في غياهب سكون السجن المنسي على ضفة النهر المهمل انبعث صوت مدر كأنه بركان، انفض المساجين من نومهم في ساعة الليل الثالثة، اصابهم الذعر وهم يفركون عيونهم ويهرعون الى مصدر الصوت الذي لم يكن غريبا على أسماعهم: النجدة .. النجدة .. انقذوني. الصوت يتعال ويتحشرج، يخفت ويعود الى الاصطراخ، ولما اهتدوا اليه رأوا الخفير الذي تبدأ نوبته من الثانية الى الرابعة صباحا وهو بكامل الثياب الميدانية ولكن سرواله كان قد حل عنه ويكاد يلتصق بالباب الفاصل بين مهجعي النساء والرجال، فاناروا كل الاضواء وهم يحدقون به واقفا يصرخ ويتألم، ومن مهجع النساء ارتفعت الاصوات وتداخلت: حزنية اتركيه .. يكفي يا قوادة وجاء صوت آخر: لا تتركيه.. اقطعيه يا حبيبتي لتكوني بطلة .
صرخ رجل من سجن الرجال: سيموت ان لم تتركيه يا حزنية (دون ان يعرف من هي حزنية) اجاب صوت انثوي: لكن ليمت انه قواد.. سافل .
وعند ذاك اقترب المساجين كلهم من الخفير وهم ينظرون الى عضوه الداخل في، موضع القفل المخلوع .
فقال احد المساجين: انه يقوم بالمهمة نيابة عنا جميعا.
واختطف آخر القفل من جيب الخفير ورماه لغيره وهكذا اصبح كل واحد يقذفه للآخر حتى اصبحوا يتقاذفون القفل المخلوع باقدامهم ككرة قدم، والتموا مرة أخرى حول الخفير الذي يتعال صراخه فحمل احدهم السوط الذي كان بجانبه وبدأ ينهال عليه بالضرب حتى جاء صوت أنثوي من الطرف الآخر: يكفي يا حزنية لقد وصل لحقه القواد.
فرد صوت رجولي: لا لا لا تتركيه يا حزنية عضية جيدا لا يفلت من اسنانك .
وفجأة صمت الخفير في شبه اغاءة وهو يقبض بيديه مسكتي الباب الحديدي الضخم، عندها تعالت الصيحات من المهجعين، صيحات مئتي رجل وثلاثين امرأة تطلب النجدة من الخارج، بعد قليل دخل كل العناصر وانقسموا الى قسمين في المهجعين ولكن حزنية بقيت على عنادها حتى هددها احد العناصر بوضع بوز مسدسه في صدغها واطلاق الرصاص عليها، وفشلت كل المحاولات . وكلما يجرجرونها من شعرها يزداد الخفير صراخا فيتركونها، واضطر الجميع للانتظار حتى الصباح عندئذ تم ابلاغ الجهات المسؤولة بهذه المشكلة، فحضر الكبار وتدخلوا بأنفسهم ولم ينجحوا في إيجاد حل سلمي لهذا الحادث الغريب من نوعه في سجنهم، وتخيل الرجل الكبير ان الحادث سيكبر وسيأخذ ابعاده عندما يخرج من دائرته او تسمع به الصحف وفكر بمئات الحلول لكن عناد حزنية يبعد كل الاحتمالات، فكان هذا الرجل الكبير يخرج من مهجع النساء ليدخل مهجع الرجال ليرى حال الخفير الذي بقي بنصف روح ثم يعود الى حزنية ويعرض عليها المغريات: يا حزنية اقسم بانني سأخلي سبيلك دون أي سؤال فور تركه.. سأجد لك عملا.. سأساعدك بكل امكاناتي.. اتركيه يا حزنية بلا فضائح . وتذكرت حزنية يوم تعرفها بالخفير عند دخولها السجن، كانت حزنية تعمل في محل لبيع الالبسة واستطاع صاحب المحل رغم زواجه من امرأتين ان يغريها لتسلم نفسها له ورضيت حزنية ان تتزوجه، لكنها فوجئت به يقول: لكم واحد اعطيت نفسك قبلي ياحزنية .. لو كنت نظيفة لما اعطيت نفسك لأحد.. لا اسمح لك ان تهينيني وتتخيليني زوجك،. وعندها طعنته بالمقص .. جاء هذا الخفير ليعرض عليها عرضه: يا حزنية انت محكوم عليك
بسنتين وعندما تخرجين لن يسكت اهلك على العار ما رأيك بمبلغ جيد يمكنك من السفر الى الخارج فور خروجك من السجن، كثيرات عملن معيىوخرجن ثريات نحن يا حزنية سنعمل بسرية، يدخل الينا المساجين الجدد الاثرياء انا سأصطادهم من مهجع الرجال عند حراستي وافك قفل الباب الدائري ستلتصقين يا حزنية بالثقب وتستقبلين الاعضاء الجدد سيبدأ .عملنا بعد منتصف الليل وستتناولين هذه الاقراص المانعة لتجنب الحمل لن يراك احد يا حزنية ولن تري، احدا سيحدث كل شي ء بخفية تامة ستقبضين حقوقك كل ليلة سيكون النصف لك والنصف لي .
ووافقت حزنية بعد تردد دام شهرين وفكرت بالخروج من السجن والسفر الى اماكن بعيدة، بعد سنة ونصف من عملها جاء الخفير وقال بانها مهددة بسرقة أموالها من السجينات ولديه اقتراح يحفظ لها أموالها لحين الخروج وقال بانه سيودع هذه النقود في المصرف باسمها ويعطيها اشعار الايداع .اقتنعت حزنية بهذه الفكرة وفي ظهيرة اليوم التالي ناولته حقيبة خرزية كبيرة بيدين راجفتين وهي تقول له: انت الشاهد الوحيد، كل ذاك العدد الضخم من الرجال، لم ار وجه احد ولم ير احد وجهي.. انت الشاهد الوحيد على كل ذاك النزيف الداخلي الذي اصبتني به، والأن انتهى كل شيء، تلك عصارة سنة ونصف من العمر انها ثقيلة كضياعي.. ونظرت الى الحقيبة بيدي الخفير وهي تقول: خرزتها خرزة خرزة كنت اظن بانني سأضع فيها بقايا ثيابي واحتفظ بها ذكرى أبدية، ها هي تخرج حاملة كل ذاك النزيف، ومرة أخرى اشارت الى الحروف التي خرزتها: "ما يزال المطر يسقط في حقل الدم حيث الاماني البسيطة تلد لايزال الدم يسقط من خاصرة مجرحة لانسان معذب يحمل في قلبه الجراح كلها.. جراح الضوء الذي يتلاشى.. الشرارة الاخيرة الباهتة .. ما أزال أسكب دمي".
لقد توارى الخفير عشرة أيام كاملة ومن ثم ظهر في آخر الليل ليقول بأن الحقيبة ضاعت بما فيها وهذا هو سبب غيابه . كانت حزنية تنفجر كقنبلة لكنها استطاعت ان تضبط
انفجارها وتظهر للخفير بأنها غير أبهة فقالت: هذا لا يهم مادمنا نستطيع ان نواصل عملنا.
وقال الخفير: صحيح النزلا؟ يدفعون ما نريد.
في الليلة الثانية وقف الخفير ومعه سجين جديد بالقرب من الباب بعد ان اطفأ الاضواء العالية واصدر الاشارة التي ستجلب حزنية، وبعد لحظات جاء هتافها من خلف الباب: الليلة اريدك اولا.
فأشار الخفير للسجين ان يذهب وينتظر على سريره الى ان يأتيه، وعند ذاك امتدت يد الخفير الى ازرار بنطاله وما ان اخترق عضوه الثقب الدائري ختى انفجر منه صراخ مرعب كبركان .
ضغطت بكل قواها. اندفع ما تبقى من صوت من حنجرة الخفير وسقط على ظهره في الطرف الأخر وانتفضت حزنية بشراسة تركض الى ساحة السجن الضخمة والعضو في فمها تركض وتلاحقها القامات تركض وتتخيل نفسها قطة وانهم كلاب.
عبدالباقي يوسف(قاص من سوريا)