تَرْجَمَةُ: مُحَمَّد حِلْمِي الرِّيشَة
شاعر ومترجم فلسطيني
جُوَانْ مَاريَّا مَكْنَالِّي1
فِيلَّانِيلِيَّةٌ إِلَى غَزَّةَ
يَا أَطْفَالَ الضَّوْءِ المَسْرُوقِ
مَعَ الأَمَلِ وَالحَقِيقَةِ المُشْتَرَكَةِ المَدْفُونَةِ
أَيْنَ سَتَضَعُونَ تِيجَانَكُمْ هذِهِ اللَّيْلَةَ؟
تَرْقُصُ البِلَّوْرَاتُ عَلَى الوَجَنَاتِ المَالِحَةِ
تَخُونُ مَسَارِبَ الدُّمُوعِ المُتَهَرِّئَةَ
يَا أَطْفَالَ الضَّوْءِ المَسْرُوقِ
جَرْحَى وَمَذْهُولُونَ بِفَوْضَى مُتَوَاصِلَةٍ
عُرَاةٌ فِي فِرَاشٍ، فِرَاشٍ بَسِيطٍ
أَيْنَ سَتَضَعُونَ تِيجَانَكُمْ هذِهِ اللَّيْلَةَ؟
عُمْيٌ بِاحْتِرَاقِ مَجْرَى الدَّمِ
مُقَيَّدُونَ بِنَبْضِ قَلْبٍ مَكْتُومٍ
يَا أَطْفَالَ الضَّوْءِ المَسْرُوقِ
بَسَاتِينُ الزَّيْتُونِ الآنَ تَحْتَ الأَنْقَاضِ
مَسَاكِنُ مُتَوَاضِعَةٌ دُمِّرَتْ إِلَى العَدَمِ
أَيْنَ سَتَضَعُونَ تِيجَانَكُمْ هذِهِ اللَّيْلَةَ؟
الآنَ يَتَحَوَّلُ حَقْلُكُمْ إِلَى بَالُوعَاتٍ
بَرَاءَتُكُمْ إِلَى عَتْمَةٍ مُتَفَجِّرَةٍ
يَا أَطْفَالَ الضَّوْءِ المَسْرُوقِ الضَّائِعِينَ
أَيْنَ سَتضَعُونَ تِيجَانَكُمْ هذِهِ اللَّيْلَةَ؟
نتالي حنضل2
مدينةُ غزَّة
أَجلسُ فِي غرفةٍ رماديَّةٍ علَى سريرٍ مَع بطَّانيَّةٍ رماديَّةٍ،
وأَنتظرُ أَنْ يقفَ المؤذِّنُ.
تدخلُ التَّراتيلُ مِن نافذتِي، وأُفكِّرُ فِي كلِّ هؤلاءِ
الرِّجالِ والنِّساءِ الَّذينَ يركعونَ فِي الصَّلاةِ، وخوفِهمْ منَ الهروبِ
بسببِ كلِّ ضربةٍ، ودخولِ حزنٍ جديدٍ
إِلى أَرواحِهمْ، بَينما يصطفُّ أَطفالُهمْ فِي الشَّوارعِ
مثلَ السُّجناءِ فِي معسكرِ الموتِ.
أَمشي نحوَ النَّافذةِ المكسورةِ
ورأْسي مائلٌ قليلًا، أُحاولُ إِلقاءَ نظرةٍ خاطفةٍ
علَى مدينةِ الأَرواحِ- أُولئكَ القتلَى
الَّذينَ يمرُّونَ عبرَ الفتحةِ الضَّيِّقةِ لمقابرِهمْ.
يدِي وجانبُ وجهِي الأَيمنُ
مقابلَ الجدارِ الباردِ، وأَختبئُ، مثلَ الوقحةِ، خجولةً.
أَسحبُ ياقةَ رِدائي الأَزرقِ الفاتحِ بشدَّةٍ،
فتتمزَّقُ، وجانبٌ واحدٌ معلَّقٌ حيثُ إِنَّ الجميعَ معلَّقٌ هُنا.
تغوصُ أَصابعي فِي لَحمِي عميقًا،
فأَخدشُ نَفْسي، وتندِّبُ ثلاثةُ خطوطٍ صَدري،
وتدقُّ ثلاثةُ دياناتٍ فِي رأْسِي، وأَتساءَلُ
هلْ دفنَ إِلهٌ تحتَ الأَنقاضِ. كلُّ بيتٍ سجنٌ،
وكلُّ غرفةٍ قفصُ كلبٍ. لَمْ تَعُدِ الدَّبكةُ [رقصةٌ شعبيَّةٌ] جزءًا منَ الحياةِ،
بلِ الجنازاتُ فقطْ. غزَّةُ حاملٌ بالنَّاسِ، ولَا أَحد يساعدُ فِي المخاضِ.
لَا توجدُ شوارعُ، ولَا مستشفياتٌ، ولَا مدارسُ،
ولَا مطارٌ، ولَا هواءٌ للتَّنفُّسِ.
وهَا أَنا فِي غرفةٍ خلفَ النَّافذةِ، عاجزةٌ عنِ المساعدةِ، وعديمةُ الفائدةِ.
فِي أَمريكا، كنتُ سأُشاهدُ التِّلفازَ،
وأَستمعُ إِلى [قناةِ] CNN تقولُ: إِنَّ الإِسرائيليِّينَ يطالبونَ
بأَنَّ الإِرهابَ يجبُ أَنْ يتوقَّفَ. كلُّ مَا أَراهُ هُنا تسبَّبَ بالرُّعبِ،
والأَطفال الَّذينَ لَمْ يَعودوا يعرفونَ أَنَّهمْ أَطفالٌ.
«ميلوسيفتش» ملاحقٌ، ولكنْ ماذَا عنْ «شارون»؟
أَرتدي مَلابسي أَخيرًا، وأَقفُ عندَ النَّافذةِ مباشَرةً،
يخنقُني لُعابي حينَ تبدأُ طلقاتُ البندقيَّةِ،
وتمرُّ طائراتُ F-16 المقاتلةُ فِي رُوتينِها اليوميِّ.
نعومي شهاب ناي 3
قمرٌ فوقَ غزَّةَ
أَنا وحيدٌ مِن أَجلِ أَصدقائي.
لقدْ أَحبُّوني،
ووثِقوا بِمجيئي.
أَعتقدُ أَنَّهمْ نَظروا إِليَّ
أَكثرَ ممَّا يفعلُهُ الآخرونَ.
.
أَنا الَّذي ظلَّ يحدِّقُ للأَسفلِ وقتًا طويلًا
لَا أَرى سببًا للأَحزانِ الَّتي يصنعُها البشرُ.
أَكرهُ الشِّجارَ، وغبارَ تفجيرِ القنابلِ
كثيرًا جدًّا؛ إِنَّهُ يحجبُ نَظري.
.
مشهدُ الأَسى والشُّعورُ بالحزنِ
مختلفٌ بعدَ ذلكَ.
لمعانٌ مختلفٌ مِن صحراءَ بسيطةٍ،
والأَطفال الَّذينَ يقولونَ اسمِي
مثلَ صلاةٍ.
.
أَحيانًا أَكونُ أَكبرَ
مِن طبقٍ ذهبيٍّ،
ومِن عُملةٍ عملاقةٍ،
والجميعُ يشهقُ.
.
ربَّما منَ الخطإِ
أَنْ أَكونَ هادئًا جدًّا.
قبلَ أَنْ أَكونَ مِن سكَّانِ غزَّةَ
كنتُ ولدًا،
وكانَ واجِبي البيتيُّ مفقودًا؛
ورقةٌ علَيْهَا أَرقامٌ
مرصوصةٌ ومسطورةٌ،
وكنتُ أَبحثُ عنْ قطعةِ الورقِ الخاصَّةِ بِي،
وأَنا فخورٌ بهذَا إِضافةً إِلى ذلكَ، ثمَّ تضاعفَ،
لَا أَتذكَّرُ مَا إِذا كنتُ تركتُها
علَى المنضدةِ بعدَ أَنْ أَريتُها لعمِّي،
أَو علَى الرَّفِّ بعدَ تمشيطِ شَعري،
لكنَّها لَا تزالُ فِي مكانٍ مَا،
وكنتُ سأَعثرُ علَيْها وأُسلِّمُها،
أَجعلُ معلِّمتي سعيدةً،
وأَجعلُها تقولُ اسمِي للصَّفِّ كلِّهِ،
قبلَ طرحِ كلِّ شيءٍ
فِي دقيقةٍ
حتَّى عمِّي
حتَّى معلِّمتي
حتَّى أَفضلُ طالبِ رياضيَّاتٍ وأُختهُ الرَّضيعةُ
الَّتي لمْ تستطعِ التَّحدُّثَ بعدُ.
والآنَ سأَفعلُ أَيَّ شيءٍ
لمشكلةٍ يمكنُني حلُّها.
* * *
كالبنا سينغ-شيتنس4
معابدُ المعرفةِ
دمَّرتِ الحربُ [الإِسرائيليَّةُ الأَخيرةُ] أَكبرَ مكتبةٍ فِي «غزَّة».
قلَّةٌ منَ النَّاسِ يحتجُّونَ عندَ تقاطعِ طريقٍ.
لَا أَحد يلاحظُ، مَا عَدا هؤلاءِ
الَّذينَ يشاهدونَ البثَّ التِّلفازيَّ المباشَرَ.
بعضُ المركَباتِ تزمرُ دعمًا لهَا.
صاحبُ المكتبةِ يشعرُ بالحزنِ، وأَنا أَحزنُ وَحدي.
التَّاريخُ يعيدُ نفسَهُ فِي كثيرٍ منَ الأَحيانِ أَكثرَ ممَّا ندرِكُ.
أَشعرُ بالأَسى لأَجلِ غزَّة. وعلاوةً علَى ذلكَ، لأَجلِ «متحفِ الإِسكندريَّةِ»،
و«أَنطاكية»، و«أَصفهان»، و«غَزنة»، و«نيسابور»، و«كمبوديا»، و«القاهرة»، و«سوريَّة».
أَنا آسفةٌ علَى مكتباتِ «بيروت»، و«بغداد»، و«الموصل»، و«مالي»،
و«واشنطن»، و«وارسو»، و«ماندالاي»، و«مدريد»، وأَكثر.
هلْ مِن أَحدٍ يحتفظُ بالنَّتيجةِ؟
أَكثرَ مِن ذلكَ، أَنا حزينةٌ علَى «نالاندا»؛ تحترقُ فِي دمارِها إِلى الأَبدِ.
دُمِّرَ معبدُ المعرفةِ.
مَنْ وَصَلَ؟ مَنْ وَصَلَ؟
مَن وصلَ ليقهرَ غيرَ المقهورينَ
ويدوسَ علَى وقعِ أَقدامِ «بوذا»
تحتَ حوافرِ خيولِهِ؟
أُحرقتِ الجامعةُ؛ ليسَ مرَّةً واحدةً، ولكنْ مرَّتينِ، وليسَ مرَّتينِ، ولكنْ ثلاثَ مرَّاتٍ.
قُبِضَ علَى المعلِّمينَ والطُّلَّابِ، وتمَّ حرقُهمْ أَحياءً. أُعدمَ الرُّهبانُ.
مَعاني النُّصوصِ تمَّ تحويلُها…
مَنْ وَصَلَ؟ مَنْ وَصَلَ؛
يسلخُ جلدَ السَّماءِ
بالسُّيوفِ، ويحجبُ الشَّمسَ
المشرقةَ علَى معابدِ المعرفةِ
فِي «نالاندا»، و«تاكسيلا»، و«جاغادالا»،
و«دانتابوري»، و«فيكرامشيلا»؟
نُصِبتِ الخيامُ مِن جِلدِ اللَّيلِ
علَى الأَراضي المقدَّسةِ فِي «أَرهاتس» و«بوديساتفاس»؛
أَرضِ أَجدادي، أَرضِ ولادَتي.
قضمَ الحريقُ الكتبَ المدرسيَّةَ والكتبَ المقدَّسةَ لأَشهر.
احترقتْ واحترقتْ أَوَّلُ جامعةٍ علَى الأَرضِ.
لَا تزالُ تحترقُ علَى أَنقاضِها إِلى هذَا اليومِ،
وأَتذمَّرُ لأَجلِ كلِّ مزارِ معرفةٍ علَى الأَرضِ.
أَغمضْ عينيكَ لِتَرَى كلَّ مَا لَا تراهُ بعينيكَ المفتوحتينِ،
وافتحْ قلبَكَ للتَّخلُّصِ منَ الأَلمِ.
حينَ أَحزنُ علَى «غزَّةَ»، أَحزنُ علَى
تدميرِ كلِّ المكتباتِ فِي العالمِ،
وعلَى كلِّ أَرشيفٍ فُقِدَ فِي الفضاءِ…
حينَ أَحزنُ علَى «نالاندا»،
أَحزنُ وَحدي، وأَتساءَلُ: لِماذا؟
لمْ يتوقَّعْني العالمُ أَنْ أَبقَى علَى قيدِ الحياةِ!
الهوامش
1- شاعرةٌ وكاتبةٌ إِنجليزية.
2- شاعرةٌ وكاتبةٌ مسرحيَّةٌ ومترجمةٌ ومحرِّرةٌ فرنسيَّةٌ- أَمريكيَّةٌ هيَ فِي الأَصلِ مِن عائلةٍ فلسطينيَّةٍ مِن مدينةِ بيتِ لحمٍ.
3- شاعرةٌ وكاتبةٌ ومحرِّرةٌ ومعلِّمةٌ فلسطينيَّةٌ- أَمريكيِّةٌ.
4 -شاعرةٌ وكاتبةٌ وممثِّلةٌ وصانعةُ أًفلامٍ، هنديَّةٌ الأَصلِ- أَمريكيَّةٌ الجنسيَّةِ.