لو سألتك أيّها القارىء النبيه: ما الفرق بين الجملتين الآتيتين:
1- برج إيفل مركّب من حديد
2- برج إيفل مركّب من سبعة حروف
لأجبتني على الفور أنّ الجملة الأولى تتكلّم على الشيء أو الموضوع الذي اسمه «برج إيفل»، بينما الثانيّة تتكلّم عن العبارة «برج إيفل». لإظهار هذا الفرق،جرى العرف بوضع هذه العبارة في الجملة الثانيّة بين هلالين فيُكتب:
«برج إيفل» مركّب من سبعة حروف
أو أيضاً بين زاويتين على هذا النحو:
(برج إيفل) مركّب من سبعة حروف.
فالجملة الأولى وأمثالها من الجمل التي تتكلّم عن الأشياء، أو مجال من الموضوعات، تنتمي إلى ما يُسمّى باللغة الشيئيّة أو لغة الموضوع object language. أما الجملة الثانيّة وأمثالها من الجمل التي تتكلّم، ليس عن الأشياء، بل عن عبارات لغة ما، فهي تنتمي إلى ما يُعرف باسم اللغة المافوقية metalanguage، أي اللغة التي تتكلّم عن لغة الموضوع.
من أمثلة لغة الموضوع:
أكل زيد تفاحة.
الحلم تحقيق رغبة.
2 + 5 = 7.
أما الأحكام التي تطلق على هذه الجمل كقولنا:
في الجملة «أكل زيد تفاحة»، «زيد» هو الفاعل و»التفاحة» هي المفعول به.
نظرية «الحلم تحقيق رغبة» هي نظرية قابلة للتكذيب.
«2 + 5 = 7 » هي مسلمة في نسق بيانو Peano.
فهي من عبارات اللغة المافوقية. وعلى وجه التحديد، تنتمي الجملة الأولى إلى علم النحو، والجملة الثانية إلى علم مافوق التحليل النفسي metapsychoanalysis والجملة الثالثة إلى علم ما فوق الرياضيات metamathematics.
بدورها عبارات اللغة المافوقية يمكن أن تكون مقصودة من لغة أعلى منها، كما في قولنا:
إعراب «زيد» بأنه الفاعل و«تفاحة» بأنها مفعول به في الجملة «أكل زيد تفاحة» هو إعراب صائب.
القول بأن «نظرية «الحلم تحقيق رغبة» هي نظرية غير قابلة للتكذيب»، هو قول قابل للبرهان.
الزعم بأن «الصيغة «2 + 5 = 7» هي مسلمة في نسق بيانو» زعم خاطئ.
وبالتالي تعود هذه العبارات إلى لغة ما فوق المافوقية metametalanguage. وعلى هذا المنوال تتراتب اللغات في مستويات لا حدّ لها، يشار إلى مرتبتها بتكرار عبارة «ما فوق» بالعربية و»meta» بالأجنبية. فبعد لغة مافوق المافوقية، تأتي على التوالي:
لغة ما فوق مافوق المافوقية metametametalanguage
لغة ما فوق ما فوق ما فوق المافوقية metametametametalanguage
إلخ…
في النصوص، يجري تعيين درجة اللغة، بعدد تكرار الـهلالين. فمثلاً:
«تفاحة» تدلّ على تفاحة
««تفاحة» » تدلّ على «تفاحة»
«««تفاحة» »» تدلّ على ««تفاحة» »
إلخ…
في كتب الأحاديث العربية القديمة، غالباً ما يرد الحديث أو الخبر مصحوباً بسلسلة من المحدثين أو الرواة يتناقلون الخبر على التواتر. من أمثال هذا التسلسل في الإخبار:
قال الشيخ السلّمي: أنّ أبا نصر الطوسي قال: أنّ عبد الله الخرّاز قال: «الجوع طعام الزاهدين».
روى البُخاري عن الحميدي عن الأنصاري عن عمر بن الخطّاب أنّ رسول الله قال: «إنما الأعمال بالنيات».
أخبر القطيعي أنّ بن مسعدة أخبر أنّ الحافظ أنبأ أنّ بن المستفاض حدّث أن بشر بن الوليد قال: «من طلب المال بالكيمياء أفلس».
هذه الأحاديث هي من مستويات لغوية مختلفة، فالحديث الأول مثلاً هو قول ما فوق مافوق المافوقي، وعليه فالمتكلم أي الشيخ السلمي هومتكلم مافوق مافوق المافوقي.
أصحاب علم أصول الحديث وعلم أصول الفقه يجملون كلّ هذه المستويات اللغوية تحت اسم «لغة العنعنة». ولكن بغية التدقيق في التمييز بين المستويات، كان من الأجدى اللجوء إلى سَلسَلَة حرف الـ»عن»، على عدد الرواة أو المحدثين، فيقال:
لغة الـعن
لغة العنعنة
لغة العنعنعنة
لغة العنعنعنعنة
…………………
لغة العنعنعنعنعنعنعنعنعنعنعنغنة
تبعاً لذلك يكون المتحدّث الأخير هو المتحدّث العنعنـ…ـعني metameta…metaspeaker :
هذا التسلسل اللغوي هو ايضا شائع في الكتب العربيّة التي تضمّ بين دفّتيها، مع المتن، عدة هوامش. الهامش الأوّل منها هو شرح للمتن، والهامش الثاني شرح لشرح المتن، والثالث شرح لشرح شرح المتن، وهكذا دواليك. عادةً يجري ترتيب هذه النصوص على الطريقة الآتية:
ومن الظاهر أنّ كل نصّ من هذه النصوص هو من مستوى لغوي مختلف. فشرح المتن ينتمي إلى لغة ما فوق المافوقيّة.
من الطبيعي أن تحتوي كثير من البرامج الحاسوبيّة، بالإضافة إلى القواعد التي تقع على الوقائع، على قواعد مافوقيّة تتولّى كيفية تطبيق هذه القواعد وتعديلها، ممّا يؤدّي إلى تحسين أداء هذه البرامج. من أمثلة القواعد المافوقيّة هذه القاعدة:
من بين قاعدتين قابلتين للتطبيق على الوقائع، اختر القاعدة التي تحتوي على عدد أقلّ من المتغيّرات.
أو أيضاً القاعدة الآتية:
إن جرى تطبيق قاعدة ما مرّة واحدة، إحذفها من أساس المعرفة.
كذلك يمكن أن تحتوي البرامج على قواعد مافوق المافوقيّة، وعلى قواعد مافوق مافوق المافوقيّة إلخ… مهمّة كل فئة من هذه القواعد حسن إدارة القواعد المندرجة تحتها. لكن من غير المفيد تزويد البرامج بقواعد أعلى من أربع درجات. إذ أنّ ذلك سوف يزيد من صعوبة البرامج، دون تحقيق تحسين يذكر.
ما قلناه بشأن اللغات الطبيعية ينسحب على سائر الأنساق السميائية، أي الأنساق ذات المدلولات. ففي مجال الرسوم والصور (إيماج image)، تدلّ صورة الشيء على الشيء وتدلّ صورة الصورة على صورة الشيء وليس على الشيء، وتدلّ صورة صورة الصورة على صورة صورة الشيء إلخ… لتعيين مستوى الصورة سوف نلجأ إلى تكرار الإطارات على غرار تكرار الهلالين في اللغات الطبيعية. فهكذا مثلاً:
ما ينطبق على الدلالات الحقيقيّة، من حيث التدرّج السيميائي، ينسحب أيضاّ على الدلالات المجازيّة. فكما أنّ هناك عبارات أو صور ما فوقيّة، هناك أيضاّ إستعارات مافوقيّة. تأمّل على سبيل المثال لوحة «الخريف» للرسّام أرتشمبولدو Giuseppe Arcimboldo (1527- 1593):
فكل ثمرة من ثمار الخريف تمثّل جزءاً من الوجه، فالتفّاحة هي استعارة للخدّ والإجاصة للأنف وعناقيد العنب للشعر إلخ. ومجموع هذه الإستعارات يمثّل وجه رجل كهل هو استعارة للخريف، من حيث أن الكهولة هي خريف العمر. وبالتالي تشكّل هذه اللوحة إستعارة مافوقيّة
. meta-metaphor
الفصل بين المستويات السيميائيّة والمدلولات الخارجيّة لايحتاج إلى التنويه، لشدّة وضوحه. فما من عاقل يخلط مثلاً بين كلمة أو صورة تفّاحة والتفّاحة المتحقّقة في الواقع. ولا أحد شاهد قطّ صورة شخص ما تخرج من إطارها إلى العالم الخارجي، وتصبح إنساناً سويّاً يتواصل مع الأحياء إلاّ الذين يتعاطون بعض العقاقير التي تفسد الجهاز العصبي، أمثال الـ LSD. هذا الفصل القاطع يعود إلى أنّ كل المستويات السيميائيّة هي في جوهرها بحت صوريّة أي شكليّة formal، ولا اعتبارلتركيبها المادّي من حيث هي دالّة. بينما حقيقة الأشياء المادّية منوطة بتركيبها المادّي.
لكن بالرغم من أنّ المستويات السيميائيّة في مجال ما، كلّها من نفس البنية الصوريّة، إلاّ أنّ كل مستوى يؤلّف عالماً خاصاً لا يمكن النفاذ منه إلى أي عالم من سائر المستويات الأخرى. مع ذلك، تنتهك الفنون البصريّة هذا الفصل بين العوالم السيميائيّة، وبينها وبين العالم الخارجي. وذلك لإثارة الدهشة أو الحيرة أو السخريّة أو لأغراض جمالية متنوّعة. إذا نظرت إلى اللوحة الآتية، التي تمثّل امرأة جالسة في صالة على جدارها لوحة تمثّل شلاّلاً:
وجدتها عاديّة لكثرة تحقّقها في الواقع. لكن ماذا لو حدث ما هو غير متوقّع، كأن ينكسر إطار الصورة المعلّقة على الحائط، وتنسكب مياه الشلاّل على أرض الصالة، مما يثير هلع المرأة التي تسرع بالخروج من إطار الصورة الكبيرة:
لا شك أنّك سوف تنفجر من الضحك لشدّة غرابة هذا المشهد، مع يقينك التام باستحالة حدوث مثل هذا الأمر.
إذا كانت عدّة لوحات من نفس المستوى السيميائي ترسم مشاهد متفرّقة لعالم من المدلولات، فبالإمكان إيقاع التواصل ما بينها عبررسوم للمشاهد الناقصة، لكن ليس بالخروج إلى مستوى مغاير، كما يجري في هذه اللوحة العجيبة المليئة بالتناقضات :
التباين بين الشيء وصورة الشيء يظهر بشكل جليّ في المطبوعة الحجريّة lithography «الزواحف reptiles» للفنّان إشر:
حيث الإستحالة، بمعنى التحوّل، من تمساح إلى صورة تمساح، وبالعكس هي ليست فقط استحالة فييزيائيّة، بمعنى الإمتناع، بل أيضاّ إستحالة منطقيّة.
أحياناً قد ينجح الخداع البصري في إظهار إمكانيّة التنقّل من مستوى إلى آخر. ففي الرسم الآتي:
يبدو من المعقول أن ينفذ خيط الصيّاد من ثقب أرضيّة الغرفة إلى الأكواريوم الخارجي لاصطياد السمكة. لكن هذا مجرّد توهّم، فالثقب ليس حقيقيّاً، بل هو بكل بساطة صورة ثقب.
بالرغم من التمييز المبدئي والقاطع بين المستويات الدلاليّة، تبقى العلاقة بينها محفوفة ببعض الإبهام. وقداستخدم الرسّام السريالي ماغريت هذه الضبابيّة ليصدم المشاهد ويوقعه في الإرباك. أكثر من لوحة عنده ترسم لوحة للمشهد الذي يختفي وراءها بتطابق تام يُعشي بصر وبصيرة المشاهد، فيخال الرسم هو المرسوم:
أليس المشهد وراء اللوحة هو صورة مطابقة لصورة اللوحة نفسها ومن نفس المادة؟
لكن عند التحليل الدقيق يتبيّن أنّ التذاوت Identification هو فقط بين مدلول اللوحة ودال المشهد:
ما يعزّز الإلتباس بالنسبة للرسوم أنّها،خلافاً للألفاظ، جرت العادة على النظر إليها أحياناً كموجودات بحد ذاتها دون الإلتفات إلى ما قد تدلّ عليه. وقد زاد في ترسيخ هذه النظرة شيوع الفن التجريدي الذي يأبى أية وظيفة دلاليّة للوحة. فإن أُخذ المشهد بهذا الاعتبار، اقتصر وجوده على جانب الدال، وأصبحت العلاقة بين اللوحة والمشهد على هذا النحو:
وبما أنّ دال اللوحة، لكثرة شفافيّته، لايختلف عن مدلولها سوى بالقصد، إختلط الأمر على المشاهد، وعمّت الضبابيّة. لاتندهش أيّها القارىء في أن تكون الشفافية هنا مصدرا للضبابيّة. فليس من كلمة أكثر ضبابيّة من كلمة «شفافيّة».
أشدّ ما يبرز الالتباس هو عند حمل الألفاظ على الرسوم، كما يفعل ماغريت في مجموعته حول موضوع الغليون. فليس من لوحة لماغريت أثارت شروحات وتعليقات ومقالات مثل ما أثارته المجموعة المذكورة. لقد حار كثير من الشعراء والكتّاب، أمثال هنري ميشو H. Michaux وميشال بوتور Butor M. وغيرهما في تفسيرها. حتّى أنّ أندريه بريتون A. Breton مؤسّس السوريالية والشاعر بول ألويار P. Eluard ذهبا في الغلوّ إلى حدّ القول بأنّ «الشعر هو غليون la poésie est une pipe». ولم يترك الفيلسوف ميشال فوكو
Foucault M. أيّ جانب من الإشكالات إلاّ وتطرّق إليه في كرّاسه «هذا ليس بغليون Ceci n’est pas une pipe». لكنّ التحليل الأقرب إلى الدقّة هو ما قام به العالم في الذكاء الإصطناعي والعلوم الإدراكيّة دوغلاس هوفشتادتر D. Hofstadter K وذلك في رائعته «جودل، إشر، باخ Gödel, Escher, Bach».
أُنظر إلى هذه اللوحة:
فإنّه يبدو أنّ ما تدركه البصيرة بالكتابة « Ceci n’est pas une pipe» أي «هذا ليس بغليون» يناقض ما يدركه البصر. هذا الإلتباس يعود أساساّ إلى الاختلاف في طبيعة الدال بين الدلالة الإيقونية في الرسوم والدلالة الرمزيّة، أي الوضعيّة، في الكلمات. إذ أن الدال الوضعي لا يتطلّب
حاملاً support محدّدا يُكتب عليه. فإذا اعتبرنا الكلمات جزءاً من اللوحة، وكانت بالتالي على نفس مستوى صورة الغليون أصبح الحكم «هذا ليس بغليون» كاذباً. أمّا إذا اعتبرنا الكلمات خارج اللوحة، حالها حال اللوحة الآتية:
أصبحت الجملة» هذا ليس بغليون» صادقة، لأن اللوحة هي مجرّد صورة غليون.
إمعاناً في الخداع، لجأ ماغريت إلى كتابة العبارة على صفيحة تمّ تسميرها على لوحة
تمثّل الغليون:
فبدت العبارة وكأنّها خارج اللوحة، وأصبحت بالتالي صادقة. لكن قد تفاجئنا هذه اللوحة بإشكال خفيّ. ماذا لو كان قصد ماغريت من صفيحة النحاس على أنّها هي رسم ضمن اللوحة، من نفس مستوى رسم الغليون؟ عندها يجب أعتبار الجملة «هذا ليس بغليون» كاذبة. وهكذا تتراوح قيمة العبارة بين الصدق والكذب، تبعاً لقصد الرسّام أو المشاهد.
ما يُزيد الأمر إرباكاً، بالنسبة للرسوم الدالة، هي أنّها، بوجه عام، تشكّل علامات جزئيّة وصفية، بمعنى أنّ كل رسم يدلّ على الفرد المخصوص الذي يصفه، فلا يوجد رسم مثل كلمة «تفّاح» يدلّ على كل أفراد التفّاح، حتّى لو كان الرسم ذا طابع تخطيطي. وبما أنّ العلامات الجزئيّة الوصفيّة، خلافاً للأسماء، لاتفترض وجود مدلولاتها، فكثير من الرسوم والصور لا يقابلها أفراد متحقّقة في الواقع، حتّى يصحّ إسناد أحكام صادقة أو كاذبة إليها. وبالتالي ينطبق عليها ما ينطبق في اللغات الطبيعيّة على الأوصاف العينيّة التي ليست لها أفراد موجودة في الخارج. فمن المتعارف أنّ الجمل ذات الأوصاف العينيّة غير المتحقّقة مثل:
ملك لبنان أصلع.
أو: شنق جمال باشا ملك لبنان.
ليس من شأنها أن تقبل الصدق أو الكذب.
ماذا الآن لو قمنا بتأليف مركّبات من علامات مختلفة، كنظم جمل من صور وكلمات معاً. للوهلة الأولى يبدو الأمر في غاية البساطة والجلاء. فكثير من القرّاء اعتاد على جمل مثل:
أنا § بلدي
لكن رسم القلب،الذي هو في الأصل إيقوني، إكتسب عرفاً، إنطلاقاً من دلالته الكنائيّة، الطابع الرمزي، وأصبح يعني فعل الحب ليس إلاّ. أمّا فيما يخصّ المركبات غير المتداولة، فينضاف إليها اشكال جديد حول تحقّقها في الواقع. ففي العبارة:
لا شيء يضمن لك وجود مثل هذا الغليون الموصوف بالرسم، حتّى تتأكّد إن كان مصنوعاً في بلجيكا أم لا. وقد يزداد الإستبهام لو أنّ العبارة كانت تعني عكس ما يدلّ عليها شكلها:
فإلى ماذا يشير الضمير «هذا»؟ أإلى شيء خارجي؟ أم إلى الشكل؟ أم إلى مدلول الشكل؟ بل إنّ الأمر يتفاقم إذا ما توحّدت الدلالتان، الإيقونيّة والرمزيّة، في علامة واحدة، بحيث أنّ العلامة تصبح في نفس الوقت، كلمة وصورة لمدلول واحد. تأمّل هذا الشكل:
إنّه في نفس الوقت صورة مفتاح وكلمة مفتاح. حاول أيّها القارىء أن تميّز في الجملة:
بين القيم التي يمكن إسنادها إليها، وفقاً للمقاصد التي تحتملها.
بالرغم من كل هذه الإشكالات التي قد تعتري المستويات السيميائيّة، يبقى الفصل القاطع بين بعضها البعض، وبينها وبين الواقع محسوماً من حيث المبدأ. فكل مستوى بالنسبة للموجودين فيه هو عالم واقعي أما بالنسبة للموجودين في المستوى الأدنى فهو عالم غير واقعي:
عند هذه المرحلة، قد يشطح بك الخيال أيّها القارىء المولع بالماورائيّات، خصوصاً إذا كنت مثلي من المعجبين بفيلم ماتركس Matrix، إلى أن تتساءل إذا كان بالإمكان وجود عالم ماتحت هذا الواقع،عالم ذي أربع أبعاد، نبدو فيه نحن، للموجودين في ذلك العالم، مجرّد صور وأوهام. أليس الحالم يظنّ أنّ عالم المنام هو عالم الحقيقة. لكن ما أن يستيقظ حتى يعلم أنّه لم يكن لجميع ما تخيّله واعتقده أصل وطائل. فبمَ يأمن، كما يقول الغزالي، أن يكون جميع ما يعتقده في يقظته بحسّ وعقل هو حق؟ لعلّه يوجد عالم ما تحت الواقع الذي نحن فيه، تكون نسبته إلى الواقع كنسبة اليقظة إلى المنام. فإن وُجد مثل هذا العالم الماتحتي، من الجائز أن نستدلّ بالمماثلة على أنّ الكائنات الموجودة فيه تستطيع أن تشاهدنا، بينما نحن عاجزون عن مشاهدتها، مثلما نحن قادرون على مشاهدة الأشخاص في الصور بينما يستحيل على هؤلاء مشاهدتنا.
ثمّة عبارات تُحيل، فيما تُحيل إليه، إلى نفسها. فكلمة «إسم» مثلاًَ تُحيل إلى «سمير» و«كرسي» و«تفّاحة» إلخ… وتُحيل كذلك إلى نفسها، أي إلى كلمة «إسم». إذ أنّ كلمة «إسم» هي أيضاً إسم. والعبارة «العبارة المركّبة من خمس كلمات» مثلاً تُحيل إلى كل المركّبات من خمس كلمات، ومن بينها العبارة المذكورة، إذ هي أيضاً مركّبة من خمس كلمات، وكذلك العبارة «قابلة للحذف» هي أيضاً من هذا الصنف، إذ أنّها قابلة للحذف. ولو سألتك أيها القارىء: «ماهو السؤال الذي يَذكر كلمة «بنجكشت» من دون داعٍ؟» لما تردّدت في الإجابة: إنّه السؤال التافه عينه.
إنطلاقاً من أمثال هذه العبارات التي تُحيل إلى ذاتها، زاغ عن الحق كثير من الفرق الإسلاميّة المعروفة بالحذق في صناعة الجدل والكلام، وزعموا أنّ الإسم هو المسمّى. بل إنّ فرقة منهم ذهبت إلى حدّ تحريم المرأة من أن تنام جنب الحائط، بحجّة أنّ الحائط هو مذكّر. كما أنّ أحد المشايخ أفتى للجزار، الذي رفض تجحيش أمرأته حسبما ينص عليه الشرع عند استعادة المرأة بعد الطلاق، أنه بإمكان امرأته أن تكتفي بالسباحة في البحر حتّى يقع التحليل، نظراً لذكورة البحر. ومن نافل القول أنّ كلاّ من الحائط والبحر ليس من شأنه أن يكون ذكراً أو أنثى، وأنّ صفة «المذكّر» هي مقولة نحوية تنطبق على الألفاظ وليس على الأشياء. بالطبع، لقي هذا الالتباس معارضة شديدة من قبل الإمام الغزالي ومعظم الفقهاء الذين أجمعوا على التمييزبين ثلاثة أمور: الإسم والمسمّى والعلاقة بينهما، أي التسمية.
من الجمل الخبريّة جمل مجرّد التعبير عنها يجعلها كاذبة. فهل بإمكانك، مثلا، القول:
أنا لم أقل شيئاّ!
دون أن تكون قد قلت شيئاً ما؟ وبالعكس، أعني أنّ ثمة جمل ما أن تخبرها حتّى تحقّق ذاتها، أي تصبح صادقة. فمن قال:
أنا قلتُ شيئاً.
أنا أتكلّم العربية.
فلا يمكن أن يكون إلا صادقاً.
أمّا في الجمل الإنشائيّة التي لاتقبل قيم الصدق أو الكذب، مثل الأمر والنهي، فإثبات بعض هذه الجمل يؤدي إلى المخالفة الصريحة لما تنصّ عليه. فقد يرى المشاهد في بعض الأمكنة، التي يحظر القانون فيها لصق الإعلانات، الإعلان الآتي:
ومن الجليّ أنّ هذا الإعلان لايحترم ما يأمر به. ومن هذا النوع من النواهي النصيحة التي تقول:
أبداً لا تقُل أبداً! never say never!
إذ أنّ مجرّد التلفّظ بهذه الجملة هو سلوك معاكس لما تنصح به. إيّاك أيّها القارىء أن تقرأ الجملة التالية، لأنّك ما أن تقرأها حتّى تكون قد خالفتها. الجملة هي:
لا تقرأ هذه الجملة.
خلافاً لهذه الأمثلة، بعض الجمل الطلبيّة تُلزم المتلقّي بقبولها، وإلاّ يكون قد عصى. فالمبدأ الأصولي:
لا ردّ على النافي.
لا يسمح لك بمحاججته، لأنّه هو أيضاً جملة نافية.
في بعض الحالات، قد تؤدّي الإحالة الذاتيّة إلى مفارقات paradox. أقدم مفارقة من هذا النوع تُعرف بمفارقة الكذّاب. وقد جرت العادة على أن تُنسب هذه المفارقة إلى أحد حكماء اليونان، من القرن السادس قبل الميلاد، يُدعى أفيمينيدس Epimenides. لذلك تُسمّى أيضاً «مفارقة افيمينيدس». فقد زعم هذا الرجل، الذي هو من كريت، أنّ «أهل كريت كذَبَة». وبما أنّه كريتي ينطبق عليه أيضًا أنه كاذب. وبالتالي زعمه أنّ «أهل كريت كذبة» هو زعم كاذب، أي أنّ أهل كريت صادقون. وإذا كان أهل كريت صادقين، أصبح هو، لكونه واحدًا منهم، صادقًا. وبالتالي قوله أنّ «أهل كريت كذبة» هو قول صادق. وهكذا يستمر الدوران إلى ما لانهاية له.
الواقع أنّ أفيمينيدس كان أبعد ما يكون عن الاهتمام بالمفارقات، ولم يكن غرضه من قوله هذا سوى تقريع بني قومه. وقد استغلّ بولس الرسول تصريح أفيمينيدس ليصبّ جام غضبه على أهل كريت، لكونهم زاغوا عن الإيمان الصحيح. ففي رسالته إلى تلميذه تيتوس يقول:
«وقد قال واحد منهم (يعني به أفيمينيدس)، وهو نبيّهم الخاص، إنّ الكريتيين أبدًا كذّابون، وحوش خبيثة، بطون بطّالة. وهذه الشهادة حق» 1-12.
أمّا صاحب مفارقة الكذّاب فهوالفيلسوف أيبوليدس EUBULIDES، الذي تولّى زعامة المدرسة الميغارية في عصر أرسطوطاليس، أي في القرن الرابع قبل الميلاد. صاغ أيبوليدس المفارقة على نحوين هما:
«أنا كذًاب» أو أيضًا «أنا أكذب»،
و: « هذه الجملة كاذبة»،
حيث «هذه» تشير إلى الجملة عينها. من بعده شاعت هذه المفارقة في الأبحاث المنطقيّة. فألّف فيها ثاوفرسطس Theophrastus (372- 278 ق م) ثلاثة كتب، وخريسيبوس Chrysippus (281-205 ق م) حوالي ثمانية وعشرين كتابا. واستأثرت في ذلك الزمان باهتمام المناطقة إلى درجة أن أحدهم، وهوفيليطَس الكوسيّ Philetas of Cos (340-285 ق م) مات وفي نفسه شيء من مفارقة الكذّاب. فقد أوصى أن يُنقش على ضريحه هذان البيتان:
ياعابراً فوق الثرى، مهلاً! أنا
فيليطس الكوسيُّ أثوي ها هنا
قدمتُّ، ويحي، من قضيّة كاذب
وتفكّر في الليل موصول العنا
[ الترجمة الشعريّة للدكتور مصطفى الجوزو].
عرف العرب مفارقة الكذّاب مع يحيى بن عدي، أي منذ تأسيس بيت الحكمة. ثم راجت في كتب المناطقة. لكن الخوض فيها لم ينحصر على هؤلاء، بل أشبعها لاحقاً اللغويون وعلماء أصول الفقه بحثاً، تحت باب الخبر والإنشاء. من الصيغ الطريفة لهذه المفارقة ما ورد في كتاب «الفروق» للقرافي:
دخل رجل إلى بيت وقال: «كل ما قلته في هذا البيت كذب» ثمّ خرج.
قال رجل: «كل ما تكلّمت به في جميع عمري كذب».
وردت مفارقة الكذّاب على مر الحقب، بصياغات متنوّعة. لكن أشهرها على الإطلاق هي:
«جملتي هذه كاذبة»
ومن البيّن أنّ هذا القول يفضي إلى تناقض. لأنّه إمّا أن تكون هذه الجملة صادقة وإما أن تكون كاذبة. فإن كانت الجملة « جملتي هذه كاذبة» صادقة فيما تقوله فهي كاذبة، أي أنها إذا كانت صادقة فهي كاذبة. وإن كانت كاذبة، أي إن كانت « جملتي هذه كاذبة» كاذبة فمعناه أن سلبها هو صادق أي أنّ «جملتي هذه صادقة»، وبالتالي إن كانت كاذبة فهي صادقة. وفي كلتا الحالتين تكون الجملة صادقة وكاذبة معاً. وذلك من مفارقات العقل:
تشكّل مفارقة الكذاب النموذج المنطقي للحلقات الإنعكاسيّة. لكن مثل هذه الحلقات الغريبة لاتقتصر على مجال المنطق. فأسطورة أفعى الأوروبوروس Ouroboros التي تلتهم نفسها وتبقى مع ذلك صحيحة معافاة، عشّشت وما زالت تعشّش في رؤوس كثير من الشعوب:
فهي، بجمعها للمتناقضات:الحياة والموت، الخلق والإفناء، تعبّر عن توق البشريّة إلى الخلود. أليس من يستطيع أن يجدّد نفسه من نفسه هو قادر على الإستمرار إلى ما لانهاية له. إنّ الخلق الذاتي هو من أغرب الحلقات الإنعكاسيّة، إذ يتساوى فيه العلّة والمعلول. هل يمكن لآدم أن يخلق نفسه؟ في الواقع هذا من رابع المستحيلات. لكن بالإمكان تصوّر ذلك في الخيال أو الرسم. أنظر إلى آدم في اللوحة الآتية:
فكونه الراسم يفترض أن يكون موجودا، وكونه المطلوب رسمه يفترض أن يكون معدوماً. في إحدى قصائدي الحروفيّة، عبّرت عن هذه الحلقة الإنعكاسيّة بمحاولة للذاكرة إيجاد نفسها. فالذاكرة هي الآلة الوحيدة التي تمتلك مقدرة الاسترجاع. وعادةً، عند نسيان كلمة ما، تقوم الذاكرة بإجراء تجارب على تقاليب بعض الحروف، إلى أن تقع على الكلمة التي تبحث عنها. لكن ما بالك لو نسيت الذاكرة نفسها، فهل تستطيع أن تستعيد نفسها؟
؟؟؟؟؟؟
الراذكة
الراكذة
الذاركة
الكارذة
الكاذرة
……
الذاكرة
ثمّة صياغة مزدوجة لمفارقة الكذّاب، إقترحها جوردان سنة 1913، وهي أن يُكتب على إحدى صفحتي ورقة:
«الجملة على الصفحة الأخرى كاذبة»
وتكتب على الصفحة الأخرى:
«الجملة على الصفحة الأخرى صادقة».
وقد أخذ بعض المفكّرين العرب القدماء، قبل جوردان، بالصياغة المزدوجة، وذلك بحجة أنّ الخبريجب أن يتقدّم رتبةً عن المُخبَر به. فأوردوا المفارقة على هذا النحو:
دخل رجل إلى بيت وقال:»كل ما قلته في هذا البيت صادق»
ثمّ قال: «كل ما قلته في هذا البيت كاذب».
أمّا الصياغة المزدوجة الشائعة حاليّاً فهي كالآتي:
«الجملة الللاحقة كاذبة»
«الجملة السابقة صادقة»
فالجملة الأولى تُحوّل الجملة الثانيّة إلى:
«الجملة السابقة كاذبة»
وهذه بدورها تُحوّل الجملة الأولى إلى:
«الجملة اللاحقة صادقة»
وهكذا يتناوب الصدق والكذب على كلّ واحدة من الجملتين في دوران مستمرّ. في الصياغة المزدوجة تكون الإحالة الذاتيّة غير مباشرة، إذ كل جملة من الجملتين تُحيل إلى ذاتها بواسطة الأخرى، بحيث أنّ الإثنتين تشكّلان معاً دائرة مغلقة على مرحلتين:
أروع من جسّد هذه الدوائر أو الحلقات المتناقضة في رسوماته هو فنّان الغرافيك إشر M.C.Escher (1898-1972). فمطبوعته الحجريّة « الأيادي الراسمة» drawing hands هي الرديف البصري لمفارقة الكذّاب في صياغتها المزدوجة:
فكما أنّ كلّ جملة في مفارقة الكذّاب هي صادقة وكاذبة معاً، كذلك كل يد في هذه المطبوعة هي معاً من مستوى أعلى من اليد الأخرى، من حيث أنّها ترسم اليد الأخرى، ومن مستوى أسفل، من حيث أنّها مرسومة من اليد الأخرى. وهكذا يجيز الفن ما لاتجيزه الطبيعة.
في القرن الرابع قبل الميلاد، عبّر تشووانغ تسو Chuang Tzu، أحد حكماء الطاو، عن الحلقة المزدوجة بشكل شعري ما زال يثير الحيرة والإندهاش. لقد استيقظ، ذات يوم، من نومه وراح يجهش بالبكاء. فلما استفسر تلاميذه عن سبب حزنه، وصف لهم حلماً جليّا رأى فيه نفسه مجرّد فراشة دون أي دراية بشخصيّة تشووانغ تسو. لكن عندما لم يجد تلاميذه في الأمر ما يدعو
للإستهجان، أجابهم بأنّ المشكلة في أنّه لايعرف إن كان هو تشووانغ تسو قد حلم أنّه فراشة أو أنّه الآن فراشة تحلم أنّها تشووانغ تسو:
ماذا لو أخبرتكم بأنّي ألّفت روايةً خياليّة عن كائن من كوكب آخر، يتمتّع بقدرة فائقة وبذكاء خارق. هذا الكائن يشهد لي في الرواية بأنّي أعظم من كتب رواية. هل تُصدّقوني؟ بالطبع، لا. فاتّعظوا يا أولي الألباب!
من عجيب المفارقات القريبة من مفارقة الكذاب ما ورد عند أدباء العرب في باب الأنبياء الكذبة. فأحد الذين ادّعوا النبوّة استدعاه الخليفة وسأله أمام حاشيته: ما الدليل على نبوّته؟
فأجابه الرجل: إنّي أعلمُ ما في أنفسكم.
فسأله الخليفة: وماذا في أنفسنا؟
فقال: إنّكم تعتقدون أنّي لست نبيّاً.
عندها قال له الخليفة: إنّك في كلّ الأحوال لستَ نبيّاً. لأنّه إن كنّا نعتقد أنّك لستَ نبيّا، فأنت، بحسب اعتقادنا، لستَ نبيّاً. وإن كنّا نعتقد أنّك نبيّ، فأنتَ لم تعلم ما في أنفسنا، وبالتالي أنتّ لستَ نبيّاً.
فردّ عليه الرجل: بل أنا نبيّ في كلتا الحالتين. لأنّه إن كنتم تعتقدون أنّي نبيّ، فأنا نبيّ وفقاً لاعتقادكم. وإن كنتم تعتقدون أنّي لست نبيّاً، فقد علمتُ ما في أنفسكم، وبرهنت بالتالي على أنّي نبيّ. فتأمّل!
قد يغلب على أعتقاد البعض أنّ مفارقة الكذاب والمفارقات عامة هي حيل عقليّة لاتستهوي سوى أولئك الذين يشتغلون بالأنساق الصوريّة البحتة، كعلماء المنطق والرياضيّات والذكاء الإصطناعي. لكن في الحقيقة، للمفارقات وزن عملي مباشر. فقد تشكّل داءاً للصحّة النفسيّة، كما أنّها قد تصلح لأن تكون دواء للمرضى النفسيّين ووسيلة للوصول إلى الحق للناشدين طريق التصوّف. تأمّل كيف يلجأ هذا الشاب المحتال إلى مفارقة الكذًاب ليوقع الفتاة البريئة في شباك الحيرة وينال رغباته، متملّصاً سلفا من أي تعهّد
فهل لهذه الفتاة البريئة أن تصدّقه؟
وهل لنا أن نصدّق حكيم وفيلسوف الصين لاو- تسو Lao-tseu الذي قال:
« الذين يتكلّمون لايعرفون
والذين يعرفون لايتكلّمون»
وهو الذي ألّف كتابا من عشرة آلاف كلمة!
المفارقات التي تؤدي إلى العقد النفسيّة هي من باب الأوامر التي تنفيذها يستدعي في نفس الوقت نبذها. نموذج هذه المفارقات الأمر: كُن عفويّاً! فالشخص الذي يتلقّى مثل هذا الأمريوضع في موقف لايُطاق. لأنّه إن تصرّف بعفويّة، يكون قد فعل ذلك بإطاعته للأمر، وبالتالي يكون قد تصرّف من دون عفويّة. أنظر إلى هذه المرأة المسترجلة التي تحاول أن تفرض على زوجها أن يكون رجلاً. لكنّها بمحاولتها هذه لا تفعل سوى أن تزيد من عقدة النقص عنده:
الإيديولوجيّات هي أكثر ما تكون عرضة للمواقف المتناقضة. وقد يكون تحليل روباشوف، بطل رواية كوستلر Koestler «الصفر واللامتناهي» أصدق تحليل لهذا التناقض السلوكي في الإيديولوجيّة الشيوعيّة:
« كان الحزب ينكر حرّية الفرد، وفي نفس الوقت كان يفرض على الفرد التفاني الطوعي. كان الحزب ينكر مقدرة الفرد على الإختيار بين حلّين، وفي نفس الوقت كان يفرض عليه أن يختارالأفضل. كان الحزب ينكر مقدرة الفرد على التمييز بين الخير والشر، وفي نفس الوقت كان يتكلّّم بلهجة مؤثّرة عن ارتكاب الذنب والخيانة. فالفرد، دولاب من دواليب ساعة مُدارة إلى الأبد وليس بالإمكان توقيفها أو التأثير فيها، كان واقعاّ تحت رحمة الحتميّة الإقتصادية، ومع ذلك كان الحزب يفرض على هذا الدولاب أن يثور على الساعة ويغيّر حركتها. ثمّة خطأ حسابي في مكان ما. فالمعادلة لا تنطبق على شيء».
لعلّ أكثر ما يحمل الإنسان على التخبط النفسي هو إرغامه على إنكار دينه بالحلف برموز هذا الدين. هذا ما حصل مع المسلمين الذين ارتدوا عن الإسلام إلى الصابئة عند إرغامهم على نكران دين الصابئة بالقسَم بكتاب الزند الذي هو كتاب «ماني» نبي الصابئة. وهذا أيضاً ما حصل سنة 1616 مع اليابانيين الذين سبق لهم أن اعتنقوا المسيحية، حين أجبرتهم السلطة اليابانية أن يحلفوا باسم الآب والإبن والروح القدس وباسم مريم العذراء وجميع الملائكة على الجحود بالدين المسيحي.
عادل فاخوري
كاتب وأكاديمي من لبنان