صدام الزيدي
يتحول العالم إلى قريةٍ صغيرة في ظلِّ منجزات العولمة والحداثة، إذْ تتقاربِ المسافات ويقترب كل شيء بسهولة، ونستطيع الحصول على الأشياء في زمن قصير، كلّ ذلك سهّل عملية التعايش والتقارب، ومع ذلك فإنَّه أدّى في مواقف أخرى إلى قيادة الإنسان نحو مصير غير واضح! قد يتهاوى فيه كل ما أنجزه العقل الإنساني خاصة في ضوء الطفرة المباغتة لتطبيقات وتقنيات الذكاء الاصطناعيّ، إذ تتفكك الذات وتُسلب الشخصية، ويصبح الإنسان في عالمٍ آخر ووضعية اللا مكان واللا تعيين.
في المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر اليمني أحمد السلامي الصادرة حديثا عن منشورات “مواعيد”- صنعاء، تتأطر حالة القلق الذي يسكن الإنسان، وتشظيه، فتعانق الخصوصية الذاتية في مستوياتها، شعرية فلسفية فيها تأرجح تراجيدي للفكر الوجودي الإنساني: ثلاثة فصول تُشكِّل بداخلها حلقات وصل شعرية، تبدأ بالانتقام للموتى، يأتي التساؤل كيف هي صورة هذا الانتقام؟ ثم الاحتفاء بهذه الصورة التي توضحها الحلقات الشعرية بعناوينها المختلفة، ومن ثم النتيجة غير المتوقعة “أقرب إلى الجحيم”.
وانطلاقا من الحلم في أن يجدَ الشاعر إنسانًا مثاليًا، تمضي النصوص في سياق تتأسس فيه هوية ذاتية مغامرة، حيث تُفتتح المجموعة بنص عنوانه “فلاحٌ هاربٌ” وهنا يتجلى هروب المرء دون ذكر أية أسباب معلنة:
(كان يُفترض أن أكون فلاحًا/
لكنّني هرَبتُ من الحقل ذات يوم)…. هذا الفلاح يبحث عن إنسانٍ آخر غير ما كان، ويبرر لهروبه لاحقًا، بأنه يُرافق اليأس،
مُثقلًا برغباته، يهربُ إليها ليدفن الفائض من القنوط!…. يبحث عن عالمٍ آخر كل تباشيره تفضي إلى اليأس، وهنا يعلن عدم تقبله للواقع:
أكاد أعرف
ما الذي وقعت فيه بالضبط،
مجرد حياة،
على كوكب يقطنه أعداء
حياة ظننتني حُرًا….
يتلمس طفلًا بداخله، يُنشيء عالمًا خاليًا من النفاق، حتى أنّه نسي:
من أين جاء؟ تغرق ملامحه في الشرود
مُجردُّ رجُلٍ يمشي وحيًا في الذهول.
هُوية ضائعة يبحث عنها في أُطر الجماعة فيكتشف العكس:
تتفقدها في الملامح التي اختفت وراء الأقنعة،
حتى صار الجميع واحدًا.
صورة واحدة وفق مواضعات واحدة، طرق جماعية ولازمة واحدة تحت مبدأ الجميع لا الفرد!
يظن أنه ضمن القديسين ومن ثم ينفي عنه ذلك بعد أن يُخاطب ذاته:
خُض التجربةَ بنفسك لتجد آخر
انتزع ملامحك بهدوء
من داخل تلك اللوحة لتكتشف حينها: أنّ الأنبياء والقديسين في اللوحة
لا يفتقدون صورتك لأنك لست واحدًا منهم.
خيبة واضحة يُسقطها على ذاته، يُوضح مدى الضياع والقلق والأفعال المُضادة للحياة:
جئنا إلى صنعاء
لكنّنا لم نعثر على المدينة ولا على المطبعة
جئنا إلى قرية كبيرة لا تشبه حُلم الشاعر…
البلادُ مشروخة بين صرختين وثالثة للعدم!
هذه الهُوية لم تقتصر على الرجل الشاب، بل على الطفل الصغير والعائلة ومن ثم الجماعة.
الورطة الكبرى أنَّ هذا الإنسان وجِد في بلدٍ تنتهكه الحروب، حيث تبرز الحيرة المقلقة هل سيجد هويّة صالحة للعيش؟ فالمرء لا يمكن أن يخرج من شرنقة حيواته الاعتيادية إلّا باحثًا مغتربًا عن ذاته وأهله، تائهًا نحو مثالية لا يجدها، مع ذلك لا يمكن أن تستمر عملية تكرار حياة مسلوبة الإرادة، فتتشكّل الهُويّة الذاتية ضمن الهُويّة السردية التي أشار إليها (بول ريكور)، فهو مفهوم سردي كونه نصًا شعريًا مُتخيلًا: الانتقال بين مبدأ الذاتية والغيرية، وبين الحقل الهائم بزرعه، والوطن المُستلب، وبين حداثة زائفة وانبهار كاذب!
وقد نتج عن هذا سوء تفاهم بين الإنسان وعالمه ما جعله يعيش حالة اغتراب واستلاب مجتمعي ثقافي؛ لذلك نجد الوجوه الزائفة بكثرة.
نصوص شعرية تبحث عن فضاء واسع لحرية ذاتية ومجتمعية، وعدم الذوبان والانخراط في اللاشيء، عبر مخيال شعري يغامر لتبديد ما تركته الحرب من ندوب وتشظيات في الروح وفي المكان. ويأتي ذلك برغم اقامة الشاعر في “الإمارات” منذ سنوات، لكن الوطن والذات المتشظية في أعماق اليمنيّ، وتداعيات اللحظة المنفعلة هناك، لم تكن لتترك إلا جراحا جديدة بينما تنشد الروح الهائمة في أعالي الجمال والإبداع هوية للذات المحاصرة بالأسئلة وبالأحزان وغموض المآلات البعيدة.
صدرت لصاحب “قدِّيس خارج اللوحة” فيما قبل ثلاث مجموعات شعرية: “ارتباك الغريب”، “حياة بلا باب”، “دون أن ينتبه لذلك أحد”، وكتاب نقدي عن شعراء التسعينيات “هوامش على المشهد الإبداعي التسعيني في اليمن”، الجيل الذي ينتمي إليه “لسلامي” الذي يعد أحد أهم الأصوات التي تمردت على رتابة الكتابة المستهلكة وافتتحت أفقًا مناورًا لقصيدة نثر يمنية محمولة بضياعات أمكنة وتشظيات ذوات وتحليق أمنيات في الشجن الأكيد.