الى أصدقائي في هولندا
لفتت انتباهي المجموعة الأخيرة – والأولى – لبلقيس لعدة أسباب أولها وربما أهمها، الطابع الرومانطيقي الجياش لبعض القصائد، وحتى لعناوين القصائد، في الواقع أني مللت من "وباء التشيؤ" الذي أخذ يغزو الشعر الحديث في الآونة الأخيرة (لنقل في العشرين سنة الأخيرة) فالدواوين الشعرية تبدو – إلا مع استثناءات قليلة – وكأنها قابلة للتبادل فيما بينها دون أن يغير ذلك في الأمر شيئا. يمكنك أن تضع اسم هذا الشاعر على مجموعة ذاك، أو العكس، دون أن تشعر بأي فرق. هل يمكنك أن تفعل الشيء مع أبي تمام، أو المتنبي، أو المعري؟ لقد فقد الطابع الشخصي للقصيدة العربية وتحولت الى قصيدة عمومية واحدة تنطبق على الجميع وتصدر عن الجميع فهل يجوز ذلك، أول شيء في الشعر هو خصوصيته، هو أنه صادر عن ذات واحدة، عن ذات محددة بعينها، عن ذات انفجرت بالشعر غصبا عنها.. والنقطة الثانية التي أدت الى الوباء الذي يكتسح الشعر الحديث حاليا على ما أرى هي استسهال المجاز المبتكر (أو الصور الناجحة) بمعنى أنه يكني بأن تقول الليل أبيض، أو النهار أسود لكي تصبح شاعرا يشار اليه بالبنان، لقد تحولت المجازات الابداعية التي تعبر عن تجربة حقيقية الى مجازات امتثالية مكرورة لا تجربة تقبع خلفها، ولا إحساس. لقد أصبحت مفتعلة لا معادل موضوعي لها على أرض الواقع. وهنا يكمن سبب فشل الكثير من قصائد الشعر الحديث، وارتباك الجمهور أمامه، واختلاط القيم وعدم القدرة على التقييم في مثل هذا الجو، أرجو الا يتهمني المزايدون حداثيا بالرجعية، والتخلف والحنين الى الماضي إذ أقول ما أقول. فأنا أقدر قصيدة النثر، بل وأصبحت مؤخرا أشبع حاجتي الى "الشحنات الشعرية" عن طريق قراءة الكتب النثرية – كتب التراث مثلا – لا عن طريق قراءة الشعر الحديث.
في كتاب "الصداقة والصديق" لأبي حيان التوحيدي أو كتاب "الاشارات الالهية" شحنات شعرية هائلة. وقل الامر نفسه في عن كتب أخرى كثيرة مفعمة بعبق التراث. واذا ما انتقلنا الى التراث الأوروبي وجدنا في "تاريخ الجنون" لميشيل فوكو شعرا أقوى من أي شعر وقل الأمر نفسه عن الكتب الفلسفية لنيتشه..الخ.. واذن فليس عندي أي اعتراض على التجديد الشكلي واجتراح المجازات الغريبة والشاذة بشرط أن تكون مبررة: أي بشرط أن يكون قد دفع ثمنها معاناة وتجربة واحتراقا. لنطلع على بعض عناوين قصائد بلقيس: اليكم أهلي دائرة أحزان، لغات النار، انت وخط العمر، تداعيات، ذكرى، ليس الى قلبي، أم لأسرار الروح، أنين، عتبات القرى، وقت القطاف..الخ.. هذه العناوين الرومانطيقية التي تعبر عن تجربة شخصية حادة أثارت في نفسي شيئا محببا ومبهما في الوقت نفسه. لقد أعادتني الى الطفولة وقراءاتي الأولى وأول احتكاك لي بالأدب. ذكرتني بذلك الأدب الذي كان يعب للتعبير عن الذات، عن جروحات الداخل، عن تداخل الخاص، بالعام في واقع تراجيديا عربي يتجاوز كل خيال.
عنوان المجموعة نفسه يفضح كل القصائد الموجودة في الداخل، ويفضح بلقيس نفسها. كل شيء يتلخص في هذا الاغتراب، اغتراب الطائر عن عشه، عن بيته الأول، عن وطنه ويبدو أن الشاعرة لم تبرأ بعد من هذا الاغتراب، لم تهضمه كأمر واقع ونهائي (كما فعلت أنا مثلا. ولكن هل فعلت حقا؟) لذلك فهي لا تزال تكتب الشعر. عندما كنا أطفالا كنا نرى الطيور وهي تهاجر، وكنا نتساءل: الى أين تهاجر الطيور؟ كنا نلاحقها بنظراتنا حتى تغيب. أتذكر أن هذه الصورة كانت تسحرني في طفولتي وتثير في الكثير من مشاعر الحزن والحنين الى شيء مبهم وغامض. وكنت أحسد الطيور لأنها قادرة على الطيران، كنت أربط بين الطيران والانطلاق، بين الطيران والحرية ربما كنت أحلم بالغرب وأوروبا منذئذ دون أن أعي ذلك. هنا يبدو العنوان موحيا جدا، ولعله هو الذي دفعني الى كتابة هذه المقالة. أقول ذلك دون أن أنسى بالطبع الجرح العميق النازف الذي يقبع خلف هذه المجموعة التي تبقى مجموعة أولى في نهاية المطاف. وعندما أقول أولى فإني أقصد إنها واعدة بما سيتحقق أكثر مما تحقق ربما. لكن لنتوقف عند بعض الصور، عند بعض الدلالات على الموهبة الشعرية التي لا تنكر، لنتوقف عند القصيدة الأولى التي تفتتح الديوان وتمتليء بالطابع الغنائي والحنين العاصف الى الماضي:
يا بيت أهلي في العراق
لك التحية
كل الرسائل بيننا اغتيلت
كتبت لك الكثير
بكيت في كل الحروف
جبلتها بدم الحنين
كيف السبيل الى اللقا…
الدليل الذي لا يخطيء على نجاح هذه القصيدة هو أنني أنا المصاب بعاطفة "الحنين المضاد الى الوطن". أنا الذي لا يمكن اتهامه بالحنين الى الوطن 24 ساعة /على 24 ساعة، رحت انفعل وأتأثر وأعود بالذاكرة الى الوراء.. هناك حزن كثير وحرقة حقيقية في هذه القصيدة. ويكاد المرء يغص بالذكريات وهو يسترجعها، تكاد تقضي عليه الذكريات. ثم لنتأمل قليلا في هذا المقطع الذي تحلق فيه بلقيس عاليا:
يا بيت أهلي في العراق
ورفيف أجنحة الحمام على الفرات…
هنا كدت أتخيل الصورة بأم عيني كما هي على الرغم من أني لم أر الفرات في حياتي، ولم أر العراق ثم تنهي الشاعرة قصيدتها بالمقطع التالي الذي يضج باللوعة ونفاد الصبر:
في سنين توقفي
حتى نعود..
الشيء الذي فاجأني في هذه القصيدة وعلى مدار الديوان بشكل عام، هو هذا الحنين المطلق الى الوطن، هو هذا الحنين الأبيض الناصع الذي لا تشوبه شائبة. وقد يتساءل سائل: ماذا بي أتعتبر الحنين الى الوطن شيئا مدهشا أو عجيبا؟ أهكذا انقلبت القيم عندك عاليها سافلها؟ وأجيب: نعم أني استغرب. فبعد كل التشوه الذي حصل، وبعد كل المأساة التي أصابت العراق وغير العراق لم يعد المرء يتحسس شيء. لم يعد يهتم بشيء، لقد ماتت العواطف فينا وتشيأت ليس كرها بالوطن، وإنما من شدة خوفنا على الوطن. لقد تحجرت عواطفنا، تجمدت، أو تشيأت كما حصل للشعر الحديث.. لقد ماتت فينا أشياء كثيرة أو قتلت من الداخل كما قمل.. الوطن.. ثم تجيء بلقيس وتحافظ على نفس الحنين السابق وكأن شيئا لم يكن. هذه القدرة على التفاؤل أو بالأحرى على الاخلاص هي التي أدهشتني. هذه العاطفة الصادقة أو الصادرة من الأعماق هي التي سرى تيارها ووصل الى شخص عدمي مثلي: أي شخص انعدمت فيه كل المشاعر والأحاسيس والعواطف. شخص تحول الى وحش عاطفي: أي موحش من الداخل ومقفر. هكذا رحت أتسلق على عواطف بلقيس كما تتسلق الأعشاب الميتة (أو الطحالب الطفيلية) على الأعشاب الحية لكي تتغذى منها أو تنعم بالدفء والنور. رحت أعيش بالواسطة أي بشكل موارب أو غير مباشر. بمعنى آخر بما أنني عاجز عن الاحساس بأي شيء من تلقاء ذاتي ربما إنني فقدت الاحساس كليا، فلماذا لا أعيشه من خلال الآخرين الذين لم يتشوهوا بعد؟.. أقول ذلك وأنا واع بحجم المأساة التي تخترق هذه المجموعة الشرعية الصغيرة الواعدة كما قلت بما ستحققه مستقبلا أكثر مما حققته الآن. ولكن حتى مأساة ضخمة في حجم مأساة العراق لم تستطع أن تشوه عواطف بلقيس، على الأقل حتى الآن. هذا العشق للعراق، هذا الحب للعراق، هذا التشهي للعراق (وكأنه رجل تحبه) هو الذي يثير الاعجاب حقا. وإلا كيف يمكن أن نفهم مقطعا رائعا كهذا المقطع:
مرة نعشق أو نضحك يوما أو نئن،
إنما في القلب قف
ظل موصودا ولا يفتح
إلا
عن أبواب العراق..
كل المؤامرات الخارجية على شراستها واجرامها، وكل الاستبداد الداخلي على عماه لا يمكن أن يقتل وطنا لا يزال يثير مثل هذا التعلق، ومثل هذه العواطف المشبوهة. سوف يطل العراق إذن، سوف يحيا العراق، سوف ينتصر -أخيرا – العراق.. في قصيدة تالية بعنوان "اعتراف" تقول بلقيس:
أعترف
أني لا أصلح
للحكم عليك
حين يحق الحق
فأنت بلادي…
حب أعمى للوطن، حب مقدس لا يناقش ولا يمس.. لا يمكن أن يخطيء الوطن. يمكن أن يخطيء هذا الشخص أو ذاك هذا الحاكم أو ذاك، أما الوطن.. في المقطع التالي، وربما في بعض المقاطع الأخرى، لا يملك المرء إلا أن يشعر بنغمة شعرية على طريقة محمود درويش:
أفي الصبح أني سأشرب
شايا من البلد الذي لن أراه؟
أفي الصبح يسعفني وجه أمي،
ولون شعر البنات.
بحي تعبنا من اللعب فيه ؟
في آخر قصيدة بعنوان "عراق" نجد المقطع التالي الذي يختتم المجموعة كلها:
سكرنى أنت عراقي
النخل
الشواطيء
الأفياء
الطرب الأصيل
وحبات التراب.
أترك للقاريء مسؤولية الغوص في هذه العبارة الصغيرة: وحبات التراب ! ولا حاجة الى التعليق الكثير سوف أوقف هنا استشهاداتي التي ربما كانت قد طالت أكثر مما يجب. عندما التقيت ببلقيس لأول مرة في هولندا بحضور محمد بن شماش وماريان وآخرين رحت أتحدث كعادتي عن متعة الغربة ومزايد الغربة وحسنات الابتعاد عن الوطن… وأعتقد أنها جاملتني ولم تجاملني عندما قالت: حقا إن هذه البلاد رائعة. وربما كانت الآية القرآنية الجميلة جدا قد كتبت من أجلها: جنات تجري من تحتها الأنهار!.. انظر الى القنوات التي تجري تحتك في كل متر، وفي كل شبر من الأرض يوجد نبع ماء أو شجر واخضرار. واتفقنا. حب الوطن لا ينفي حب الجمال أينما كان. هناك جدلية تربط بين الوطن / والغربة، بين الابتعاد/ والاقتراب بين الحضور /والغياب وربما لكي تقترب ينبغي أن تبتعد. وهولندا بلاد جميلة تسرح فيها الأبقار على مد النظر: هولندا بلد المراعي والزهور والقناطر الغامضة وقنوات المياه التي تحاذي الشوارع الى ما لانهاية.
هاشم صالح (كاتب من سوريا)