«ونحن دومًا نكون مفتونين بالفضاء اللامُتناهي بما لا يُحصى من النجوم والمجرّات .. نحن نعرف أن هناك حدًا لنا، وهو حدٌّ مُذِل ومثبّط للهمّة يُدعى الموت. لهذا السبب نحن نميل إلى كل الأشياء التي نفترض أنها بلا حدود؛ وبالتالي لا نهاية لها، إنها وسيلةٌ للإفلات من التّفكير في الموت».
«أمبرتو إيكو»
حين تمرّ الطائرات بمطبّات هوائيّة وعِرة بدرجات متفاوتة، تصلُ أحيانا حدّ اضطراب حركة سيرها الاعتيادي أيّما اضطرابٍ واهتزاز يبعث على الهلع يصل بالبعض إلى هستيريا الصّراخ والانهيار، خاصةً فوق المحيطات الشاسِعة أو بعض مناطقها، وفي أماكن خارج المياه، على اليابسة، يعرفها الملاحون جيّدًا.. أستحضرُ من مطالع القرن العشرين (سانت إكزوبيري) وهو يقودُ طائرته في ذلك الزّمان، قبل هذا التقدُّم التكنولوجيّ المُذهِل، في ظلُمات الجبال والبحار والصحارى، في أكثر من قارّة، يسبحُ في مُعترَك الجهات والغموض والهوامّ والمجهول، حتى غرق في خضمّاتها وغيوبها في نهاية مطافات مغامراته الفضائيّة والوجوديّة المبكّرة، لكن البالغة الكثافة والثراء حين أنتج تلك الكتب المُفعَمة بالحسّ الجماليّ والإنسانيّ، حتّى وهو يتحدّث عن أقسى التجارب التي مرّ بها مع بعض أقرانه، مرارةً وارتطامًا، أتذكّر وتحتشدُ الهواجسُ والمشاهدات؛ بينما الطائرة تتأرجح مثل حشرةٍ عمياء في ذلك الفضاء المتموِّج بالخيالات الجهنميّة والأبالسة، وينفتح المشهد بكل أطرافه إلى أقصاه، رعبًا وتوهّماتٍ لا قرارَ لها ولا سقفَ، بينما الأولاد بجانبي والكراسي تنطح بعضها، والرؤوسُ تتطاير وسط عواصفَ من غبارِ المجرّات البعيد، نسترقُ النظر إلى أسفل، لنرى -أو نتخيّل أننا نرى- أضواءَ مُدنٍ وبلداتٍ تتأرجح هي الأخرى بين الانطفاء الكامل والبزوغ الضّعيف وسط أمواجِ السَّديم للخليقة الأولى.
الأولادُ كأنّما يلعبون الغُمّيضة، غير آبهين للخطر المُدلهمِّ والمضخّم ربّما من مخيّلةٍ أدمنت المشاهدات البصريّة المُخيفة في أبعادها الفنطازيّة والواقعيّة في عالم مليءٍ بالمذابح والحروب الضَّارِية. الأولادُ يرسمون بالتّوازي أشكالًا خُرافيّةً، على شاشة (اللاب توب) ويتصايحون بالضّحك والسّخريّة، من تلك الشّخوص والمصائر والأشكال. الطفولة تواجهُ الأخطارَ بأسلحتِها الخفيّة واللامبالاة الأكثر مِضاءً من أسلحة الكبار والأذكياء حدَّ العبقريّة والتّدمير.
تحشُد الطفولةُ أدواتِ المواجهة وقدراتِها واحتياطيَّها وفق المنطق العسكري للكبارِ، برهة المواجهة للخطر والصراع المرير مع قدرِ المصير المُحْدِق.
كيف لا نعود في هذا السياق إلى (سانت إكزوبيري) وقصّته (الأمير الصغير) حين سقطت طائرته في الصحراء المغربيّة، كيف ابتكر تلك الشخصية التي لا تنضب ينابيعُ ثرائِها الروحيِّ وأخيلَتها الوجدانيّة المُرهفة بالعُمق والطّرافة وما يفوقُ الوصف، لتلك الشخصية (الطفل) الخالدة لأجيال من القرّاء والقراءات العالية القيمةِ والمعيار… التي ستكون (الشخصيّة، الرواية) بمثابة إنقاذٍ من الهلاك الحتميّ وانبلاج خلاصٍ يتجاوزُ التجربة الشخصية إلى أفق الكون والوجود.
مثل الطفولة هناك الأنوثة (كل ما لا يؤنث لا يعول عليه) وفق مقولة مُتداولة لشيخ الفلاسفة المتصوف الأكبر، وهي كذلك فعلًا وقولًا، واقعًا باذخًا ونظرًا رهيفًا يختزلُ من الحنانِ والرقّة، وكذلك الشَّراسة والوحشيّة في مواقف ومخاطباتٍ، تسترقُ النظر، وسطَ عواء ذئاب الخطر المُحدقة، وترنّح الفضاء والسماوات العُلا، إلى المضيفات، خاصة الاثنتين الفائضتيْ الحُسن والأنوثة الطّاغية التي تكادُ تُنسيك المصيرَ المَاثل الحصار والاقتراب. يتحركن بين الجلوس القسْريّ والقيام لمتطلبات الوظيفة والعون والدَّعم الإنسانيّ المُباشر، وذلك الخفيّ الأكثر أهميّة وحسمًا، سلاح الأنوثةِ الرّاشح بنور الأمل والحياة، بمثابة إنقاذ من هذا المأزق الذي نحاول أن نراه، في مراياها ونورها الخاطف وسط البروق والرُّعود التي تزيد المشهد قتامةً وبؤسًا، نراه عابرًا واختبارًا مهما بلغت سوداويته، سيبتعد وتحلّ محلّه الذكرى والحكاية والكلمات. تنظر وتحدّق، كأنك في نُزهة سياحيّة، على شاطئ جزيرة بعيدةٍ عن صخب البشر وضجيجِ حياتهم، سريان ذلك السّحر البارق بين الفخذين، والصدر والمؤخرة، ذلك الغنج الذي يتلوّى من لذةٍ وألم، على السرير في خميلة الشجر والنّور الخَافت الذي يتسلّل من ضوء نهار يُوشِك على الرّحيل والغروب، كما يتسلل من الروح المنتشي والسماء الحانية.
للأنوثة أسلحتُها، الأنوثة الشاعرة، في مواجهة شَرَك المصائرِ وتجاوزها، أو النقيض في صُنع أشراكِها بغيةَ إيقاعِ الهلاك والخَراب. الجمالُ يقدِّم ألطافَه وهداياه، في ظهيرة القائلة، أو في دسائس الليل وعتماته المُفترِسة، بلباسِ الرِقّة والفِتنة والغواية الأزليّة.
مرةً كنتُ قادمًا من إحدى المُدُن الشَّهيرة، عائدًا إلى مكان الإقامةِ المُؤقّت؛ إذ ليستْ هُناك إقامةٌ دائمةٌ إلا في ذلك المُستَقرِّ الغيبيّ الذي لا ريب في حتميّةِ قدومِهِ عاجلًا وسريعًا أو أقل عَجلةً واستعجالًا.
بعد طقوسِ المطار وإجراءاته البوليسيّة والتفتيشيّة على جاري العادة في كل مطارات العالم وموانِئهِ، بدرجاتٍ مُختلفةٍ في الشدّة أو التّسامح البالغِ النِسبيّة، والذي صار شبهَ معدوم، بعد هيمنةِ أسطورة الإرهاب على العالم وسُوقت في الوعي البشري على هذا النحو الذي احتلّ الأطروحةَ المركزيّة الأولى في عقولِ الحاكِمين أصحاب النّفوذ أو المحكُومين الذين تجلدهم نتائِجُه على المستويات المُختلفة. في هذا السياق أتذكّر الأكثر بوليسيّة وتطرُّفًا وصرامةً في هذه الإجراءات، كانت في ذلك الزمان المُنقسم إلى قُطبين كبيرين: الشرقُ الاشتراكيّ أو الشيوعيّ، والغرب الرأسمالي؛ حلف (وارسو) و(الأطلسي). الأول اضمَحلَّ، والثاني يَستفحلُ ويُحكمُ قبضتَه الإمبراطوريّة بجوانبها الخَشِنة والنَّاعمة التي ستكون ربّما أكثر فتكًا من الأولى. أليست هي التي قوّضت الإمبراطورية الحديديّة، المعسكر الاشتراكي وطليعته الاتحاد السوفييتي وفق مفردات تلك المرحلة؟
وترى تطبيقات هيمنتها وغواياتها الجاذبة للطفولة والفتيان والكبار، من أقصى قريةٍ في أمريكا اللاتينيّة التي دمرها الإيبيريون أيَّما دمارٍ ومسخٍ للهويّة والكينونة، وصارت تنتمي كليًّا وفق ما كتب، (أوكتافيو باز) إلى القاتل والقتلة الغزاة- من تلك القرية إلى أقصى قرية في أفريقيا والجزيرة العربية.
أقول الأكثر تشددًّا في الطّقوس والإجراءاتِ البوليسيّة للجمارك والمطارات، هي تلك التي صادفناها في الحُدود بين ألمانيا الغربيّة عُبورًا بريًّا إلى الشرقيّة، حيث كان التفتيشُ الأكثر قسوة حين وصل إلى حشرِ كلِّ واحدٍ منَّا فيما يُشبه الزنزانة، وخلع ملابسه بالكامل، مثل أولئك الذين يُفحصون طبيًّا قبل الالتحاق بالجيوش والأجهزة البوليسيّة، لكن مع فارق المُنطلَق والمُعامَلة طبعًا.
ربّما؛ لأننا قادمون من برلين الغربيّة إلى الشرقيّة في ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين؛ وإلا فحين تكونُ بين دول المعسكر الاشتراكيّ مثلا، أنت الأجنبيّ، لا تجد تلك الإجراءاتِ إطلاقًا، العاديّة فقط؛ خاصة عبر القطارات التي خبرتُها جيّدًا؛ فحصُ الهويّة أو جواز السَّفر في العربة الذّاهبة بغربائها إلى المجهول أو المعلوم، أو في ممرّات القطارات، إذا كنت من غير عربة.
حين دخلنا برلين الشرقيّة وبدأنا في التّجوال، لاحظنا سريعًا تلك الفروقَ الجوهريّة، في العمران والحضارة وأنماط الحياة والوعي التي تَميل بشكلٍ ساطعٍ لصالح الغرب وتطوّره وثرائِه التعدّديّ، رغم أنّها بلدٌ واحدٌ قسمتها الحرب وهوانُ الهزيمة التي قادت إليها، ليس قدرة الخصوم المتجمعين على اختلافهم؛ وإنما الغطرسةُ والديكتاتوريةُ الهِتلريّةُ التي كانت قد اكتسحتْ أوروُبا الأكثرَ قوّةً، في مُدّة زمنيَّةٍ قياسيَّة؛ غطرسةُ النَّصر والتفوّق تتحوّل إلى نقيضها المدمّر.
كنتُ ما أزال أحمل بعضًا من أفكار اليَسار الاشتراكيّ السّائد كما تسوّقه الأحزابُ العربيّة التي تستمدّ زادَها من مصانع موسكو للأفكار والمعلّبات، فحين لاحظ بعضُ صحبي في الرحلة تلك الفروقَ، وأن الغرب أضحى بالغ الوضوح في حيازة السْبق الحضاريّ في هذه المباراة المحمُومَة التي تُستخدم فيها كافة الأسلحة، إنها مباراة المصير والمصائر المُعلّقة على جدران الصّراع التي يلخّصها الجدارُ الفاصل بين الألمانيتين. كنتُ في الرد والدفاع عن المعسكر الاشتراكيّ أو الشيوعيّ لدى البعض، ألجأُ إلى مصطلحاتٍ ومفردات يوحّدُها الغموضُ والالتباسُ اللاإبداعي، نوعٌ من اللفظيّة العالِية، أو ما يسمّونه بالديماغوجيا، فيما عرفتُ لاحقا؛ لكن القناعات على هذا النّحو الصّارم الأعمى، أو على هذا النّحو من البراءة والتسليم لها موقعها في الوجدان والذاكرة، وحين هوى معسكرُ التّبشير والمبادئ الأمميّة أو معسكر (الاشتراكية العلميّة) تمييزًا له عن الاشتراكيّات الديمقراطيّة، ترك غصّةً في النفس، فكأنك غادرت برهةً من العمُر والزَّمن، إلى أخرى لا ينقصها الغموضُ والالتباس، بجانب أكلافِ العُمر والوعي، الذي أخذ في التقدُّم وحمل الأعباء، أكثر من زمن البراءة والتسليم بالمبادئ المجرّدة التي لا يوجد معادلٌ موضوعيٌّ لها إلا في رؤوس أصحابها فيما يُشبه الإيمان الغيبيّ أو اللاهوت، التي تنزِعُ مبادئُ (الاشتراكيّة العلميّة) وتدّعي النقيض على طول المسار والمنعطفات.
أعودُ إلى المطارِ الذي سأُقلعُ منه قبلَ انبلاجِ الصُّبح، في طقسٍ مُمطرٍ تمزِّقه الرُّعود والبروقُ حتى ظننتُ وأنا أجلس في إحدى صالات المطارات أتزود بزاد الطريق، الذي سيكون أكثرَ وحشةً وفتكًا بدون هذا الزّاد والشّراب المُنعش مع قراءةِ كتاب، ظننتُ أنّ الرّحلة ستؤجَّل؛ لكن ثمة انفراجةٌ في الطقسِ، وانحسارُ رعدٍ وغضب أدّى ربما إلى الإقلاعِ بسلامٍ حتى استوت الطائرة في الأجواء المتوسطيّة قاطعةً مسافة بسيطة، حين أتى نداء المُضيفة، أن لا أحد يرخي الأحزمة، فثمّة مطبات واهتزازات؛ بينما الطقس عاد إلى طبيعته المُضطربَة الرَّاعدة، كفّت الحركةُ وسادَ الصمت المُريب المترقِّب كلّ الركاب، وحتى المضيفات والملاحون ثبّتوا أحزمة الكراسي إلا للملمة ما يسقط قريبًا منهم. أخذت الطائرة في الاهتزازِ والعصفِ أكثر، فلا نسمع إلا صياحَ الأطفالِ ودُعاء الكبار يتعالى، لعلّه يصل إلى السماوات العُلا، وتأتي نجدة العطفِ الإلهيّ وتنتهي المِحنة والدرسُ المريرُ الذي يُلازم البشرَ بحياتهم في مواقف وأزماتٍ مُختلفة كي يأخذوا ويستخلصوا العبرةَ في السُّلوكِ الحسن والتضامنِ الإنسانيِّ الذي أخذَ يتقلّصُ كمكتسبٍ إنسانيٍّ إلى النّقيض العُدوانيّ والوحشيّ، وهو الحقيقةُ الغالبةُ مع الأسف، فمجرّد ما نعبرُ المحنةَ أو تُوارى الجنازةُ مثواها الأخير؛ يعود البشرُ إلى سابقِ العهد والسُّلوك من غير عبرة ولا يحزنون.
كنتُ وحيدًا في الكرسيِّ الأماميِّ أتمايلُ وأهتزُّ رُعبًا مع الجميع، وكي أرى مضيفة حسناءَ وأهربُ إلى روابيها الخضراء، لأخفف حدّة الخوف والهلع، فقد أقفلوا السِتارة حتى إشعارٍ آخر، أو النهاية.
أخذت الهاتف المطفيّ، وطفقت ألقي قصيدةً إلى ولدي وعائلتي ومن أحبّ في دنيا الفناء المُغرية والمرغوبةِ أو كما عبّر البسطامي (هذه العاجلة المعشوقة).
ألقي قصيدةً هذيانيّة أو أوتوماتيكية، تلك الأثيرةُ على قلوب الدادائيّين والسورياليين من بعدهم، لأخفف الهلعَ والرّعبَ الجاثِمَ على القُلوب والصدور. الهذيان هو صوت الداخل الأكثر إضاءة للأعماق والمشاعر الدفينة بُرهة الخطر المُدلهمّ والأوقات الحرِجة، التي تضمحلُّ فيها المعاني والدلالات، ويقف الكائنُ وجهًا لوجهٍ أمام عدمه العاري، وفنائه القادم لا محالة.
(الحياة دوامة أعاصير وأنت فيها الغريق الضاحك) لكن هنا أنت بعيدًا عن الضَّحك والمرحِ والسُّخريّة من عبثيّة هذا العالم وجديّته الفارغة، ربما بعد قليل والضحكةُ الباكية المجلجلةُ تعود.
في قصةٍ لغادة السمّان قرأتُها منذ زمن بعيد، يتراءى لي الحدث، المتمحور حول طيار يقود طائرته إلى أعماق الفضاء، وبأعلى الارتفاعات. يبدو أنّ الرحلة من تلك الرّحلات البعيدة المسافة الزمنيّة والجغرافيّة، وهو في تلك الأجواء واحتشادها، تدخلُ الطائرة في مطبّات هوائيّة، أو يسوء الطقس جرّاء العواصف المُرعِدة ببروقِها وصواعِقها، والطيّارُ ومساعدوه يحاولون تفادي الخطر المُحدق؛ لكنَّ المَحنة تطولُ حتى يُصاب الطيّار بالارتباك الشديد حدَّ اليأس من النجاة، يتراءى له شريطُ حياته بأحداثٍ كثيرة، لكنّ الحدثَ الأبرز هو تركه وتدميره لامرأةِ حياته التي أحبّته وبذلت لأجله كلّ ضروب التضحية والإخلاص والتّفاني، يبرزُ هذا الحدث الرئيسيّ كقاطرةٍ تقود وراءَهَا عرباتِ أحداث حياته كما يقود هو طائرته التي تحتشد كجيشٍ من الأشباح سيفترسه في الضوء الساطع للخطر المحدق، واقتراب الموت الحتمي. تدفع الكاتبة الكبيرة، بمنولوجِ عذاباته الداخليّة، وهذياناته المتكسّرة في مرايا آفاقٍ هي الأخرى تتكسّرُ أمام ناظريه كالمرايا، سماءٌ من المرايا تتحطّم في خطّ سيرهِ القريبِ من السّقوط والانطفاء. هذا العِقابُ الذي تنزله السماء ببطلها نتيجةً لتلك اللحظة الأخلاقيّة والإِنسانيّة الفظّة القاسية، التي ارتكبها.
رغم كل هذا الرُّهاب والذّعر الذي يسبّبه الطيرانُ في الفضاءات والأجواء تظلّ الحوادثُ والأحداث المأساوية محدودةً جدًا مقارنة بالأعداد الهائِلة من الطائرات التي تحلّق مترحّلة في فضاءات البشريّة على مسافة الكوكب الأرضي، أعدادٌ مليونيّة لا تُحصى، مدنيّة وعسكريّة، ومقارنة بحوادث وأحداث المركبات والعربات الأرضيّة التي من فرط كثرتها وكثافتها في الكثير من الدول والبلدان كأنما ثمة حربُ شوارع تُوْدي بالمئات والآلاف يوميًّا.
أما المركبات البحريّة، فربّما تلحق بالطائرات في الأمنِ والأمان رغم بؤرةِ الهواجسِ والتوهُّمات التي تُهيمن على الركّاب والمسافرين التي تقترب من مركبات الفضاء وعُصابها المتوقّد دائمًا، حتى مع المسافرين المحترفين الذين صاروا على ألفة مع الفضاء والفراغ الكونيّ أكثر من الأرض التي وُلدوا وكبروا في ربوعها ومنازلها.
في الماضي البعيد، حين كان أهلنا يمتطون تلك الشّاحنات بين القرى والبلدان، مسمّرين فوق البضائع والأحمال، حين تُصاب بعُطلٍ وهي تمخُرُ بصوتِها الصاخبِ تلك المفازات والصحاري، وسط حرارةٍ عاليةٍ، يتوسّل الأهل والمسافرون الله أن يمنحَهُم السلامة والنجاة، متمتمين من فرط التّعبِ واليأسِ؛ أن حمارًا أعرجَ أفضل وأكثر أمانًا من هذه الآلات التي ابتدعها الكفّار والأجانب؟!
بعد رحلة الأعماقِ المُظلمة في خضمِّ الخوفِ والترقُّبِ والشَّتات، تلك الخُطى أو الأيام والسنون المحتشدة بالهواجس والكوابيس والذاكرة التي يترقّب فيها السُّجناء بزنزاناتهم تنفيذًا لأحكامِ الإعدام، يترقّبونَ خُطواتِ الجلاّدين الخَشِنة، قادمين وفي أيديهم كومةُ مفاتيح الزنازين وأبواب السُّجون، المقاصلُ لا ريب جاهزةٌ بكامل بهائِها الدّمويّ، بهاءُ سيوفِها التي تجزّ الأعناق بِحرفيّة تِقنيّة عالِية، تفرّ الرؤوسُ والدماء تنفجرُ من أوردتها، وتلمعُ في ذلك الصّحوِ الذي لم تعكّرْه الغُيُوم والأمطار، متوحِّدةً ببهاءِ المِقصلة ولمعانِ وجوهِ الجلادينَ الطافحة بالحُبور والفرحِ الذي يغمرُها جرّاء القتل والإبادة، مصدر فَرَحِها وبهجتها الوحيدِ في حياة أحالُوها إلى سجنٍ كبير، مدجّج بأدوات القمعِ والظُّلم والتَّدمير بكافة صُعُده ومستوياتِه؛ إذ تُصبحُ الحُريّة أو قبسٌ منها طيفًا بعيد المنال لا يوجد إلا فيما وراء الطبيعة والاجتماع البشريّ.
(أنجيه فايدا) المخرج البولندي أقام أكبرَ مقصلَةٍ في تاريخ السينما، في فيلم (دانتون) أطاحت برؤوسِ الكثير من رُموزِ الثورة الفرنسيَّة من (روبيسبير) ودانتون، وغيرهم الكثير، لكن بعد عقودٍ ظفروا بهدفهم، وتحقّق حلُم الحريّة الشاقّ والمرير.
هناك شعوبٌ وأممٌ كافحتْ وناضلتْ بضراوة، بغيةَ الوصولِ إلى ذلك الحُلُم والهدف العصيِّ على مدارِ التّاريخ، غمرتْها المجازرُ والإبادات، لكنّها ويا لمكر التّاريخ ونكوصه، وذلك الحظّ العاثر لهذه الشعوب العطشى إلى الكرامة والحريّة، ارتدّت إلى الأسوأ وحشيّةً وقمعًا وانحطاطًا.
في الفيلم الإيرانيّ الرّائع (خير مطلق)، نشاهد في مطلع الفيلم عائلة تعيش حياتها بهدوء وطمأنينة ودَعَة، الأب الأنيق الوديع والزّوجة الجميلة والأطفال، يمارسون حياتهم اليومية بالشكل المثالي المنشُود والمحلُوم به لأمثالهم، لا شيء يعكّر صفو هذه الحياة، بين المنزل المرتّب الحديث، والمطاعم الخاصّة وكافة الشؤون الأخرى، حتى يبدأ سياقُ الأحداث الأكثر وحشيّةً وقسوة، حين نرى هذا الرجل الأنيق العائليّ المُحبّ لأطفاله وزوجته، يضغط من وراء ستار أو جدار، على أزرارِ المقصلة التي تطوّح برؤوس العشرات دفعةً واحدة، مقصلةٌ بالطّبع أكثر حداثةً وضراوةً من تلك التي نصَبها البولندي الكبير في (دانتون) وتبدأ المجزرة بكل معانيها، وتتكشف فصولُ ذلك السجن المجتمعيِّ الكبير، بعناصر مُخبريهِ وجلاديهِ وهم يحكُمون ويجلدون بشهية مفتوحة وشَبقٍ كبير.
تتوالى الفصولُ في فيلم (خير مطلق) وفق التّرجمة العربيّة، والقصص المُنفصلة عن بعضها، لكن يلمُّها ويجمعُها جمعًا عضويًّا مناخٌ دلاليٌّ مشتركٌ ولُغة سينمائيّة عاليةُ المعيارِ والقِيمة، تتوالى الفصولُ من غير انفجار دماء من الأعناق والأوردة، لكنّها تكتنز عناصرَ تراجيديا الواقعِ والمعيش بشكلٍ أكثرَ كثافةً، إقناعًا ومعنى. حتى تلك المقصلة النوعيّة، بداية الأحداث، كان يلفُّها الصّمتُ الدَّموي المريع، إنه الفنُّ، الشَّاهد بصدقٍ وفنيةٍ جماليّة عالية، على واقعهِ الأليم وعصره. السّينما الإيرانية في مجملها أضحت طليعة صداميّة لا تنقصها رفعةُ الفنّ في بُعده العالميّ، مع قِوى التخلُّف والظَّلام والهمجيّة.
يأخذ المُترحِّل راحةً لنفسهِ المُتعَبة، من تقليبِ صَفحاتِ التاريخ وقراءةِ أحداثِ الوَاقع وسيلِ المعلوماتِ المُتواتِر، مقصلة أخرى، من مقاصل التقدُّم الحَضاري في أقصاه، هذه المرّة في الطائرة التي لم تشهدْ أيَّ مطباتٍ وأحداثٍ تُعكِّر صفوَ المُسافرين لنوازعَ وأهدافٍ مُختلفة، أولئك القادمين من البلدان البالغة الحرارة والرطوبة كما في الخليج العربي. ذلك (الفرنُ الجيريّ) كما وصف (رامبو) ذات دهرٍ مدينة (عدن) اليمنيّة، والوصفُ يشمل المنطقة كلَّها عدا بعض مناطق استثنائية مثل (ظفار) في الجنوب العُماني و(الجبل الأخضر)، أو الطائف وأبها في العربيّة السعوديّة. هؤلاء لا ينشدُونَ إلا نعمةَ الطقس وجمالَ الطبيعة ولطفها الذي افتقدوه في تلك البلدان والمُدن الحديثة التي تعيش في مكيّفات الهواء ليلًا ونهارًا، من غير هوادةٍ ولا رحمة، حتى ولو عابرةٍ عبورَ الشَّبح أو الطّيف الذي يُداعب أحلامَ اليقظة والمنام.
فحتى حين تتشكّلُ سُحبٌ وغيومٌ وتسقط أمطار، تظلّ الحرارة على أشدِّها إلا فيما نَدر؛ حتى لتخالُ تلك الأمطار والغيوم غير واقعيَّة، وربما اصطناعية فيما يُشبه الخدعَ السينمائيّة التي تُمليها أحداث دراما الفن السابع، أو (الصورة) التي احتلّت الصَّدارة الأولى في المجالات والصُعُد المختلفة.
يأخذ المترحِّل، الذي كان في الطائرة ويحطُّ السمّاعة على أذنيه مُصغيا إلى الموسيقى هروبًا من صخب المُسافرين، ويقرأ كتابًا، حاول أن يختار كتابًا مسلِّيًا بتسلسلِ أحداثِهِ بسلاسةٍ وبساطة، تُشبه كتبَ التّجوال السياحيّ والنُّزهاتِ الترفيهيّة، وإن طعّمها صاحبُها بشتاتِ أفكارٍ ورؤى تنتهي إلى الصوفيّة أو هذا الفيلسوف أو ذاك؛ تظل وفيّة لوظيفةِ الترفيه والتسويق والتشويق من مثل كتب (باولو كويلهو) وبعض كتب (موراكامي) من غير معاناة القراءة وكدحها في قراءة كتب معبَّأةٍ بأفكار ورؤى عميقةٍ محمُولةٍ على خيالٍ جامحٍ تحفرُ عميقًا في طبقاتِ الوعي البشريّ ولا وعيه الأكثر سيطرةً وإمساكًا بخناقِ الفردِ والجماعة منذ تشكُّلِ الإنسان على هذه الأرض، وحتى البُرهة الرَاهِنة.
ينزلُ من الطَّائرة إلى المطار، حاملًا حقيبةَ الصَّيف الخفيفة، يأخذ سيّارة أجرة، ويذهبُ إلى ضاحيةٍ ريفيّة من ضواحي مدينةٍ في الشّرق الأوروبيّ، ليسترخيَ في ذلك المنزل المأجور، الذي نزل فيه قبل أعوام، والمنزوي بين الأشجار والأكمات، الموصولة اتصالًا لا تنقطع أواصرُ خضرتِه ومياهِه بتلك الغاباتِ الجميلةِ السَّامقةِ بأشجارٍ عملاقةٍ وحيواناتٍ كاسرةٍ تَسرحُ في ليلِ الشتاءاتِ خاصة، مهاجمةً بيوت سكّان الأرياف والسّفوح لافتراس حيواناتهم التي يربونها على مدار العام.
يجلس في هذا البيت الآمن بجيرةٍ طيّبة، هو الذي لا يعرف جيرانَه في بلده الأصلي، وإن عرفهم لا يُقيم صلاتٍ معهم إلا ما تُمليه صدفةُ السّلام العَابر في أوقاتٍ بعينِها. مرّةً كان يمشي، وكان الفصلُ شتاء، من منزله إلى الحديقة المجاورة للمسجد، في الطريق المزدحم بالسيارات، انقضّ عليه شخص ربما رآه مرّة أو لم يره، بعتابٍ مريرٍ، لقد تُوفّيت والدتي، وتزوّج ابني ولم تأتِ إلى بيتي لتسلّم عليّ؟ وأمام هول المفاجأة والارتباك قال له: إن ثلاثة من إخوتي رحلوا عن هذه الدنيا، ولم يعتِب، وليس له حقُّ ذلك. أرجو أن تترُك للصُّدفة مجراها، هذا أفضلُ للجميع.
في الصّباحات الغائمةِ أو المساءاتِ، حين لا ينزل إلى سوق البلدة القريبة، يجلس في مقهى يرقُبُ المارّة، مثل عادته في المُدُن المختلفةِ التي عاش فيها. يجلس في الحديقة المنزليّة الممتدَّة خضرتُها إلى اللانهاية، يُصغي إلى صياحِ الدّيكة ونباح الكلاب القادم من أكثر من جهة ريفيّة، ويتأمّل ساحةَ العشب النضِر على إثر الأمطار الليلية العاصفة، والأصص والنباتات المخضرّة؛ بينما العقاعق وطيورٌ أخرى تنقرُ الحَبّ بصمتٍ وشهيّةٍ تجعلُها متوحّدةً بالأرض، بروح الأرض ونباتها.
يقومُ من كرسيّه الخشبيّ في العريشة التي تلفُّها أشجارُ الكُمثرى والورود الطبيعيّة وأشجار التفّاحِ والبرقوق، ليتمشّى حافيًا على ساحة العُشبِ محاذرًا أن لا يزعج الطيور المتوحّدةَ بروحِ النَّبات والأرض ليخفِّف ضغطَ دمِه العالي، فقد قرأ بأن المشيَ على العُشب الطبيعيّ وعلى الرمال والمياهِ يخفّف من غلواءِ الضغط حين تعجز الأدوية عن أداء ذلك. الطّبيعة فيها نوعٌ من شفاء للروح والجسد في ظل كواسر أوبئةٍ مُحدقةٍ بالإنسان والمصير، تُكمل مسيرةَ كواسرِ المالِ والنُّفوذ والتَّدمير الشَّامل أو هي إفراز لها في توحُّدِ أركانِ البَلاءِ والشَّر وولادتِها من أرحامِ بعضِها الآخر.
يتوقّف أمامَ خميلةٍ لها إشراقُهَا الكِيانيّ الخاص، وسطَ هذه البيادرِ والحقول الممتدّة حتى تُلامس سفحَ الغابات الجبليّة ذات الرُّقعة الحالِمة، ثمّة شتلةُ موزٍ كجزءٍ من تلك الخميلةِ، يقلّب أوراقها المُستطيلَة المُفعَمة بالنَدى والرذاذ، تُراوده ذِكرى ضاحيةِ النَّخيل التي كانت الأحبَّ إلى قلب والده الرّاحل، المطرّزة بأشجارِ الموز بأنواعِهِ، صانِعةً هي الأخرى كيانَها الخاص، وسطَ هيمنَةِ غابةِ النخل بقاماته العالية المتمايلة في الهواء الساخن لرياح الغربيّ، حين يكون الصيفُ قد احتلَّ المكانَ والبِلاد، لا يتوقّف كثيرًا أمام الذاكرة والذكرى، حتى الماضي والذكريات تبهُتُ مع تقادُم السِّنين أو الأزْمِنَة من فرطِ كثافَتِها، وتَتوارَى خلفَ صُخورِ الوَادي «الملمومة» مع توارِي فصولِ العُمر والحياة، حيثُ المَوكبُ بكَاملِ حمُولته الباهضة ذاهبٌ إلى برزخ الظّلال لجبال النسيان.
أشجارُ التفّاح والبرقوق التي كان يصحو على ثمارِها قبل سنين، إفطارًا شهيًّا عبر بُرهة عذبةٍ، لم تعُد تُعطي تلك الفاكهة، ظننتُ بداية أنني تأخرتُ على موسم القِطاف، لكن اتّضح أن ثمّة آفةً قضت عليها أعقبت الثلوج الكثيفة التي جاءت متأخّرة هذا العام، أو ظلّت فترة أطول، فقضت على ثمارِ أشجار الفاكهة الكثيرة. أهل المنطقة يعتقدون أيضًا بأن الطّبيعة تُدافعُ تلقائيًّا عن نفسها، فلا يرشّون مبيداتٍ على الأشجار المُصابةِ حتى وإن تَلِفت، سيأتي موسمٌ تزدهر فيه، وهكذا…. وربما في هذا السياق يندرج مفهوم (الأورجانيك) أو (العضوي) الأكثر فائدةً للجسمِ البشريّ وصحته، حيث الثمارُ ما زال بعضُها موجودًا لكنَّه متيبّس، وعليه آثار ما يشبه المرض، وكذلك الأوراق والأغصان تبلّلها مادَّة دبقة مطفئةً ذلكَ البريق للحيوية والمرح وهي تحلّق مع الطيور في فضاء النعمة والطقس الذي ما زال حانيًا وعذبًا، قبل مجيء الشّتاء الذي يُحيل هذه الأرياف والجبال إلى زمهرير.
وهو ينظر إلى الأشجار بثمارها الذَّابلةِ، وهذا الانكسارُ المؤقّت، تحتلُّه نوبةُ حزنٍ مُعديةٌ حيث الأحزان الكثيرة مثل الأفراح القليلة، تستدعي بعضَهَا بنداءٍ صارخٍ أو عبر صمتٍ أليمٍ وخَفَاء، تستدعي أخواتِها من الحاضر أو الماضي، ها هي الذاكرة من جديد تستدعي آخر زيارة للغريب، إلى قرية طفولتِه الولاديّة، حيثُ النخيل، أسراب النخيل وواحاتها الأزلية وقد عصف بها وباء يسمّونه (المتق) ولم يُفلح معه رشّ الأدوية المضادّة عبر طائرةٍ مستأجرةٍ ومخصّصةٍ لهذا السّياقِ الوبائيّ على ما يفترض السّاكنة، فكانت غير ذات جدوى؛ إذ النّخيل على مشهده الحزين منكسرًا جريحًا يتمايلُ في الهبوب الشحيح. النخيلُ خاصّةً هو الواقع والرمز الروحي والمادي في الماضي لطبيعة تلك البلاد وخلائقها.
طنينُ ذباب النحلِ على الأزهارِ والأكَمات، وزنابير وحشراتٍ أخرى، وهي تلقّح وتُفرغ رحيق الحياة في الأرحام النباتيّة، لاستمرارِ النّماء والحياة.
حين يشتدُّ الطنينُ والأزيزُ في الظهيرة، يتصادَى طنينُ الأزْمِنةِ محمولةً على الأجنحةِ، يتصادى المَاضي شاحبًا ربّما، لكنّه يمتلكُ القُدرة، تلك القدرة التي تضعُف لكنّها لا تكفّ ولا تنضبُ عن إيقاظِكَ في هَجْعةِ الليل، أو سَعيِ النَّهار، عن إِلقاءِ مرساتِه الثَّقيلةِ على لحظة راهنك التي تحاول فيها الهروبَ مما يُثقل الكاهلَ ويمزّق سكينة القلب والرّوح. هذه الطّوبى التي نلهجُ بها دائمًا ونحلُم ونسعى لكنّنا لا نصل!
أن تتبوّل في الطبيعة بين الأشجار، فتلك عوْدةٌ إلى البدء، حسب (ميلان كونديرا) الذي رحل عن عالمنا قبل أيام. كان التشيكي الفرنسي، يتتبع بَطله الخارِج من حفلةِ ثمالةٍ وفجور، حينَ ألقى بنفسِهِ في ربُوع الطبيعةِ الشديدةِ البرودة مستنشقًا هواءَ الأشجار النقيّ ومنجزًا حاجَته الطبيعيّة بين ظلالها.
هذا ما يفعله المُتجوّل الغريب، الذي يجد آصرةَ ألفةٍ بين الأقوامِ الأخرى والطبيعة، أكثرَ ممّن قذفتْهُ الأقدارُ للانتماءِ إليهم عبرَ أرومةِ النسبِ واللغةِ والثّقافةِ.. تبوُّله وقضاء حاجته في الخلاء، ليس بتأثيرِ كونديرا الهاربِ من حفلةِ المجونِ تلك، فقد كانت عُمان، معظمها على الأقل، قبل وفادة وسائل المدنيّة إليها في وقت متأخِّر، يلبون نداء الطبيعة، كما يُقال، في الخلاء الشاسع بين صخور الأودية والشعاب والجبال وفي ضواحي النخيل المُزهرة.
لكنّ تلك كانت بحُكم الضرورةِ القاطِع؛ إذ تغيب الأماكن المخصّصة عند مُعظم السكان، عدا القلّة، أمّا في مثل هذا الظرف الذي نكتُب، فسيكون خيارًا لا اضطرارًا على الأرجح، خيارًا جماليًّا أن يعودَ الكائنُ المتحضّر المدجّج بكل وسائل التقنية الحديثة وشروطها المدنيّة، إلى البدء، إلى الأصل الذي قدِمتْ منه الذريّة والسُّلالات جميعها، فذلك نوعٌ من تحققٍّ لحنينٍ ما يفتأ يخترقُ كائناتِ الحضارةِ والتقدُّم التّكنولوجي الفائضِ فيضانًا جارفًا عن الحياة والحاجة.
أما «بطل» حسين العبري في روايتِه (الوخز) وفي آخر صفحات الروايةِ والأحداث والمواقف المُضحكة المُحزنة كما هو نمطه في أكثر من رواية، فيرفعُ دشداشتَه باتجاه الحُفرةِ الصَّفراء الغارقةِ في الألم والتَّعب، للمَغيب.
نحاول ترويضَ الأيَّام؛ الزَّمنُ الأكثرُ سيلانًا وهياجًا في الحياة الرتيبة السّاكنة من الحياة المُندفعة بالحركة والأحداث والتنوّع على اختلافِ مستوياته. نُحاولُ ترويضَه في حدود المُمكِن، بوسائل شتّى، كالسّفر، والقراءةِ والحبّ والكِتابة والصَّداقة إن وُجدت، أو الوقوف مليًّا أمام شجرة، امرأة، غابةٍ مخضرَّةٍ أو أوديةٍ جافةٍ وجبالٍ جرداء، كأنَّما هي المسوّدة الأولى للخلق اللاحق.
ماذا في الإمكان إلا محاولة هذا التّرويض الذي يتراءى أحيانًا كثيرة مستحيلًا «كناطح صخرة» ومحاورة الأطياف والأشباح في عبُورها الليليّ السَّريع، الأحياء والموتى الذين لا يبخلون بالزِّيارة والحضورِ الخَاطِف الذي تختلط عبرَه الأمكنةُ والأزمنة.
هل يمكن مراوغة الزَّمن بمنطقِهِ الصَّارم الحتميّ الذي لا يبْلى ولا يُبالي بكائناته التي تفترسُها أنيابُه الخفيّة، تدريجيًّا أوعبر الضَّربة القاضِية وفقَ لُغةِ المُلاكَمة على صحنِ الحَلَبات. مراوغةُ الزَّمن والصّيرورة والقسوةِ هي المسألة الواقعيَّة الوحيدة، لأنّ الذَّهاب إلى فكرة أو مسألة الانتحار، التي يعتبرها (ألبير كامو) القضية الأكثر جدارةً واستحقاقًا، بين قضايا الفلسفة، هذه المسألة أو التفكير فيها كحلٍ ناجعٍ، حاسم وأخير، مضى زمنُها على ما أعتقد، هي تراود الفردَ وتلحُّ عليه أيام الشَّغف والرومانس في مطلع العمر، أما الآن فمضى زمنها، يكفي هذا النحْرُ البطيء المُسترسل حتى النّهاية، كي لا أذهب مع (سيوران): من فاته قتل نفسه بعد الولادة، فلا جدوى من التفكير في ذلك.
الحياة حلبةُ مصارعةٍ مليئةٍ بالضّجيج والعُنف والمُراهناتِ العبثيَّة والميْسر الغيبيّ والواقعيّ، مليئة بالجثث والجنائز، بالحياة المكلومة التي يستأثِرُ بخيراتها نخبة «المحظوظين» مالكي الحلبات وأربابها.
لا خيار أمامنا إلا هذا الأسلوب المُراوغُ تلقائيًّا أو تخطيطيًّا، هذه التّسويةُ على وهمها وتوهّمِها، من أجل البقاء والاستمرار في حياة تَضمحلُّ تلقائيًّا أو عبر الضربة القاضية.
واستطرادًا لعالَم الحلبات والمصارعين، والملاكمين، أصبح هؤلاء نجوم النشء والأجيال القادمة بجانب قماماتِ الميديا وأدوات التّواصل الشعبيّ الأخرى، فابني ناصر على سبيل المثال يُبرمج مع أقرانه أزْمانَ المُصارعات، تلك الاستعراضيّة التي لا تنقصُها الرَّكاكة والأداء المُفتعل، ويصحو أحيانًا عبر برمجةٍ صارِمةٍ فجرًا، أو السّاعة الرّابعة، من سابع نومِه ليرى وقائع المُصارعة منقولةً مباشرةً من أمريكا أو أيِّ بلدٍ آخر، هو الذي لا يستيقظ للمدرسةِ إلا بشقِّ الأنْفُس والصُّراخ. وحين يستدعي دليلًا نظريًّا أو استشهادًا، على واقعةٍ بعينِها، يستدعي الجَلد والصبرَ والموقِفَ الصَّعب أمام الأحداث، يستدعي اسم (جون سينا) وأضرابه. مرّةً حين صادفته مستيقظًا في ذلك الوقت قبل أذان الفجر، للمشاهدة إيّاها، قلت له إننا حين كنّا في عمره أو أقل أو أكبر قليلًا، كان جدّه ناصر بن عيسى الرحبي- رحمه الله- يوقظنا بالرِّضا أو القسْر، لقراءة القرآن وصلاة الفجر، ومذاكرة في اللغة والدين… أجابني أنّ الزَّمن تغيّر، وأنَّه مع إخوته يفعل ذلك في المدرسة، التي هي في واقع الحال أضعفُ حلقاتِ المعرفةِ منهجًا وتلقّيًا وانعدامَ شغف.
«إن أوهن البُيوت لبيت العنكبوت» كلّ صباح حين أحضر القهوة والشاي، إلى العريشة التي أجلس على كرسي وطاولة خشبيين فيها، ألمحُ بيتَ العنكبوتِ الممتدِّ من العريشة وشتلةِ الوردِ السّاطعة ببهاءٍ ميتافيزيقيّ، إلى جزءٍ من فضاء الحديقة، وتتراءى لي الحياةُ بكاملها وعبر تاريخها، مُختزَلة ومجسَّدة، في الهَشاشة والوَهَن الذي يُوشِك على الانهيارِ والتَّلاشِي، مع أيّ هبّة هواء. الهشَاشة هي جوهرُ الوجود، والموجود، الكائنات جميعها. الحجرُ والجبالُ الصّلدةُ القويّة، وحدهَا أكثر بقاءً وديمومةً كما عبّر الشاعرُ القديم الجديد: «تنبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ» وحتى الكرسيُّ والطّاولة أكثر ديمومةً وبقاءً بعدنا.
يمتدُّ بيت العنكبوت نحو الفراغ المفتوحِ على غابات الجبالِ والهاويات بغِياضِها الزرقاء من فرط الخُضرة وسموقها، ويلمعُ في ضياءِ الشمس، متاهةً هندسيّة مُحكمة وحكيمةً بعمقٍ وحصافةٍ، لكن الوهنَ والهَشَاشة أساسُ وجودِهَا العابِر، وجزءٌ من هذه الحِكْمَة العنكبوتيّة، إحساسُها بالزّمن والأحداث والعواصف، فتستغلّ أوقات الهدوء لتبنيَ مساكِنها وبيوتَها وتتناسُل حفظًا غريزيًّا للسُّلالة والبقاء دومًا على حافة الخطر والاضمحلال.
«لقد صُنعنا من مادة الأحلام نفسها» حسب شكسبير على ما روى البعض، صُنعنا من ذرّة العبورِ الطّيفي، من الهَشَاشَة المُتماديةِ البالغة، من نسيجِ البيتِ العنكبوتيِّ الأوْهَن، حسب الآية الكريمة. وما كل هذا الضجيج والشَّراسة، الصّلابة التقنيّة بموادها الفائقة القوّة والتّدمير والسَّحق، المؤامرات أفرادًا وجماعاتٍ، لمصلحة أو غيرها، الذكوريّة الرائغة، الصراعات والحروب، تتبدى في ضوء هذا الوهن والهَشَاشة والعبُور الطّيفيّ، العناصر التي هي أسُّ وجوهر الكائن البشريّ، والكائنات جميعها، إنّها ليست إلا الاحْتيالَ على أصل الكينونة وفصلها، مراوغة الحقيقة، حقيقة الهشاشة الأكثر صلابة وتماسكًا وحكمة، حكمة العابر والمسافر والرّائي، احتيال ومراوغة، أو جهل متبوعًا بغطرسة البشر وغرورهم وتوهّمهم الأكثر وضاعةً وعمى، البقاءَ والخلود. دكتاتوريو العالم العربي وأقرانُهم من القارّات الأخرى، رغم تساقطهم الواحدَ تلوَ الآخر موتًا عاديًّا، أو انقلابًا قسْريًّا لا يفتأون، لا تفتأ الفكرة تخترقُ كيانَهم وتوجّه سلوكهم بالبقاء الأبديّ والدّيمومة مدعومةً بتصفيقِ الحواشي الخاصّة الفاسِدة أو السكَّانِ المقهورين قمعًا وجوعًا وشتاتًا.
إن هذا الصِّنف من الحُكّام الكمبرادوريين، سماسرة المافيات الدوليّة، وهذه التّسمية أكثر انسجامًا لسياقهم التاريخيِّ النّاشز، لا يتوقفون بالطّبع أمام نسيجٍ عنكبوتيٍّ أو شجرةٍ أو جوعى، يبحثُون في النّفايات عن بقايا طعامٍ يسدُّ رمقَ أطفالِهم النَّاجين من المجزرة، لا يتوقفون أمامَ كتابٍ أو حُطامِ قطارٍ أم بحر. كذلك البَشرُ المحكومون لا يتوقّفون أمام علاماتِ الهَشاشةِ والجَمال والفناء، لأنّ البحث عن الرزق المسلوبِ ولُقمة العيش هو شغلُهم الكيانيّ الشّاغل، بعد أن سُلبوا الكرامة الإنسانيّة، وقُذِفوا في هذا العراء الفاجِر، ديكورًا محطّمًا، يُعطي الكمبرادور وتاجرَ الأسلحة، شرعيّة الحُكم وشرطَه البائس.
حيث يُوجد أولئك، يهربُ البشرُ والحجرُ، البحرُ والجمالُ والفنونُ، الطفولةُ المُصادرة، ويحْقن الهواءُ بالسُمّ الزُّعاف، أمام سطوة توهّم الديمومة والأبد الزَّائف.
فوق أعلى قمم البَلقان الذي كان في الماضي برميلَ بارود، فجّر حروبًا عالميَّة في أبعادِها وشمولها، إضافة إلى المحليّة، التي يمكن انفجارُها في أيّ لحظةٍ ومكان، أصعدُ حتى الذَّروة المُتناسِلة غاباتٍ وكهوفًا ويُمكن للرَّائي أن يرى عبرَها عناقَ الأرضِ مع السَّماء، ويُشاهد انطلاقَ النَّيازك وميلادَ الأبديَّة، أتردّد في دُخُول الكهف الذي يشكّل معلمًا من معالمِ تلك الذُرى، وأكتفي بمشاهدةِ أمواج الفضاء والغابات التي ما زال المطرُ يتساقطُ رذاذًا على أمدائها الشاسِعة.
أقول: إن لدينا في عُمان كهوفًا كثيرة لم أدخل إلا بعضها، وهي من الغرائبيّة؛ السّحر والغيوب المحلّقة في أحشاء أزلها، تخلُب ألبابَ زائريها، الأجانبَ خاصّة وتطوّح بهم إلى الحيْرةِ والقلق المفتوحِ على أسئلة الوجود والمصير.
لكنّني بعد تردُّدٍ، أحسم خيارَ الدّخول، بدافع هذا الطقس الرَّائع الذي يدفعُ بفضولِ المعرفة والاكتشاف، فأدخل نازلًا سلالمَ الطّبقاتِ السُّفليّة المُظلمة والمضاءَة بأضواء خافتة تُناسب مقاماتِ الكهف المهيب، حيث درجةُ الحرارة تصلُ إلى الصفر.
وثمّة موقدُ نارٍ تلتفّ حولَه عائلةٌ من أقوامِ أسلافِنا الأوائِل، أولئك الذين أضاؤوا ميلادَ البدءِ وفجرَ البشريَّة الأول.
والذين ما زالوا متواصلين وموصولين بعروةٍ وثقى مع لاوعينا الفرديّ، والجمعيّ، رغم جحافل القرون والحقب والأجيال، التي يصعب إزاءَها العدُّ والإحصاء إلا بالحدس والاستبصار العلمي النسبي.
«أركيلوجيا» الآثار والمعرفة، ذلك الحْفرُ العميقُ في أثر السّلف السَّحيق في أعماق الكهوف، وسحر رسُومها على الجدران والرُّدهات والزوايا من جماليّات التَّجسيد والتَّصوير المُدهشة، لحيوات تلك الأقوامِ، بشرًا وحيوانًا وأحلامًا، ما زالت تتسلل وتحتلُّ حيّزًا من أحلامِنا في هذه البُرهةِ المُعاصِرة من مسيرات الأزمنة الضوئيّة العاصِفة، وانقلاب الأمكنة، وتشظيها المَهول، ومن ثمّ إعادة بنائها وصياغتها من جديد: إنها عظمةُ الإنسان والعقل البشري الخلاّق، الذي ينحطُّ أحايينَ كثيرةً ليهدّم ما بنى وشيّد، وهكذا يتأرجح الناتج بين بناءٍ وهدمٍ، بسلامٍ عابرٍ أو حروبٍ دائمةٍ بأصعدةٍ وأشكالٍ مُتناسلةٍ شتّى. «ولحظة الهدم (هنا) ليست هي لحظة البناء الحقيقية». وإنما الهدمُ لذاتِه، استشرَاء الهدمِ وغايته ومنتهاه، خاصة في المناطق التي سادتها قرونًا أنظمةُ وحشيَّة من غير دستورٍ مُلزم، وفوق أيّ قانونٍ بشريًّا كان أو إلهيًّا وازِعًا صادِقًا، أو حتّى غريزيًّا بالمعنى الفطريّ الذي فُطر عليه أولئك الأوائل في صبحِ البِدايات البشريّة، وحتى حين كان الكوكبُ مسودًا من الزّواحف والحيوانات، فلا يعتدي على الطرائد أو الفرائس، إلا لحاجة الجوع المُلحّة القاتلة.
تلك العصورُ المُوغلةُ في ليل طفولتِها البريّ: العصر الثلاثيّ، يليه العصرُ الطباشيريّ، ثم العصرُ الجوراسيّ، الذي سادت فيه تلك الزواحف متربّعة على عرش الكائن الأرضيّ والكونيّ.
تُرى ماذا كانت تخبئ تلك الدُّهور من أسرارٍ وخفايا، عدا ما توصّل إليه العلماء والمختصّون في رحلةِ بحثهم العميقةِ المضيئةِ؛ لكن النسبيّة والنّاقصة إزاء أكوان خبيئة بحاجة كشف واكتشاف باستمرار؟!
من منّا لا يُراوده الحنين، بما أنّ هذا جزءٌ عضويٌّ من نسيجِ الكينونة والأدبِ والفنّ، إلى تلك العهودِ الآفِلة لأسلافنا البعيدين، مهما شطّت المسافاتُ الأسطوريّة من النأي والبِعاد، من المشقّة اليومية الدامِية لكفاحهم وقتالهم من أجل البقاء والاستمرار، لكنها الحرّة أيما حريّة في فضائها الخالي من السلطة والطبقات. الماضي البعيد والقريب غالبًا يحملُ ويتدثّر بسحرِ الحنين إلى الآفل والمنقضِي، من العصور المُوغِلة في بُعدها، إلى السنة الفائتة والبارحة، أو اللحظة المنصرِمة قبل قليل.
الماضي بسطوعِ غِوايته العابر، أمام المُستقبل الغامِض المدلهمّ، وهذه البرهة في حاضر أرجاءٍ طبيعيّةٍ باذِخةٍ أريد الإمساك بها، بالنَّواجذِ والأسنان قبل أن تتلاشى وتذوبَ في محيطِ الأعاصيرِ الجارِف والزَّمان. يُمكنني أن أرى القطّة تتقلَّب مَرحًا ونشوةً تحت ضياء شمسٍ رحيمة. والعصافير ترفرفُ على ذُرى الأشجار وفي غدورها، مأخوذةً بغوايةِ الأمن والحريَّة والرزق الوفير. ومن الأرجاء القريبة يتهادَى صياحُ الدِّيكة متناغِمًا مع حنينِ الغابات وهي تمتصّ ضياء الإشراق، قبل زحف الثلوج القادم.
رغم شْطحِ هذا النأي وتكدُّسِ الأزمنة وتصدُّعها، ظلّت الثوابتُ الجوهرية ساريةً بين أولئك الأسلاف وبشر المُدن الحديثة. اختلفت الوسائل والأدوات، الطرائق وأنماط المعيش… إلخ، لكنّ عناصر الوجود الأولى وهواجسه ونوازعه ظلت ترتدّ في شِبه وحدةٍ، إلى أصولها وهواجسها الجنينيّة الأولى، من العواطف والجنس، والخوف والرهبة من الموت وغوامض الوجود والمجهول القادم لا محالة، لائذين بمراجع معتقداتهم الخرافيّة والأسطوريّة، التي لم تغرب وتتوارى نهائيًّا، رغم الانقلابات الجذريّة، التي أوصلت البشريّة إلى مرجعيات العلوم النظريّة والتطبيقيّة بكل صُعدها وأفرعها وأساطيرها الحديثة، التي حلّتْ محلّ تلك التي أفلتْ ولم تأفُل، إذ تلبّس العلم ما يشبه لبوسَ الخرافات والأساطير وحتى جزءًا من النسخة البدائيّة، ما زالت تمارس سحرَها لدى جماعات بشريّة كثيرة.
بشر السّلف البدائيّ، يجلسون حول مواقد نارِهم، في ذلك الخلاء المفتوح على اللانهائي والوحوش التي استأنسوها وألفوها في لُحمة أخوّة لا تنفصِم عُراها مع الطَّبيعة، وإن ظلّوا يحملون مخاوفَ الغامض المهول إزاءَ الكون.
بشر المُدن الحديثة الذين قهروا ضراوة الوحوش في الذرى والمحيطات عبر العلوم والتقنيات الأكثر فتكًا وتدميرًا شاملًا يفيض على الكون الأرضيّ، وربّما الأكوان الأخرى، وقهروا بعضهم البعض بمستوياتٍ تفوقُ العقلَ والخيال، من أجل التسلّط والهيمنة والسيادة لم يقهروا الوحش الأكثرَ عنفًا في داخلهم، بل انطلق عبر إنجازاتِ التكنولوجيا، إلى آفاق لم يكن يحلُم بها في تاريخه محطّمًا أيَّ شيءٍ يقف في طريقه، عبر السّلاح أو التقنيات التي صارت في اكتساحها، تؤدي دورَه بلطفٍ، ومن غير دماء متفجّرةٍ وجراح.
بشرُ المُدن الحديثةِ، يلتفّون حول المِدفَأة في المناطق الباردة، وداخل الغُرف المكيّفة في الأصْقاع الحارّة.. الهواجس والرغبات، المخاوف والشبَق واللذَّة، نفسها وقد كبُرت ونمتْ حتى صارت ناطحاتِ سحابٍ وأبراجًا وجسورًا معلّقة بين البحار والقارَّات وأنفاقًا تصل الأعالي ببعضها في اندفاعات جنونيّة يقطعها العقل البشري في تكسيره وتحطيمه، الذي ما زال في نسبيته وإن هتكَ الكثيرَ من غوامض الوجود.
والكون وظلماته ليرتطمُ ربّما في نهاية المطاف، والمسيرة الجهنميّة اللاهثة، والمجردة من أيِّ تقدُّم في القيّم الأخلاقية، الروحيّة والإنسانيّة، ليرتطم بمجهول آخر، سيكون أكثر فظاعةً ورعبًا قياميًّا لا وازعَ له ولا رادَّ.
يقينًا، رغم هذه المسافات الضوئيّة، وفرط ضوئيّة على وزن فرط صوتيّة، وصفًا لصواريخ التّدمير الشَّامل التي يلهجُ بها بعضُ قادة العالم المعتوهين في هذه الفترة مصحوبةً بتهديدٍ متواترٍ للقنابل الذريّة، التي طواها العقلُ والخيال البشريّان في التقدم والإنجازات والقفزات الحضاريّة والمدنيّة العظمى، يقينًا أن تلك الأقوام البدائيّة التي لُحمتها الطبيعة وسُداها، أكثر إحساسًا؛ بل احتشادًا بالأحاسيس في استقبال المُتع والملذّات الحسيَّة والجماليَّة، ذلك التوحّد والتجاسُد مع الطبيعة البدئيَّة، وفي بُعدها البشريّ في حين أن تَبعات الحضارة وسرعتها ومسؤولياتها المبرمجة، برمجة آليّة يجعلها تدفعُ ضريبة الجسد والروح؛ إذ أصبحت هذه الثُنائية، مهما حاولت بقدراتها العلميّة والتقنيّة، العودة أو الاحتفاظ بشيءٍ من ذلك الزَّخم والحيويّة الفنيّة التي تعود إلى عصور الأسلاف البعيدين. وهذه الصفات تُشبه في هذا المنحى الكثيرَ من الفنون والآداب، الشعر خاصة، حيث إنّ تلك العصور الخوالي، جاذبُ حنينٍ للمعان بروقِ المخيّلة عند الفنّانين والأدباء التي تَميل أكثر إلى البدائيّة والبريّة، الوحشيّة في ثنائيّتها مع الحضارة والمدنيّة، ومن المفارقات أنّ أحدَ فلاسفةِ التّنوير ورموزه (روسو) يرى الحياة السويّة، والطمأنينة، في ذلك الالتحامِ والانسجامِ العضويّ بين الإنسان البدائيِّ والطبيعة المُحيطة. كانت تلك الأنماطُ الماقبل حداثيّة وحضارية، تأتي حقبة «الطبيعة» قبل «الثقافة» و»اللغة» مثالًا، حتى حاول التوفيق لاحقًا بين فضل تلك العُهود، وفضائلِ الحضارة في مركّب واحدٍ مُتناغم.
بما أنّني في هذه المُدن والبلاد، وعلى قِمم جِبالها النقيضة لجِبالنا، على الصَّعيد الطبيعيّ الجّمالي، فالحوادث والوقائع التي هي على الأرجح مأساوية ومؤلمة، في الشرق الأوروبي. كانت الرّسالة التي بعثتْهَا عزيزة الطائي، وهي تعبُر الطريقَ البريَّ من مسقط إلى أبوظبي، عن وفاة ابن عمها ليث نصر الطائي. تذكرتُ ثمانينيَّات القرن الماضي حين أتيتُ إلى هذه البلاد إبّان النظام الاشتراكيّ والأحزاب الشيوعيّة الآفلة والمتحوّلة إلى تسمياتٍ وأحزابٍ أخرى، جئتُها عبرَ القطار من سوريا حيث كنتُ أقيم. وبمحضِ الصُّدفة، عرفتُ أن ليثًا جاء مع عائلته في الإجازة الصيفيّة، إلى رومانيا، وتحديدًا في مُنتجعات جِبالها، التي لا تبعُد إلا قليلًا عن المناطق الجبليّة التي أقضي فيها إجازتي في هذه الفترة.
أتذكّر دعاني لزيارته، حيث أخذني بسيارته من العاصمة (بوخارست) إلى حيث يقيم، وأنا في طريقي إلى تشيكوسلوفاكيا وبولندا، فقضيت أيامًا رائعة، ثمّ واصلت رحيلي عبر القطار.
ليث هو الابن الأكبر لنصر الطائي، مؤسّس أول جريدة في تاريخ عُمان (الوطن)، إذا استثنينا الجرائد التي أنشأها عُمانيّون في الشرق الأفريقي، وليس في البلد الأم، عُمان. كان نصر الطائي أحد المثقّفين العائدين مطلع السبعينيّات من مغتربَاتهم خارج عُمان، أسوة بأخيه المعروف عبدالله الطائي، والد الدكتورة عزيزة، الذي كان كاتبًا بارزًا ومسؤولًا رسميًّا في أكثر من دولة خليجية.
رحل نصرُ عن عالمنا، بشكلٍ مبكّر ومفاجِئ، وكذلك شقيقه عبدالله، تاركَين أثرًا تأسيسيًّا في الوعي العُمانيّ الحديث لستُ في صدد تبيانه في هذا السياق.
تعرفتُ على ليث، والكثير من عائلة (الطائي) المقيمين في أبوظبي في مرحلة فاصلة وشاقّة من محطّات حياتي المُترحّلة؛ فقد أتيتُ إلى أبوظبي من القاهرة، حيث كنتُ أدرس وأقيم منذ زمنٍ مبكِّر في العمُر، وجئتُ كالهارب لأسباب موضوعيّة، فإثر زيارة الرئيس السادات لإسرائيل، صار شبه استنفار أمنيٍّ وصارت الرَّقابة بالغةَ الصَّرامة، على الوافدين خاصة. في تلك الأثناء كنتُ أسكنُ في منشية الكبرى مع زميلين لي من دولة الإمارات العربية المتحدة، خليفة شاهين المرّي الذي هو الآن وزير دولة، وجمعة راشد الذي صار سفيرًا لاحقًا، الاثنان كانا يدرسان الطب، وبارزَين في الحركة الطلابيّة التي كنتُ أنضوي تحت لوائها البرّاق الجاذب. في تلك المرحلة من العمر… يصلني الخبرُ خارج المنزل بأن الاثنين اعتُقلا، وأشار فلسطينيان من الزملاء عليّ بأن لا أعود إلى المنزل، حيث بقيتُ مختبئًا في منزلهما بالدقّي، وتحت طائلة الخوف والارتباك قررتُ مغادرة القاهرة، وكانت الوجهة أبوظبي.
كنتُ مفعمًا بإحساس التِّيه والضَّياع وفقدانِ الوِجهة المكانيّة والملاذِ الذي أمضي إليه. جئتُ في حِمى المرحوم سعيد الطائي، شقيق الأستاذين عبدالله ونصر، حين كان بعض أبنائه يدرسون في القاهرة. أتذكر محمد سعيد الطائي الذي صار دبلوماسيًا فيما بعد، كان هو دليلي في الظرف القاسي المُدلهمّ الذي انجلى وزالت غُمّته في ظِلال كرمِ هذه العائلة الشاسِع، وكرم الوالد سعيد بن محمد، الذي كان برتبة عقيد على ما أتذكّر في مؤسسة دولة الإمارات العسكريّة، التي كان الكثير من جنودها وضباطها في تلك الفترة من العُمانيين.
سعى أبومحمد ومعن وعمار ومزنة وجمال و… إلخ من أبنائه الذين نبغوا لاحقًا في مجالات علميّة ومعرفيّة مختلفة، وأصحاب مكانة مرموقة في عُمان والإمارات، سعى لتعييني مدرّسًا في المدرسة التابعة لجيش الإمارات، ثم انتقلت إلى بلاد الشام. ظلّت تلك الوجوه تُنير ظلام الذَّاكرة المريرة، برفعة أخلاقها وكرمها.
كان ليث -رحمه الله- أكبر إخوانه الصِّغار، حين رَحَل والدهم، وقد قام بعبءِ مسؤوليّات العائلة رغم صغر سنِّه حتى كبروا وأنجزوا من الدِّراسات والحياة العلميّة أرقاها.
حين أخذتُ القطار من بوخارست المطرّزة بصور (تشاوشيسكو) رئيس الدولة والحزب متّجهًا إلى وارسو، مرورا بتشيكوسلوفاكيا، في خضمّ اختلاطِ الأزمنة والأمكنة والوجوه والدروب، لا أعرف متى عشتُ في بيوت الطلبة في كلٍ من (بودابست) و(براغ) اللتين أتذكرهما بدهشةٍ وجمالٍ بالغين، خاصة (براغ) التي تحدث عنها أندريه (بريتون) بأنّها أكثرُ روعةً وسورياليّة من باريس بلد كافكا وكونديرا، ميلوش، فورمان وعشرات الأسماء الكبيرة التي أصبحت رافدًا جديدًا من روافد الثقافة الأوروبيّة.
أرجّح أن هذه الإقامة المؤقّتة كغيرها، كانت حين أقمتُ بقصد الدّراسة في (صوفيا) عاصمة بلغاريا.
تطوينا الأزمنة والغيابات، كما تطوي القطارات المسافات، القرى والمُدن، الوجوه والذكريات.
أنْ تصحو من نومك مُزيحًا ستارة النافذة الزّرقاء، على ضياء سماءٍ مُشرقة، أو غائمة مُمطرة، أو على وشك إفراغِ حمُولتِها من مطرٍ غزير، تتقدّمُه طلائعُ الرُّعود والبروق، التي أضاءت ليلَ هذه الأرجاء المدثّرة بالسكينة والصَّمت، إلا من زخّات نباحِ كلابٍ تتهادَى من البعيد أو من القريب، تتحوّل إلى صيحاتٍ وجَلبَة غير مُزعِجةٍ ولا مُرهقة للأعصاب، مثل الجَلَبَات البشريَّة، في المُدن والحروب؛ بل كأنّما وهي تنبحُ في ذلك الليل والفراغ، تتواصل بنداءاتها مع الأبد والخيال، وكأنّما ثمّة أيضًا تواصلٌ روحيٌّ بينها وحوار لا نعرف معناه؛ لكنّه مضيءٌ ودالٌّ على معانٍ كثيرة تفهمها ربّما الغابات والأشجار والطيور.
أن تصحو قائمًا على رجليك، بصحَّة لا بأس بها ونشاط توقظُه مراجعُ وخبايا بالذاكرة والخيالِ والأحلام، مطمئنًا على حياة وصحة من تحب، بداية بالأولاد والعائلة، وانتهاء بالقاطنين في أبعاد الكون وأطرافه.
أن تصحو كلّ صباح هكذا، ممتنًّا لنعمةِ الله والحياة التي ما زالت تُتيح مثل هذه المسرّات التي تصلُ حدَّ الإحساسِ بالسَّعادة التي كنتَ تظنُّها محضَ تجريدٍ، ووهم يخترعه البشرُ في غمرة المعاناة والشقاء لمواصلة الحياة وتجاوز المضائق والعقاب والعثرات، هذا الشعور اليوميُّ حين تصحو من نومك، هو منتهى التمنّي، هو الغايةُ والمسعى.
أتذكّر عنوان كتاب للشاعرة الطليعيّة شعرًا ونبلًا وإنسانيَّة، سعديّة مفرح، (تواضعت أحلامي كثيرًا) أين أولئك السّاعون وفق مقولة لكارل ماركس، في انتقال الفكر والفلسفة من «تفسير العالم» إلى تغييره؟ بعض أولئك حين تقدّم العمُر وكبُرت التجربة في ضوء قراءة الواقع والنظريّة، تأوه قائلا؛ لا أريد أن أغيّر العالم، لكنّني لا أريد أن يغيّرني العالم على هواه ونمطه وسلوكه، لنحتفظ بتلك المسافة الفاصلة بيننا، لا أنا قادرٌ على التكيّف معه، ولا هو ينصاعُ أو يتغيّر قيدَ أنملة لحلم الحالمين بعالمٍ أفضل بقيم العَدالة والإنسانيّة والجمال؛ بل يتدحرجُ أكثرَ مَقُودًا مُستعبدًا لمصالح الشَّركات والكارتلات التي وحّدت العالم على مراحل، حتى وصلت إلى مركّب (العولمة) بأذرعها الأخطبوطيّة الرقميّة، الأكثر رعبًا وخطورةً على الكينونة بكاملها.
أن تصحو وتفتح النافذة محدقًا في الأفق الشاسع البعيد…
الصّباحات تتوالى، مفعَمةً بأنداء الليل، بأمطاره المستمرّة في هذه الأمداء التي تلتقي خضرتُها بزرقة سماءٍ يُمكنك أن ترى نجومَها وكواكبها، فُرادى وعناقيدَ نشوى تتدلّى من ضواحي العرشِ السماوّي، وكأنّما في سياحةٍ تعودُ بعدها إلى مضاربِ الأهل والدّيار الأزليّة، كما ترى القنافذَ ناعسةً تُهرع إلى حُفرها، والسناجب تخشخش في أكماتِ الأشجار، رغم قلّتها هذا العام. الطيور نائمةٌ على الأغصان، تحلُم بالأمكنة التي تجمع فيها الغصون والسعفَ لبناء الأعشاش في مواسم السِّفاد.
كونٌ بكامِله يُرخي سدولَه مع الليل والنجوم. بعضُ الأديان القديمة ترى في النجوم نوعًا من قداسةٍ يحلُم مريدوها بالغيبوبة في أعماقِها وغموضِها المتلألئ الشفيف. وهناك بعض الفلكيّين الذين أوصلهم تأمُّلهم الدائم فيها إلى حُلم التوحُّد مثل بطليموس «أنا أعرف أني فانٍ، ولن أعيش إلا يومًا واحدًا، لكنّي أتحرّق شوقًا إلى الانضمام إلى النّجوم في سياقاتها الحثيثة من اتجاه في السماء إلى آخر. فإن أقدامي لن تلمس الأرض البتة، لكن مع (زيوس) نفسه سوف أغدو على خمر الآلهة».
وما بالك بشعراء العصر القديم، وهم ينادون النجوم والكواكب السيّارة، في ذلك الخلاء الصحراويّ المُوحِش كأنّما ثمّة ملاذٌ من قسوةِ المعيش وصدْعِ ألم الفراق، الأمثلةُ لا تُحصى مثل قول النابغة الذبياني:
«كليني لهمٍّ، يا أميمة، ناصبي
وليل أقاسيه بطيء الكواكبِ
تطاولَ حتى قلتُ ليس بمنقضٍ
وليس الذي يرعى النجومَ بآيبِ»
أيّ نوعٍ من الطّيور أمامي أخذ يستنطق الشجرة، حول جذورها وتاريخها الطويل في هذا المُرتفع الجبليّ، هو العابرُ الذي لا يستقرُّ له مقام، لكن حين جاءت أنثاه التي ظنّ أنّه لن يراها بالمطلق، حطّت على نفس غصنه، حيث توحّدا في برهة عِناق، نَسيَ فيه الترحّل والعُبُور، منغرسًا في أبديّة الفضاء والشجرة.
الصّفحة البيضاءُ تحلُم بالرَّحيل مع الحروفِ والكلمات، بالمداد والحبر الذي تسيلُ روحه دمًا على بياض العالم والكلمات. المداد ينتشلها من الألم الذي تتلوّى وتئنّ في غيابه، لتدخل معه إلى عالم الألفة والأنس والسّفر، بالانفلات من أسْر المكان الواحد واللون الواحد، إلى الأرجاء الشاسِعة للمكان والزمان. تحلم بالحِبر رافعة يديها توسُّلا وتضرُّعًا أن تتوحّد بحبرها ومدادها وكائناتها الوحشيّة المُنفلتة في كل الأرجاء والقِفار، والبحار والصحاري، المدن والغابات، تحلم بلمِّ شمل هذه السلالات المُبعثرة التي تفترس بعضها الآخر، وحين لا تجد هذا (الآخر) تفترسُ نفسها في إبادات مُتواصلة، حتى غابت عن ملحمتِها وقصص وحكايات الحُبّ والغرام، التي كانت تخترق حياضَها الدَّمويّة، عبر كُتبِ التاريخ، أصبحت ملاحمُ الدَّم والإفناء المُتبادل عاريةً بسطوعِها العاري حدّ العربدة والفجور.
الورقة البيضاء، تحلُم أن تقول رأيها وسط احتدامِ الهواجس، وصراع الذريّة الآدميّة والسُّلالات، التي تصلُ النّهايات بالبدايات هكذا، هكذا (حتى ينكسر القلم على الورقة).
سلامًا يا (ألما) جارتنا الفلّاحة المثقّفة الناجية من أكبر مذبحةٍ في بلادها، هي وزوجها وعائلتُها يملكُون حظائرَ أبقارٍ وأغنامٍ، تُعطي الخيرَ الوفير، تُسوّقه في المدينة، ليكون مصدرَ رزقِ العائلة وموردها الماديّ.
داهمتْهَا الحربُ الأخيرةُ، وهي في مطلع عمرها قُتلَ والدُها، وتزوّجت مبكرًا؛ دافعوا عن حياتهم وممتلكاتهم، حتى اضطرّتهم ضراوةُ الحرب والإبادات التي حصلت، إلى النزوح إلى ألمانيا الغربية. ستّ سنواتٍ عاشوا هناك، تعلمت الإنجليزية والألمانيّة، ثمّ لاحَ مع انتهاء الحرب فصلٌ جديدٌ حاسمٌ في حياة العائلة: إما أن يعودوا إلى الدّيار والمزرعة، أو يهاجروا إلى أمريكا ليكون الانقطاع عن ديار الخطوة الأولى حاسمًا.
فكرت (إلما) أن الأب والأم، جدَّيْ الأولاد، أثخنتْهُما التجاربُ المريرة والتقدّم في العُمُر، فلم يعودا قادرين على بدء حياة من نوعِ الحياة الأمريكية، هل تتركهما في الدّيار وترحل العائلة إلى «الحلُم الأمريكي» ذلك الذي فندّه فلاسفةٌ وأدباء أمريكيّون، وكشفوا آلية القسوة، التي تتقنّع بذلك البريق الجَاذب واللّمعان.
رفضت (إلما) وزوجها الانفصال عن الوالدين، رجعوا جميعًا إلى الدّيار الأولى، وبدلًا من أن يعملوا في المدينة موظّفين في استعباد يوميٍّ كما تقول (إلما) أحيوا هذه المزرعة وكبروها بسواعدهم وإرادتهم، إرادة الحياة التي لا تلين ولا تهزم إلا بالموت أمام المصاعب والنكبات.
(إلما) لها ولدٌ يدرُس في الجامعة بـ(إسطنبول) وآخرون في الديار.
(إلما) وبعض جاراتها يعطين المثال الحيّ على الانتماء إلى الأرض الذي لم تكسره حتّى الحروبُ والاقتلاعات، هناك طبعًا في منطقتنا الفلسطينيُّون روّاد تراجيديا الاحتلال والاقتلاع والإبادات المُتناسِلة، ورغم أنها أضحت سرديّة كلاسيكيّة أمام سرديات المآسي اللاحقة، لكن القِدم لا يعني إلا تجددها عبر تدفّق دماء الشُّهداء، وروح التضحية التي لا تلين، والانتماء المنحدر عبر أجيالٍ متعاقبة.
وهناك لاحقًا الكثيرُ من المناطق العربيّة؛ السوريّون في مقدمة المأساة والإرادة الصُّلبة أمام الكارثة واستمرار الحلم بالكرامة والحياة.
(إلما) لا تعرف عن هذه الشعوب، إلا القليل، لكنّها تعرف، فالآلام البشرية مُشتركة مهمّا شطّت الجغرافيا والمسافات واللغات. تحيّة إلى (إلما) المشعّة مثل الغابات والجبال والأودية المحيطة بجسدها الفتيّ ودارها. تراها في الصباحات تجوبُ الجبالَ والهضاب بجسدٍ رشيقٍ وحركةٍ عاصفةٍ، جسدٌ لا تمتلكه، رغم صروف المِحن التي مرّت بها، حتى ممثلاتُ هوليوود، أو عارضاتُ الأزياء النائماتُ على وثير النِّعمة والدَّعة والثَّراء.
الرعودُ تسوقُ قطعان بروقِها الهادِرَة المتشظّية على شكلِ صواعقَ وشآبيبَ جائعة تلتهمُ الفضاء والفراغ، كأن (زيوس) كبير آلهة الأولمب سلاحُه الصاعقة… تتبدّى الأرض بجبالها ومدنها السفليّة، في مرايا اشتِعالها على وشك الانهيار والسُّقوط، مما يُشيع الذُّعرَ في أولئك القادمين من مناطق نائِية، لم يعتادُوا على مثل هذه الأجواء والكرنفالات التي تُقيم شعائرها وطقوسها الطبيعيّة على هذا النَّحو القياميّ، بالمعنى النقيض للكارثة والمأساة؛ فهي -رغم غموض عُنفِها- طقوس وشعائر خصب ونماء قادم.
الرُّعود بحنينها المُحتدم، حنينُ الناقة التي فقدتْ وليدها في مفازات الصّحراء، حنينُ الحيتان العملاقة في أعماق المحيطات المظلمة، حنينُ السلمون إلى منابع النّهر والمياه الأولى، حيثُ الولادة والموت، حنينُ الكائنات جميعها عن محنةٍ وعناء، متوسّلة إلى الخالق جلّ جلالّه.
سيف الرحبي