بعضها ، بأن الشاعر يفكر بواسطة اللغة شبيها بالقول إن اللغة تفكر من خلال الشاعر.
الكلمات إذن ليست منفصلة عن الأفكار، بل إنها عل العكس من ذلك تمتليء بالأفكار تنطوي عليها، وفي وصف الكتابة الشعرية هناك من يفضل القول إن الكلمات هي التي تفكر، بدلا من القول إن الأفكار هي التى تتكلم . هذا ما عبر عنه الشاعر الفرنسي مالا رميه في قوله : "إن الشعر لا يكتب بالأفكار ، بل بالكلمات "(18).
أيمسك الشاعر بالكلمات ويقودها ،أم أن الكلمات هي التي تقود الشاعر؟
الأول أن نقول إن الشاعر يحلو له كثيرا أن يسلم قياده للكلمات ، ففي ذلك تكمن لذة التأليف الكتابة . واذاك ليس مهما ما يحصل للأفكار وما يمكن أن ينالها من تغير أو تحوير. "ففي الشعر ، ليس أكيدا _بحسب فاليري _أنه من الضرورة أو الأفضل ان نقول بالضبط ما نريد قوله "(19).
الاحساس بتاريخ الكلمات ليس بالنسبة الى الشاعر بحثا وتدقيقا ليس إلا ضابطا حدسيا ومرهفا ، ينبغي للشاعر أن يتحل به أثناء استسلامه للكلمات ولتشكلها في أنساق . ولكن ذلك الاحساس لا يتأتى له إلا بعد مراس وخبرة ، أي بعد جهد عظيم كما قال إليوت .
أن يحس الشاعر بتاريخ الكلمات ، لا يعني اتصاله بماضيها فقط ، وانما يعني أيضا امتلاكه القدرة على الاسهام في رسم مستقبلها. فالتاريخ سهم لا يقتصر على نقطة انطلاق وانما ينم عن مسارات واتجاهات وآفاق ، فيشير الى احتمالات وغايات وفي محيط المحيط : "تاريخ كل شيء غايته ووقته الذي ينتهي اليه ". وتاريخ الكلمات يتجاوز كل وقت وكل غاية . لذلك فإنه في وعي الشاعر وفي حدسه ،هاهي الكلمات وحاضرها ومستقبلها.
لغة الشعر والكلمات المفاتيح
لكل منا أصدقاؤه من الكلمات .. لكل منا كلماته الأثيرة التي يتعلق بها وتتعلق به أكثر من غيرها.. يستخلصها من جمهرة الكلمات التي تحيا في مجتمع اللغة ، ويجعلها أساسية في عباراته . يشعر بأنها تحضره كلما أراد أن يفصح عن شيء ما في نفسه ،ويشعر كذلك بأنها لا تخونه كلما باشر التعبير اعتمادا عليها.
والكلمات التي يؤثرها كل واحد منا إنما تنم عن شخصيته ، عن صفات له تميزه عن غيره . كأنما الكلمات – هي أيضا – تؤثر الشخص الذي يؤثرها ، تختاره كما يختارها، فتعبر عنه كلما عبر بها.
لكل منا أصدقاؤه من الكلمات ، كلماته الأساسية التي تتزعم ما يقوله من كلام ، فيكون لها ما يشبه السطوة عل غيرها في سياقات هذا الكلام ، في تراكبيه أو جمله . الكلمات الأساسية تتوهج أكثر من غيرها، فيكون لها أن توضح الكلمات الأخرى التي تتبعها ، أو تخضع لسطوتها. واذا كان الشخص هو كلماته ، الا يمكننا القول إن كلماته الأساسية هي مفاتيحه ، أي هي التي تهدي الى شخصيته ؟
لكل كلام _ مقولا كان أو مكتوبا _ مفاتيحه ، أو كلماته الأساسية التي تحكم مقاطعه وأجزاءه . وفي النصوص المكتوبة تتجلى العلاقة بين الكاتب وكلماته الأساسية أكثر متانة ورسوخا منها في الأقوال المرتجلة بين القائل وكلماته . وذلك لأنها في حالة الكتابة وليدة تدبر وتأمل لا يتأتيان للكلام المنطوق ارتجالا. والنصوص الشعرية هي – من بين النصوص المكتوبة – الأصدق في تجسيد العلاقة القوية بين المتكلم وكلماته ، لأن طبيعة الشعر تضفي على هذه العلاقة طابعا حميما، هو نتيجة التناقض الناشي ء بين التدبر والتأمل من جهة ، وبين العفوية والانسياب من جهة ثانية .
الكلمات الأساسية في حقل معين في زمن معين ، لدى شخص أو جماعة ، هي أشبه ما يكون بحكومة لغوية . فهي التي تتحكم بغيرها من الكلمات . توزع عليها الأضواء والظلال داخل السياقات أو العبارات كل كلمة أساسية هي مجهر نستطيع من خلاله أن نكشف كلمات أخرى. هذا ما ذهب اليه الناقد الانجليزي ريتشاردز I.A. Richards وقد استعان بأقوله الباحث مصطفى ناصف في كتابه "اللغة والتفسير والتواصل "(20) خصوصا في فصله الثالث ، حيث عرض لأحد كتب ريتشاردز وعنوانه : "كيف تقرأ صفحة "(21)(How to. Readpage) من أبرز ما نجده في عرض مصطفى ناصف تركيز ريتشاردز على دور الكلمات الأساسية في إدارة شؤون التفكير وانتاج المعرفة . فمن خلالها نستطيع أن نقع على كيفية نمو المعاني التي تتألف منها ثقافتنا . كذلك يؤكد ريتشاردز أهمية الكلمات الأساسية في فن القراءة ، وبالأخص قراءة الشعر . فالقراءة – كما يقول :
"هي فن اليقظة الى الكلمات . وهي تجربة خاصة نعيد فيها تركيب الكلمات المألوفة بوجه يجعلنا نتبين فيها بعض الغرابة ، ونستبقى قدرا من الدهشة التي عفا عليها الألف "(22) لنحصر كلامنا بالشعر ويفن قراءته ، ولنقل إن كل نص شعري يتميز بكلمات أساسية ، أو بكلمات هي المفاتيح التي تساعد على تيسير قراءته ، أو بالأحرى على جعل هذه القراءة عملية «فنية » تستطيع الانتقال من كشف الى كشف . انطلاقا من ذلك ، ينبغي أن نشير الى أن الوقوف على الكلمات الأساسية في نص شعري معين يقتضي حدسا وذوقا وخبرة ، وهو جزء أساسي من العملية الفنية – النقدية التي تنطوي عليها قراءة ذات قدرة على اكتشاف النص واستنطاقه ، وأحيانا على افتضاحه . إن معرفة الكلمات الأساسية في نص شعري ليست بديهية أو سهلة ، خصوصا أن هذه الكلمات قد تكون أقل غرابة _ داخل السياق – من كلمات أخر ليست أساسية مثلها . هنا نرجع الى ريتشاردز فنجده يقول : "الكلمات الأساسية ليست غريبة عنا.
ومع ذلك فنحن نعرف عنها الكثير، اللغة هي أشبه بمجتمع نعيش فيه زمنا طويلا دون أن نعرف على وجه التدقيق من يحكمه . كذلك اللغة لا تعرف الكلمات الحاكمة فيها بسهولة ."(23)
أليس في إمكاننا أن نتخذ من هذا الكلام لريتشاردز حيال اللغة بعامة ، ما يصح أن يقال حيال لغة الشعر بخاصة ؟ فالكلمات في الشعر لم توجد خصيصا له ، أي أنه لم ينفرد بها دون غيره من الحقول الفنية أو الفكرية ، إن كان يعمل دائما على اختيارها . الكلمات في الشعر ليست منذورة ، وليست بريئة من شتى أنواع الاستعمال في الحقول المختلفة . وهذا الأمر يعقد أكثر فأكثر مهمة الوقوف على الكلمات الأساسية في نص شعري . هنا أيضا يلغتنا قول ريتشاردز :"لا شيء في لغة الشعر يمكن أن يفهم فهما حسنا في معزل عن تمحيص الكلمات الأساسية التي نتداولها جميعا و خارج ميدان الشعر"(24).
"أي الكلمات ينبغي أن نوليها عناية كبرى إذا أردنا أن نفهم سائر الكلمات ؟ وبعبارة أخرى كيف السبيل الى اختيار الكلمات المفاتيح "(25) هذا السؤال يطرحه ريتشاردز ، ويقدم إجابات عنه يعرض لها مصطفى ناصف . وما يهمنا – أكثر من غيره – في هز العرض إشارة من شأنها أن توضح رؤيتنا الى الكلمات الأساسية أو الكلمات المفاتيح . هذه الاشارة تتمثل بالعبارات الآتية : "الكلمات لا تؤخذ منفصلة .. الكلمة ربما يكون لها استعمال لايضلل أحدا ، ولكنها لأساليب تتعلق ببعض أجزاء السياق ربما تحيرنا "(26).
الكلمات الأساسية إذن ليست محددة سلفا. بتعبير آخر، ليس هنالك كلمات أساسية وأخرى غير أساسية إذا ما نظرنا الى الكلمات في كونها مفردات ، أي قبل أن تكون في سياقات أو تراكيب أو جمل . وكان عبدالقاهر الجرجاني قد تنبه الى هذا الأمر، عندما رفض المفاضلة بين المفردات ، وهو في ذلك يتميز عن غيره من النقاد العرب ، فغالبية هؤلاء النقاد يقولون بتلك المفاضلة ،وبأن بعض المفردات أفصح من البعض الآخر، وذلك في معزل عن أي سياق أو تركيب . وقد عبر المرزوقي عن هذه الوجهة في قوله :"اللفظة تستكرم بانفرادها ، فإذا ضامها ما لا يوافقها عادت الجملة هجينا"(27).
لقد كان عبدالقاهر الجر جاني سباقا في رفضه تفضيل كلمة على أخرى في معزل عن التأليف أو التركيب النحوي.
لقد كان سباقا في ذلك ، خصوصا بالنسبة الى النظريات الحديثة . ومما قاله في هذا الشأن :"إنا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه ، ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها ، ومعلقا معناها بمعنى ما يليها(28).
الاستعمال هو الذي يجدد الكلمة ، هو الذي يعطيها حياة جديدة كلما وضعها في سياق جديد. هذا ما أوضحه لنا عبدالقاهر ، موحيا بأن القيمة الجمالية للعبارة الأدبية ، وخصوصا الشعرية ، إنما تتأتى من حسن استعمال الكلمات فيها. وهذا الاستعمال هو الذي يجعل من كلمات معينة كلمات أساسية أو كلمات مفاتيح ، ويترك للكلمات الأخرى الى جانبها أن تأخذ من وهجها.
بنا ء على ما تقدم ، يمكننا القول أن كل كلمة يمكن لها أن تكون أساسية في سياق ما، وان الوقوف على الكلمات الأساسية في نص شعري معين يتطلب من القاريء أو الناقد قدرا من الفطنة والدقة في النظر، ومن شأنه عند ذلك .أن يسمح له باستكشاف الكثير من غوامض ذلك النص .
كذلك يمكننا القول – بناء على ما تقدم – إن التركيز على أهمية الكلمات المفاتيح في إضاءة نص معين ليس تركيزا على أهمية لهذه الكلمات في ذاتها، وانما هو تركيز على أهمية لها داخل عبارات معينة ، في إطار بناء عام . ويبقى أمر الكلمات المفاتيح متعلقا بذوق القاريء أو الناقد ويحسن تدبره ، فليس في الامكان اخضاع هذا الأمر لنظريات دقيقة أو لمناهج صارمة .
إن قراءة الشعر اعتمادا على مقولة الكلمات المفاتيح هي نشاط ذوقي في الدرجة الأولى ، نشاط يوظف الخبرة والمعرفة لصالح المزاج الشخص ، أي إنه يوظف ما تم اكتسابه أو تعلمه لصالح ما يجري تلمسه أو الحدس به أو اكتشافه ، هذه القراءة التي تتفلفل عميقا بين مكونات اللفة الشعرية هل هي القراءة التي ألح عليها عبدا لقاهر الجر جاني؟ وهل هي القراءة التي وصفها ريتشاردز بأنها فن اليقظة الى الكلمات ؟
الخاتمة
إن البحث عن "الشعرية " هو – في جانب كبير منه – بحث في لفة الشعر هل نقول إنهه تفكيك للعبارة الشعرية بغية العثور بين مكوناتها الصغيرة ، أو في هذه المكونات ،عن ذلك اللهب الخفي، أو الغامض ، أو الكامن ، الذي نطلق عليه اسم الشعر أو "الشعرية "؟ وما الذي يجذبنا الى ذلك اللهب ؟ ما الذي يجعلنا نتقدم نحوه أو نتدبر خطواتنا في اتجاهه ؟
تفكيك العبارة الشعرية ، أهو الذي يتيح لنا أن نفتح أبوابا سرية الى فتنة الشعر وسحره ؟ أم أن انجذابنا الى ذلك السحر، انجذابا عفويا وغامرا، هو الذي يغرينا بالتفكيك بحثا عن الأسرار المتنوعة ؟ وفي رأس هذه الأسرار أسرار انجذابنا الذي لا نعرف له تفسيرات كافية .
ما أشد التناقض بين "الشعرية " وبين البحث عنها: ما أبعد التباين بينهما! بين طبيعة هذه وطبيعة ذاك . واذا كان التحليل اللغوي للشعر من أكثر الوسائل تركيزا على فنية التعبير الشعري واقترابا من أسراره ، فإنه _ ككل بحث عن الشعرية _ درب محفوف بامغامرة والمغايرة ، يختط طريقا معاكسا للشعرية ، يعاكسها لكي يلتقيها ، يناقضها لكي يتعرف اليها، يزداد ابتعادا لكي يزداد اقترابا.
الهوامش :
1-عبدا لقاهر الجر جاني: دلائل الاعجاز ، تحقيق محمد رشيد رضا، دار المعرفة ، بيروت ، 1978، انظر المدخل الى دلائل الاعجاز.
2- المصدر نفسه ، ص 65.
3- المصدر نفسه ، ص 200.
4- المصدر نفسه ، ص 400.
5- Jakobson Roman, Huit question de poetique ,
seuil, Paris, 1977, p. 61. Editions de
6-نظرية المنهج الشكلي (نصوص الشكلانيين الروس )، ترجمة ابراهيم الخطيب ،مؤسسة الأبحاث العربية والشركة المغربية للناشرين المتحدين ، ط 1، بيروت ، 1982 ، ص 35.
7-Huit questions de poetique, p 77
8-المرجع نفسه ، ص 77.
9-Jakobsor.., Roman, Six Leçons sur le son et
sens, les édition, deMinuit, Paris, 1976 , p. 22
10- نظرية المنهج الشكلي ،ص27
11- Huit questions de poetique, p. 64
12-المرجع نفسه ، ص 46.
13- ت . س . إليوت ، الأرض اليباب : الشاعر والقصيدة ، ترجمة عبدالواحد لؤلؤة ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، ط 1 ، 1980، ص 12.
14- المرجع نفسه ص12.
15-ويليك رينيه ووارين أوستن ، نظرية الأدب ، ترجمة محيي الدين صبحي ، المجلس الأعلى للآداب والفنون ، دمشق ، مطبعة خالد الطرابيشي ،ط1972،1،ص223
16 – دلائل الاعجاز ، ص 38.
17 Hytier, Jean, La poetique de Valery Liluairie Armand Colin , Paris , 1953. Pl 3
18-Girand ,Pierre ,Essais de Stylistique , Editions Klircksieck , paris , 1969. p.13
19- La poetique de Valery, p. 77.
20- انظر : مصطفى ناصف : اللغة والتفسير والتواصل ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، العدد 193، كانون الثاني 1995.
21- انظر : المرجع نفسه ، الفصل الثالث ، ص 41- 72.
22- المرجع نفسه ، ص 41.
23- المرجع نفسه ، ص 60.
24- المرجع نفسه ، ص 48.
25- المرجع نفسه ، ص 61.
26- المرجع نفسه ، ص 65.
27- المرزوقي (أبوعلي أحمد بن محمد) ، شرح ديران الحماسة ، تحقيق أحمد أمين وعبدالسلام هارون ، مطبعة لجنة التأليف والنشر والترجمة ، القاهرة ، ط 1، 1951، المقدمة ، ص 9.
28- دلائل الاعجاز ، ص 308- 309.
جودت فخر الدين (شاعر واستاذ جامعي من لبنان)