عيسى مخلوف*
تلمع بين ستائر الفجر نجمةُ الصباح، بارقة الأمل. تومض العينان المتلهّفتان إلى رؤية الضوء. هنا تبدأ القصيدة ويتوهّج بَريقها الكاسر.
يكتب عبداللطيف اللعبي الكتابة التي تتخيّل عالماً بلا سجون ولا أسوار. حتى وهو داخل السجن، كان الشاعر يعيش في سَفَر دائم، ليس في الجفرافيا بل في مدى الحرية الأكثر اتساعاً. إنه سفر في الذات وفي الكلمات التي يتبعها إلى مصيرها. كلّ كلمة منها تفرد جناحيها وتذهب أبعد من نفسها، تتنفّس وتلهث، تتباطأ وتُسرع، تهدأ وتعصف، ترتجف من برد العالم وتكتوي بناره، تُحَوِّل شكلَ الواقع وتمضي معه إلى ما هو أبعد منه.
يمزج نتاج اللعبي، النثري والشعري على السواء، بين ما هو جمالي وما هو إنساني. يهجس بالقضايا العادلة، بالصراع الاجتماعي والتغيير، وبالذات، في معاناتها وتطلّعاتها. صاحب “مجنون الأمل” ينحاز إلى الأمل ويدعونا إلى أن “نفتح عين القلب”، لكنّه لا ينسى أن يقول: “علينا يوماً ما/ أن نعتذر الى الأرض/ وننسحب/ على رؤوس الأصابع”. عمّا سنعتذر يا صديقي؟ عن عاصفة الجهل والبغض التي تعصف بنا؟ عن الحرب، مُرضِعة الحضارات، وعن هَول ما يجري حولنا، تارةً باسم الدين، وتارةً أخرى، باسم الحرّيّة وحقوق الإنسان؟ أم نعتذر عن الإنسان نفسه الذي لا حدود لقدرته على الخَلق والابتكار ولطاقاته الهدّامة معاً، وهو الوحيد المتمكّن من إفناء جنسه والكائنات الحيّة بأكملها؟
عرفتُ عبد اللطيف اللعبي من خلال كتاباته وكلماته قبل أن أتعرّف إليه شخصيّاً. جمعتنا البلاد التي تجمع الساعين إلى آفاق جديدة، الهاربين من شقاء بلدانهم الأصلية وحروبها. لكني كنتُ أخاله دائماً كتلك الأنهار التي مهما ذهبت وابتعدت تظلّ قريبة من منابعها. فهو لم يبتعد عن الضفّة الأخرى من المتوسّط لأنه يمكث بين الهُنا والهُناك ساعياً إلى رأب الصدع بين الضفّتين، وإلى التوصّل يوماً، بفضل العلم والتقدّم، إلى إرساء حوار متكافئ. تبدَّى هذا التوجُّه من خلال نزوعه إلى تحقيق ثقافة مغايرة ونهضة أدبيّة وفنية جديدة، منذ أن أسّس مع عدد من الشعراء والكتّاب والفنّانين مجلة “أنفاس” في الستينيات من القرن الماضي. هذه التجربة التي تركت بصماتها الواضحة على المشهد الثقافي المغربي أكّدت على أهمية الانفتاح على الثقافات الأخرى والإصغاء إلى تجاربها الحيّة والتفاعل معها، كما كشفت إلى أيّ مدى آمن اللعبي بدَور الكلمة والفنّ والفكر في حركة التغيير، هو الذي يعتبر أنّ التحرُّر الثقافي مواكب للفعل السياسي. تقتضي الإشارة إلى أنّ هذا الفعل لم يكن، بأيّ حال من الأحوال، على حساب المعايير الجمالية والقيمة الأدبية والفنية.
مع عبد اللطيف اللعبي عثرتُ على الصداقة بمعناها العميق. في أمسية شعرية مشتركة في “معهد العالم العربي” في باريس، وكان قد سمّاها “شموس أخويّة”، اجتمعنا وقرأنا قصائدنا معاً. كانت ترافقنا عازفة “الفيولانسيل” ماري إيف رونفو التي عزفت مقطوعات موسيقية لباخ. في هذا السياق، نقل عبداللطيف اللعبي إلى اللغة الفرنسيّة كتابي “مدينة في السماء”، ثمّ ترجم مجموعتي الشعريّة الأخيرة “ما سوف يبقى”. أنا أيضاً ترجمتُ مجموعته الشعريّة “منطقة الاضطرابات” التي كتبها إثر تجربة قاسية مع المرض. هذا الديوان الذي حفرَ في نفسي جاء من تلك البرهة الفاصلة بين الحياة والموت، لحظة يلتفت المرء إلى سيرته فيرويها كأنها سيرة شخص آخر. يصوغها شعراً فتصبح السيرة الذاتية رحلة داخلية وبَوح روحي عميق تبطل معه الفواصل بين الحياة والكتابة.
كتاب “منطقة الاضطرابات” هو كتاب الجسد. جسد الرغبة والإغواء هو أيضاً جسد المرض والموت. لا يمكن الإنسان أن يحيا من دون هذا الجسد المعروف مصيره سلفاً. واختزال الجسد الأسير ضمن الحيّز الضيّق لا يضع حداً للحلم ولبلوغ المجرّات الأبعد، وهذا ما خبره عبد اللطيف اللعبي قبل أن يختبر تلك المعارك التي تجري داخل أجسادنا وعلى غفلة منّا.
يصعب على العقل الديني أن يتخيّل هذا الجسد ميتاً. يخترع له منافذ للخلاص، يعده بالقيامة وبسعادة ما فوق أرضيّة. وفق هذا المنظور، ينتهي الجسد على الأرض ليبدأ في مكان آخر، إذ يتعذّر على الإنسان أن يتصوّر أنّ وجوده سينتهي بشكل قاطع. أنّ الموجود لن يعود موجوداً على الإطلاق! العلوم تنظر إلى الجسد نظرة موضوعية مختلفة، تعتمد على دراسة البيولوجيا والاختبار، على الأفعال وردود الأفعال. ولئن كان بعض العلماء يؤمنون بأنّ ثمة سرّاً، فهم لا يتجرأون على إثارته طالما أنهم لا يمتلكون معطيات الحسم اللازمة، وهم غير قادرين على إثبات شيء في قلب هذا المجهول.
الرؤية الشعرية في كتاب عبد اللطيف اللعبي تنطلق من اللحم والدم والعظام ومن وحدة الجهاز العصبي، لتذهب أبعد من ذلك، في اتجاه البحث عن موقع الإنسان في الكون وعن طبيعة الصراع الذي يعيشه يومياً مع الألم والموت، ويجعله في معركة مستديمة مع نفسه ومع ما يحيط به. تطرح كتابة اللعبي أيضاً، في ما وراء تناولها أحوال الجسد، السؤال عن معنى الكتابة نفسها حيال التغيّرات الكبرى التي يشهدها العالم. الكتابة، هنا، ليست فقط معركة استرداد العافية، بل هي أيضاً معركة الفعل الأدبي الذي لا يزال بإمكانه أن يحلم ويندهش، أن يوحِّد ويواسي، أن ينتصر للجمال والإبداع ضدّ البشاعة والابتذال، وذلك رغم بذاءة المال المنتصر، ورغم انحسار الحيّز الخاصّ الذي تضؤل معه إمكانيات التأمّل والشعر والفلسفة والإبداع الفنّي بصورة عامّة.
مِن تَجاوُز الواقع وعدم الاستسلام لإرهابه اليومي، يأتي عبداللطيف اللعبي، متجدّداً، شَغوفاً، نابضاً بالحياة. لعلّني أجد، في كلماته الآتية، أجمل مدخل إلى تجربته الأدبية والإنسانية: “أفتقد إليك/ أيّها السّلام/ نفتقد إليك/ تفتقد إليك هذه الإنسانية الضائعة/ وهذا الكوكب المعذَّب/ وحتّى الكون المُتَعَذِّر سَبره/ والذي لا يُفصح عمّا في داخله”.