* خوان مورانا
رددت خلال أعوام عدة انني نشأت في "بالارمو" والحقيقة، وهذا ما انتبهت اليه الآن، ان المسألة كانت مجرد تبجح أدبي يعود الى انني لمحبرة وراء حاجز من الحديد، في بيت بحديقة، داخل مكتبة والدي واجدادي. وكانت "بالارمو" السكين والقيثارة تجول، وهذا ما أكده لي الأخر ون، قريبا من هناك، في زوايا الشوارع وفي عام 1930، خصصت دراسة "كارياجو" جارنا الذي غنى ومجد الأحياء الفقيرة والصدفة وحدها هي التي جعلتني التقي، بعد ذلك بقليل، باميليو تراباني، كنت ذاهبا الى "موردن" وتراباني الذي كان جالسا قرب نافذة عربة القطار، ستاين باسي. وكان علي أن أمني بعض الوقت قبل أن أتعرف عليه. فقد مرت سنوات عديدة على الزمن الذي كنا نتقاسم فيه نفس المقعد في مدارس شارع "تاماس" ومن المؤكد أن روبرتو روديل يتذكر ذلك.
والحقيقة أننا لم نتصادق أبدا. وقد فرقنا الزمن أو فرق ايضا بين لامبالاة كل واحد منا بالآخر وقد علمني، وهذا ما أتذكره الأن، العبارات الدارجة الرائجة في ذلك الوقت، وفي القطار خضنا في واحدة من تلك المناقشات المبتذلة والسطحية التي تسعي جاهدة للعثور على وقائع وأحداث غير ذات جدوى التي أخبرتنا بموت زميل لنا لم يعد غير اسم في الذاكرة. فجأة قال لي تراباني:
– أعطاني أحدهم كتابك عن كاريا جو وفيه تتحدث طوال الوقت عن الأطفال السيئين. لكن قل لي يا بورفيس، ماذا تريد أن تعرف عنهم ؟ كان ينظر الي وهو مروع.
– لقد جمعت وثائق حول الموضوع.. أجبت.
لم يدعني أكمل وقال لي:
– وثائق.. هذه هي الكلمة.. أما أنا فأعرفهم أولئك الأشخاص.
بعد صمت أضاف بنبرة من يريد أن يبوح بسر:
– أنا حفيد خوان مورانا.
كان خوان مورانا من أشهر هواة الشغب والشجار في "بالارمو"، أواخر القرن الماضي. واصل تراباني حديثه قائلا:
– فلورانتينا، خالتي كانت زوجته والحكاية يمكن أن تهمك النبرة المفخمة، التي تلامس البلاغة، وبعض الجمل الطويلة جعلتني أحذر انه روى الحكاية أكثر من مرة.
كانت أمي دائمة الاستياء والتبرم من ان تقوم اختها بربط حياتها بحياة خوان مورانا والذي كان بالنسبة لها رجلا خاليا من أية عاطفة. أما بالنسبة لخالتي فلورانتينا، فقد كان رجلا فعلا. وقد رويت قصص كثيرة بشأن زوج خالتي بل زعم البعض أنه ذات ليلة شتاء، وهو سكران، سقط من مقعد عربة خيول على زاوية شارع "كورونيل" وان رأسه تهشم على الحجر. وزعموا أيضا أن الشرطة كانت تبحث عنه وانه فر الى الاوروجواي. وأمي التي لم تكن ترغب في أن تؤلم زوج شقيقتها لم تطلعني ابدا على حقيقة ما كان يجري. كنت صغيرا آنذاك لذا أنا لا أحتفظ بأي ذكرى عنه. خلال بداية القرمز، كنا نسكن في ممر "روسيل"، بيتا طويلا وضيقا وكان البيت الخلفي والذي كان دائما مغلقا، يفتح على "سان سالفادور". في غرفة بتسقيفة البيت، كانت تعيش خالتي التي كانت قد شاخت ولم يعد عقلها سليما. هزيلة وبارزة العظام، كانت، أو على الأقل هكذا كانت تبدو لي فارعة الطول، ولم تكن تتحدث الي إلا نادرا. كانت تخشى مجرى الهواء، ولم تكن تخرج من البيت أبدا. ولا تدعنا ندخل غرفتها مطلقا. وقد فاجأتها أكثر من مرة تسرق أو تخفي طعاما. وكان يقال في الحي أن موت أو اختفاء مورانا جننها. ودائما كنت أراها مرتدية السواد. وقد تعودت على أن تتكلم وحدها.
كان البيت ملكا لواحد يدعى "لوشاسي"، وكان حلاقا في حي "باراكاس" وكانت أمي خياطة تعمل في البيت. كانت أوقات صعبة وقاسية للغاية. ودون أن أفهم معناها الحقيقي؟ كنت أسمع كلمات يهمس بها الكبار من حولي، كلمات مثل: محكمة، حجز، حلول الأجل.. كانت أمي مثخنة بالجراح، أما خالتي فكانت تردد بعناد: خوان لن يسمح لهذا الايطالي بأن يطردنا من البيت. وهي تذكرنا بالقصة التي أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب، قصة رجل وقح جاء من جنوب المدينة ليشكك في شجاعة زوجها. وعندما علم هذا الأخير بالموضوع، بحث عن الرجل الوقح وصفى حسابه معه بضربة سكين، ثم ألقى به في "رياشيولو". وانا لا أدري ان كان ذلك صحيحا. ما يهم اليوم هو أن تلك القصة رويت أكثر من مرة، ونحن صدقناها.
أرى الى نفسي نائما في مساحة فارغة من الأرض في شارع "سارانو"، أشحذ أو أبيع زليقات في سلة. هذا الحل الأخير كان يبدو لي معقولا لأنه بامكانه أن يحول بيني وبين الذهاب الى المدرسة.
لا أدري كم استغرقت محنتنا من الوقت. المرحوم والدك قال لنا ذات يوم انه ليس باستطاعتنا أن نحسب الزمن بالأيام، مثلما نحسب النقود بالمليمات والسنتات ذلك أن المليمات أو السنتات متشابهة أما الأيام فليست كذلك بالمرة. كل يوم مختلف عن الآخر. بل كل ساعة. لم أفهم جيدا مثل هذا الكلام غير أن جملة المرحوم والدك ظلت محفورة في الذاكرة. في واحدة من الليالي، حلمت حلما انتبهي بكابوس. حلمت بخوان زوج خالتي. أنا لم أتعرف عليه أبدا، لكنني كنت أتخيل هيئته وأراه مختلطا بدم هندي، قوي البنية، بشارب رقيق، وشعر طويل. كنا متجهين نحو الجنوب، عبر حقول شاسعة، وغايات، ولكن هذه الحقول وهذه الغابات كانت أيضا شارع "تاماس". في حلمي، كانت الشمس عالية في السماء، وكان زوج خالتي يرتدي كسوة سوداء. توقف بالقرب من صقالة في ممر ضيق،وضع يده تحت جاكتته في نفس موضع القلب، ليس كمثل ذاك الذي سيخرج سلاح، لكن مثل ذلك الذي يريد أن يخفيه، وبصرته الحزين قال لي: "لقد تغيرت كثيرا". اخرج يده وعندئذ رأيت مخالب طائر جارح. استيقظت وأن أولول من الرعب في الظلام.
في اليوم التالي. أجبرتني أمي أن أرافقها الى دكان "لوشامي". كنت أعلم انها كانت تريد أن تطلب منه تأجيلا. ومن المؤكد أنها أخذتني معها بغية ابراز معاناتها امام دائنها. ولم تكن قد تفوهت بكلمة واحدة حول الموضوع أمام شقيقتها. ولو فعلت ذلك، لرفضت هذه الأخيرة رفضا قاطعا أن تهين نفسها بمثل هذه الاهانة. وقبل ذلك، لم تكن قدماي قد وطئتا حي "باراكاس". وقد بدا لي أنه مزدحم أكثر بالناس، ا وبالحركة، وان المساحات الفارغة قليلة. عند وصولنا الى زاوية الشارع، رأينا أعوان شرطة وأنا متجمعين أمام الرقم الذي كنا نبحث عنه. وكان رجل يردد من مجموعة الى أخرى بأنه حوالي الثالثة صباحا، أيقظته ضربات على باب "لوشانسي" ثم سمع الباب وهو ينفتح وأحد ما يدخل. لا أحد أغلق الباب بعد ذلك. عند الفجر عثر على "لوشاسي" ممددا عند المدخل، وهو نصف عار. كان قد قتل بضربات سكين. وكان يعيش وحيدا. والشرطة لم تعثر أبدا على الجاني. والغريب انه لم يسرق شيئا من بيت الضحية. واحد آخر ذكر بأن الراحل، أصبح خلال الأشهر الأخيرة شبه أعمى. وثالث قال بنبرة قاطعه بأن أجله حان. هذا الحكم القاطع، والنبرة التي نطق بها، جعلاني أنفعل الى حد ما. بعدها لاحظت أنه كلما مات أحد، إلا ووجد أحد آخر لكي يقوم بهذا الاكتشاف.
المشرفون على المأتم دعونا الى شرب القهوة، وأنا شربت فنجانا في التابوت، كان هناك وجه من الشمع مكان وجه الميت.
أشرت بذلك الى أمي. وأحد المشرفين على موكب الدفن ضحك ووضح ل أن هذا الشكل الذي يرتدي الأسود هو "لوشاسي". نظرت اليه وأنا مفتون وكان على أمي أن تجذبني من يدي.
خلال أشهر لم نتكلم عن أي شيء آخر. والجرائم في ذلك الوقت كانت نادرة. فكروا في الجلبة التي أحدثتها قضية "ميلينا وكامبانا" و"سيليتيرو"! الكائن الوحيد في "بيونس ايرس" الذي لم يقف شعر رأسه كانت خالتي "فلورانتينا". كانت تردد بالحاح الشيخوخة: "لقد كنت أقول لكم دائما بأن خوان لم يسمح للايطالي بأن يرمي بنا في الشارع".
ذات يوم نزل المطر مدرارا وبما أنه لم يكن باستطاعتي أن أذهب الى المدرسة فإنني رحت أتفقد البيت. صعدت الى التسقيفة. كانت خالتي واقفة هناك، مكتفة اليدين. تبينت أنها لا تفكر في أي شيء. كانت للفرقة رائحة الغرف المغلقة طول الوقت. في أحدى الزوايا، كان هناك فراش حديدي بمسجة معلقة على أحد قضبانه في زاوية أخرى، صندوق من خشب مخصص للثياب. على أحد الجدران المطلية بالجير، علقت صورة للعذراء على الطاولة الصغيرة قرب الفراش، كان هناك شمعدان صغير.
دون أن ترفع عينيها، قالت لي خالتي:
– أعلم ما الذي جاء بك الى هنا. أمك هي التي أرسلتك. انها لا تريد أن تفهم أن خوان هو الذي أنقذنا.
خوان ؟ خاطرت أنا بالقول – خوان مات منذ عشرة أعوام.
– خوان هنا، قالت هل تريد أن تراه ؟
– فتحت درج الطارئة الصغيرة القريبة من الفراش وأخرجت منه خنجرا.
واصلت بصوت ناعم:
– هاهو. كنت أعلم أنه لن يتخلى عني أبدا، لم يدع للايطالي الوقت بأن يقول أف!
عندئذ فهمت. تلك المجنونة البائسة هي التي قتلت "لوشاسي" مدفوعة بالكراهية وبالجنون وربما بالحب، من يدري تسللت من الباب الخلفي، واجتازت في ظلام الليل شوارع وشوارع، لتعثر أخيرا على البيت، وبيديها الكبيرتين بارزتي العظام، غرزت السكين في جسد الرجل. والخنجر كان لـ"مورانا". الموت هو الذي ظلت تعتز به. ولا أدري ان كانت قد باحت بسر قصتها لأمي بعد ذلك. وقد ماتت قبل وقت قليل من طردنا من البيت.
هنا تنتهي قصة "تراباني" الذي لم أره بعد ذلك أبدا. في قصة هذه المرأة التي ظلت وحيدة، غير قادرة على الفصل بين زوجها، نمرها، وذلك السلاح القاتل الذي تركا لها، سلاح الجريمة التي اقترفتها، أعتقد أنه بامكاني أن أتبين رمزا ما، بل ربما عدة رموز.
كان "خوان مورانا" يتسكع في الشوارع المألوفة بالنسبة لي، والذي عرف ما يريده الرجال، وعرف أيضا طعم الموت، ثم أصبح ذلك خنجرا، ثم ذكرى خنجر وغدا لن يكون إلا النسيان. النسيان العادي.
* روزاندو وخواراز
كانت الساعة تشير الى الحادية عشرة ليلا. دخلت المقهى، الذي أصبح اليوم حانة، وذلك في زاوية تقاطع شارعي "بوليفار" و"فينيزويلا". والرجل الجالس في الركن أشار لي بأن أتقدم. ثمة
هيبة لا غبار عليها تنضح من شخصا ذلك أني أطعته في الحين. كان جالسا أمام أحدى الطاولات الصغيرة، وبطريقة لم أستطع تفسيرها، أحسست أنه أمضى وقتا طويلا وهو جالس هناك بلا حراك أمام كأسه الفارغة. لم يكن لا طويلا ولا قصيرا. له ملامح حرف نزيه، ربما جاء من الريف. ولم يكن شاربه الرمادي كثيفا. وسريع التأثر بالبرد مثل كل أهالي "بيونس ايوس"، ظل مرتديا معطفه الثقيل. دعاني الى شرب شيء بصحبته. جلست وبدأ الحوار بيننا في الحين. حدث ذلك مطلع عام 1930. قال لي الرجل:
– أنت لا تعرف الا اسمي، أما أنا فأعرف جيدا أيها السيد. أنا روزاندو وخواراز، لابد أن المرحوم "باريديس" حدثك عني. كان لذلك العجوز نزواته. كان يحب الكذب، ليس كي يخدع الناس، وانما لكي يسليهم. وبما أنه ليس عندنا ما نفعله، فانني سوف أروي لك ما حدث بالضبط خلال تلك الليلة الشهيرة، التي قتل فيها "كوراليرو". انت، أيها السيد، كنت قصصت أنك في أحدى الروايات أنا عاجز عن تقييمها زير أني أريد أن تعرف الحقيقة حول هذه القضية.
صمت قليلا وكأنه يتجمع ذكرياته، ثم واصل الحديث قائلا:
– تحدث أشياء لا يمكننا أن نفهمها الا بعد أن يمر وقت على حدوثها، ونحن لا نستطيع أن نفهمها إلا شيئا فشيئا بمرور الزمن. ما حدث ل تلك الليلة، انني من بعيد كبرت في حي "مالدونادو" فيما وراء "فلورانتينا" كان مزبلة فعلوا خيرا عندما أزالوها دائما أفكر بأنه ليس علينا ن نوقف عجلة التقدم. في النهاية، كل واحد منا يلد حيث يشاء. وأنا لم أسع أبدا أن أعرف اسم الذي منحني الحياة. كانت أمي "كليمانتينا خواراز" امرأة شجاعة تكسب قوتها من خلال كي الثياب. أعتقد أنها من "انترريوس" أو من "الاوروجواي". مهما يكن، فقد كانت أحيانا تتحدث عن والديها من "كونسابسيون" في "الأوروجواي" نبت كما تنبت الحشائش البرية. تعلمت أن أتشاجر مع الصبية الآخرين، بقطعة خشب أصبحت صلبة بعد وضعها في النار. ولم أكن قد عرفت بعد كرة القدم التي كانت قديما اللعبة المفضلة للانجليز. ذات يوم، في أحدى المقاهي، راح واحد يدعى "كارمانديا" يطلبني للمبارزة. وأنا عملت وكأني لا أسمع. أما هو، وقد كان سكران، فقد راح يلح في طلب ذلك. خرجنا الى الشارع على الرصيف، التفت ومن خلال الباب نصف المفتوح قال لزبائن المقهى:
– اطمئنوا سوف أعود بعد حين !
كنت أخفي خنجرا، انطلقنا باتجاه الوهد وكل واحد منا يراقب الآخر بحذر شديد. كان يكبرني بسنوات قليلة. وقد كنا تشاجرنا قبل ذلك أكثر من مرة وأحسست أنه سوف يفتح بطني.
كنت أمشي على يمين الدرب وهو على يساره.فجأة تعثر في قطعة حديد قديمة. وحتى قبل أن يصل الى الأرض، ارتميت عليه دون أن أفكر في ذلك. جرحته بالخنجر ز وجهه، ثم بدأنا نتصارع، وجسد كل واحد منا ملتحم بجسد الآخر. مر وقت لا يمكن تحديده ثم انتهيت بأن وجهت له ضربة سكين كانت الأخيرة. بعدها لاحظت أنه جرحني هو أيضا جروحا بسيطة. ومن تلك الليلة تعلمت انه ليس من الصعب قتل رجل وليس من الصعب أيضا أن يقتل الانسان. كان النهر يجري هناك في عمق الوهد. ولكي أربح الوقت أخفيت الجثة وراء كومة من الآجر. ومنساقا للطيش أخذت منه خاتمه الثمين الذي شوهد دائما في أصبعه ووضعته في أصبعي. بعدها وضعت قبعتي على رأسي وعدت الى المقهى. دخلت بخطوات هادئة وقلت:
– واذن أنا الذي عدت !
طلبت كأس نبيذ ذلك أني كنت بحاجة الى ذلك. وعندئذ أشار لي أحدهم أن هناك لطخة دم على ثيابي.
أمضيت الليلة وأنا أتقلب على الفراش ولم أنم إلا عند الفجر. آخر الظهيرة جاء شرطيان للقبض علي. أطلقت أمي – يرحمها الله – صرخات عالية. ساقني الشرطيان كما يسوقان مجرما. أمضيت ليلتين ويومين في الزنزانة الانفرادية. لا أحد جاء ليعاين وضعي غير "لويس ايرالا" الذي كان صديقا حقيقيا غير أنهم لم يسمحوا له بذلك. ذات صباح، طلب مفوض الشرطة احضاري نظر الي وقال:
– اذن أنت هو الذي أجهز على "جارمانديا" أليس كذلك ؟
– بما أنك تقول ذلك.. أجبت..
– نقول: سيدي مفوض الشرطة. ليس مفيدا بالنسبة لك أن تحاول المراوغة. ها هي أقوال الشهود والخاتم الذي وجد في أصبعك. هيا، أمض على اعترافاتك كاملة.
وضع الريشة في المحبرة ثم مدها الي
– أعني أفكر سيدي مفوض الشرطة. قلت له.
– أعطيك أربعا وعشرين ساعة لكي تفكر في الزنزانة الانفرادية. واذا لم تتعقل، فكن على يقين بأنك سوف تقضي فترة في الظل، في شارع "لاس هيراس".
وكما أنت تتصور، لم أفهم شيئا من هذا الخطاب.
– اذا ما أنت اعترفت،فسوف يطلق سراحك،بعد بضعة أيام. بعد ذلك سوف أخلصك من القضية و "دون نيكولاس باريديس" وعدني بأن يحل المشكلة.
ظللت في السجن عشرة أيام. بعدها تذكروني. أمضيت كل ما طب مني أن أمضيا، وواحد من أعوان الشرطة قادني الى شارع "كابريرا".
كانت هناك خيول مربوطة عند السياج، وعند المدخل جموع كثيرة أكثر من تلك التي نواها في محلات البغايا. جموع تشبه جموع الحملات الانتخابية. وأون نيكولاس الذي كان يتناول الشاي، انتهى بأن انتبه لوجودي وبهدوء تام قال لي أنه سوف يرسلني الى "مورون" حيث يعدون هناك انتخابات ثم طلب من السيد "لافاريران" يضعني تحت محك التجربة وقد كتب الرسالة شاب يلبس الأسود، يقرض الشعر كما قيل لي حول الناس البؤساء والوضيعين. مواضيع لا يمكن أن تهم جمهورا راقيا ومترفها شكرته على ما قدمه لي ثم خرجت وهذه المرة لم يصحبني عون شرطة. أستطيع اذن أن أقول انني أنقذت نفسي، العناية الالهية تعرف ما تريد وموت "جارمانديا" الذي كان سيسبب لي في البداية، مشاكل، أصبح الآن مفيدا بالنسبة لي. وطبعا كنت في قبضة الشرطة. واذا لم أنفع الحزب، فانهم سيعيدونني الى الزنزانة، غير أني أصبحت أكثر جسارة وثقة في نفسي. وقد حذرني "لافارير" من أنه مطلوب مني أن أمشي في الطريق المستقيم معه، غير أنه قال لي بأنه بإمكاني أن أصبح حارسه الشخصي. نفذت كل ما طلب مني. وفي "موريون" ثم في الحي الذي ولدت ونشأت فيه، حزت على ثقة رؤسائي. وأشاع الحزب ورجال الشرطة انني رجل خطير. وفي التجمعات الانتخابية سواء في العاصمة أو في الأقاليم أصبح لي ثقل كبير،. وفي ذلك الوقت. كانت الانتخابات تدور في أجواء مضطربة ومتقلبة. وان أروي لك أيها السيد بعض الوقائع السيئة. لم يكن باستطاعتي أبدا أن أنتصر على الراديكاليين غير أنني كنت مهابا من قبل الجميع. حصلت على امرأة وعلى فرس ذهبي. كانت لها هيئة وقورة. وعلى مدى سنوات لعبت دور "خوان موريوا" الذي ربما لعب هو أيضا في عصره أدوارا قذرة. وكنت أرتاد محلات القمار وأكثر من الشراب.
نحن الشيوخ، نحب الثرثرة، ولا نرغب في الانتهاء منها أبدا. لكن ها أنا أصل الى الموضوع الذي أريد أن أحدثك بشأنه. لست أدري إذا ما أنا كنت قد حدثتك من قبل عن "لويس ايرالا" وهو صديق نادر. كان رجلا في سن لا يمكن تحديدها، وأبدا لم يتقاعس عن أداء عمل أو مهمة ما، وكان يحبني. وعلى مدى حياته، لم يضع قدميه في أي لجنة من اللجان. كان يعيش من عمله كنجار ولم يكن يحشر أنفه في شؤون الآخرين. كما أنه لم يكن يسمح لأي انسان آخر بأن يحشر انفه في شؤونه الخاصة. جاءني ذات صباح وقال لي:
– أكيد أنهم رووا لك أن "كازيلدا" تركتني وان الذي أخذها مني هو روفينو اجاليرا.
كنت قد سمعت بهذه القصة وأنا في "مورنيو" قلت له:
– نعم أنا على علم بذلك. انه الأقل سوءا من كل "الاجاليرا".
– سيىء أما لا، الآن سيكون له حساب معي.
فكرت قليلا ثم قلت:
– لا أحد يأخذ شيئا من الآخر واذا ما كانت "كازيلدا" قد تركتك فلأنها تحب "دوفينو" وانك لم تعد شيئا مهما بالنسبة لها.
– لكن ماذا سيقول الناس ؟ انني جبان ؟
– أنا أنصحك بالا تحدث لنفسك مشاكل بسبب ما يقوله الناس وبسبب امرأة لم تعد تحبك.
– هي لم تعد تهمني أيضا. الرجل الذي يفكر خمس دقائق في امرأة ليس رجلا وانما.. "كازيلدا" امرأة لا قلب لها والليلة الأخيرة التي امضيناها مع بنى، قالت لي بأنني بدأت أشيخ.
– هي قالت الحقيقة.
– الحقيقة وحدها تجرح. لكن ما يهمني الآن هو "رونينو".
– كن حذرا. لقد شاهدت "رونينو" يصارع في ساعة "مارلو". انه صعب المراس.
– هل تعتقد أنني خائف ؟
– أعرف أنك لست خائفا، لكن فكر جيدا، أو أن تقتله أو أن توضع في الظل، أو أن يقتلك فتذهب الى مقبرة "شاكاريتا".
– ربما. ماذا تفعل أنت لو كنت مكاني؟
– لا أدري غير أن حياتي ليست مثالية. أنا فتى، لكيلا يذهب الى السجن أصبح يعمل لصالح من يرغبون في النجاح في الانتخابات.
– أما أنا فارفض رفضا قاطعا القيام بمثل هذه الأعمال. لي حساب أريد أن أصفيه. هذا كل ما أريد.
– اذن ستخلق لنفسك مشاكل بسبب رجل تجهله وامرأة لم تعد تحبك لم يعد راغبا في الاستماع الي. في اليوم التالي، بلغني أنه استفز روفينو في حانة في "مورينو" وأن روفينو قتله.
– ذهب الى الموت أو قتل كما ينبغي أن يقتل لقد نصحته نصيحة صديق، مع ذلك أحسست انني مذنب في حقه.
بعد مرور بضع ليال على المأتم، ذهبت لأحضر صراع ديكة. لم يسبق لي ان أحببت مثل هذه العروض، غير أني في يوم الأحد ذاك، شعرت باشمئزاز لا مثيل له. فما الذي حدث لهذه الحيوانات حتى تتقاتل بمثل تلك الطريقة البشعة.
ليلة الواقعة، ليلة نهاية الواقعة، تواعدت مع أصدقاء في مرقص "لابراداه" لقد مرت سنوات عديدة على ذلك غير أنني مازلت حتى هذه اللحظة الفستان المزهر الذي كانت الفتاة التي تعجبني أن ترتديه. انتظم الحفل في الباحة، وكالعادة كان هناك رجل سكران حاول بث الفوضى غير أني حاولت بكل ما استطعت أن يمر كل شيء حسب قواعد اللياقة والأدب. لم تكن الساعة قد أشارت بعد الى الحادية عشرة ليلا حين ظهر أناس قادمون من مكان آخر. واحد منهم يدعى كورا ليرو والذي قتل غدرا في تلك الليلة، دعا الجميع الى كأس. وبالصدفة، كان لنا، هو وأنا نفس القوام. وكانت له فكرة لم يستطع أحد معر فتها. اقترب مني وراح يمطرني بالمدائح. قال لي أنه قادم من الشمال حيث سمع عني الكثير. تركته يتحدث كما يحب غير أنفي بدأت احتاط منه. كان يعب الكأس تلو الكأس ربما لكي يكتسب الشجاعة ثم انتهى بأن دعاني الى المبارزة. وعندئذ حدث ما لم يتمكن أحد من أن يفهمه في رأس هذا المستفز المعتم بالشراب، رأيت نفسي كما في مرآة وخجلت من ذلك. لم أكن خائفا. ولو أنني أحسست انني خائف، فربما خرجت للمبارزة ظللت ثابت الجأش، والآخر، الذي كان وجهه قريبا جدا من وجهي، صاح لكي يسمعه الجميع.
– هل تريد أن أقول لك شيئا؟ حسنا. انت جبان !
– ربما، قلت له، أنا أخشى أن أنعت بالجبان، وبامكانك أن تضيف أيضا أنك وصفتني بابن الكلبة واني تركتك تبصق في وجهي. هل يرضيك هذا؟
أخرجت "لا لوجونيرا" السكين الذي كنت أخفيه في حزامي. ومغتاظة حتى الجنون، وضعته في يدي وأضافت: "روزاندو اعتقد أنك بحاجة اليها". تركت السكين تسقط وخرجت دونما عجل فتح الناس أمامي وهم مذهولون. وهل يهمني ماذا كانوا يفكرون ؟
لكي أفر من هذه الحياة، ذهبت الى الأورواجوي حيث عملت سائق عربات للخيول. منذ عودتي، استقر بي الحال هنا ان "سان تاليو" كان دائما وابدا حبا هادئا.
ترجمة: حسونة المصباحي (قاص ومترجم من تونس)