(1)
هُنَاكَ فِي أقْصَى نُقْطَةٍ مِن الْمَجَرَّةِ
أَوْ هُنَا بَيْنَ حبّتَيْ رَمْلٍ
يَحْشُرُ الْمَوْتُ أَنْفَهُ دَائِمًا .
***
حِينَ تَكْرَعُ من عَيْنِ الْحَقِيقَةِ
يَكُونُ الْمَوْتُ ضَيْفًا خَفِيفَ الظِّلِّ
يَأْخُذُ حَاجَتَهُ من الطِّينِ
ثُمَّ يَطِيرُ تَارِكًا الرُّوحَ تَتَلَأْلأُ .
***
هُنَاكَ فِي الْأَعَالِي شَيْءٌ ما تَنْتَظِرُهُ
أَجْمَلُ من كُلِّ الْأشْيَاءِ
تَدَرَّبْ عَلَى الْعَوْدَةِ إلَى الْأصُولِ، وَسَتُرِيكَ السَّمَاءُ مَا يُدْهِشُكَ…
(2)
اسْمُكَ
اسمُكِ نجمةٌ في ظلالٍ قاتمةٍ. في دُرُوبٍ مُؤَدّيةٍ إِلَى الْمَوْتِ، بَيْن أَنْيَابِ مَلَلٍَ طِينِيٍّ أَسْمَعُ رَنِينَه مُدغْدِغًا فيَّ رَغْبَةً مَطْلِيَةً بالْقَارِ. يُطَارِدُنِي إسْمُكِِ مَالِئًا بِي فَجْوَاتِ زَمَنٍ مَنْهُوكٍ، مُسَرْبِلاً جَسَدًا مَلْدُوغًا بسِياطٍ من غُُمُوضٍ. وبسكّينٍ ضاحكةٍ يمزِّق أشياءَ لم تَعُدْ موجودةَ في جحيمي.
اسمُكِ يَرْمِي بِي كُلَّ صَبَاحٍ في قَعْرٍ بئرٍ متسلّيًا بِصَوْتٍ مكْتُومٍ وأنفاسٍ مَسْجُونَةٍ في قنِّينَة ِعَدَمٍ مُتَوَرٍِمٍ من النِّسْيَانِ، بِعَتْمَةٍ تَمْضُغُنِي وتَبْصُقُنِي في العَمَاِء، اسْمُكِ يَسْقِينِي كلَّ غُرُوبٍ كُؤُوسًا من قََصَائِدَ مُلْغِزَةٍ، مُتْرِعًا شَرَايينِي بِنُثَارِ دَهْشَةٍ قَاسِيَةٍ.
قَرٍيبًا مِنَ الْهَذَيَان بَدَا اسْمُكِ جَوْهَرًا تَدُورُ حَوْلَهُ كَائِنَاتٌ مُلْتَهِبَةٌ. غَيْرَ مُزَوَّقَةٍ، كَمَا لَوْ كَانَتْ في صَدَفَاتِها، تَرْقُصُ فِي حَضْرَةِ مَجْدِكَ. هُنَا، مُجْبَرًا على التَّقَهْقُرِ نَسَغ اسمُك دَمِي بِغُبَارٍ مُعْتِمِ، مَا جَدْوَى أن أٌقترِبَ أكثرَ وأصِيرَ حَجَرًا ؟قَلْبِي لا يَسَعُ إلاّ طاقتَهُ من النُّورٍ والصَّفَاءِ؟
تلك الْوَرْدَةُ الّتي قُلْتَ لي إنّهَا نُبُوَّةً ، نَثَرْتُ مَسْحُوقَ بَتَلاَتِهَا على العشبِ المُرَوَّعِ من رُعُودِ الشِّتَاءِ وبُرُوقِه، فاخْضَرَّت جُدْرَاُن رُوحِي، تلك الْوَردَةُ الّتِي تَنْبُتُ في غُضُونٍ أَرْضٍ مَحْرُوثةٍ بأظْفَارٍ قَلَقٍ لَزِجٍ، شَرِبْتُ من زَيْتِهَا، فاشْتَعَلَت أمامي رُؤُوسٌ من أَزْمِنَةٍ غَابِرَةٍ.
تلك الْوَرْدَةُ هِيَ ظّلًّ لاِسْمِكِ حَتْمًا.
(3)
الْكائنات الصّغيرة
لاَ شَيْءَ يَبْقَى بَعْدَ أَنْ تَخُونَ النَّارُ نَفْسَهَا. فِي مَتَاهَاتِ الْمَجْهُولِ ثَمََّةَ مَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى الْمُرْبِكَ، لاَ تَقْلَقُ الْكَائِنَاتُ الصَّغِيرَةُ رُغْمَ أنَّهاَ بِلاَ أسْمَاء، تَسْتَمِرُّ في الْوُجُودِ بِرَأْسٍ عَنِيدَةٍ، بَيْنَمَا الرِّيحُ تَكْتُبُ وتَمْحُو نَفْسَهَا في الْمَدَى .
***
بَيْنَ الْغَابَةِ وَالسَّمَاءِ خَيْطٌ مِنْ حَرِيرٍ، تَتَسَلَّقُهُ الطُّيُورُ طِيلَةَ حَيَاتِهَا، كُلُّ رِيشَةٍ تَسْقُطُ هِيَ ذَرَّةٌ مِنْ ذلك الخيْطِ، عمر هَذَا الْعَالَمِ هُوَ عَدَدُ الرِّيشِ الْمُتَدَحْرِجِ مِنْ أَعْلَى.
غوص في الأعماق
بيتُ الحكمة الواسعُ
فِي بَيْتِ الْحِكْمَةِ الْوَاسِعِ تَذْوِي أَسْئِلَتُنَا، تُزَالُ بِخِفّةٍ، مِثلَمَا تُزِيلُ أَنَامِلُ رَقِيقَةٌ قَذًى في الْعَيْنِ، وَ حِينَ نُغَادِرُ هَذا الْبَيْتَ تَشْتَعِلُ نَارٌ مِنْ تَحْتِ رَمَادِ الطُّمَأْنِينَةِ والْيَقِينِ ، نَبْرُكُ مِثْلَ جَمَلٍ خَوْفًا مِنْ رِيَاحِ الْغُمُوضِ وَمِنْ لَفْحَةِ حَيْرَةٍ سَاخِطَةٍ. خَارٍجَ أيْقُونَةِ الْحِكْمَةِ، الحياةُ كلُّ الْحَيَاةِ لَهَا مَعْنَى الْبُكَاءِ، والرُّؤْيَةُ مُلَطَّخَةٌ بالشَّكِّ والضَّبَابِ.
هذا اللّغْزُ لهُ مَكاَنُ القَلْبِ فِي الصَّمْتِ، حَيْثُ ضَجِيجُ الانْتْقَالِ بَيْنَ أطْوَاِر الْوُجُود كَثِيفٌ، حَيْثُ جَرَسُ التَّآكُلِ والاضْمِحْلاَلِ الْمُبَرْمَجِ لِوِلاَدَةٍ شَاقَّةٍ أُخْرَى، نَسَقٌ وَتَنَاسُقٌ خَطَّتْهُ «هَرْمُونِيا» الْخَلْقِ والْبَعْثِ، لاَ رَادَّ له إلاّ العَمَاء.
في الْغَابَةِ الْبَعِيدَةِ ، فِي فَجْرِهَا الْبَرِّّي، ثَمَّةَ مَا يُشْبِهُ هَذَا اللُّغْزَ، المَوْتُ يَمْشِي تَحْتَ الْأشْجَارِ دُوَنَ قِنَاعٍ ، وَالْحَيَاةُ تَسْتَحِمُّ فِي النَّهْرِ فِي حَيَاءٍ، حِينَ يَأْتِي إِنْسِيٌّ تُغَلَّقُ أبْوَابُ الْحَقِيقَةِ أَمَامَهُ، وَ بَيْنَ الذَّرَّةِ والذَّرََّةِ يَنْتَصِبُ حِجَابٌ من قَلَقٍ وَدَهْشَةٍ.
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يُرِيدُ الصُّوفِيُّ تَمْزِيقَ الْحُجُبِ، يُرِيدُ الغَوْصَ في الْأَعْمَاقِ، يُرِيدُ طَمْسَ الْحِكْمَةِ الزَّائِفَةِ .
عجينة العالم
– مِنْ أيِّ عَجِينَةٍ خُلِقَ هَذَا الْعَالَمُ ؟
– أمِنْ أَعْدَادٍ وَحُرُوفٍ وَأَنْوَارٍ أَوْ مِنْ قَشِّ وَطِينٍ ؟
– مِنْ أيِّ أرْضْ ٍهذه الْعَجِينَةُ الْمُقَدَّسَةُ؟
يُجْهِدُ الصُّوفِيُّ نَفْسَهُ لِيُدْرِكَ هَذَا السِّرَّ، وَفِي الْمُقَابِلِ يَعْرِفُ أيُّ عُصْفُورٍ صَغِيرٍ مَا هُوَ أَجَلُّ وَأَسْمَى.
منتهى الوضوح
فِي بِئْرٍ عَمِيقَةٍ يَرْمِي الصُّوفِيُّ حَوَاسَّهُ الخَمْسَ. يَمْلأُ الْبِئْرَ تُرَابًا وشَوْكًا وحصًى،
بَيْنَمَا الْحَاسَّةُ السَّادِسَةُ يُعلّقُهَا تَمِيمَةً عَلَى صَدْرِهِ. فِي مُنْتَهَى الْوُضُوحِ تَصِيرُ الرَّغْبَةُ شَجَرَةً مَوْفُوَرَةَ الظِّلاَلِ والثّمَارِ.
الْحَوَاسُّ لاَ تَكُونُ إلاّ ستّا، والنُّورُ لا يُعْرَفُ إلاّ بالظّلاَمِ.
شيخوخة الكون
كُلَّمَا شَاخَ الْكَوْنُ زَادَتِ الْحَقِيقَةُ نَضَارَةً. حِينَ تَأْتِي الدَّيْنُونَةُ تَكُونُ الحَقيقَةُ عَرُوسًا ، يَتَمَلّى البَشَرُ جَمَالَهَا.
خِلاَفًا لِأَوهَامِ الْكَثِيرِين لن تَكُونَ الحَقِيقَةُ مُؤْذِيَةً…
الوردة مسمومة
حَتَّى الْوَردَةُ الْمَمْلُوءَةُ سُمًّا هِيَ أَيْضًا وردةٌ
إجْلاَلاً لِمَوْكِبِ النّهَارِ تَنْفُضُ عَنْهَا قَطرَاتِ النَّدَى
مِنْ يَدِ الشَّمْسِ تَشْرَبُ قَهْوَةَ الصَّبَاحِ
تَمْتَصُّ تَوَهُّجَ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ في الْمَسَاءاَتِ الْهَادِئَةِ
غير أنّها لا تَتَوَقَّفُ عَلَى التّرَبُّصِ بِفَرِيسَتِهَا…
———————————————-
السيد التوي \