في كتابه الصادر عن النادي الثقافي 2023، يتناول الكاتب البحريني حسن مدن، الإسهام الثقافي الرياديّ لأربعة من أعلام سلطنة عُمان في مجلة صوت البحرين في منتصف القرن الماضي، إذ سلّط الضوء على كتابات كل من عبدالله الطائي، ومحمد أمين البستكي، وأحمد محمد الجمالي، وحسين حيدر درويش في الفترة الممتدة من عام 1951 وحتى عام 1954، وهو العام الذي توقفت فيه المجلة عن الصدور. وقد كانت مجلة صوت البحرين، كما يقول حسن مدن نموذجًا جيّدًا للصحافة الرّائدة، بما قدمته من دورٍ في مجال نشر الوعي السياسي والثقافي في تلك الفترة من تاريخ المنطقة، فقد كانت أول دورية ثقافية جامعةٍ في البحرين، وقد جاء إنشاؤها عام 1951م بعد أن ارتخت القبضة العسكرية للاستعمار البريطاني على البلاد، مما حدا ببعض ممثلي الجيل الجديد من المثقفين إلى إعادة تأسيس الصحافة في البحرين فأنشأوا مجلة «صوت البحرين». وقد استطاعت المجلة أن تكون مرآة لما يعتمل في الذهنية العامة للمثقفين والمفكرين في البحرين وخارجها، وشاهدا على تحولات تلك المرحلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد نجحت المجلة في أن تحقق لنفسها وللبحرين صيتًا عربيًّا لدى النخب الثقافية والفكريّة، ولذلك استطاعت استقطاب الأقلام الوازنة من مشرق الوطن العربي ومغربه، أسهموا برفد المجلة بمواد ودراساتٍ ومقالات إلى جوار نظرائهم من البحرين.
ويرى حسن مدن أن تأخّر صدور الصحف في سلطنة عُمان حتى مطلع السبعينيّات من القرن الماضي، كان سببا جعل بعض الكتاب العمانيين يجدون في صحافة الخليج منابر لنشر مقالاتهم وأطروحاتهم، ومنها مجلة صوت البحرين. وقد اجتهد حسن مدن في حصر الإسهام الثقافي للكتاب العمانيين الأربعة في مجلة «صوت البحرين»، حيث قدم قراءات موسعة في الإنتاج الثقافي لكل كاتب من الكتاب الأربعة، فعمد أولا إلى التعريف بحيواتهم ومساراتهم الفكرية والعملية، ثم عمل على عرض مضامين مقالاتهم وأطروحاتهم، وتحليل توجهاتها، حيث يرى أن مقالاتهم تنوعت بين الأدب والفكر وقراءة التحولات الدولية في منتصف القرن العشرين.
كراتشي.. فضاء مشترك
في إشارة موضوعية، يلفت حسن مدن انتباه القارئ إلى قاسم مشترك يجمع الكتاب الأربعة محل الدراسة، حيث شكلت مدينة كراتشي في باكستان فضاء مشتركًا جمع هؤلاء الكتاب الأربعة، حيث عاشوا فترة من الزمن في هذه المدينة، إما للدراسة أو للعمل. وفيها التقوا، وتكونت صداقاتهم، واغتنوا بروافد ثقافية جديدة، أسهمت في تكوينهم رؤاهم السياسية والفكرية. وبالنظر إلى أن كراتشي كانت حينذاك تحتضن بعض الوطنيين من السودان واليمن وعُمان وإيران، الذين لجأوا إليها هربا من تعسف واضطهاد حكوماتهم، فإن ذلك -بحسب حسن مدن- يشكل مدخلا للتعرف على الظروف الذي تشكل فيها وعي أفراد المجموعة، وما صاروا إليه من نزوع فكري وثقافي.
عبدالله الطائي.. وريادة
النقد الأدبي في الخليج
يصف حسن مدن الأديب العماني عبدالله الطائي بأنه النّاقد الخليجي الأول، وهو لا يعني بذلك أنه أول من اشتغل بالنقد الأدبي في الخليج العربي، وإنما هو أول ناقد من أبناء المنطقة لم ينحصر تناوله النقدي على نصوص أبناء وطنه عُمان فقط، وإنما قدم قراءته النقدية في نصوص شعراء وأدباء من الخليج، كالمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والكويت، واليمن، على خلاف أوائل من اشتغلوا بنقد النصوص من بلدان المنطقة الأخرى الذين يكاد ينحصر اشتغالهم على نصوص الأدباء من أبناء البلد الذي ينتمون إليه، وهو الأمر الذي ينسجم مع سيرة الرجل الحياتية؛ إذ لم يكن الطائيُّ أديبًا عُمانيا فقط، وإنما هو أديب خليجيّ توزّعت حياته وعطاؤه على البلدان التي عاش فيها فترات مختلفة من حياته، وتقلد فيها مسؤوليات وظيفية متعددة. فتناول بالنقد والتحليل أشعار كل من: هلال بن بدر البوسعيدي من عُمان، ومن الكويت: خالد الفرج وعبدالله الأنصاري وأحمد السقاف، ومن السعودية: عبدالرسول الجشي وعبدالله عمر بلخير، ومن الإمارات: صقر بن سلطان القاسمي، وأحمد سلطان سليم، ومن اليمن: محمد محمود الزبيري وعبدالله أحمد النّاخبي، وعلي محمد لقمان، ومحمد عبده غانم.
وقد أظهرت مقالات الطائي كما يقول حسن مدن، مهاراته الكتابية في مرحلة مبكرة من البدايات النقدية والأدبية الحديثة، ومع أن الطابع الوصفي احتل حيزا كبيرا في تلك المقالات خاصة فيما يملكه الكاتب من تمكن لغوي، وما تتسم به كتابته من جزالة في الألفاظ والتراكيب ورشاقة العبارات، إلا أن النقد كان حاضرا، سواء في بسط النصوص ومضامينها، والسعي لتحليلها، وكشف دلالاتها، وتصنيف موضوعاتها، وإبداء الملاحظات والمآخذ النقدية عليها.
حسين حيدر درويش.. وأدب الرحلات
يضع حسن مدن أغلب ما كتبه حسين حيدر درويش في مجلة صوت البحرين في خانة «أدب الرحلات» ، حيث إن جلّ مقالاته نشر تحت عنوان: «أوروبا كما رأيتها»، ويرى مدن أن هذه المقالات تشكل مادة وفيرة وفريدة من نوعها خليجيا، ذلك أنها تنقل لنا صورة أوروبا، بلدا وبشرا، كما بدت في عين سائح خليجي؛ فبحسب وصفه لا يمكن اعتبار مقالات حسن حيدر درويش الطويلة مجرد تطوافٍ في جغرافيا أوروبا ومعالم مدنها وبلداتها فحسب، وإنما هي -إلى جانب ذلك- تندرج في خانة رؤيتنا بوصفنا عربا ومسلمين إلى الآخر الغربي. وينقل لنا حسن مدن رؤية حسين حيدر درويش للمدن التي زارها، وهي جبل طارق، والساحل الإنجليزي، وبريطانيا، وفرنسا، والسويد، والنرويج وبلجيكا، وألمانيا، والدنمارك، وسويسرا. ولا يقف الكاتب عند حدود وصف المكان وسلك الناس وحسب، وإنما يذهب إلى الثقافة، حيث وقف عند الحديث عند الرمز الأدبي الإنجليزي وليم شكسبير، فكتب عنه واصفا مكانته في ذهنية الإنجليز، ومقتربا من قريته ومحل سكنه.
ولا يقتصر وصف حسين حيدر درويش لمدن أوروبا وحواضرها على الصفات الإيجابية وعوامل التقدم، فقد تطرق إلى المآخذ التي يراها، وقد خصص لها مقالا، يتلخص مجملها في أمرين: الأول، التفاوت الطبقي الحاد في تلك المجتمعات، والأمر الثاني يتعلق بتبعيتها للسياسة الأمريكية في بدايات الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي. وبالإضافة إلى سلسلة مقالات الرحلات هذه، يشير حسن مدن إلى وجود مقالين آخرين يتصلان بالشأن الخليجي في تلك المرحلة من تاريخ المنطقة السياسي وتحولاتها الاجتماعية، ففي المقال الأول تناول موضوع قيام اتحاد يجمع دول المنطقة، خاصة أمام تنامي دعوات الوحدة العربية في ظل خضوعها للهيمنة البريطانية، أما المقال الثاني فخصصه للحديث عن بدايات قيام الصناعات النفطية في الخليج، بعد اكتشاف النفط فيها، مسلطا الضوء على أوضاع العمال المحليين.
البستكي والجمالي.. والاتجاه الفكري
يشير حسن مدن إلى أن المقالات المنشورة في مجلة صوت البحرين، لكل من محمد أمين البستكي، ومحمد بن أحمد الجمالي -بخلاف زميليهما الآخرين- قد اتخذت منحى فكريا، يشي باقترابهما الوثيق من مستجدات الوضع السياسي الدولي، لا سيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وما ترتب على ذلك من أحوال ومعطيات. فمن ذلك، كما يقول مدن، إن الكاتبين اعتنيا بالتبعات السياسية لنشوء المعسكرين الدوليين: الرأسمالي والآخر الاشتراكي، فعقدا مقارنات بين ما يحسبانه إيجابيات كل منهما وسلبياته، دون أن يخفى ميلهما السياسي إلى تبني رؤية النظام الاشتراكي. ولم تكن القضية العربية بمنأى عن اهتمامهما، انطلاقا من الوضع الدولي المستجدّ في تلك المرحلة، وذلك من منطلق الرغبة في نهوض الأمة العربيّة، وتحرّرها من كوابح التقدم والنهضة، شأنهما في ذلك شأن الكتاب والمفكرين العرب في تلك المرحلة المفصلية من تاريخ الوطن العربي، وتحرره من ربقة الاستعمار.