في مجموعته الرابعة «كُمُستير» (وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، 2015)، يواصل القاص الأردني جعفر العقيلي تجربته السردية التي بدأ إصداراته فيها بـ «ضيوف ثقال الظل» (2002)، والقائمة على إعادة رسم أحداث مفترضة تروم إلى ما يمكن عدُّه الجمع بين متعة التلقي وتحريض الفكر.
ولذا لا يتخلى العقيلي عن فكرة جمال النص ومتعته، في الوقت الذي يقبض فيه أيضاً على جمر الفكرة وقوتها؛ إذ كيف يمكن أن تصل رسالة النص ما لم يكن هذا النص متوافراً على التشويق الذي يحث القارئ على متابعة أحداثه، وإعادة قراءته، وعدم نسيانه؟ وكيف يمكن للقاص الجمع بين سلاسة السرد وحيويته، وقوة اللغة وحضورها، وجماليات الحدث ومفارقاته ليخرج في النهاية بنص يُعَدّ «بصمة» لكاتبه؟
بهذا الوعي يمكن قراءة مجموعة «كُمُستير» التي توحي بدهشة توازي فعل اللعبة نفسها، وهي كما يعرّفها الكاتب: «لعبة شعبية يمارسها الأطفال، يغمض فيها أحدهم عينيه بينما يختبئ البقية في محيطه. ثم يفتح عينيه ويبدأ البحث عنهم، فإذا ما عرف موقعَ أحدهم، لمسه بكفه وهو يقول: (كُمُستير). ثم يكون على الطفل (المقبوض عليه) إغماض عينيه لتبدأ اللعبة من جديد».
يعيش قارئ قصص المجموعة في أجواء من التلقي تشبه متعة هذه اللعبة (الكُمُستير)، ففكرة النص لدى العقيلي تتهادى بخفاء وراء اللغة المكثفة والمقتصدة، وتقود إلى الكشف عنها أحداث جداً بسيطة ومقدمات تبدو للوهلة الأولى عادية ومنطقية، لكنها سرعان ما تتكشف عن نهايات غير متوقَّعة.. وللقبض على الفكرة المختبئة لا بد من البحث في ثنايا النص وإعادة القراءة وتقمص حالة البطل الشعورية وحركته في المكان والزمان. وللفكرة هنا أيضاً وجوه عدة تنفتح على دلالات كثيرة وتقبل التأويل وتعدد القراءات.
والقصة لدى العقيلي تستحضر اللقطة المشهدية بعنفوانها وحيويتها، وتحرص على الإبقاء عليها في أوج التأجج، وتحرص على أن يظل هذا التوهج حتى بعد الانتهاء من قراءة القصة التي تختتم بنهاية تعتمد على لذة الاكتشاف، وتثير الأسئلة وتحرض التفكير والشعور تاركة للمتلقي فضاء خاصاً يمارس فيه تفاعله مع النص وفقاً لما يرى.
ويمكن التدليل بعدد من النهايات التي انفتحت عليها القصص، ففي «تصفية حساب» يقابل الكاتب بطل قصته في ليلة غرائبية، ولا ينتهي اللقاء وفقاً لنهاية القصة حتى بعد مغادرة البطل وإدارة ظهره للكاتب الذي يتشبث بأوراقه خشية أن يعود هذا البطل ويسلبه ما بقي لديه من أوراق وكلمات: «بذلتُ جهداً لأتماهى معي مبتلعاً لساني. انتبهتُ إلى أنه (وضعَ يدَه) على الأوراق. كانت مُعَدَّةً ليحملها بيمينه. توقّعتُ ما يهجسُ به وحدستُ بما هو مُقْدِمٌ عليه. نهضَ بتمهُّلِ مَن لا يستعجل شيئاً. أخرجَ من معطفه ورقتَين، ألقاهما نحوي فاستقرتا على الطاولة. اجتازَ البابَ الذي كان ما يزال مفتوحاً. رعشةُ بردٍ أصابتني فيما اندغمَ في ظلمة الخارج، وحين تيقّنتُ أنه غادرَ فضائي، استعدتُ (مكاني) الذي استباحه، وتشبّثتُ به مستسلماً لغوايةِ الكتابة. وفي الأثناء كان قلقٌ يساورني من أن يعودَ ويسلِبَني ما تبقّى لديّ من ورقٍ وكلمات!)».
وفي «وجه وأقنعة» يقود الفضولُ البطلَ ليعرف سر الغرفة «المسكونة»، وبعد سلسلة من المغامرات يكتشف السرَّ الذي يحتفظ به لنفسه، ففي هذه الصناديق من الحقائق ما يزيل الأقنعة عن الوجوه فتبدو مكشوفة تفوح منها رائحة نتنة، ولذا تعتزم البلدية هدم الغرفة: «اليوم صباحاً، كان رجالُ (البلدية) يهدمون الغرفة العتيقة بِهمّةِ مَن لا يكترث بالعواقب. ركضتُ نحوهم متسائلاً عن السبب، فأخبروني أن الأمر يتعلّق بالبيئة، إذ تفوح من الغرفة روائح (نتنة) أعْيَتْهُم محاولات القضاء عليها. ندت عنّي ابتسامةٌ بينما كنتُ في سرّي أحمدُ ربّي أنْ لم يرافقني أحدٌ في مغامرتي.. لَكانَ اكتشفني على (حقيقتي)؛ تلك التي لا يعرفُها سواي!».
وكذلك في قصة «مسافة كافية» التي تتناول هواجس رجل متزوج تتقاذفه الأفكار، حيث يقرر أن يبوح للمرأة بما في ذهنه، لكنه يتراجع، ثم يقرر أن يكتب لها لكنه يمحو ما كتب لتكون النهاية بأن يلجأ إلى أوراقه حيث تتقدم المرأة في مواجهة الحدث ويتوارى هو/ الكاتب/ البطل في الخلفية: «ظهيرةَ اليوم التالي، أرسل لها نَصَّهُ على بريدها الإلكتروني، طالباً منها قراءته بوصفها صديقة. وعلى فوره، فتح ملفاً جديداً في حاسوبه، وبدأ يملأ البياضَ بقصةٍ أخرى من بطولتها، فيما أراد لحضورِه أن يتوارى، على نقيضِ ما كانَ في خُطاطتِه أمس!».
ومثلها قصة «لقاء وحيد» التي تبدأ بعلاقة بين رجل وامرأة من خلف حواجز النوافذ والستائر، وحين تبلغ أوجها يتفق الاثنان بالإشارة على اللقاء الذي ينتهي بالخيبة، وينفتح على بحث جديد لكلٍّ منهما عن نصفه الآخر. وتنطوي القصة على جانب فلسفي عميق، إذ الحلم الذي يتمناه الإنسان ويسعى وراءه مقنعاً نفسه بحقيقته، هو في الواقع غير متحقق: «خلع منديل النادل وقرر أن يمنح نفسه ساعةً بوصفه أحد الزبائن. سار نحو الطاولة الموصوفة التي لم يكن قد انتبه إليها أو إلى من يَشغلها من قبل، وحينما قصرت المسافة بينهما، أدركتْ أنه أصغر بكثير مما توقّعتْ، وبدا له أنها تكبره بما يكفي ليتوقف عند هذا الحد! أدار ظهره وعاد ليرتدي منديله ويحتمي بوحدته، في حين غادرت هي المقهى على عجل، مقررة أن تبحث لها عن مقهى جديدة تليق بوحدتها التي لا تجيد سواها!».
يلجأ الكاتب إلى التركيز والتكثيف بحيث يختلّ النص إذا ما أُزيحت مفردة من مكانها، مع حفاظه على تطعيم النص بمفردات فصيحة لها حضور في الحياة اليومية وفي اللغة المحكية تأكيداً منه على جانب المتعة ولذة التلقي التي تقترب من القارئ العادي وتلامس واقعه.
كذلك، يقارب القاص مواضيع تتعلق بالهم الإنساني المستمد من واقع الناس وحياتهم اليومية، سواء أكانت هذه الهموم نفسية أم معيشية أم سياسية، لا بنقل الواقع كما هو وإنما نقله بموازاة التخييل، وجماليات اللغة، وطرافة الحدث والاصطدام معه بما يحقق الدهشة التي تجعل من القصة حقلاً للأفكار العميقة والدلالات الفنية والجمالية.
هنا تحضر مثلاً قصة «تنازلات»، حيث تقود توقعاتُ قارئ الأبراج «عبود» إحداثياتِ يوم البطل إلى ما لا تحمد عقباه، والتوقعات ما كان لها أن تأخذ البطل في اتجاه «التنازل» والمشي «الحيط الحيط» لولا أن البطل انساق وراءها نفسياً مقنعاً نفسه بصحتها: «ما دام الأمرُ يسير على هذا النحو، قرر (هادي) أن يتجنب كل ما يثير الأعصاب خلال يومه. فلا يريد أن ترافقه الكآبةُ في العمل، ولا أن يصطحبها إلى البيت عند عودته، ذلك أنّ (اللّي فيه مكَفّيه) كما يقال في العادة، فكيف وزوجته متبرّمة من الدرجة الأولى، وأبناؤه (كثيرو غَلَبة) من طرازٍ رفيع!
هذا ما دفعه إلى عدم خوض نقاش حدّي مع زملائه خلال الاجتماع الذي انعقد فعلاً، رغم ما ذهب إليه بعضهم من اقتراحاتٍ لم تلقَ إعجابه بشأن تطوير العمل. وقد غالبَ الكلام غيرَ مرة وبلَعَهُ غيرَ نادمٍ ليحبط ما خطّط له (عبّود)».
إن المرجع النفسي للبطل هو الذي قاده إلى التورط في سلسلة التنازلات، وهو أيضاً ما أوحى بالمضمرات النصية والدلالية واللغوية أيضاً التي حملت في طياتها ورموزها رسالة أيديولوجية أثارتها عبارات من مثل: «إلا إذا مشوا الحيط الحيط» و«قالوا يا ربي الستر»، و«كل تأخيرة فيها خيرة»، لتكون وسيلة فنية وجمالية تكشف وجهات النظر المختلفة للعالم، وتعبّر عن جدلية الاختلاف والتناقض والتعددية السياسية والإيديولوجية.
يتحصّن البطل من سوء يومه باتباعه المجاراة وتقديم التنازلات، لكن هذا لا يجدي نفعاً لتنتهي القصة بأن يغلق البطل الباب على نفسه ويجهش بالبكاء، التعبير الأبلغ عن الإحساس بالضيق والخسارة وربما أيضاً الهزيمة، وهنا يبدو أن ما تنبأ به قارئ الأبراج «عبود» لم يكن سوى «القشة التي قصمت ظهر البعير» كما يقال: «خرج (هادي) من الحمّام مغتاظاً، وقد أدرك أن (تقْيَتَهُ) والحيطان التي سايرها (طلباً للستر)، لم تخلّصه من براثن ما توقّعه (عبّود) له صباحاً.. فما كان أمامه سوى أن يقفل باب غرفة النوم على نفسه ويلقي رأسه بين كفّيه قبل أن يجهش في بكاء طويل».
تقوم القصة كما هي حال بقية قصص العقيلي على صراع ينتفي في دوامته فعل الانسجام والتصالح، وهو ما يعني ظهور العديد من الأصوات داخل القصة (صوت الراوي، صوت البطل، وصوت المونولوج والديالوج..)، وجميعها تتداخل في النص لتعبّر عن الفكرة بألمعية، فإذا كانت القصة في الأساس تقوم على تعدد الأصوات فإنها بالمجمل والعام ترفض الصوت الواحد مهما كان شكله ومهما تعددت غاياته.
وثمة في هذه المجموعة اشتغالٌ متأنٍّ على فكرة الزمن، حيث هناك أزمانٌ عدة تتداخل في القصة الواحدة: زمن ماضٍ يتعلق بأحداث القصة، وزمن حاضر يتجلى في كتابة القاص لقصته (زمن الكتابة)، وزمن مستقبلي (زمن التلقي) يَظهر أيضاً في نهايات القصص المفتوحة.. وما بين هذه الأزمنة المتعددة ظاهرياً ونفسياً أيضاً، تتبلور العملية الأدبية، وتتشكل المضمرات النصية، وبالتالي يترك باب التأويل موارباً.
مثال ذلك القصة ذات السرد المركّب التي تتحدث عن كاتبٍ يلتقي ببطل روايته، فالأحداث تجري في الماضي حيث بطل القصة/ الراوي –وهو كاتب أيضاً- يسرد وقائع اللقاء وتفاصيله، بينما يبدأ زمن الكتابة منذ دخول بطله/ بطل الرواية ومواجهته له، ويستمر الزمن مستقبلياً عندما يخرج بطلُ الرواية ويلملم كاتبُها/ بطلُ القصة أوراقَه وكلماته ليبدأ فعل الكتابة من جديد.
وإلى جانب الزمن، يسهم المكان في رسم رؤية القاص لمحيطه وموقفه من الإنسان بعامة، إذ يلتقط العقيلي مؤثثات المكان بشكل مدروس وكأنما هو يستعين بعين مصوِّر؛ يتموضع في زاوية من الرؤيا ويحدد مقصديته، ثم يبدأ تصويرها، ولعل هذا الأمر، أي تموضع الكاتب وراء الكاميرا، هو ما منح شخصيات القصص حرية الحركة والتفكير، بعيداً عن توجيه الكاتب أو فرض سيطرته عليها، وهو ما أتاح للمتلقي حرية التفكير وافتراض سياقات جديدة للأحداث.
هذا الوعي لدى قاص متمرس كالعقيلي، هو ما حقّق تقارباً بين المتلقي وما يطلَق عليه «النص المتخيَّل»؛ حيث الإيهام بحقيقة أحداث غير حقيقية، ودفع القارئ للتفاعل معها وتقبّلها كما لو أنها وقائع فعلية وملموسة، وإثارة فضوله وزجّه في معترك الخيال الذي يحتاج إلى التحليل والتأويل وملء الفراغات البيضاء.
قصص العقيلي تبرز هنا كنصوص «ماكرة» و«حاذقة» تحفز المتلقي على قراءتها بالمكر نفسه، وفضّ بكارة رموزها للوصول إلى الرسالة المبطنة في الداخل.
هيا صالح