رياح شنه:-(ألم تمت.. وهى ما زالت في الملك لم ت..) قالت العمة وصمتت حينا.
– (نعم, مسكينة الله يرحمها ويغفر للجميع ) أطلقت أمي كلماتها مطرقة حزنا بالأرض ودويا عانق السماء مجلجلا غياب سنين وسبات عميق وزيت أحمر لقاء فتات جسد انتشرت أشلاؤه لتطعم الجوعي والمزيد المزيد من الجوعي.. لم يكن ذلك الجسد الممتليء غريبا عني فمازالت أذكر تفاصيله.. سمراء تميل للحنطة, مرحة بلون البرتقال, كانت تقطع المسافات لتزور الاصدقاء أو لتقوم بحق من حقوق الجوار.. فلم يكن بيتنا الوحيد، هنا العديد من البيوت التي كانت تدثرها (شنه ).. نم, هذا هو اسمها.. لطالما سمعته وأحببته.
بقدمين وضحكة متكسرة, لولا تلك الضحكة لما كشفت اقنعة ولما استعيدت ذكريات.. يومها كانت صغيرة السن, لم يكن بوسعي سوى التباهي بعينين ستقرران مستقبلا.. ماذا تفعلان وماذا تكتبان.. علمت بعدها ان ذاكرتي لا تنبع من صدمة وصرخة مظلوم فقط, وانما من (شنه ) التي أحببت توددها وربت كفها على كتفي وتمسيد شعري براحتها الناعمة التي كنت اقرأ فيها اشياء غريبة كما الحلوى التي استلذ طعمها السكري المعصور بألم (شنه ).. عينان واذنان وطفلة لا تعرف من هي وماذا ستكون سوى ذاكرة اختزنت الازل ما تفتأ تنهمر بزخات مطر من عينين لامعتين.. الرائحة ايتها الجدة تمتزج بالقهوة التي تعدينها احتفاء بقدوم (شنه )..
حينما أدس جسدي الصغير بأكمله بين جدتي و(شنه ) أرقب بألم صفحة وجهها المهزوم الذي تسرقه الابتسامة ليلا ثم لا تلبث تلك الخطوط السوداء تعود من جديد، لماذا.. لماذا يا (شنه )؟ دعيها ترحل بعيدا وأطلقي لوجهك أساريره..
– (يا بنت اذهبي والعبي بعيدا)
صوت جدتي المهزوم يرتج بداخلي من جديد، يلفني بهالة من الحيرة والإصرار على معرفة (شنه ) الغريبة, ما إن اسمع الكلام الموجه لي حتى أشيح بوجهي ثانية, يحملني
فضولي على معرفة الكثير عن (شنه ) واكتشاف ذلك الوجه المنقط بالسواد والمحلى بالعرق فيصمت كل ما بداخلي ويبقى السؤال كما هو باردا وجافا قبل ان يخرج قبل ان يهز الدهليز صوت (شنه ) الدفين ويأتي الصدى ألما عميقا.. (آه ايتها الجدة الألم هنا كم هو قاس, نعم هناك تحت راحة كفك ).. احس الألم أقوى من طعنات السيف وأحد من السنان لكن حجمه صغير جدا.. ليس الألم الذي قتلها ولا اليد المعروقة التي تخفف من حدة مرضها ولكن هناك اكثر من ألم ومرض.. وكما السديم كانت تروح وتجيء، كما الاحلام التي لم تتحقق ولن تتحقق, كما الغبار الهلامي الذي تثيره عاصفة هوجاء مثل الريح لكنها ريح طيبة تدفع بغبارها للبعيد.. للبعيد الذي أدركته باكرا..
اليوم لم يمر الغبار أمام بيتنا.. منذ سنين لم يمر.. لم تعد هناك (شنه ) الوحيدة التي كنت احب.. أكملت أمي قصتها للعمة (هل تذكرين؟ كانت تقطع المسافات وتعد الخطوات لتصل الينا)، غير ان خيطا من بعيد طوق الجيد المركوز وريحا طيبة عانقت حبات الرمل في حضن أبدي، تذكرت انه لم تكن (شنه ) الوحيدة ولسنا الوحيدين.. هنالك الكثيرون والكثيرون.
من منا لا يبعد…
هي.. جميلة وجذابة
وأنا.. المتيم من بعيد
هي.. منطوية بعيدة كالقمر في ليل اكتماله..
انها تجئ وتروح وحيدة.. تجلس في مكانها المعتاد النائي عن وطأة القدر، كعادتها بصمتها وكتابها الوحيد الذي ألفته قبل كل شيء، كل شيء لديها غدا مألوفا عندي.. قهرتها السادة التي تحتسيها بذوق رفيع بشفتين مكتنزتين وصغيرتين جدا، شعرها المسدل على كتفيها، رائحتها الملتصقة بعطر الورد، هيئتها التي تخبر عن كبريائها، قبعتها التي تظهر نصف وجهها، ساقاها الناعمتان, كم اشتهي ذلك الجمال الرابض بعيدا فوق تل رأسي، كم أشتهيه, كم تمنيت ان احنو على أناملها الطرية بكفي الدافئ واحتضنها ابدا.
سمعت عنها الكثير، الجميع يقول انها غريبة عن المدينة بعيدة ربما من المنفى وربما من نساء الجن, خرجت لاغوائي وربما الجنة وقد تكون النار والجنة معا وربما غريبة الجسد ولماذا؟
لا شيء، المضحك أني أهذي بنفسي ومع نفسي، صمتها الملتصق بجلستها يحيرني.. يجبرني على كسره وكأنه يناديني من بعيد يقول هازئا بي.. اقترب تعال اقعد بجانبي، دعنا نتحدث ببعض حروف مخنوقة, دعنا نشعل الفضاء نارا بحب أزلي.. لن تخسر شيئا، أخاف, نعم أخاف من كبريائها وصمتها كصخر يصعب تفتيته وكم أخشي على نفسي الغرق أكثر في صومعة حبها.. سمعت الكثير عنها وسمعت الجميع.. البعض يقول أنها أرملة, مطلقة, وحيدة في المدينة بعيدة عن الناس غريبة الأطوار سادية المشاعر… و.. ولماذا؟ ولماذا يا انت؟ قل انفجر اصرخ بملء فيك بعالم الرذيلة.. بأن الجميع.. البعض يقول انها مومس في ثياب ملاك.. عهر على صحن العفة.
– ماذا تقول يا أنت.. يا..؟
وماذا يقول الجميع.. البعض.. هاه.. ماذا يقول؟
لم أصدق الجميع ولم أصدق, فصدقت نفسي وأحلامي، تبعتها وحلمت بها وطاردتها في أحلامي كأجمل طريدة..
مشيت خلفها كطفل يحن لأمه, وتبعت ظلها الذي أخيرا كشف قوامها تبعت ساقيها النحيلتين بشبق.. قلت لها..
– أحبك و…
– تحبني.. لماذا تحبني؟
– لا لشيء ولكن أحبك أشتهيك اشتهي أن أقبل الفم
– ولكن مثلك لا يلفظ بكذا اغراء شهي
– ايتها الحمقاء.. أحبك وهذا يكفي..
– كنت قد تبعتها يا أنت.. يا أنا في أحلامك, في أحلامي بشيء من الحوار اللذيذ، انها تسكن بعيدا عن فوضى المدينة وشارعها.
قلت لك.. يا أنا لن ابرح مكاني حتى أعرفك وأعرف نفسي
قلت لك.. يا أنا لن ابرح مكاني حتى أعرفك وأعرف نفسي مني.. بعد أن نام الشارع بهدوء والتحف بالسواد الا من ثمالة الحانة وحفيف اقدامهم الناعسة كان على وشك ايقاظ الليل من رقاده, جفناي الكسولان يطبقان على عيني، لكنك يا أنا مازلت تقاوم الرقاد، قلت في نفسك.. ان القمر الليلة يرقد وحده.. لابد من فعل شيء.. لابد من بعث شيطاني..
سيدة القلب المسكين لا تبرح منزلها، تخرج أفواج رجولية, تفقد توازنها، صخب يسكن البيت ولغط في الشارع, الجميع كان يقول يا أنت.. لم أصدق عيني الذابلتين, فركتهما بقوة فأعدت لهما الحياة.
نعم.. هي بعينها سيدة القلب العفيفة, هي بسحرها الشيطاني، انها حبيبتك يا أنا وعشيقتك التي خلتها عفيفة, كذبت أنت عينيك وصدقت أنا نفسي، كلانا كذب العيون وكشف القناع.
كذبت عيني وصدقت نفسي، كذبت نفسي وصدقت عيني، لا اعرف تماما. افقت من هذيانك يا أنت يا أنا واستيقظت أحلامي مني هاربة, فزعة من رقادي الابدي.. أحلامي سمعت عنها الكثير.. تلحظها تجيء وتروح, وحيدة تؤنس الشارع بوحدتها، تضاجع الجميع, البعض, تنير ليل الطريق بنورها، لكنها الآن لم تعد تأتي ولا تروح, فقد عرفت اني سمعت عنها الكثير وعرفت شيطانها، شيطانها من يهبها الحياة.. الجميع, البعض يعبد الشيطان وأنا أعبد ملاكي الشيطاني الذي مازلت أشتهيه.