يجد الناقد والروائي هيثم حسين نفسه مُتقاطعاً مع الروائية الإنجليزية أغاثا كريستي التي يتوجه إليها في مُناجاته والتي عاشت فصولا من حياتها في مدينة عامودا في سوريا التي هي مدينة الكاتب هيثم حسين، وقد نوهت أغاثا بأن كتابها ليس عميقاً، لكن السيرة الذاتية لهيثم حسين ( قد لا يبقى أحد ) عميقة وصادقة خاصة وهو يحلل بعمق ظاهرة اللجوء ونفسية اللاجئين، بشكل عام والسوريين بشكل خاص.
يتذكر حسين توصيف المُفكر زيغمونت باومان ( 1925-2017) في كتابه الأزمنة السائلة حين كتب : ( اللاجئون في المكان وليسوا منه ، فهم مُعلقون في فراغ مكاني توقف فيه الزمن ، فلا هم مستقرون ولا هم متنقلون، ولا هم أهل التعود، ولا هم أهل الترحال، ويقول هيثم حسين : أجد نفسي في المكان ولستُ منه فيه ولستُ فيه كأني مُعلق في فراغ يؤرجحني بينما الزمن ينسل ويتبدد، لأتلاشى معه وأرتحل في الذاكرة والذكريات، أحفر في ذاتي عساي أستدل إلى مصالحة مفترضة مع نفسي. وفي مكان آخر من السيرة الذاتية يقول حسين : الرواية ثورة الداخل وانفجار العتمة ، تظهير للنيات المُبيتة والرغبات المكبوتة ، وانتقال بها كسلاح إلى تحدي خراب النفوس.
ومن خلال تجربة حسين الشخصية حيث اضطر وأسرته إلى الهروب من سوريا ولجأ إلى دول عدة كبيروت والقاهرة وإسطنبول حتى ستقر في إدنبرة ( وبعدها إلى لندن ) ولم يستطع لم شمل أسرته التي بقيت في اسطنبول إلا بعد سنة وثمانية أشهر خلال إقامته في إدنبرة ، وبعد أن تأكدوا أنها أسرته بإجراء فحوص وراثية ، دي ان أي ، وعاش تلك الفترة من الغربة وانتظار لم شمل أسرته محاولاً أن يجد شيئاً من المصالحة بين الذاكرة والآلام المُتراكمة.
تقول أغاثا كريستي عن عامودا : كم هو بسيط هذا الجزء من العالم وكم هو بالتالي سعيد ! الغذاء هو الهم الوحيد ، فإن كان الحصاد وفيراً فأنت ثري حتماً وتستطيع أن تقضي بقية العام بكسل ووفرة حتى يحين موعد حراثة الأرض وبذارها من جديد .
يتهرب اللاجئ من أسئلة عن ماهية السعادة ومعانيها، يتملص من السؤال بأن يرده إلى سائله بأن السعادة نسبية، ويحرص أن يكون سهم اللغة مُصوباً إلى قلب الحقيقة التي يؤمن أنها بدورها متأرجحة ونسبية من شخص لآخر، ففي إنجلترا يحرصون أن يردد الأطفال دوماً أنهم سعداء ولا شك أن هناك اختلافاً كبيراً في وسائل التربية بين أوروبا والعالم العربي . يقول حسين : في الحقيقة أنا لست سعيداً ولكن هذا لا يعني أنني حزين ومكتئب ، أنا أمضي في دوامة الحياة والزمن بمحطات سريعة وخاطفة من السعادة النسبية . وفي فصل بعنوان ( لغة الاغتراب ) يشعر اللاجئ أنه دخل بلاد اللجوء بطريقة غير شرعية لذا يشعر بنوع من التعدي وتجاوز القانون ، فهو القادم من بلاد لفظته ولم تترك له أي خيار بالبقاء والحياة ، فالهارب من الحرب ليس كمن هرب من بعض الأوضاع الاقتصادية المتردية في بلده ، ويدخل اللاجئ البلاد الجديدة مُحملاً بإرث من التصورات المُسبقة والأحكام النمطية مقوداً بأوهام كبرى وأحلام عظيمة ، ويصطدم بالواقع فتنجلي الغشاوات تباعاً ، وفي غرفة الانتظار المرير أو الاحتجاز المؤقت يُصبح الوقت ثقيلاً معانداً على اللاجئ ومنذ تلك اللحظة يصير أسير انتظارات لا تنتهي ، والبعض يكون ضحية الإرث الاستعماري الذي يكون حاضراً في كل تصور أو حديث ، وبعض اللاجئين قدموا من دول عربية أخرى وقدموا أنفسهم على أنهم سوريون كي يحصلوا على الإقامة لأن ظروف السوريين جيدة من حيث تحصيل الإقامة . ويحتل المهربون أدوار البطولة في تهريب الناس وغالباً ما يكونون ملعونين لأنهم يستغلون حاجة الناس ويبتزونهم مالياً بمبالغ طائلة. ورغم أن دول اللجوء تبذل جهداً في إدماج اللاجئين مع وطنهم الجديد وتقيم أنشطة اجتماعية ومهرجانات بالتعاون مع الكنيسة والبلدية محاولة خلق جو أسري يخفف ضغوطات الغربة ومعاناة اللاجئين.
الحكايات ثروات أصحابها، يحكي لنا الكاتب عن العديد من اللاجئين الذين صادفهم وكيف أن بعضهم كانت غايته جمع كل قرش ويعتمد في طعامه على السلل الغذائية والمعونات والتبرعات متأملاً أن يجمع مبلغاً من المال ويرسله لأهله أو يعود ثرياً إلى وطنه. وبعضهم ينتشي بسرد قصصه وكأنه يقدم لمستمعه أسراراً عظيمة والبعض يتكتم عن الحديث.
يحصل الكاتب هيثم حسين على اللجوء ويقدمون له في البداية سكناً في فندق يطل على السجن الضخم ليكون عتبة مؤقتة للاجئين في رحلة لجوئهم إلى بريطانيا، يشعر أنه القادم من بلاد كانت سجوناً مفتوحة على العدم سجوناً محاطة بأسوار من الخوف والرعب والترويع والجنون، تقهر الإنسان وتدمي روحه. دفعته الأمكنة الجديدة التي وجد نفسه فيها إلى الغوص في داخله ومراجعة ذاته والأيام المنصرمة وذكريات الأسى والقهر والهدر التي يحملها معه كأعباء تثقل كاهله، أقنع نفسه أن الزمن القادم لا يحتمل المضي تحت أعباء تلك الأحزان والمآسي، وأنه يحتاج للتخفف من حمولتها ليتمكن من العبور إلى الغد بأقل الخسائر الممكنة. ويحكي بعض اللاجئين وخاصة من الإيرانيين الذين ما كانوا يترددون في تغيير دينهم من أجل الحصول على الإقامة لا غير، وكانت الكنيسة تسعد لذلك لأن الأجيال التالية ستكون مسيحية وتغض النظر عن انتهازية الأهل. ما يميز تجربة اللجوء لهيثم حسين وتنقله بين دول ومدن عديدة أنه رغم تشتته وضياعه وإحساسه بألم الانسلاخ عن وطنه وخاصة عامودا كان حريصاً دوماً أن يصطحب معه الكتب والقليل من اللباس، لأنه يؤمن في أعماقه أن لا خلاص للبشرية إلا في الثقافة والعقل المتنور متفقاً مع رؤية أمين معلوف، ويؤمن الكاتب بأن الطريق إلى عالم الكتابة مفعم بالحكايات والتجارب فالحياة والرواية تلتقيان، والمغامرة والتاريخ يتداخلان. ويصف تأثير الطبيعة في الرواية من خلال تحليله البديع والعميق لرواية ( مرتفعات وذرينغ ) 1847لكاتبتها إيميلي برونتي ويحلل تأثر الكاتب والإنسان بالطبيعة ويقول متأثراً : لا يُمكنني الاعتياد على ما يترك وخزاً في الروح ، فالذاكرة مفعمة بذكريات الأسى ، أعيش الأسى جرحاً نازفاً ومأساة مديدة .
يؤمن في عمقه أنه كاتب ويُشبه الكاتب بصاحب الحق الذي لا ينتظر اعترافاً من أحد بحقه، بل ينتزعه ويمضي إلى غده، تماماً مثل صاحب الموهبة لا ينتظر إقراراً من أحد لموهبته فعليه أن يكون واثقاً من موهبته ونفسه ماضياً إلى غده ليصنع مصيره. وحدهم البائسون الفاقدون الثقة بأنفسهم وحقوقهم يستجدون اعترافاً وإقراراً من الآخرين الذين يجاهدون لإبقائهم أتباعاً لهم يتعاملون معهم بمنطق الوصاية.
يشعر اللاجئ كما يصف هيثم حسين أن العمر يتسرب من بين يديه في غمرة الإقامات المؤقتة ويشعر اللاجئ بشعور المؤقت، يسكنه هذا الشعور ويقض مضجعه ويفقده توازنه أحياناً، يعتقدون أنهم راجعون بأقرب وقت إلى وطنهم في الوقت الذي يعتادون عادات ملاجئهم ويدخلون دائرة الروتين اليومي فيها.
يحكي الكاتب عن بعض اللاجئين الذين يقعون في فخ الشعور بالتفوق الممزوج بالعزلة والغربة يتقوقعون على أنفسهم بحجة أنهم يحمون هويتهم وشخصيتهم وأسرهم من المحو والاندثار لكن حقيقة الأمر يكون ناجماً من خشية من الذات والآخر وعدم ثقة بالنفس وهي أوهام تقود المرء في رحلة حياته إلى الضياع.
يطرح حسين سؤالاً عميقاً ووجدانياً: هل هنالك توجه عالمي جديد بهندسة وطن مُتخيل للاجئين عبر العالم! هل يُشكل اشتراك اللاجئين بحالة اللجوء عاملاً حاسماً لبلورة تصور عن وطن ما في الأذهان ؟ وطناً عابراً للأوطان والحدود والأزمنة والأجيال ! لكن ألا يجب أن نعرف ماذا يجري في بلاد الحروب وتصدير اللاجئين وأن نعرف بدقة أكبر وغوص أعمق ماذا يدور في أروقة الدول اللاعبة بمصائر الشعوب وتصدير اللاجئين؟ وماذا يدور في سوق النخاسة – السياسة العالمية – وبين أمراء الحروب الكبرى المُتخفين بربطات العنق والذين يكونون مندوبين عن شركات السلاح والتجارة العالمية العابرة للحدود المتعدية على كل شيئ في سبيل تغولها وتوحشها لمزيد من المال مهما كان ثمن الدمار والمزيد المزيد من هدر الدماء.
واليوم وفي عالمنا المعاصر وقد بلغت أعداد اللاجئين حول العالم أرقاماً مرعبة تنطلق منها دعوات لحماية الدول من تدفق اللاجئين، كما حدث في عدة دول أوروبية شيدت جدراناً عازلة تحد من تدفق اللاجئين إليها لأنهم يخشون أن يتم تهديد الأمن القومي أو الديني لتلك الدول، هل يتحمل اللاجئين جناية كونهم لاجئين؟ وفي فصل بعنوان (هوية عالمية) يعالج الكاتب ببراعة وعمق تلك الإشكاليات والأهم بوضوح شديد ويذكر كتاب ( هاربون من الموت ) للألماني فولفاتج باور الذي حاول توثيق حكايات مجموعة من السوريين ومحاولاتهم الهروب إلى أوروبا ثم أطلق في نهاية عمله صرخته الاستغاثية قائلاً : إلى متى يجب علينا الانتظار ونحن نشاهد هؤلاء البشر يغرقون ويموتون في أعالي البحار وتركهم لمصيرهم مع تجار البشر والحروب والعصابات ؟
وفي فصل ( أن تصبح منبوذاً ) يقول الكاتب : أن تصبح لاجئاً يعني أن تصبح مذعوراً ، أن تصبح منبوذاً رهين ذاكرتك وذكرياتك وحنينك ولن تتحرر من سطوة ذعرك الداخلي وما أجمل اعترافه حين يكتب : كنت أنبذ نفسي دون أن يتراءى لي أي نبذ في نظرات الآخرين إلي ، أصبحت حساساً لدرجة كبيرة إزاء كل تفصيل يصادفني أقوم بتأويل نظرات الناس العفوية بأنها نظرات ازدراء وتشكيك وأود لو أستطيع أن أبرر لهم أسباب وجودي بينهم . والمشكلة أنه حين يقترف أحد اللاجئين جريمة ما فإنه يتسبب بالحرج للجماعة التي ينتمي إليها ويكون التصنيف وسيلة للتعريف وإطلاق الأحكام تالياً أو تطبيق القيود والحدود بطريقة ما. فالعظمة تتجلى في السلوك لا في المزاعم حيث يزعم بعض اللاجئين أنهم من أسر عريقة وثرية جداً.
وفي فصل ( منطق التخلي الإنساني ) المؤثر جداً يصف الكاتب مشاعره حين اضطر تحت وطأة القصف والدمار إلى التخلي عن بيته ، بيته الذي لم يكن قد مضى على تجهيزه سوى شهر ، ولم يحمل معه سوى جواز سفر وأوراق رسمية ثبوتيه ، والتقط بعض الصور للبيت شاعراً شعوراً أشبه باليقين أنه لن يعود إليه ثانية . ويغدو التخلي عادة مع مرور الزمن وتعاقب التجارب وتراكمها وهو قد فقد الكثير من القدرة على التواصل الاجتماعي بسبب اضطراب مشاعره، لكن الأبوة أعادت له إيمانه بالحياة نفسها وابنتيه هيفي وروز وزوجته جعلن حب الحياة ينتعش في روحه .
وبعض اللاجئين يعملون في الخفاء ودون علم الدولة أو ما يُسمى اصطلاحاً بالأسود ليجمعوا المال أو ثروة كما يتخيلون، لكن الخوف من الخوف ، والخوف من الجوع ، يمنع اللاجئ من التصالح مع نفسه ، ويبقيه نزيل أوهامه عن الثروة والمال والتقدير ويبقيه في قوقعة السلل الغذائية والصدقات المقدمة من هذا وذاك ، فهناك من يبحث عن الغنى فقط ولا يبحث عن المعنى .
اللاجئ يعاني من جرح في الروح دائم النكء.
يسرد الكاتب عن حياته في القاهرة أثناء رحلة نزوحه وعن حياته في اسطنبول وعن عائلته وجده الذي تزوج من امرأتين وهو ابن الزوجة الثانية . ويظل هيثم حسين مسكوناً بالماضي. وفي فصل ( خوفو السوري ) كما أطلق عليه هذا اللقب سائق التاكسي في القاهرة يحلل الكاتب ببراعة مفهوم الهوية متفقاً مع كتاب أمين معلوف ( الهويات القاتلة ) ويناقش بخفة روح وصدق وتواضع الأمثال الملتصقة بالأكراد .
** الكتاب: قد لا يبقى أحد ( أغاثا كريستي تعالي أقل لك كيف أعيش )
الكاتب: هيثم حسين .
الناشر: منحة من اتجاهات بالتعاون مع معهد غوته وبدعم من دار ممدوح عدوان .
هيفاء بيطار*