ترجمة: محمد حجي محمد
يضم هذا الملف إحدى عشرة قصيدة لأربعة شعراء فرنكفونيين من أربعة بلدان غرب أفريقيا؛ هي السنغال، والكوت ديفوار، وبوركينا فاسو، والبنين، ساعيا إلى الاقتراب من عوالم هذه الأصوات الشعرية، التي طبعت مسار الشّعر الأفريقي الراهن في بلدانها، بغية التعريف بها وببعض قصائدها، وما تحمله من سمات وملامح مميزة لرؤيتها، وتصورها الشعريين. وهؤلاء الشعراء هم: أمادو لامين صال، باتريسيا- كاكو مارصو، صوفي هايدي كام، وضَاتِ أَطَافيتو برناب أكَايِّي.
أمادو لامين صال
(السنغال)
شاعر سنغالي من مواليد 26 مارس 1951 في كاولاك (السنغال)، وهو أحد أبرز الشعراء الأفارقة الفرنكوفونيين المعاصرين. قال عنه ليوبولد سنغور إنه الشاعر الأكثر موهبة في جيله. أصدر أمادو لامين صال عددًا من المؤلفات الشعرية، من بينها: «مثل جبل جليدي ملتهب» (1982)، «كاماندالو» (1990)، «النبي أو القلب بأيد من خبز» (1997)، «عاشقات الشروقات» (1998)، «أعراس سماوية لليوبولد سيدار سنغور» (2004)، «حلم البامبو» (2010). حاز على عدة جوائز منها؛ جائزة إشعار اللغة والآداب الفرنسية التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية سنة 1991، وجائزة تشيكايا أوتامسي للشعر الأفريقي سنة 2018، وجائزة المهرجان الدولي للشعر ميهاوي إمينسكو، برومانيا سنة 2014، و”الجائزة الكبرى للشعر الأفريقي” سنة 2023.
تَارِيخٌ فِي عُزْلَةِ الكَلِمَات
كَانَتْ تَحْمِلُ تَاريخًا فِي عُزْلَةِ الأَلْسُنِ
وَلَمْ أَكُنْ أَمْلِكُ كُلَّ اللُّغَاتِ
مَعَ ذَلِكَ أَحْبَبْتُهَا حُبًّا لا يَبُوحُ بِهِ اللَّفْظُ
الحُبُّ يَخْشَى الكَلِمَاتِ التي تَكْشِفُ كُلَّ شَيْءٍ
الحُبُّ أَكْمَلُ لَحْنٍ لِلصَّمْتِ
وَفِي دَاخِلِي كَانَ يَخْتَزِلُ نَوْمَ القِيثَارَاتِ كُلِّهَا
لَيْسَ العَالَمُ وَفِيًّا لِأَحْلاَمِي
لَكِنْ لَدَيَّ الحُبُّ الَّذِي أَحْتَمِي بِهِ
وَالوَقْتُ يَضْجَرُ …
نَافِذَتِي تُطِلُّ عَلَى نَوَافِذَ مُوصَدَةٍ
بَابِي يَنْفَتِحُ عَلَى أَبْوَابٍ مُغْلَقَةْ
هَلْ حَانَ وَقْتُ العَسَلِ
لَمْ أَعُدْ أَتَكَلَّمُ أَنَا أَرْنُو إِلَى العَالَمِ
لَمْ أَعُدْ أَنَامُ أَنَا أَرْنُو إِلَى العَالَمِ
لَمْ أَعُدْ أَحْلُمُ أَنَا أَرْنُو إِلَى العَالَمِ
وَلَيْسَ لِي مِنْ أَجْلِ الضَّحِكِ، التَّصْدِيقِ، وَالحُبِّ
سِوَى يَقِينِ السَّمَاءْ
يَقِينِ الأَرْصِفَةِ
النَّظَرَاتِ، الضَّوْضَاءِ
يَقِينِ النَّهَارِ واللَّيْلِ
وَإِلَّا فَهِيَ الآمَالُ الَّتِي لاَ تَنْتَهِي مِنْ جَدِيدٍ
وَالزَّفَرَاتُ الَّتِي لاَ تَنْتَهِي
وَالاِنْتِحَارَاتُ الَّتِي لَا تَنْتَهِي
وَتَنَاثُرُ الوُعُودِ
… اليَوْمُ هُوَ الأَحَدُ وَهِي غَايةٌ فِي البُعْدِ
كَتَبَتْ لِي أَنَّ غِيَابِي كَانَ قَدْ شَيَّدَ لَهَا طُرُقًا مُرِيبَةً مَرَّةً أُخْرَى…
أَنَّ قَلْبَهَا كَانَ يَغْفُو
أَنَّ يَدَيْهَا تَخَلَّتَا عَنْهَا….
أَنَّهَا حَاوَلَتْ عَرْضَ قَلْبِهَا مِثْلَ كِتَابٍ وَمَعَ ذَلِكَ
مَا مِنْ أَحَدٍ كَانَ يَقْرَأُهُ
كُنْتُ وَحْدِي أَعْرِفُ فَتْحَ الصَّفَحَاتِ وَالتَّحَدُّثَ إِلَى كَلِمَاتِ شَرَايِينِهَا
وَمِنْ هَذَا الفُؤادِ كَانَتْ تَعْرِفُ أَنِّي كُنْتُ قَدْ صَنَعْتُ أَبَاجُورَتِي
شَمْعَتِي، قَدَّاحَتِي، حِبْرِي، وَالشَّايَ الخَاصَّ بِي
خَارِطَةَ طَرِيقِي قَبْلَ شُرُوقِ الشَّمْسِ
نَشِيدِي المُبَكِّرِ
وَكَانَ النَّدَى يَكْفِي لِيَرْوِينِي
ثُمَّ ثَمِلًا كُنْتُ أُغَنِّيهَا، هِي تَعْلَمُ أَنِّي أُغَنِّيهَا مِثْلَ مَجْنُونْ…..
أَتَرَى لَمْ يَعُدْ لِي اِسْمٌ، لَمْ يَعُدْ لِي وَجْهٌ
أَتُوهُ مِثْلَ حَصَاةٍ بَعِيدًا عَنِ الخَلِيجِ
البَحْرُ نَاءٍ للغَايَةِ، وَأنَا مُتْعَبٌ مِنَ السَّفَرِ
حَزيِنٌ أَنَا وَالأَدْعِيَةُ أَفْعَمَتْ قَلْبِي.
مِنْ غِنَاءِ النِّسَاءِ وُلِدْتُ
فِي بَلَدِي كَمَا تَرَى
الشَّمْسُ اِمْرَأَةٌ
اليَوْمُ اِمْرَأَةٌ
الفَرَحُ اِمْرَأَةٌ
الحُلْمُ اِمْرَأَةٌ
الصَّفحُ اِمْرَأَةٌ
الغِنَاءُ اِمْرَأَةٌ
وَأَنَا مِنْ غِنَاءِ النِّسَاءِ وُلِدْتُ
وُلِدْتُ مِنْ تَوْقِ الرَّحِمِ ذَاتِهِ
أَنَا إِلَهُ الحُبِّ
غَرِيبٌ مِنْ زَمَنٍ مَضَى…
لَقَدْ وُلِدْتُ مِنْ زُرْقَةِ المَرَاعِي
أَنْجَبَتْنِي”بِينْتَا الفُولاَنِيَّةِ” فِي الرَّوْثِ النَّاعِمِ لِلْبَقَرَةِ
وَالمَرْثَاةِ المُتْرَعَةِ بِمَزَامِيرِ الفُولْبِي
وُلِدْتُ تَحْتَ تَصْفِيقَاتِ العُجُولِ
وَمَدَائِحِ ثيِرَانِ الشَّمَالِ
وُلِدْتُ مِنْ عُنْفِ النُّجُومِ
أَنَا الحُضُورُ
الوَلاَءُ للْحُبِّ
أَنَا المَكَانُ غَيْرُ المُعْلَنِ
الإِقَامَةُ الخُرَافِيَّةُ، المُؤَقَّتَةُ؛
حَيْثُ الذِّئَابُ وَالذِّئْبَاتُ فِي الحُبِّ وَقَعُوا
اِسْتِحْوَاذُكِ عَلَيّ كَانَ مُفْرِطًا
حَتَّى إني أَسَرْتُكِ أَخِيرًا كَيْمَا أُغَدِّي السَّرَابَ
شَيَّدْتُكِ فِي خُلُوَاتِي المُنْفَرِدَةِ
سِيَاجًا فِيهِ أَحْتَفِظُ بِكِ
وَأَجْعَلُكِ فِي مُتَنَاوَلِ الذَّاكِرَةِ
نَسَخْتُكِ فِي قَلْبِي
حَيْثُ سَأُنْشِدُكِ فِي دَمِي لِسَنَوَاتٍ
وَسَنَوَاتْ
طَالَمَا هُنَاكَ سَمَاءٌ
طَالَمَا هُنَاكَ سَمَاءٌ
هُنَاكَ دَائِمًا أَمَلٌ فِي أَنْ يَعْبُرَهَا طَائِرٌ …
طَلَعَ الفَجْرُ
وَعَلَى جَانِبِ الطُّرُقَاتِ نَجْمَةٌ زَانِيَّةٌ تَغْفُو
الشَّمْسُ تَضْحَكُ مِنْهَا وَتَضَعُ يَدَهَا عَلَى فَمِهَا
كَيْ لاَ تخْدِشَ كَرَامَةَ النَّجْمَة……
أَفْتَحُ عينيَّ عَلَى صَفْحَةٍ مِنْ جَسَدِكِ
قَدَرِي الكِتَابُ بِكَامِلِهِ، تَعْلَمِينَ……
هَكَذَا خَنَقُوا كُلَّ الأَبْوَاقِ النُّحَاسِيَّةِ
خَلَعُوا أَوْتَارَ القِيثَارَاتِ جَمِيعِهَا
بَعَجُوا كُلَّ آلاَتِ البَالاَفُون
رَشَوْا لُغَةَ الـ”جريوت”
حَوَّلُوا المَدَارِسَ إلِى فَنَادِق لِلمَارِيجوَانَا
أَطْفَالُ الغَدِ مَاتُوا قَبْلَ وِلاَدَتِهِمْ
الحُكَمَاءُ عُرَاةٌ
الاِحْتِرَامُ مُخْتَلٌّ
العَائِلَةُ مُتَصَدِّعَةٌ….
قَادِمٌ مِنَ البَحْرِ
قَملَاتٌ تَتَسَلَّقُ النَّهْرَ الأَخْضَرَ المُزْرَقَّ لِشَرَايِينِي
وَرَجُلٌ وَحْدهُ فِي الكُونْغُو، فِي الكَامِيرُون، فِي كُونَاكْرِي
يُمْسِكُ بَلَدًا بِقَبْضَتِهِ الوَاحِدَةِ، وَرَغْبَتِهِ الوَاحِدَة.
هَذَا البَلَدُ يَصْرُخُ، وَمَعَ ذَلِكَ لاَ يَصْرُخُ.
باتريسيا- كاكو مارصو
(كوت ديفوار)
من مواليد سنة 1972 بالكوت ديفوار. شاعرة ومؤلفة كتب الأطفال، نشأت وترعرعت في أبيدجان، وتعيش اليوم متنقلة بين فرنسا والكوت ديفوار. صدر لها في الشعر: «قلب شعري»، دار لارماتان، باريس سنة 2012. في أدب الأطفال: «لم يعد القمر والشمس يتحدثان بعد الآن»، دار بارو، أبيدجان، الكوت ديفوار. سنة 2020، «النار تَخْذُلُ إِخْوَتَهَا» ، فورمابلوس، أبيدجان، الكوت ديفوار 2021.
جَمِيلَتِي أَفْرِيقْيَا
بَعِيدًا عَنْ عَيْنَيَّ الطُّفُولِيَّتَيْنِ، بَلَغْتُ سِنَّ العَصْرِ
وإِلَيْكِ أشتاقُ: يا قَارَّتِي أَفْرِيقيَا
أَسْتَعِيدُ تَارِيخَنَا
وَمَا احتَفَظَتْ بِهِ ذَاكِرَتِي
لَدَيَّ الحَنِينُ والكَثِيرُ، الكَثِيرُ مِنَ الذِّكْرَيَاتِ.
مِنَ تشَاد إلِى أَنْغُولا، أَصْغَيْتُ إلى تَارِيخِ الـــ”سو” ومَلِكَةِ زينغا.
مِنْ مَلاَوِي إِلَى نَامِيبْيَا، حلَّقتُ فَوْقَ نييكا وإيتوشا.
مِنْ بُورْكِينَا فَاسُو إِلَى بُوتْسوَانَا، عَرفْتُ رِجَالًا نُزَهَاءَ وشَعْبَ تْسوَانَا.
مِنَ الكَامِيرِون إِلى الغَابُون، غَطَسْتُ فِي شَلَّالاَتِ لُوبِي وَدْجِيدْجِي.
مِنْ تَنْزَانْيَا إِلَى لِيبْيَا، لِنْتُ أَمَامَ فُوَّهَاتِ نْجُورُونْجُورُو وَالوَاحَاتِ.
مِنْ تُوغُو إِلى الكُّونْغُو، رَقَصْتُ رَقْصَةَ أَبِيدْجَان وَكَامُو وَالرُّومْبَا الكُونْغُولِيَّة.
مِنْ جَنُوبِ أفرِيقْيَا إِلَى غَانَا، تَحَدَّثْتُ لُغَةَ الزُّولُو وَأَشَانْتِي.
مِنَ السِّنِغَال إِلَى مِصْر، زُرْتُ جَزِيرَةَ غُورِية وَمَشَيْتُ بَيْنَ الأَهْرَامَات.
مِنْ سَاحِلِ العَاج إِلَى المَغْرِب، تَذَوَّقْتُ أَلَذَّ قَهْوَةٍ وَأَشْهَى أَصْنَافِ الكُسْكُسِ فِي العَالَم.
أَخيرًا مِنْ كِينْيَا إِلَى الجَزَائِر، شَارَكتُ حَيَاةَ شَعْبِ المَاسَايْ وَالطَّوَارِقْ.
آهٍ! يَا جَمِيلَتِي أفْرِيقْيَا! حِينَ أَلقَاكِ مَرَّةً أُخْرَى، سَتُرَدِّدِينَ لِي:
أَكْوَابَا!
وِيزُونْ!
السلام عليكم!
سَاوُوبُونَا!
مَامْبُو!
يِيلَا!
إِيرِيمَادْجِي!
مَرْحَبا!
لَوْ يَغْمُرُنِي الحُبُّ
لاَ عُمْرَ يَخْتَزِلُ عَيْشَ المرءِ في أَحْلاَمِهِ.
تَعَلَّمْتُ ذَلِكَ مَعَ مُرُورِ الوَقْتِ، عِنْدَمَا اِسْتَوْلَى شِعْرِي
عَلَى حَيَاتِي، وَرَغْمًا عَنِّي أَكْتُبُ فِي المَسَاء.
حَبِيسَةُ فُقَّاعَتِي مِنْ غَيْرِ نَغْمَةٍ تَسْتَدْعِي رَبَّةَ الشِّعْرِ. عِشْتُ أَحْدَاثًا كَثِيرَةً
فِي سِنِّي، أَحْدَاثًا تُلَطِّخُكِ وَتُخِرِجُكِ عَنْ طَوْرِكِ.
ثَمَّةَ صُوَرٌ لَيْتَنِي أَنْسَاهَا،
أَضَعُ لَهَا إطارًا فِي زَاوِيَةٍ بِرَأْسِي، فتَحْتَفِلُ بِي،
تَشْرَبُ نَخْبِي وتَعُودُ إِلَى الحَيَاةِ بِمُجَرَّدِ أَنْ تَخْطُرَ بِبَالِي.
أُنَاسٌ يَعْتَرِضُونَ طَرِيقِي، يَبْدُو أَنَّهُمْ تَائِهُونَ، مَعَ ذَلِكَ أُصْغِي إِلَيْهِم.
أَهَذَا قَدرٌ مِنَ اللَهِ أَمْ صُدْفَةٌ؟
لِحُسْنِ الحَظِّ ثَمَّةَ اِبْتِسَامَاتُ الأطفالِ وَالشُّيُوخِ
ونَّظَرَاتٌ فَاتِنَةٌ تُثْلِجُ الصَّدْرَ وَتُذَكِّرُنِي بِرَوْعَةِ الحَيَاة.
أَحْيَانًا أَرْفُضُ الامْتِثَالَ لِلصَّمْتِ عَلَى الأَرْضِ.
يَبْدُو أَنَّ حَيَاتِي قَدْ صِيغَتْ بِكَامِلِهَا لِتَرُوقَ لِلآخَرِينَ
لِتُثْبِتَ أنَّ فِي وُسْعِكِ الفَخْرُ بِتَاريِخِكِ، بِنَفْسِكِ.
دَرْبِي، بَحَثْتُ عَنْهُ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، وَغَالبًا مَا شَعَرْتُ بِالإِحْبَاطِ
تَائِهَةً فِي المَمَرَّاتِ فَتَّشْتُ عَنْ نَفْسِي.
أَتَذَكَّرُ الأَسْمَاءَ الشَّخْصِيَّةَ الَّتِي تَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ،
وَتَفْتَحُ لِي أَبْوَابَ الغَدِ
وَطَالمَا أَنِّي لَمْ أَعُدْ أُؤمِنُ بِمَصِيرِي، سَتَظَلُّ هَذِهِ الأَسْمَاءُ سَنَدِي الوَحِيدَ.
مَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَذَكَّرِينَهُ، هُو أَنَّ هَذِهِ الحَيَاةَ بِالذَّاتِ
تُقَدِّمُ فُرَصًا بِالمِئَات.
يَلْزَمُكِ فَقَطْ أَنْ تَغْتَنِمِي فُرْصَتَكِ.
أَنَا، الحُبُّ يَغْمُرُنِي. لَوْ يَغْمُرُنِي الحُبُّ، دَعِي الحُبَّ يَغْمُركْ.
وَالِدِي
أَوَدُّ أَنْ أُخْبِرَكَم عَن شَخْصٍ اِسْتِثْنَائِيٍّ،
عَنْ رَجُلٍ عَظِيمٍ، عَنْ وَالِدِي.
وَالِدِي، كَمَا تَعْلَمُونَ، رَجُلٌ طَيِّبٌ.
اِنْطَلَقَ فِي حَيَاتهِ مِنَ الصِّفْرِ، وشَيَّدَ إِمْبْرَاطُورِيَتَهُ بِيَدَيْهِ.
كَانَ وَالِدِي يُحِبُّ العَيْشَ بَعِيدًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، لاَ بِدَافِعِ الخَوْفِ وَإِنَّمَا بِدَافِعِ التَّوَاضُعِ.
كَانَ كَرِيمًا ولَطِيفًا، وَكَانَ لَدَيْهِ الكَثيِرُ مِنَ الأَصْدِقَاءِ.
كَانَ وَالِدِي يُحِبُّ تَقَاسُمَ خِبْرَتِهِ مَعَ النَّاسِ، وَالأخْذِ بِيَدِ الأَقَارِب
كَانَتْ نَظْرَتُهُ نَظْرَةَ فَخْرٍ وَإِنْ غَضِبَ رَفّتْ عْينَاهُ
كَانَ وَالِدِي زَوْجًا مِثَالِيًّا، أَبًا رَائِعًا، وجَادًّا فِي العَمَلِ،
رَجُلًا فَاضِلًا كاَنَ، وَهَذَا مَا يَرْفَعُ مَقَامَهَ.
كَانَ وَالِدِي مَزَّاحًا، وقَدْ مَنَحَنِي وَافِرَ الحُبِّ.
غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ مُتَفَرِّجَةً عَلَى أَلَمِهِ. كُنتُ هُنَاكَ فِي اللَّحَظَاتِ الأَخِيرَةِ مِنْ حَيَاتِهِ.
لاَ أَزاَلُ أَسْمَعُ رَنِينَ كُلِّ الأَجْهِزَةِ الطِّبِّيَةِ، وَكَذَا دَقَّاتِ قَلْبِهِ المُتَسَارِعَة.
أَرَى مُنْحَنَى جِهَازِ تَخْطِيطِ القَلْبِ يَتَحَوَّلُ إِلى خَطٍّ وَيُخْبِرُنِي:
“اِنْتَهَى الأَمْرُ، لَمْ تَعُدْ ثَمَّة حَيَاةْ”.
آنَذَاكَ شَعَرْتُ كأَنِّي تَلَقَّيْتُ صَفْعَةْ.
اِرتَجَفْتُ أَلَمًا لِفُقْدَانِ وَالِدِي الَّذِي هَجَرَنِي في صَمْتٍ،
لِأُعَانِي قَسْوَةَ المِحْنَةْ.
كَانَ وَالِدِي تَقِيًا. وأنا واثقةٌ أنَّهُ رَأَى اللهَ قَبْلَ الرَّحِيل.
فِي هَذِهِ الصَّدْمَةِ نُورٌ، وَمَعْبَرٌ، لِهَذَا الحَكِيمِ،
وكَلِمَةٌ تُؤْلِمُ .
اليَوْم، لَمْ يَعُدْ يَفْصِل بَيْنَنَا سِوَى حِجَابْ.
القُشَعْريِرَةُ الَّتِي فِّي الظَّهْرِ وَالِدِي.
القَلَقُ الَّذِي لاَ يَدُومُ وَالِدِي.
البَابُ الذِي يَنْصَفِقُ وَالِدِي.
إِطَارُ الصُّورَةِ الَّذِي يَسْقُطُ وَالِدِي
الضَّوْءُ الَّذِي يَخْبُو وَالِدِي، أَبِي، بَابَا.
صُوفِي هَايْدِي كامْ
(بوركينا فاسو)
ولدت في واغادوغو ببوركينا فاسو يوم 5 ديسمبر من سنة 1968. شاعرة، وقاصة، وروائية، وكاتبة سيناريو، وأول امرأة تمارس المسرح في بلادها. درست هايدي كام الأدب في جامعة واغادوغو. نالت عددًا من الجوائز المرموقة من بينها: جائزة الريشة الذهبية سنة 2018، وجائزة السعفة الذهبية للريشة سنة 2019، والجائزة الكبرى للكتاب (صنف الشعر) بالمعرض الدولي للكتاب بواغادوغو سنة 2021. كما حصلت على الجائزة الوطنية الكبرى للفنون والآداب لثماني مرات.
صدر لها أكثر من خمسة عشر كتابا في مجالات أدبية مختلفة. من بين أعمالها الشعرية: «نُوَاحٌ وسيمفونيات» (2005)، «استقصاءات» (2005)، «قربان» (2009)، «ذاكرات حية» (2020).
نَاقَةُ الصَّحْرَاءِ
عُنُقِي بُلْعُومُ إِنَاءٍ مِنَ الفَخَّارِ جَفَّفَتْهُ حَرَارَةٌ شدِيدَةٌ، نَاعِمٌ وَنَحِيلٌ
عَلَى مَتْنِهِ يَعْرِضُ رَأْسِي نَفْسَهُ شَامِخًا وَفَخُورًا مِثْلَ رَأْسِ «جريوت»
مِنَ «المَانديغ»
هُوَ ذَا نَصْبُ تِذْكَارِ كِبْرِيَائِي
هِيَ ذِي سُلاَلَتِي
أَبْنَائِي وَبَنَاتِي يُحْيُونَ بِرَقْصَتِهِمْ حَلَقَةَ أَيَّامِ
الغَدِ
يَا أَبْنَاءَ وَبَنَاتِ وَطَنِي الأُم
يَا فَخْرَ أُصُولِي الضَّائِعَةِ فِي صَفْقَةِ التَّارِيخِ
أَنْتُمْ حُرَّاسُ اِسْمِي
مِنْ أَجْلِ مَجْدِي، تَتَرَابَطُ أَجْسَادُكُمْ حَتَّى حُدُودِ
جُمْجُمَتِي، وَتُنَصِّبُ نَفْسَهَا عَلَى شَكْلِ إِكْلِيلْ
إِنَّهُ عِيدُ الغِطَاسِ لِعَوْدَتِي إِلَى الأُصُولِ
وفِي بَلَدِي تَارِيخِي يُقِيمُ بِدَاخِلِهِ
أَنَا نَاقَةُ الصَّحْرَاءِ الطَّوِيلَةُ العُنُقِ أُخْضِعُ لِلْإيقَاعِ خَطَوَاتِكُمْ عَلَى دُرُوبِ الغَدِ
سَأَقُودُكُمْ إِلَى الوَاحَاتِ الوَفِيرَةِ
أَنَا الفَانُوسُ السَّاهِرُ
أَنَا المُتَرَبِّصَةُ بِعُيُونِ الرَّادَارِ الجَاثِمَةِ عَلَى أَسْوَارِ البَلَدِ المَفْقُودِ
في أَرَاضٍ مِنْ طِينٍ أَحْمَرَ؛
حَيْثُ يَتَلَأْلَأُ نَجْمُ قَدَرِي، تاَرِيخِي يُقِيمُ
وَنَحْوَ ثَرَاءِ الوَاحَاتِ لَسَوْفَ أَقُودُكُمْ.
شَمْسِي قَادِمَةٌ
يَا أُمَّ الأُمَمِ وَمَهْدِهَا، أَحْشَائِي اِسْتَقْبَلَتْ بُذُورَ
هَذَا العَالَمِ
بَطْنِي احْتَضَنَتْهُ وَوَرِكَايَ القَوِيَّتَانِ حَمَلَتَاهُ، فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ، مَحْمُولًا عَلَى الظَّهْرِ
لِسَنَوَاتٍ، عابرًَا الشُّهُورَ وَالأَيَّامَ حَتَّى أَبْوَابِ هَذَا القَرْنِ.
حِينَ تَأْفُلُ الأُمَمُ القَوِيَّةُ وَالسَّاطِعَةُ ذَاتَ يَوْمٍ
مِنَ الشَّرْقِ سَتَبْزُغُ شَمْسِي
شَمْسًا جَدِيدَةً شَرِسَةَ النَّظْرَةِ
شَمْسًا حَادَّةَ النَّظْرَةِ
وَعِنْدَ فَجْرِ هَذَا اليَوْمِ سَأَقِفُ شَامِخَةً وَمُتَبَاهِيَةً
بِجَبْهَةٍ مُحَدَّبَةٍ تَتَحَدَّى كُلّ غَازٍ!
ذَلِكَ أَنَّ هَذَا العَذَابَ يَظْلِمُنِي
وَلاَ مَصِيرَ لِي فِي هَذِهِ الفَوْضَى!
البَرَاعِمُ اليَافِعَةُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أَثْدَاءُ المِحَنِ
وحَلَمَاتُ المَذَلَّةِ
فِي أراضِيَّ تَنْمُو بِالآلاَفِ
وَمِثْل رَجُلٍ وَاحِدٍ تُعْلِنُ سُلاَلَتِي نِهَايَةَ عُبُودِيَتِي
إِنَّهَا تَصْرُخُ طَفَحَ الكَيْلُ مِنْ نَهْبِ أرَاضِيَّ وَثَرَوَاتِي
ثَمَّ تُحَطِّمُ هَذِه المَكَائِد الَّتِي لاَ تَكُفُّ عَنْ خَنْقِي
يَا بَقَرَةَ الأُمَمِ الحَلُوبِ، إنَّهَا سُلاَلَتِي تَدُقُّ جَرَسَ الإِغْلاَقِ
لِمَصْنَعِ الحَلِيبِ
قَدَرِي لَيْسَ فِي هَذِهِ الفَوْضَى، كَلاَّ!
مُسْتَقْبَلِي هُو هَذِهِ المُعْجِزةُ التي تُنْتَزَعُ بالكَدِّ وَالنِّضَالْ!
اِنْعِكَاسَات
شِعْرِي أُرِيدُهُ قِدْرًا مِنَ كَلِمَاتٍ عَلَى نَارِ الحَطَبِ
كَلِمَاتٍ هَائِجَةٍ فِي قَلْبِي، فِي أَحْشَائِي، وَفِي دَمِي
بَرْقًا وَرَعْدًا عَلَى العَرَمِ وَالحُدُودِ وَالهَرَاوَاتِ
أُرِيدُهُ فَمًا مَخْتُومًا باِلشَّمْعِ لِرِيَاحِ الغَضَبِ، المُصَفِّرَةِ فِي شَوَارِعِنَا
عَدَسَةً مُكَبِّرَةً للقِرَاءَةِ وَشَمْسًا عَلَى شَفَرَاتِ الظُّلْمِ الَّتِي تُسِيلُ دَمَنَا
سَيَكِونُ شِعْرِي فَمًا مَفْلُوقًا حَتَّى الجُمْجُمَةِ، كَلِمَاتٍ لاَ تَغْتَالُهَا
الأَوراقُ النَقْدِيَّةُ
حرًّا وَحُرِّيةً فِي ظِلِّ كُلِّ نِظَامٍ يَكْتُمُ أَنْفَاسَ الحَيَاةِ
سَيَكُونُ حَكَّاءَ الآفَاقِ
زَيْتًا عَلَى جُرُوحِنَا
ذِرَاعَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بِيَدَيْنِ مَمْدُودَتَيْنِ
شِعْرِي أُرِيدُهُ حَارًا عَلَى جُدْرَانِ حَيَوَاتِنَا
قَصِيدَةً وَاقِفَةً عِنْدَ سَرِيرِ الأَوْجَاعِ الَّتِي تَكْسُونَا!!
ضَاتِ أَطَافِيتُو بِرْنَابِ أَكَايِّي
(البنين)
من مواليد كباليمي بالطوغو سنة 1978، شاعر وروائي وقاص وناقد أدبي وكاتب مسرحي من البنين. خريج جامعة أبومي كالافي قسم الآداب الحديثة. بعد مسيرة مهنية قصيرة في الصحافة الثقافية، أصبح مدرسًا بالتعليم الثانوي والعالي. كتب في مجالات أدبية مختلفة غير أن موهبته لم تكشف عن نفسها بشكل متميز إلا في مجال الشعر؛ حيث يعتبر شعره قويا، ومكثفا وأشبه بالكلمات التي تنبع من عينٍ لا تنضب وهي تتدفق بلا انقطاعٍ، جارفةً معها كل مشاعر هذا الشاعر البنيني -الغريز الإنتاج- والشحنات العاطفية التي تدوّي بداخله. نشر ما يقرب من عشرين كتابا في أصناف أدبية متنوعة، وحاز على جائزة رئيس الجمهورية سنة 2017. من أعماله الشعرية: «سوداء كالندى» (2011)، «الحزن يا عشيقتي» (2011)، «شفتاك حيث قضيت الليلة» (2014)، «سلالم المداعبة» (2016)، «اشتباكات» (2017)، «إبر الماء لرتق الشمس» (2021).
إيمونل 1
فِي القَمَرِ الجَدِيدِ يَقْضِي قَلْبِي فَتْرَةَ تَدْرِيبِهِ، الأَسَلُ تَعِبَ مِنْ عِظَامِي، أَضْرَمَ النَّارَ فِي حَصِيرَتِي الزَّلِقَة مِثْل كُومَةٍ مِنَ الحَصَى فِي النَّعْشِ المُسَطَّحِ؛ حَيْثُ تَسْتَرِيحُ أَفْكَارُهَا الحَجَرِيَّةُ وَالكُثْبَانُ. إِلَى أينَ تَمْضِي كُلُّ هَذِهِ التَّوَابِيتِ التي تُطَوِّقُ المَسَاءَ؟ أَلاَ تَعْلَم أَنَّكِ لاَ تَبْتَسِمِينَ مِنْ غَيْرِ رِحْلَةٍ بَحْرِيَّةٍ جَرْدَاءَ حَيْثُ مُنْهَارَةً ستَرْسُو أَحْلاَمُ طُفُولَتِنَا التي بَلَّلَهَا الغُبَارُ، اِسْمَعِي، يَلْزَمُنِي أَنْ أواصلَ رِحْلتِي وأقومَ بآخر جَوْلَةٍ في الشَّمْسِ المِزَاجِيَّةِ قَبل عَوْدَتِي ثَانِيَّةً إِلَى جَسَدِي المُنْفَرِدِ؛ لأِنَّ الشَّمْسَ لاَبُدَّ أَنْ تُغَنِّي لِي لِمَاذَا يَسْعَى النَّاسُ إِلَى قَطْفِ أَزْهَارِ رُوحِي وَأَرْضِ التَّسَوُلِ مِثْل أَفْرِيقْيَا سَتُصَابُ بِأَلَمٍ فِي الإِسْتِ.
إيمونل 2
أَيُّهَا الإِلهُ الكَبْشُ، المَلِكُ الكَبْشُ، أَنْتَ الَّذِي جَعَلَنِي نَسْرًا وَمَا مِنْ طَائِرٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْخَرَ مِنَ النَّسرِ الملكي بِوُسْعِكَ أَنْ تُجَرِّدَنِي مِنَ النَّظَرِ وَلَسَوْفَ أتقدَّمُ في اللَّيلِ بِعُيُونِ مَخَالِبي. فِي الوِدْيَانِ كَمَا فَوْقَ الجِبَالِ اِجْتَاحَ الصَّمْتُ جَنَاحَيّ، وثورًا جَعَلَنِي الأَثِيرُ. هَكَذَا أَوْرَثَنِي أَبِي عِبْئَهُ الثقيلَ، وقَدَّ مِنْ طَريِقِي بُسْتَانًا مِنْ عِلِّيقٍ وَنَتَانَةٍ .أَمامَ مَذْبَحِ المَوْتَى المَرْءُ لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَوِّحَ بِمِكْنَسَةٍ مِنْ دَمٍ بَشَرِي، لاَ يُمْكِنُه ُإطعامَ فَانُوسِ العَاصِفَةِ. أنتَ مَنْ يعلمُ أنَّنَا لا نستطيعُ الوصولَ إلى الرَّماَدِ من دونِ نارٍ. ماذَا تفعلُ بهذا الرَّمَادِ السَّاخِنِ الذي يُستَخدَمُ لتحميصِ جَوزِ النَّخِيلِ، مِنَّ الصَّعب أَن نشرب النارَ مثلما نشربُ الماءَ بالفحمِ الملتهبِ، لا نستطيع تنظيفَ أسنانِنَا يَا مَنْ تزأر وتجعل الغابةَ تحمرُّ بكاملهَا، لماذا تشقّ خشبَ الصَّمتِ وتجعلني أسدًا.