إنّ لعمان الحديثة خصوصيّة ثقافيّة تتميّز بإنسانيّة وعالميّة تتمثّل في قيم حضاريّة تحتفي بالإنسان، وتقبل صيرورة التّاريخ وتعدّد تجارب الإنسان وتنوّعها واختلافها. سأحاول أن أناقش ذلك من خلال رؤية قوامها أنّ الخطاب الثقافيّ مبنيّ على ثلاثة ركائز، العروبة والإسلام والتّجربتين العمانيّتين الفريدتين في كلّ من زنجبار وجوادر (جواذر باللهجة العمانية).
العروبة والإسلام كركيزتين أساسيّتين للهويّة العمانيّة
إنّ الخطاب الثقافي العماني، تاريخا وشعبا، يرتكز على الإسلام والعروبة، على أننا إن أمعنّا النّظر في هاتين الركيزتين وجدناهما تنحوان منحى إنسانيّا وعالميّا. فمع أنّ العروبة تحيل إلى إثنيّة، والإسلام إلى دين، فإنّهما يتبدّيان ممارسةً كقيمة حضاريّة ثقافيّة أصيلة. وأيّا تكن ماهية أصالة هذه القيمة، فهي لا تكمن في تجرّدها مبدأ قارّا، أو في استقرارها مكانا، أو في صفائها عرقا، وإنّما تتجلّى في صيرورتها الدّائبة التي تتبدّى تيّارا إنسانيّا عالميّا يألفه الغريب، ويأنس به المختلف، وتتمازج به الأعراق.
فمن أدبيّات العروبة يتبيّن لنا أنّ العروبة مرّت بمرحلتين تاريخيّتين حاسمتين: تمثّلت الأولى في زواج إسماعيل بن إبراهيم من قبيلة جرهم العربيّة، فكان هذا الزّواج بين من هو غير عربيّ عرقا وبين قبيلة عربيّة بمثابة الشّرارة الأولى التي نتجت عنها بمرور الوقت أجيال من المستعربين. ومن المهمّ أن نلحظ أنّ «الذي لم يكن يتكلّم العربيّة صار هو الجذر الأهم في تكوين المعنى العربيّ وتأسيسه على المعاني الكبرى والأزليّة»(1). أمّا المرحلة الثّانية الحاسمة للعروبة فتتمثّل في ظهور الإسلام دينا عالميّا في بلاد العرب، فقام عرب الجزيرة بترجمة «عالميّة» الإسلام إلى واقع ملموس، فنشروه في البلاد المجاورة، فاستعربت أجناس متعدّدة قامت بدور كبير في نشر الإسلام ورفع شعلة الحضارة الإسلاميّة إلى أقاصي المعمورة.
مسمّيا المرحلة الأولى «صيغة استعراب صغرى» والثّانية «صيغة استعراب كبرى»، يقول الباحث السعودي عبدالله الغذامي: «هذه ميزة ثقافيّة عظيمة، أفادت الأمّة جنسا وتاريخا، ولو بقينا على جزيرتنا لكنّا مثل التّاميل أو التّبت، شعبا محصورا ومحاصرا، لولا مزيّة التّمازج الكبرى التي بدأت مع إسماعيل، ثمّ تكلّلت مع الدّين الإسلاميّ الذي أهمّ مزيّة فيه هي عالميّته وعدم محليّته»(2). والحقّ أنّ الكاتب محمّد الجابري يوسّع من الامتداد التّاريخيّ للعروبة، فيبدي تحفّظه من أن يتمّ اتخاذ العصر الجاهليّ نقطة بداية الثّقافة العربيّة، قائلا إنّ ذلك يفصلها عن مجالها التّاريخيّ، الممتدّة جذوره إلى المصريّين القدماء، والفينيقيّين، والسّريانيّين، وسكّان المغرب العربيّ الأمازيغ.(3)
إنّ ذلك كلّه يؤكّد أنّ العروبة حراك حضاريّ يتميّز بالتّوسّع زمانا ومكانا، وما هذا التّوسّع إلا دليل على حيويّة ذلك الحراك الحضاريّ، واستفادته من الأجناس والأعراق الأخرى، بل صوغ تلك الأجناس والأعراق وصهرها عربيّا. لعلّه من هذا المنطلق لا يجد الشّاعر والباحث الفلسطينيّ عزّ الدّين المناصرة غرابة في اعتزاز العرب بعروبة ابن خلدون (أول عالم اجتماع عربيّ)، وطارق بن زياد (البطل العربيّ)، وعبّاس بن فرناس (أول طيّار عربيّ)، وابن بطّوطة (أهمّ رحّالة عربيّ)، على الرّغم من أنّ هؤلاء، حسبما يقول الباحث، من أصول أمازيغيّة، ولا يجد تعارضا بين هويّتهم الثّقافيّة العربيّة وبين أصولهم الأمازيغيّة.(4)
أمّا الرّكيزة الثّانية للهويّة العمانيّة فهي الإسلام دينا عالميّا إنسانيّا في رؤاه ورسالته، ومشروعا عربيّا أوحِيَ به في جزيرة العرب وبلغتهم العربيّة، ولكنّه مشروع عربيّ إنسانيّ، على نحو لا انفصام فيه بين عروبته وعالميّته، كلّ يُعَدّ منطلقا للثّاني، بل شرطا لضمان صيرورته. ومن المهمّ التّشديد على أنّ عروبة المشروع الإسلاميّ لا تعني عصبيّة العرق والدّم. يقول نصر حامد أبو زيد في هذا الصّدد: «إنّ المشروع الإسلاميّ – الذي يمكن استنباطه من النّصوص والمواقف والممارسات في حياة مؤسّسه الأوّل – مشروع عربيّ إنسانيّ. ومن المؤكّد أنّه مشروع ضدّ طائفيّة القبيلة، وضدّ عصبيّة العرق والدّم، ولو كان عربيّا. إنّه مشروع عربيّ ثقافيّ إنسانيّ حضاريّ، وبقدر إدراك هذه الحقيقة كان المشروع يتقدّم، وبقدر إغفالها كان المشروع يتعثّر. وتاريخ العثرات في السّياق التاريخيّ للإسلام هو في الحقيقة تاريخ إغفال تلك الحقيقة»(5).
نأخذ من ذلك أنّ الإسلام والعروبة يلتقيان في أنّ كليهما قيمة حضاريّة إنسانيّة عالميّة تتجاوز الحدود العرقيّة والسّياسيّة. من هنا لا غرو أن نجد في العصور الذّهبيّة للحضارة العربيّة الإسلاميّة(6) أسماء لامعة لعلماء مسلمين من أصول غير عربيّة، مثل البخاري، وأبي الحسين مسلم، والتّرمذي، والنّسائي، وابن ماجة، والخوارزمي، وأبي بكر الرّازي، وابن سينا، والفارابي، وأبي الرّيحان البيروني؛ بل كان منهم من برع في الشّعر العربيّ وعلوم اللغة العربيّة، مثل سيبويه،وبشّار بن برد، وابن الرّومي، وأبي نواس.(7)
عمان أنموذجا للحضارة العربيّة الإسلاميّة
أرى أنّ عمان، تاريخا وحضارة وشعبا، تتبنّى هذه القيمة الإنسانيّة، بل تجسّدها خير تجسيد.فالأرض العمانيّة ما فتئت تفتح ذراعيها للقادمين من مختلف البقاع، فقد قدم إليها الأزد من اليمن، وأتاها الآتون من أفريقيا ومكران والهند، وهي بذا تعدّ عالميّة من حيث تنوّع الأعراق، وإنسانيّة من حيث تعدّد التّجارب البشريّة.كما ظلّت القراءة الإباضيّة للإسلام عبر العصور المختلفة جزءا محوريّا من الفكر العمانيّ، وهي قراءة تَمثَّلَ تميّزها عن غيرها من القراءات في تأكيدها أنّ الإمامة إنّما هي للأتقى والأكفأ من أفراد الأمّة الإسلاميّة، ومن ثَمّ لا يُشترَط أن تقتصر على قريش وحدها. فكما أنّ العروبة صاغت بعالميّة الإسلام أجناسا متعدّدة صوغا عربيّا، كذلك صاغت عمان بخطابها الإنسانيّ العالميّ أعراقا مختلفة صوغا عمانيّا عربيّا. وكما أنّ العروبة بالإسلام فتحت بلدانا في آسيا وأفريقيا كذلك توسّعت عمان بخطابها الثقافيّ الإنسانيّ في آسيا وأفريقيا. من ذلك نجد أنّ في القرن السّابع عشر الميلادي، وبالتّحديد، منذ قيام دولة اليعاربة عام 1624، شهدت عمان ازدهارا تجاريّا وعسكريّا جعل من مسقط ميناء عالميّا تنامى تأثيره حتّى شمل، إضافة إلى شواطئ الخليج العربيّ وشبه الجزيرة العربيّة، سواحل مكران وإيران والهند شرقا وشرق أفريقيا غربا. وأخذ هذا التّأثير أحيانا شكلا سياسيّا، فقد سيطر العمانيّون سيطرة مباشرة على مدن بحريّة على شواطئ أفريقيا الشّرقيّة ومكران.
وقد استمرّ هذا الاحتكاك وتنامى في عهد آل بوسعيد (1747-)، فكانت مياه بحر عمان تربط مسقط ببقيّة الموانئ على المحيط الهنديّ، وكان العمانيّ يبحر إلى زنجبار وجوادر وبمبي وعدن وغيرها من الموانئ والمدن، متعرّفا شعوبا ذات عادات وتقاليد مختلفة، ممّا أكسبه آفاقا ثقافيّة رحبة، تمثّلت داخليّا في جوّ التّسامح الذي ساد في مسقط، ووفّر بيئة موائمة للاستثمار والتّجارة، فأتاها القاصي والدّاني، وكان منهم من كان تاجرا ومن كان عاملا. ولعلّ وصف الرّحّالة والمستكشف البريطانيّ أبراهم بارسون مسقطَ في أواخر القرن الثّامن عشر بأنّها مدينة ذات صبغة عالميّة، حيث يساعد تسامح السّلطة السياسيّة على التّعايش المشترك بين مختلف الأديان والمذاهب، ويعطي كلا الحقّ في أن يمارس شعائره وطقوسه بحريّة(8) خير دليل على ذلك، فلا جرم أن وُجِدت فيها تجمّعات عربيّة، وفارسيّة، ومكرانيّة، وهنديّة9، وأفريقيّة.
الرّكيزة الثّالثة: ارتباط عمان بشرق أفريقيا (زنجبار) ومكران (جوادر)
إنّ الركيزة الثّالثة تعدّ امتدادا (أو تجلّيا) للعروبة والإسلام على النّحو الذي أجملت القول فيه فيما سبق.فارتباط عمان بشرق أفريقيا ومكران ارتباط ذو شجون وآفاق إنسانيّة من نوع خاصّ؛ إذ هو ليس كالذي بين كيانين سياسيّين. فقد توافد العمانيّون إلى شرق أفريقيا عبر عصور التّاريخ، وأسّسوا فيه ممالك عربيّة، بل أصبحت زنجبار العاصمة الثّانية للدّولة العمانيّة في عهد السيد سعيد بن سلطان (1804-1856). واستقرّ العمانيّون في شرق أفريقيا محتكّين بسكّانه احتكاكا لم يكن على نحو احتكاك المستعمِر بالمستعمَر أو الحاكم بالمحكوم، وإنّما نحا احتكاكهم بهم منحى إنسانيّا تجلّى فيه أرقى المعاني وأنصعها، فزاوجوهم، وداخلوهم، وأخذوا لغتهم، وأثّروا فيهم بلغتهم العربيّة. وذلكم أمر لم نعهده حتّى في الخطاب الاستعماريّ الغربيّ الذي ادّعى نصرة الإنسانيّة.
أمّا علاقة عمان بمكران فقد جاوزت علاقة إقليم متبوع بآخر تابع؛ إذ ظلّ هناك تواصل إنسانيّ بينهما. فقد ذهب العمانيّون إلى مكران، ولعلّ أوضح مثال على ذلك هو ذهاب السيد سلطان بن أحمد وأخيه سيف والتقاؤهما رؤوسَ القبائل المكرانيّة الذين رحّبوا بهما خير ترحيب، بل بلغ من ترحيبهم بهما أنّهم فوّضوا إليهما أمر مقاطعة جوادر بأكملها، والتي أصبحت منذئذ جزءاً من الدّولة العمانيّة حتى منتصف القرن العشرين، ومتّكأً وطّد العمانيّون منه تأثيرهم في الموانئ الواقعة على ساحل مكران مثل جاسك وتشاهبار. كما أتى عمان من أهل مكران، وصار جزءا لا يتجزّأ من النسيج العماني، فنمت بينهم لُحَم ووشائج إنسانيّة لافتة. وهذا ما شهد عليه حتّى الذين قدموا عمان رحّالةً، فالبريطاني جيمز ريموند ويلْستِد الذي جاء عمان عام 1833 يؤكّد في كتابه رحلات في الجزيرة العربيّة(10) أنّ العمانيّين العرب والمكرانيّين كان يشارك بعضهم حياة بعض ويتزاوجون.
أرى أنّنا، المثقّفين العمانيّين، يجب أن نوظّف هاتين التّجربتين العمانيّتين المميّزتين، نستخلص منهما معاني إنسانيّة ونبني عليهما خطابا إنسانيّا نستلهم منه ما نعزّز به «عالميّة» الخطاب الثّقافيّ العمانيّ ونرسخها. بيد أنّ مشروعا وطنيّا فكريّا ثقافيّا كهذا يواجه تحدّيات كثيرة، محلّيّة وعالميّة، ومن ميادين عدّة. وعندي أن أكثر تلك التحدّيات إشكالا يتمثّل في القراءات الأحاديّة والإقصائيّة لأركان الهويّة الثلاثة.
تحدّيات محليّة وعالميّة
إنّ الخصوصيّة العمانيّة على النّحو الذي بسطته تواجه تحدّيات تتمثّل في خطابات، محلّيّة وعالميّة، تنادي بثقافات أحاديّة اللون. فمحلّيا هناك قراءات مبتسرة مختزلة للأركان الثلاثة للخصوصيّة العمانيّة تقصي ما سواها من القراءات وتنفي عالميّة العروبة، بل ترى في هذه الخصوصيّة تهديدا للعروبة. أمّا أنا فلا أرى أنّ توظيف تراثات هذه اللغات كروافد لإثراء الثّقافة العمانيّة العربيّة الإسلاميّة، المنفتحة دوما على الحضارات، يمكن أن يشكّل تحدّيا أو تهديدا للّغة العربيّة. وهذا الاعتقاد يشاركني فيه الباحث محمد الشّحري، إذ يقول: «يظنّ البعض أن تسليط الضّوء على المكوّنات الثقافية اللغوية العمانية والغوص في أعماقها يُعد تهديدا للغة العربية الفصحى، جوهر الهوية الوطنيّة أو تقويضا للمشاعر الوطنية ووحدة الوطن العربي، ولكنني أعتبر ذلك الظن إثما»(11). فاللغة العربيّة، بالإضافة إلى أنّها لغة العمانيّين جميعا، بغضّ النّظر عن خلفيّاتهم اللغويّة، لغة عالميّة، تؤدّي وظائف تعجز عنها اللغات واللهجات المتداولَة في عمان، كما أنّها (أي اللغة العربيّة) تحمل دلالات دينيّة، وثقافيّة، وأدبيّة أعرق وأقوى من أن تزعزعها لهجات ولغات محلّيّة. أمّا الإسلام، كإحدى ركائز الهويّة العمانيّة، فهناك من يختزلها في قراءة أحاديّة يفسّرها على نحو يقصي به ما سواه من القراءات، وهو أمرٌ بالغٌ من التّعقيد مبلغا أرى به الإحجام عن الكلام فيه في مقام غير مقامه أقرب إلى الصّواب منه إلى الإتيان بعبارات مقتضبة.
أمّا التجربة العمانيّة في كلّ من زنجبار وجوادر فهناك من يختزلها،فيراها ضرورةً اقتضتها الظروف. ففيما يخصّ الجناح الآسيويّ هناك من يقول إن السّلطة السّياسيّة في عمان كانت بحاجة إلى من يساعدها على تثبيت قوّتها ومواجهة القوى المناوئة لها، والمكرانيّون كانوا قبائل يحارب بعضها بعضا في ظلّ غياب حكومة مركزيّة قويّة وبيئة محدودة الموارد، فكانت عمان لهم مسرحا يمارسون فيه ما دأبوا عليه من اقتتال من جهة ويجدون فيها بيئة موفورة الموارد من جهة أخرى. هذا القول ليس ببعيدٍ كلّ البعد عن الصّواب، وإن أعوزته الدّقة؛ فأيّ علاقة إنسانيّة تحكمها الضّرورة بضروبها المتعدّدة، سياسيّا كان ذلك الضّرب أم اقتصاديّا، اجتماعيّا كان أم نفسيّا. وإنْ أقررنا بذلك أقررنا بإنسانيّتنا، وإنْ أنكرناه كان غرورنا وكبرياؤنا حائلا بيننا وبين إقرارنا بإنسانيّتنا. بيد أنّا إنْ عدَدْنا الضّرورة الموجِّه الأوّل والأخير للعلاقات جرّدنا الإنسان من إنسانيّته، ونزلنا به منزلة كائن دون الإنسان. وليس لنا شفاعة فيما إذا كانت ضرورتُنا ضرورةَ من يملك القوّة ويمارسها؛ ففي ميزان الإنسانيّة مالك القوّة وفاقدها يستويان، والتّجريد يطال الثّاني مثلما يطال الأوّل.
من هذا المنطلق يجب علينا التّثبّت في أمر الضّرورة هذا. فإنْ نظرنا إلى علاقة عمان بمكران نظرة أحاديّة مبتسرة مختزلة، وحصرناها في زاوية الضّرورة نزعنا عنها ما فيها من معانٍ إنسانيّة. فعمان ومكران إقليمان قريبان قربا نما به حراك بشريّ بينهما عبر التّاريخ، وكان سكّان كلّ إقليم على احتكاك بسكّان الإقليم الآخر. لا ريب أنّ هذا القرب وذلك الاحتكاك أفضيا إلى إدراك حقّ الجوار ولا سيّما أنّهم جميعا يدينون بدين واحد، ويعيشون في مجتمعين شديدي الصّلة؛ فكلا المجتمعين تسود فيهما قيم القبيلة كحسن الضّيافة والكرم وحقّ الجوار والانتماء للجماعة، بل إنّ بين القبائل المكرانيّة والعمانيّة العربيّة تشابها أكبر من أن يكون مردّه إلى الاتّفاق.
من هنا لا عجب في أنّ السّيّد سلطان بن أحمد لم يتّجه إلى قوى إقليميّة مجاورة في سعيه للحصول على مدد عسكريّ، وإنّما ذهب إلى شيوخ القبائل المكرانيّة، وأنّ حاكم مكران بلغ من حسن ضيافته إيّاه أن فوّض له أمر منطقة جوادر بأكلمها. ولاعجب أيضا في أنّ السّيّد سعيد بن سلطان عيّن دُرّة بن جمعة واليا على مسقط لا لسبب إلا لأنّه رحّب بأبيه السّيّد سلطان وعمّه السّيّد سيف، وأحسن إليهما في أثناء إقامتهما في مكران. ولا عجب أيضا في أنّ الأراضي العمانيّة فتحت ذراعيها لمن أتاها من مكران، كما كانت قد فتحتهما سابقا لمن أتاها من اليمن، إذ كان شأنُها مع أولئك شأنَها مع هؤلاء؛ فاستقبلتهم واحتفت بهم خير احتفاء، فتعزّزت بهم وتقوّت. هذه أمور قد يستغربها من نظر إلى «الاستعمار» من منظوره الغربيّ، ولكنّا لا نجد فيها شيئا يثير الدّهشة مهما يكن فيها من قوّة لافتة للأنظار؛ إذ تأتي من مجتمعين مسلمين تسود فيهما قيم ثقافيّة مشابهة، ومن ثمّ اكتسبت علاقتهما ببعض أبعادا إنسانيّة قلّما نجد لها نظيرا.(12)
أما عالميا فنحن نرى أنّ «العولمة»، مثلا، يراها بعض الباحثين أنّها تجنّد شركاتها ومؤسساتها لتفرض ثقافة تجاريّة يذوب فيها ما للثّقافات المحلّيّة من خصوصيّات.ولما كانت اللغة أهمّ تجلٍّ من تجلّيات الخصوصيّة الثّقافيّة المحلّيّة توجّهت إليها جهود العلماء والباحثين، فانتبهوا إلى ما للإنجليزيّة من أثرفي انحسار اللغات واللهجات المحلّيّة. فكلّنا يعلم أنّ اللغة الإنجليزيّة تبوّأت مكانة «اللغة العالميّة»(لأسباب سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة لا يتّسع المقام لبسط القول فيها) لا تنازعها فيها لغة أخرى. فعدد من ينطق بها اليوم لغةً ثانيةً يفوق كثيرا عدد ناطقيها الأصليّين. وقد تنبّه الباحثون لما لهذه «العالميّة» من أبعاد سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة وكونيّة، فصار يجادل بعضهم بعضا حول ما لها وما عليها. ويمكن القول إنّ هذه المجادلة بلغت أوْجها في تسعينيّات القرن المنصرم حين نشر روبرت فيلِبسَن، العالم اللغويّ التّطبيقيّ البريطانيّ، كتابه «الإمبرياليّة اللغويّة»(13) في عام 1992، طارحا فيه رؤيته أنّ الانتشار المذهل للّغة الإنجليزيّة ليس ظاهرة لغويّة «بريئة».فالإنجليزيّة، حسب رأي الكاتب، وُظِّفت (ولا تزال) حصان طروادة لتحقيق أجندات سياسيّة خفيّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة وبريطانيا، وهي بذا تُعَدّ استمرارا (وأداة) للإمبرياليّة الغربيّة العسكريّة. فالدّول النّاطقة بالإنجليزيّة، ولاسيّما الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإنجلترا، تحاول جاهدةً أن تبقي مواطن التّباين والتّفاوت بينها وبين الدّول الأخرى التي تتبنّى الإنجليزيّة لغةً ثانيةً أو لغةً أجنبيّة، فتشجّعها بطرق شتّى على انتهاج سياسات تعليميّة تنزل اللغة الإنجليزية منزلا عاليا.
لعلّنا نقف مواقف شتّى إزاء طرح فيلِبسَن هذا، كما فعل الباحثون وعلماء اللغة الذين تناولوه، فذهب بعضهم مؤيّدا وآخر معارضا(14). بيدأنّ ما يجمع مناصري الطّرح ومعارضيه هو إجماعهم على أنّ عددا كبيرا من اللغات واللهجات المحلّيّة مهدّدة بالانقراض، خاصّة تلك التي لا يستتبع إتقانها اكتساب مكانة اجتماعيّة أو مكاسب مادّيّة، ومن ثَمّ لا بدّ لنا من بذل الجهود للحفاظ عليها.
والذي عندي هو أنّ بقاء اللغات لا يتأتّى بأمانيّ هذا الأكاديميّ أو ذاك السّياسيّ، وإنّماالأمر مأتاهما تؤدّيه اللغة من وظائف في سياق مجتمعيّ تتشابك فيه وتتصارع قوى السّياسة والفكر والاقتصاد والاجتماع؛ من هنا فإنّ بقاء اللغة مرهون بالأيدلوجيا السّائدة. ولنا في اللغة اللاتينيّة أبلغ مثال على ذلك؛ إذ كانت يوما لغة دين وعلم وثقافة في أوروبّا، بيد أنّ مع بروز أيدلوجيا القوميّة و«الإنسانيّة» وانحسار قبضة الكنيسة في عصر النّهضة الأوروبّيّة راح كلّ مجتمع يعتني بلغته حتّى يتّخذها ركنا رئيسا من أركان قوميّته، وبدأ بذلك دور اللغة اللاتينيّة يتلاشى شيئا فشيئا، حتّى صارت في عِداد اللغات الميتة اليوم. على أنّه إنْ كانت صيرورة الحياة تقتضي تنامي اللغات في مراحل وتراخيها في أخرى (أو انقراضها) فإنّ ذلك لا ينبغي أن يكون صارفا لنا عن أن نعمل بكلّ ما أوتينا من أسباب ووسائل للحفاظعلى ما لمجتمعاتنا من خصوصيّات ثقافيّة(15)؛ إذ لا سبيل إلى فهم المجتمعات الإنسانيّة حقّ الفهم إن لم نقدر التّجارب التي تميّز بعضها عن بعض.
نحو خطاب إنسانيّ متعدّد الألوان والأطياف
إنّ عمان تتميّز بتعدّد تجاربها البشريّة وتنوّعها، وهي بذا تُعَدّ فريدة في عالمنا العربيّ؛ إذ هي «إحدى أكثر الدّول العربيّة ثراء من ناحية التّنوّع اللغويّ، وهو تنوّع يختزن ثراء التّجربة التّاريخيّة للإنسان العمانيّ. إذ يوجد في عمان عدد من اللغات هي اللغة العربية واللغة الكمزارية واللغة السواحيلية واللغة البلوشية واللغة الزدجالية واللغة السندية (اللواتية) واللغة الحرسوسية واللغة البطحرية واللغة الشحرية (التي تسمى أيضا الجبّالية) واللغة المهريّة ولغة الهوبيوت»(16). إلا أنّه من سوء الطّالع (أو من سوء التّدبير، أو من كليهما) أنّ أكثر هذه اللغات باتت مهدّدة بالانقراض. وينبّهنا الباحث والمترجم العمانيّ عبد الله الحرّاصي من أنّ منظّمة الأمم المتّحدة للتّربيّة والثّقافة والعلوم (اليونسكو) قد عدّت كلّ «هذه اللغات العمانيّة»(17) عرضة للانقراض ما عدا العربيّة والبلوشيّة والسّواحيليّة.
الحقّ أنّ السّواحيليّة والبلوشيّة والزّدجاليّة واللواتيّة لن تنقرض كجزء من التّراث الإنسانيّ حتّى إن انقرضت في عمان، فإنّ لهذه اللغات من يتحدّث بها ويهيئ لها أسباب البقاء في شرق أفريقيا ومكران والسّند، على التّوالي. لذا فنحن، العمانيّين، أحوج ما نكون إلى تضافر الجهود لتوثيق اللغة الكمزاريّة واللغة الحرسوسيّة واللغة البطحريّة واللغة الشّحريّة(الجبّاليّة) واللغة المهريّة ولغة الهوبيوت وتسجيل تراثاتها الشّفهيّة؛ فهذه اللغات إن انقرضت انقرض معها جزء من التّراث الإنسانيّ. أمّا السّواحيليّة والبلوشيّة والزّدجاليّة واللواتيّة فهي، على النّحو الذي يُتحدَّث بها في عمان، تُعَدّ من امتدادات التّجربتين العمانيّتين في زنجبار وجوادر. ومع أنّ هذين الإقليمين لم يَعُدا جزءا من الدّولة العمانيّة اليوم، فإنّهما جزء من الذّاكرة التّاريخيّة والخبرة الحضاريّة للإنسان العمانيّ التي لا يزال أثرها باقيا إلى يومنا هذا. من ذلك أنّ هذه اللغات اكتست طابعا عمانيّا عربيّا خاصّا يميّزها عن مثيلاتها من اللغات في شرق أفريقيا ومكران والسّند.
فـ«بلوشيّة» عمان «ظاهرة» لغويّة عمانيّة تتميّز بوجوه عدّة عن بلوشيّة مكران، وإن تحدّرت منها. فالعمانيّون، ممّن يتحدّثون هذه اللغة، يستخدمونها على نحو فريد، فتارة ينتقلون منها إلى العربيّة وتارة من العربيّة إليها، انتقالا يكون مردّه إلى ما يعتمل في صدورهم من مشاعر أو ما يتحادثون فيه من موضوعات. وإن تحدّثوا بالبلوشيّة استخدموا كلمات عربيّة كثيرة، ونطقوا بحروفها على نحو هو أقرب إلى اللغة العربيّة منه إلى بلوشيّة مكران. ويبدو لي أنّ السّواحيليّة والزّدجاليّة واللواتيّة أمرها في ذلك أمر اللغة البلوشيّة.ولما كانت هذه كلّها من الخبرات التي ترتبط بأرض عمان وجَبَ أن تُوَثَّق وتُتنَاوَل تناولا وطنيّا أكاديميّا.من ذلك أن ندرس دراسة أكاديميّة التّداخل بين هذه اللغات واللغة العربيّة واللهجات العمانيّة الدّارجة، ونوظّف ما لهذه اللغات من تراثات18 لتكون روافد للثّقافة العمانيّة العربيّة، على أن يتمّ هذا التّوظيف بصيغة مسؤولة، واعية بركيزتيها العربيّة والإسلاميّة، ليست (أكرّر للتّأكيد) كثوابت قارّة، جامدة، وإنّما كمعانٍ قابلة للاحتمالات والتّأويلات، وكقيمة حضاريّة تجدّ فاعليّتها وصيرورتها، تُشرِك المحلّيّ والعالميّ في عصر يزداد عالميّة وارتباطا ببعضه.
في الختام أؤكّد أنّ توثيق هذه الظّواهر وبحثها أكاديميّا يجب أن يكون وسيلة وليس غاية. بمعنى آخر أنّنا يجب علينا أن نوثّق هذه الخبرات العمانيّة وندرسها دراسة أكاديميّة رأس أمرها مُواطَنة تُقدِّم مصلحة الوطن وتتجاوز الولاءات الفئويّة. فلا سبيل لنا في تعزيز «إنسانيّة» الخطاب الثّقافيّ العمانيّ غير سبيل الاحتفاء بالقيم النّبيلة كالتّسامح والانفتاح المسؤول على المتعدّد والمتنوّع والمختلف. لعلّنا بذا نحذو حذو أسلافنا، ونخطو خطوة نحو إثراء الخبرة التّاريخيّة للإنسان العمانيّ.
الخاتمة
من هذا المنطلق قمت بترجمة كثير من الشعر البلوشي، وأختم هذه الدراسة بإيراد نماذج منه. سأورد أشعارا مترجمة من البلوشية، منها ما ينحو منحى صوفيّا (الصوفيّات) ومنها ما ينحو منحى غزليا (الغزليّات).إلا أنّي أودّ أن ألفت انتباه القارئ أنّ القصائد الواردة ليست مترجمة على وجه تقني.
الصّوفيّات (19)
للشاعر عبدالحميد الجوادري
الباب الأوّل
صراخُ الصّمتْ
اسمعْ
صراخَ الصّمْتِ
في ظِلالِ السّكونِ
فذاكَ
ألحانٌ إلهيّةْ
بُثّتْ إليكَ.
ارنُ
الأحمرَ القاني
في الشّفقِ الزّعِلِ
فذاكَ
دمُ الفانينَ
يسْقيكَ الجامَ.
العذابُ الْعَذْب
أيُّ نورٍ ذاكَ الذي سجدْتُ لهْ؟
نورٌ في وزْرتِه
ما فتئَ القلبُ
ينبشُ قلباْ.
أيُّ حبيبٍ ذاكَ الذي يتلألأْ
كالكعبةْ؟
ظلُّ ذِكرى منْ
ذلكَ الذي تفيءُ به روحي؟
منْ ذا الذي يشاكسُ
شجونَ غدواتي؟
منْ ذا الذي يعاكسُ
سكونَ آصالي؟
منْ ذا الذي يشاجرُ
نشوةَ آهاتي؟
أيُّ حرقةٍ تلكَ التي
تدغدغُ مضجعي؟
أيُّ لؤلؤةٍ تلكَ التي
تهيّجُ مهجتي؟
منحةُ منْ
هبةُ منْ
هذا العذابْ
هذا العذابُ العذبْ
هذا العذابُ السّخيْ؟
لقاءْ
برقٌ
رعدٌ
شهبٌ
طوفانٌ
وسفينةُ نوح
وجذوةٌ منَ الطّورْ
اليومَ
مرّةً أخرى
كأنّ لي لقاءً
مع المطَلْسَمِ الأثيلْ.
اليومَ
مرّةً أخرى
كأنّ القدَرَ
عليَّ كريمْ.
دَرْويشُ العِشْقِ
رنِينُ «صلِّ على»
يدكدكُ الحناجرَ اليومَ
لمصْرعِ من
شُحِذتْ
وزُيِّنَتَ الخناجرُ اليومَ؟
إنّه وقتُ البلاءْ
فلنَرَ
من ينذرُ نفسَه
للمُطَلْسَمِ الأثيلِ اليومَ؟
في دهليزِ الرّحمةْ
فوقَ العرشِ
فوقَ الكرسيِّ
مدلّلٌ يَسبحُ
في دِهليزِ الرّحمةْ.
لمعانقةِ جوهرٍ
لمعانقةِ جَوْهَرٍ
يجاوزُ الغلمانَ والعِينَ حُسناْ
يجتازُ معي الصّراطَ
نحو سِدْرةِ المنتهى
شربتُ قطراتٍ من الطّهورِ
ومصصتُ آياتٍ من العشقِ.
في لياليّ المجنونةْ
المحلوّةِ بريقِ الرّاحِ
حينا مع السّلوانِ
عصرتُ لبّي
وحينا بذكرى حبّي
دهنتُ جَسَدي.
عندَ نُورِ البدْرِ
في ظلِّ الشّوقِ
ارتشفتُ شهْدَ شفتيه
ويممتُ حِجْرَه محراباْ
وطفتُ حوْلَ جامِه درويشاْ.
بلغ حُبُّ حُبِّي منّي حدّاْ
حتّى حُدْتُ عن الوِلْدانِ
واللؤلؤِ المنْثورِ
وسلاالقلبُ عن السّجداتِ
والصّلواتِ.
في عبادةٍ كتلكَ
وبصحْبةِ أُمِّ لَيْلَى
أفنيتُ عمْري الأغْيَدَ.
صومعةُ أُمِّ لَيْلَى
ههنا
يثملُ الجَوى
وتسكرُ الآهاتُ والشّجُونْ
وتُقرأُ الأناجيلُ
والزّبورْ.
ههنا
الحبيبُ له ألفُ
معنى
هذا يقولُ «كذا»
وذاكَ يقولُ «كذا».
ههنا
أنارَ لي جِسرَ «الصّراطِ»
نورُ الحبيبِ
فبَرَقتْ لي الكعبةْ
كعبةُ الحسْنِ.
نورُ نورِه
عندَ وقوبِ الغاسِقِ
يأتيني السّهيلُ المنقّبُ
زائراْ.
فيراني ولِهَ العقلِ
مستلبَ الفؤادِ
فيرمي نِقابَه
ويريني وجهَهْ
فينيرُ نورُ نورِه
دِهليزَ بيتي.
الغزليّات (20)
للشاعر غلام حسين الشوهاز
ليلةٌ ثمِلةْ
أيّها البلبلُ الرّقيقْ
رِقّ عليَّ قليلا
كفّ عن الصّداحْ
لا توقظْني من النّومْ
في ساعة الصّباح النّديّة هذهْ
أناشِدُكَ اللهْ
أيّها البلبلُ الرّهيفْ
لا توقظْني من النّوم
فقد رأيتُ في منامي
أنّي كنتُ على القمرْ
مع قمرْ
نسبحُ في نهرٍ من الجمرْ
في ليلةٍ شَبِقةْ
بيضاءْ
خَلعَتْ فيها
السّحبُ المهووسةُ وِزرَها
على أرضٍ ذَبُلَ لسانُها
مِنَ الظَّمأْ
فحبلت بالنّدى
أيّها البلبلُ الرّقيقْ
رقَّ عليَّ قليلاْ
كفَّ عن الصّداحْ
في اللحظةِ الطّريّةِ هذهْ
لحظةِ صباحٍ
حلّ ضيفاً
على ليلةٍ ثَمِلةْ.
تارةً أُخرَى
تارةً أخرى
تتلألأُ ومْضةْ
في مُهْجتِي
مُهيِّجةً مَوجَةَ
خَيالِي الأهْيمِ
مثيرةً فيَّ
أمَلَ لقائِكِ.
تارةً أخرى
وئيداً
وئيداً
يفتحُ النَّسيْمُ فاه
ويبعثُ عَبيرَكِ رَسولاْ
ليهمسَ في أُذني
نَبأ قُدومِكِ.
تارةً أخرى
رِسْلَةً
رِسْلَةً
يُرسِلُ البحرُحورياتِه
بالعطرِ والعنبرِ
يزيّنَّ جسدَكِ
يحملنَ سِراجاً ينيرُ دربَكِ
فيُنزِلنكِ فوقَ صدري
فتنْتَصبُ رُوحِي العَطِشةْ
لِتخْترِقَ جِدَارَ كلماتِكِ
كلماتِكِ الحُرُنْ.
جُذوةُ ظلِّكِ
هأنا ذا
أُنقِعُ الآنَ
نشوةَ خيالي
في قُدَسِكِ
هأنا ذا
أسقي الآن
نار ظمئي
بجذوةِ ظلِّكِ.
فطوبى لي
وحَسُنَ مآبي!
بدنُكِ الشّفيفْ
حبيبتي
نورَ عيني
حبّي
حياتي!
بمَ أسمّيكِ؟
بمَ أناديكِ؟
أبدَنُك كالبدْرِ
أم البدْرُ كبدَنِكِ؟
أأشبّهُكِ بالقمرِ
أم أشبّهُ القمرَ بكِ؟
بدنُكِ الشّفيفْ
نشوةُ الرّاحِ
دِفْءُ نارِ جهنّمَ
عبقُ الفردوسِ.
بدنُكِ الشّفيفْ
يشعلُ ظمئي
فيسيلُ في عروقي سَيْلاْ
فيسحبني سحباً نحوَ نارٍ
أنعمَ وأرقَّ من الفردوسِ!
في موسمِ الرّبيعِ
في موسمِ الرّبيعِ
تتغرّدُ القمريةْ
فيتنزّلُ طيفُكِ
على قلبي
فيغسلُه بالزّمزمِ
ويسكرُه بالشّرابِ
النقيِّ العفيفِ الطّاهرِ.
تعالي اجثمي على ملَكُوتِ قلبي
تعالي
وقد طوَت الليلةُ البدْرَ
في ضفائرِها
وطفا الهُيامُ
في الكأسِ
تعالي
وقد نَفَذَ ظِلُّكِ في روحي
وتاهت ليلتي في يبابِ الجُنونِ.
تعالي
انثري شذا بدنِكِ
على بدني الأهيَمِ
وشقّي صدْري
واجثمي على ملَكُوتِ قلبي
بجبروتكِ المطلقِ
تعالي
تعالي.
الهوامش
j هذه الدّراسة مقتبسة من كتاب سينشر قريبا بعنوان استشراف التّجربة العمانيّة في «جوادر»: نحو خطاب إنسانيّ متعدّد متنوّع.
1- الغذامي، عبدالله، القبيلة والقبائليّة أو هويّات مابعد الحداثة، ط2، الدار البيضاء وبيروت: المركز الثّقافي العربي، (2009) ص: 121.
2- المصدر نفسه، ص: 121.
3- الجابري، محمد عابد، إشكاليّات الفكر العربي المعاصر، ط 5، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة. (2005) ص: 41.
4- المناصرة، عزّ الدين، الهُويَّات والتعدديّة اللغويّة: قراءات في ضوء النقد الثقافي المقارن، عمّان: دار مجدلاوي للنشر والتّوزيع، (2004) ص: 232.
5- أبو زيد، نصر حامد، النّص والسّلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، ط4، بيروت: المركز الثّقافي العربي، (2000) ص: 55.
6- لعلّ شيوع مصطلح «الحضارة العربيّة الإسلاميّة» من دون حرف العطف «و» يؤكّد أنّه لا انفصام بين عروبة المشروع الإسلاميّ وارتكاز العروبة إلى الإسلام.
7-
10Nicolini, B. (2004) Makran, Oman and Zanzibar: Three-Terminal Cultural Corridor in the Western Indian Ocean (1799-1856). (translated from the Italian by Penelope-Jane Watson) Boston: Leiden. Brill: P. 24.
8Wilkinson, J. (1987) The Imamate Tradition of Oman.Cambridge: CambridgeUniversity Press. P. 69.
9James Wellsted, (1978) Travels in Arabia. (Austria: Graz), pp. 118-119.
11- الشّحري، محمّد مستهيل «ترجمة الأدب المنطوق: اللغة الشحرية نموذجا»في التّرجمة الأدبيّة في سلطنة عمان: قضايا وآراء، تحرير د. رحمة المحروقيّة وبدر الجهوري، (الانتشار العربي: بيروت 2011) ص: 42- 53.
12- لا يذهبَنّ عنّا في هذا المقام ما للتّجربة العمانيّة في شرق أفريقيا من ثراء منقطع النّظير من المنظور الإنسانيّ. أمّا حديثي عن مكران فمردّه إلى أنّ كتابي يقتصر على الجناح الآسيوي من الدولة العمانيّة.
13- 15Phillipson, R. (1992). Linguistic Imperialism. Oxford: Oxford University Press.
14- للاستزادة حول هذا الجدل انظر:
Barbara Seidlhofer, (ed) (3003) Controversies in Applied Linguistics. Oxford: Oxford University Press.
Section 1 «The global spread of English» Pp. 7- 75.
15 – يجب التنبية على أنّي لا أقصد بالخصوصيّة الثقافية كتلة صمّاء لا تدخل في علاقات التأثير والتّأثر مع الثقافات الأخرى.
16- الحرّاصي، عبد الله ناصر، «الترجمة الأدبية في عمان: استعراض عام» في التّرجمة الأدبيّة في سلطنة عمان: قضايا وآراء، تحرير د. رحمة المحروقيّة وبدر الجهوري، (2011) ، بيروت: الانتشار العربي، ص: 18-26 (22).
17- المصدر نفسه، ص: 23.
18 -جمعت «تراث» على «تراثات»، لكي أؤكّد تعدّد أنواع التّراث.
19- القصائد الواردة مستوحاة من أشعار عبدالمجيد الجوادري. ولد الشّاعر في عام 1937 في جوادر حين كانت جزءا من الدّولة العمانيّة. وتعلّم في المدرسة السّعيديّة التي أسّسها العمانيّون هناك، ثم أصبح مدرّسا فيها. وبعد أن ضُمَّت جوادر إلى باكستان أتى الجوادري عمان ليصبح مدرّسا في الجيش العمانيّ. ومن دواوينه الشّعريّة التي صدرت في مكران نبتين سجار (2001) سوسنين جيوار (2006) وجزء تلمل (2007) ريدجيز ريز (2008) لاسُ الماس (2010). وفي كلّ ديوان له يفرد بابا خاصّا لما يسمّيه «الشّعر الصّوفي». ومنه استوحيت قصائدي.
20- القصائد الواردة في الباب الثّاني من هذا الفصل مستوحاة من أشعار غلام حسين الشّوهاز. من أعمال الشّاعر التي وقعت يدي عليها مجموعته جلهار الصّادرة في مكران عام 2000.
خالــــد البلــــوشي
باحث وأكاديمي من عُمان