وصلت إليك
وكنت على شوق حميم
وغيم الباسك راح يختال أمامي
شيخا جليلا «بعمامته الخضراء
الملطخة بالرماد.
وألقى علي التحية محتارا»
ثم – على مهل – مضى
يتفقد قمم الجبال النائمة في أحضان القهر
بيدين حنونتين ،
ويرحل ندىً ونسيمات أنثوية.
أيها الغيم الحميم
أيتها القمم الحزينة
يا لطقوس العبادة ما أروعها
وها أنا أمارس معها طقوس صلاتي:
أنظر.. أنظر إلى ماوراء الجبالِ
في انتظار من تطل علي من وراء الأفق
أنتْ أيها الأفق ما الذي توارى خلف أشجار الأرز
عند الغروب ..!
أيها الغيم الجليل من أي جهات الأرض قادم أنت ؟
أيها الندى الذي حط على نافذتي
أأنتَ أأنتْ ؟
أأنت أأنت من عانقت روحي واختبأت في حناياي !
أأنت أأنت
من صعقتني و تركتني في حال الجنون.
أيها الندى :
يا حبيتي !
من أسكنك الباسك وغابات الباسك
أم أنك امتطيت البراق وجئت إلي أثيرا ؟
ما أوسع قلبك أيها الباسك
وما أشد حزنك .
وحيدة أنت ِ أيتها الغابات
لا صوت ابن آوى يهز سكون الليل
ولا عواء الذئب يوقظ صمتك الكئيب
حتى العنادل لم أرها ؟
ما أشبهنا أنا وأنتِ.
أتملى وجهك الشاحب يا أمي الثكلى
يا أخت الجليل
قسماتك القاسية
عيونك الذابلة ،
قهر السنين وآهات الخلاص
أيتها القمم المسكونة بانتظار الريح
أنتِ يا أول الدنيا
كيف احتضنت حبيبتي !
وأنتِ ياحبيبتي كيف قطعت كل هذه المسافات
من القهر والضياع
وحط بك الترحال على فؤادي
وارتسمت خيالاً على جدران غرفتي ؟!
احتضني أيها الجسد الخيال ،
أي شوق أنت يا شوقي
حملت حبيبتي إلى أول الدنيا.
رسمت محياها على جدران المعابد
جسدها يتجول في الساحات
في دروب القرى المستلقية على سفوح التلال
وعيونها على الأفق الأصيل
أقسم يا جبال الباسك
أني عانقت حبيبتي حين عانقت
ملصق الثائرين
حبيبتي تهدي للصور باقات
من ورد الشام
وقبلا» من ملصق الفدائيين في المخيم
رسائل وعد اللقاء
حبيبتي كيف تجاوزت كل هذه الأنياب الغائرة
في لحم أهل الشام
كيف مررت من بين البنادق والخوذ المحشوة بالموت،
حبيبتي يا أول الدنيا
أهلاً بك في أول الدنيا
***
سرة في بطن الجبال
أنثى ونهدان من حب وأمان
وجمال بابتسام حزين
حدّق في عيني وراح السؤال يلتمع في عينيه
أجبت من فوري : فلسطيني أنا إن تسأل ،
وراح الباسكي المعفر بالحزن والقهر
يعانقني ..
أيها الباسكي الذي لا يشبه أحداً في الدنيا
إلاي
يا الباسكي الذي لا يفهمه أحدٌ سواي
وما ترطن به من كلام
ما الذي أدراك بيّّ
ولماذا استرسلت بالكلام معي ؟
كيف عرفت إني وحدي أنا الفلسطيني
من يفهم لغة الباسك بلا كلام
وأقرأ القسمات التي تشبه قسمات الناصري
وحركات الأيدي
والبسمات
وشرر العيون والآهات .
أيها الباسكي الحميم :
ليتني أبو الشرائع ليتني !
لأعدت إلى الأرضين شرائعها المنسية
وقانون الغاب
كي لا يتسيد فأر على غاب ذئاب
كي لا يقهر خفاش أفراس الهيجاء
كي لا تحتل الأحزان ساحات الطرب
ليتني : يا صقر الباسك
ويا ذئب الباسك
ويا عندليب الباسك
أبو الشرائع
لأصدرت لائحة عقوبات حمراء
يحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت على الأغنام
إن شربت من رأس نبع الماء
يحكم بحرق الجرذان
إن جلست في صدر الأيك
يحكم بالسجن موتاً على الجلاد وسجان الأرواح
ليتني يا حزين الباسك
أبو الشرائع
لنصبتك قاضي قضاة الأرض
يا قرى الباسك، ويا سان سبيستيان
يا أم الدنيا والينابيع
قولي لغيمك والندى ،
قولي للسرو
وأصوات النسوة الخجلى
والأرواح الملأى:
هذا الفلسطيني يعلن الحب أمام الأشهاد .
ليت السفر إليك بلا أختام
وجوازات عبور وعيون عسس
لارتميت في أحضانك كلما غزاني الشوق إليك
يا أم الدنيا
***
مدريد ، أيا مدريد
اخوتي مرميون على الأرصفة
بلا انتظار لأحد ولا من أحد
لاعيون تنظر في الأفق
ولا أقدام تمشي
منذ زمان غادروا السماء
لا ذكريات الأندلس تغويهم
ولا الأندلس
لا عوادي الزمان تحزنهم
ولا ظمأ الفرح
مرميون على الأرصفة
والوجود من حولهم يهب الأجنحة لنفسٍ
هي حصالة للنقود
مرمية في زاوية من زوايا كهوف البؤساء
أيها الهاربون من سياط الولاء
أيها الفارون من سجون الأدنياء
أيها الحالمون بالخلاص
وشعلة برمثيوس
لماذا جئتم إلى هذا الضياء وأنتم في عماء
أرض للفرح .. ولا تفرحون ،
آلهات الجسد ترقص في كل الساحات
وأنتم بلا أجساد
أيها العفن الجالس فوق جثة الوطن
ماذا فعلت بأخوتي
لماذا تلاحق أرواحهم أنى حلّت
وما تريد ؟
وقد دفنوا قلوبهم تحت شجر البلوط
في رائحة النرجس والزعتر
والبيت المشرع للريح
وصدر الأم الثكلى
يا من تبكين أولادك أحياءً
حتى جبين القبلة لأولى
صار مكاناً للذل ،
ابكي يا حارات بني أمية
ويا درب المسيح
يا أصوات الباعة
والحان مآذن الغجر
ونواقيس الكنائس
أخوتي على أرصفة الوجود ضائعون هاربون
يشكون، ضعفاء
عنف الآري الجالس على عرش الكون
يتوسلون أحفاد كولومبوس
حباً وجوازات سفر
أسعيدٌ أنت أيها الجالس فوق ركام الوطن
يا الراكع تحت أقدام الغزاة
والصنم الأصغر
مزهواً بقتل الحياة
ماذا فعلت بأحلام الصبايا .؟
أيها الخائف من عيني ومن لغتي
تركتُهم عتماً يمشي في بلاد النور
وتوت الشام مات
تناثرت أحلامهم وديست :
أيها الغيلان لا صدر في وطني
والهواء فاسد
والنوافذ مغلقة
والثعابين تلتف حول أعناق الحياة
وجوه أخوتي أحجار
بلا نقش أو كلام
مدريد يا مدينة الحب
أخوتي مرميون مرميون
***
أيها العائدون من بلاد الهواء
أي عطش جاء بكم إلى نهر الخنوع !
وهذا الظمأ الزائف لا يرتوي
تصغرون وتضعرون راكعين
أمام أحلام في سرير الآخرين
عيونكم لا ترى هامته البهية
ولاترى وجهه المنير
ها أنتم تسيرون خلفه
ظهوراً محدودبة
وجوها بلا ضياء
ظل بلا ألوان
يا مهد فاوست
اخوتي لبسوا جثث الأمس
جثث في زواياك
تتوسلك اعترافاً وقبولاً
أيها السادي المقنع بروسو
الفرح بالكائنات التي فرت من أرضها
هل ترضيك هذه الوجوه
الملساء كحصى النهر العتيق
جرار من القش همُ الآن
كبرياء كاذب وغرور
أمام زهر بلادي
أيها اللعاب النتن
والأفواه الصماء
والبزاق المتورم
والأورام المتناثرة
اغربوا عن وجهي
فانا ذاهب لأضع إكليلاً من الورد
على ضريح قاشوش
وفي طريقي إليه
سأمزق كتاب الشفاء
وصور الطاغية كلها
وأكتب شهادة مولدي الجديد..
أحمد برقاوي