في وقت الغروب، يدخل صناديق الفاكهة والخضرة والزعتر والهيل والعدس، يغلق باب دكانه الخشبي ويقيده بقفل كبير، هذه الليلة انتابه هاجس من نوع غريب فهو لا يريد ان يذهب لصلاة المغرب في المسجد ولا يريد ان يرجع الى البيت كي يتناول عشاءه ويسمع أحاديث زوجته وأولاده، ينتابه قلق وحرقة في الفؤاد، يحاول ان يعرف سببهما فيفشل، لن يضع مفتاح الدكان في حزام خصره بل سيخبئه – هذه المرة – تحت صخرة صغيرة امام الدكان .
يتوغل داخل السوق كأنما يبحث عن شيء، يسعل ويتذكر المئات من نوبات السعال التي رافقته طوال حياته، يحك صلعته من تحت العمامة البيضاء ثم ينتقل للحيته يمسدها. يحشر جسده في زحام السوق مارا بأرقته الملتوية المظلمة، يحص عدد المجانين الذين يردهم كل يوم ويلقي نظرة على آخرين يستعدون للنوم على الارصفة امام محلات سوف تغلق بعد قليل، يلقي نظرة عجلى ناحية ارض خاوية كان عليها مستشفى (الرحمة) فتنفرط منه دمعة، اصوات الباعة تتباطأ في الدخول الى أذنيه، أنفاسه كسولة، روائح السوق منعشة، لكنه يشم سقف السوق سماء غائمة معلق عليه قمر صغير، تتراءى له أجنحة تطير من بين الزحام، تأسر قلبه يركض كي يلحق بها ويلامسها، لكن التعب يطعن قدميه وقلبه، يجلس، يمد قدميه، يمسد عليهما بتأن ويراقب طيورا تحوم حول قمة برج السوق .
يقف على قدميه من جديد ويتجه ناحية باب البرج،. يناشد قدميه ان تسرعا والاتخذلاه في الوصول . تركلان حجرا وزجاجة لم تكن فارغة لتوقظ قطا نائما، قلبه يخفق، قدماه تمشيان باتجاه الهواء البارد والغيم، أنفاسه كسولة وحارقة، القدمان تتعثران وتسقطان في بركة وحل صغيرة كونها المطر، لكنهما تتحديان السقوط، ترفسان الوحل فيتطاير خائبا.
يعاود المشي فتقطع أحدى نعليه، ينظر فيها بحسرة وحزن، لكن رغم ذلك قدماه تتشبثان بالنعلين جيدا حتى لا تنفرطا. أخيرا تتسلقان السلم المؤدي لقمة البرج، هاجس الوصول يزداد لديه، فقدماه هما السبيل للوصول وتحملان جسده الى أعلى كي يلتقي ربما بالطيور او الاجنحة بعد كل هذه السنين، خطواته صعبة وثقيلة، درجة وراء درجة، القدمان صارتا تنزفان عرقا، النعلان يسقطان الى اسفل السلم، قدماه اصبحتا عاريتين، منتفختين، مشربتين بحمرة قانية، إلا انهما تنجحان في الوصول الى قمة البرج، عندئذ تنتهي مهمتهما الشاقة يمددهما على ارضية البرج كمكافأة لهما على انجاز
مهمتهما، ثم سرعان ما خارتا في نوم عميق .
عيناه تحومان ناحية سماء مظلمة انطفأ قمرها بسبب غيمة وسوق اصبح نقطة هلامية من فوق البرج، يسمع صراخا حادا في السماء ويتلقى بعده سقوط مطر كثيف، يفتش عن شيء، يشعر براحة، ويشعر بحزن، العالم من حوله مضبب منذ زمن بعيد، لا يفهمه، بشر كثيرون، قرب دماء، انفاس تتصادم . يحاول ان يقوم، تخونه قدماه .
يزداد صراخ السماء، يزداد علو البرج، يزداد تضاؤل البشر والسوق، وبعد ساعات حضرت شمس الصباح ساخطة، شربت بقايا المطر، غربان كثيرة تحوم حول قمة البرج، بينما المفتاح هذه المرة مخبأ تحت صخرة، والقفل كبير صامد يقيد الباب .
يحيى بن سلام المنذري(قاص من سلطنة عمان)