ذاكرة الفِيلة والاستعراض
تحيلنا الثقافة العربية ، من منطق راهنها، وعبر مرآة تاريخها السحيق، إلى شبهة الذاكرة وتشظيها وثقوبها الكثيرة ، خاصة في ظل هجمة إعلامية كاسحة، تزيد هذا التشظي وهذه الثقوب استحالة رتق واتساق معنى وذاكرة.
ليس التشظي بهذا المنحى، منزع تعددية أو طموحها، وهو حالة من حالات نبل الثقافات ونضجها، وليس أيضا، تشظي الكتابة عقب الانكسارات والهزائم بحثا عن وجهة وأفق – وانما، أي التشظي، بعثرة المنتج الثقافي والفني الذي يشكل إرث الذاكرة وقوام وجود الشخصية وتمايزها عبر القرون والأجيال ، لصالح تفريغ واستقطاب وحيدين ، لاشك سيؤدي، بأي أمة إلى خلاء المعنى وضعف الذاكرة وتسطيحها، والى تشويه القيم ، بالوقوع – بالنية أو من دونها- في تبعيات الآخرين وثقافاتهم وأنماطهم .
فالمغلوب ، ما أسهل وقوعه زي الغالب وغلبته وسطوته حسب الرؤية الخلد ونية ورؤية الوقائع الماضية ، والتي مازالت ماثلة تتجدد فصول تبعيتها ونكوصها الحضاري في تملك ذاتها وفرض هذه الذات كأفق سياسة واجتماع وأفق فكر وفنون. مما يرتد كثيرا إلى سطوة السلفية وحكم الموتى وقيادتهم من أجداثهم لعالم الأحياء خانقين أي اجتهاد أو رأي وتعبير.
فرقاء الخطاب العربي، كل يغني على ليلاه وكل يدعي امتلاك حقيقة الوجهة السليمة لسير التاريخ كما يردها ويتبناها … لكن سير الأحداث وسير التاريخ الفعلي ، لا يرياننا شيئا حقيقيا من فحوى ذلك التبشير وتلك الجلبة المستمرة طوال هذا القرن على الأقل .
الذاكرة العربية تغوص في جحورها وشظاياها أكثر فأكثر، ويستحيل أن تكون ذاكرة فيلة .. ومن البداهة أن ازدهار هذه الذاكرة ولمعانها يرتبطان بخط الصعود الحضاري لأي ثقافة ترمي إلى استثمار مقدرتها الخاصة في التجدد الروحي والإبداعي.. أما إذا كانت حالة التاريخ عكس ذلك تماما، وهو ما لا يتنكر له اثنان، فالغبار الكثيف يبني طبقاته العميا، على الذاكرة والنفس … ويعمي الدليل.
انظر حولك، بهدوء أو غضب ، لترى المشهد العربي المبعثر من الصحراء إلى الصحراء، مسرحا للاعبي الإكروبات ومعارض التخلف والفتن الصغيرة وأوهام المعارك الكبرى..
لترى المشهد كله في عيني وعل جريح في صحراء مخترقة .
* * *
في هذا السياق لا ينفع الكلام الكبير حول عظمة هذه الذاكرة وهذه الأمة وعدم قدرة اختراقها. فذلك الاختراق تم منذ زمن طويل . والذاكرة العظيمة ، ربما، هي الأكثر استهدافا … هكذا نرى في الهند، التي اخترقت ذاكرتها الثقافية والوجدانية عن بكرة أبيها.
وكذلك الصين واليابان وان ظلتا عصيتين على الاختراق النهائي، بسبب حصانة حاضر، وليس ماضيا فحسب قوي وعنيد.
الحضارة الغربية – الأمريكية ، ربما هي أول حضارة في تاريخ البشر، استطاعت توحيد العالم وفق نمط تعبير وسلوك ومزاج، وبسبب اندلاع قوة العقل العاتية في كل المجالات ، فليس ثمة في الكرة الأرضية من سلم من مس هذه الحضارة … من غابات الأمازون حتى تيرانا أنور خوجة.
حضارة ربطت إرادة القوة والهيمنة بإرادة المعرفة وتجسدها بشكل لا نظير له، فتحقق لها بأشكال متفاوتة ذلك الاستئصال لذاكرات وشعوب وقوى كانت بالأمس ندا قويا وباطشا – أو ما يقترب منه وينوب عنه، (الاستئصال) فإن إبادة الذاكرة والمتمايز والخصوصية، تقوم مقام الإبادة العضوية وتقي بها وتحتويها.
انظر حولك لترى المشهد العالمي، غارقا حتى الجمجمة في أسواق ومنتجات الاستعراض الكبير، من أغذية وعطور وموسيقى وغناء وكتب ومجوهرات وأنماط عمران و….إلخ ، أي المنتج المادي والروحي بحذافيره ، وتعرف أن هذا الاستعراض الضخم للآلة البشرية الحديثة يملك مشروعية وحدته القسرية الناعمة على كل القارات والأجناس والألوان، وأن الخصوصيات التي تشكلها الذاكرات المختلفة،قد مُحيت أو تحولت إلى زقاق كئيب لصالح هذه الوحدة الكبرى وأشكال قوتها الاستعراضية في هذا البوليفار الضخم .
* * *
في ضوء مجتمعات الاستعراض هذه كما يدعوها جي ديبور، محللا وقائع الاستعراض الغربي عبر مفتتح لفيورباخ ، حيث يفضل عصرنا "الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التمثيل على الواقع، المظهر على الوجود… وما هو مقدس بالنسبة له ، ليس سوى الوهم . أما ما هو مدنس، فهو الحقيقة . وبالأحرى فإن ما هو مقدس يكبر في عينيه بقدرها تتناقض الحقيقة ويتزايد الوهم، بحيث أن أعلى درجات الوهم تصبح بالنسبة له أعلى درجات المقدس".
في خضم هذا البذخ الاستعراضي وعنفه الخبىء، يولد الكائن المشوه والمفصول عن فطرته الأصيلة وذاكرته النيئة ، وتأخذ المسألة مداها المسخي في مجتمعات العالم الثالثية ، بحيث تجتاحها هذه التصورات والأنماط مفهوما يتم تسويقه بشكل خرافي، وطريقة معيش ، وهي في طور المستقبل، بكسر الباء، والمستهلك السلبي في غياب أي قدرة على التمثل والهضم وفي غياب القدرة الشرائية لدى الأغلبية ، فتنحدر إلى أحط درجة في الوهم الاستعراضي والمظاهر الكاذبة.
تغوص هذه المجتمعات في وحل الاستعراض والاستهلاك ، كنسيج يلف كامل وجودها ويفضي بها إلى حتف القيم الإنسانية والشعرية ، والى حتف ما هو مشرق في موروثاتها ومشاعرها فتتحرك كائناتها كالدمى الدائخة في دائرة هذا المظهر الاستعراضي الذي تتفاخر به وتزهو أمام الآخر، متنامية نقاط وجودها المضيئة والحقيقية .
أمام هذا الواقع المؤلم، لا نستغرب تلك الدعوات المتشنجة التي لا تفتأ في غير مناسبة ، تنظر إلى الثقافة الرفيعة والى الفنون وما يمت إلى الإبداعات الروحية ، بارتياب وحذر، يصل حد الازدراء، فهي منسجمة مع سياق معيشها الاستعراضيي المبتور بترا عن الذاكرة والمعرفة .. ويتصدر أعداء الفن والجمال والمتثاقفين ، الحشد، متشدقين بكلام لا معنى له في أحسن حال، حول عصر الصناعات والتقنيات والعقل ، جاهلين بداهة ، أن هذا العصر لم ينبثق من ركام الأوهام وترف الفراغات وانما سبقته عهود التنوير، وانعطافات الفكر والفنون والوقائع الحاسمة.
وهي عهود واكتشافات توزعت خارطة العلوم كما توزعت خرائط الآداب والفنون والأذواق والأمزجة و….إلخ وكانت تشي بها، أي الانقلابات العلمية، وتؤشر اليها.
لكن فكر المجتمعات الاستعراضية ، إذا صح، أن لديها فكرا مهما كان نوعه بمعنى أنه يندرج في سجال ما، وهو أمر مشكوك فيه حتى العظم واللثة، فهو فكر اختزالي ، يختزل الأفكار ويسلخها من سياقها الطبيعي في التاريخ والمكان، واستسهالي، ناعس ومرتاح ومطمئن لبلاهته كونه لا علاقة له بطين الواقع وجبلة التاريخ.
سيف الرحبي