البيت المنزل، الدار ، الديار، منازل الفتى ومضارب القبيلة والأحبة والجماعة ومن ثم الدِمن والأطلال والذكريات.
يمتلك الكائن عادة جذره المكاني ، مركز الروح والعواطف، المرجع حين تزأر عاصفة الشتات. يمتلك بيتاً يعود إليه ولا يستطيع أن يستلبه منه أحد، حتى ولو استُلبت الأرض، يبقى في الذاكرة والحنين.
البيت منزل الحياة الواقعية والأحلام ، مكان المسامرة والمنادمة ، المساكنة والزواج… بيت الواقع والميتافيزيقيا.. الشعراء سفحوا أخيلة ودموعاً، قصائدَ ملحمية خلدها الزمن حول المنازل والديار في حياتها العامرة أو بعد التهدّم والخراب.
(لاهوتيو) الحضارات القديمة ، الفرعونية على رأسها ، وما بعدها على مر العصور، تحدثوا عن البيت الرمزي بيت الخلود والأبدية. أمام منزل الحياة الفانية ولم يعيروا أي اهتمام لهذا الأخير، لأن الاحتفاء بالزائل والعابر خدعة الجاهل وابتعاد عن المسائل «الجوهرية».
(باشلار) الفيلسوف الحديث كتب عن بيت واقعي، بيت الطفولة والشباب، منزل الألفة والحنان في مهب الفصول وعصف الثلوج والذكريات. منزل يمتلك كل صفات الواقع، أثثه بأجواء الرمز وجموح الخيال..
متن الشعر والكتابة بؤرته المكان في تجسداته المختلفة. حتى الزمان الذي يبيد ويُفني ليس في بعض الوجوه إلا الحركة في تضاريس المكان وأعماقه وجنباته. شعر المكان الحاضر وذلك الذي توارى في الضباب وبقيت ثلوُمه وعرصاته التي تشبه فلولَ سحبٍ لغروبٍ كاسر..
الشعر العربي طليعة الشعرية العالمية. في بحثه المضني عن المكان الغائب. تلك الحرقة وذلك التشظي الجمالي. يجدد دائماً بحث الغياب، يخترع الجنة الآفلة أحياناً. إرثٌ كبيرٌ وغنيٌ تمتد أواصره الى شعر ما قبل الاسلام حيث «اللحظة الطللية». والشعرية بلغت ذروتها المأساوية والجمالية. الشاعر العربي الحديث على خطى أسلافه يسكن البحث عن المكان الغائب ، يسكن اللغة.
جيلنا الشعري من أهم سماته ، انخلاع المكان الواقعي . صارت ذاكرته شتات أمكنة ومدن وبلدان. صار يسكن شتاته وتبعثره ولا أمل في العودة إلى المكان الأول أو أي مكان، ذاك الذي أضحى بعد بحثٍ مرعبٍ في لمِ شمل الروح المتصدعةِ المرتجفةِ برداً وضياعاً ، في ذمةِ التلاشي والغبار. لا أمل في العودة إلى رحم التربة الأولى إلا عبر صدفة الدفن في المثوى الأخير. وبهذا يحسم القدر حربه لبيت الثباتِ والقرارِ والأبدية.
هكذا يحاول الواحد أن يتذكر مركزه المكاني والروحي كنوع من ملاذ وحماية من نوائب الدهر وتقلب الأحوال التي هي سمة اللحظة للصيرورة البشرية والحياتية، فيقع في خضم تلك الأماكن والمساحات الرجراجة، الضبابية التي لا يستطيع تعيينها إلا كذكرى عابرة لمكانٍ عابرٍ وبشر عابرين.
يحاول الخروج من هذه الهاوية المدوّخة التي لا قرار لها، ملتفتاً إلى البيت الأول بيت الطفولة والأمومة وطزاجة العناصر الأولى التي تفتح في بدئها على العالم. لكن هذا البيت العتيد لم يعد له في الواقع أي صلة إلا صلة النسخ ربما والخفوت والنقصان. فهو في هذا المنحى يشبه النماذج الافلاطونية الخالدة التي تتولد منها الأشياء والكائنات المجبولة بقدرها الجديد، كونها أطياف تلك الهانئة في سماء الأزل الأولى. الجماد له روح أيضاً فهو في هذا السياق مشمول برأفة النظرة الافلاطونية للوجود. أو بقسوتها لا فرق.
***
ما أثار هذه الخاطرة العابرة حول المنزل – المكان – تلك الورقة ، الإشعار الذي استلمته بالأمس يطلب مني الرحيل من شقتي التي أقطنها منذ أكثر من اثني عشر عاماً، بغية تدمير العمارة وتحويلها الى جديدة بأسعار مضاعفة.
الحدث في حد ذاته عادي، فعلي أن أبحث عن «ملاذ» آخر. لكني فكرت: منذ سكني في مسقط غيرتُ عدة شقق وأحياء واستقر بي المقام في هذا الحي الذي يسكنه وافدون وغرباء وهو ما ينسجم مع نمطي في الحياة، العيش بين غرباء ، وتأصيل الغربة السحيقة في النفس، وأمل الموت أيضاً بين غرباء إن أمكن..
نقطة أخرى ، هي أنني لا أذكر أي مكان سكنت فيه كل هذه الفترة من الزمن، مما جعله مكاناً استثنائياً يفترض عاطفة خاصة.
جعلني حدث الانفصال هذا أسرح في ماضي الأمكنة الكثيرة والبلدان والشوارع والأزقة. وتذكرت الرفقة والأصدقاء الذين اقتسمت معهم زاد هذا الانشطار والتشظي الجميل في المكان الذي كنا نحاول لملمته في اللغة والشعر. جعل مني ذلك الشبح الهائم في دهاليز الذاكرة ، مثخناً بوفود الأمكنة والوجوه..
في زمن الإقامة في هذا المكان المهدد بالانفصال، نسيت تماماً أن المنزل ليس ملكي وأن من الطبيعي أن أغادر في أية لحظة ، خاصة وأنا أشاهد وفود الجيران المتغيرين باستمرار. لا يستقرون على حالٍ زمنيٍ متواصل، فكأنما العمارة أحياناً محطة عابرين وليس ساكنين ومقيمين.
وحدها القطة التي تستجدي هواء المكيف المتسلل من تحت الباب شاهدتها أطول فترة من كل الجيران. وربما ستورث الإقامة لنسلها الذي خلفته في فناء العمارة.
رغم هذا ورغم توقيع شيكات الإيجار كل ثلاثة أشهر بدقة السماسرة والملاك المعهودة وخاصة في بلدي عُمان، لم أفكر أنني سأنفصل عن هذه الشقة وقد مرت السنون بهذه السرعة الصاعقة.
***
يبدو أن الذاكرة حين تصعقها أحداث بعينها، رغم عاديتها لدى أناس آخرين، تفلت في براريها لتستعيد وتستدعي، لا تفيدها كل تلك التجربة والحنكة ، ولا تنجدها وتحدُّ من اندفاعها بل على العكس تتحول الى كثبان تدفعها العاصفة لتتناثر وتتداعى في الرأس..
أسرح في دروب الذاكرة ، أتطلع في أشياء الصالة المبعثرة والمعلقة كتمائم قبيلة بدائية توشك على الظعن. يستقر نظري في المكتبة ، التي تجمعت على هذا النحو بفعل هدايا الأصدقاء المبعثرين في أرجاء العالم ، قبيلتي الحقيقية وملاذي المتوتر، الحنون. وكتبٌ أخرى اشتريتها بعناية وانتقاء المحب… يقيناً لن تنزعج وتغضب كثيراً، فشخصياتها وعوالمها أدمنت الرحيل الرمزي والواقعي.
وهي (الكتب) مثل تمائم القبيلة المترحِّلة تبقى بعدها، بعد أن يفنى أفراد القبيلة ليتوارثها النسل اللاحق، ويحتفظون بها ، أو تُرمى في قعر القمامة..
وحكايتي مع المكتبة هي حكاية الحياة نفسها بحاجة إلى حديث طويل وصمتٍ أطول.
***
عصافير الوادي
كان يمشي على الطريق الذي يفضي إلى البحر.. في المساء الكئيب الذي تميل فيه الشمس الى الغروب، كان يمشي، الرطوبة العالية وغمغمة حشرات الصيف التي تموت لاحقاً ، متيبسِّة على جذوع الأشجار العارية.. وعلى مقربةُ تلك الجبال التي يتطلَّع إليها حين يرفع ناظريه عن المدى البحري الفسيح، الجبال التي تشكل طوقاً على المدينة والذاكرة.
كان يمشي على هذا النحو، حين انشقَّ المكان عن وادٍ ينحدر من شِعاب الجبال حتى يصل البحر.. بين ضفتيْ البيوت الباذخة أيما بذخ ولمعان، كان الوادي ببقايا نخيل وأشجار سمر وغاف، كان الوادي رغم وجوده السحيق على هذه الأرض، يبدو في هذه الغابة الإسمنتية، انه طارئ، ووجوده على مضض.. علامة على أزمنة مضى عهدها، لكنها عصيّة على التلاشي النهائي والانقراض..
تقترب أكثر من صحن الوادي، تحدِّق فيه أكثر ليأخذك مع المدى البحري وشآبيب الجبال اللامعة بصفرة المغيب، وتغرق في هذا الكون الحلمي، رغم الحرارة العالية، ناسيا المدينة التي تطوقه بلهاث سماسرتها وسباق بيوتها الفارهة.
تقف على الحافة ، هكذا، تستجدي حنان هذه الطبيعة البليغة في سكونها وصمتها، كأنما هذا الصمت وهذا السكون المتفجِّر بالهواجس، إعلان احتجاج على انتهاك حرُماتها الأزليّة..
a j a
تحدّق في الوادي.. شتلة عصافير، تطير بفرح وصخب من القاع الأغبر، إلى ذروة الشجرة التي لا تتبيّن نوعها، لكنها على شيء من خضرة وحياة رغم الجفاف، ربما لقربها من البحر، وربما أن الطبيعة تدافع عن وجودها بشراسة ومعرفة نجهل الكثير من أسرارها وحيواتها..
تتطلع إلى العصافير والشجرة والوادي الممتد بين جباله وبحره، وتتساءل: هل هذا هو الموسم الذي كان في الماضي يأتي فيه طائر (العقعق) و(المفشيش)؟.
الأول كنت تصطاده بالبندقيّة، بندقيّة (سكتون) أو صمع.. والثاني تصطاده بـ(المشبكة) ربما هذا هو موسم تباشير القيظ ، حيث النخلة تبدأ في توزيع هداياها الأثيرة على قلوب العمانييّن؟
لكن هل بدأت التباشير، هل بدأ القيظ؟
وهل ما زالت طقوس المواسم والحصاد؟
***
في ركن من أركان الوادي، تلمح امرأة بلباسها التقليدي تلملم أشلاء الشجر اليابس في أكوام صغيرة، (تحطب)… تتخيل أن هناك قطيع أغنام يثغو بصخب في الجوار.. وأن الرعيان والقطعان الأخرى تنحدر مع أغانيها على السفوح، لتجتمع في هذه البقعة من الوادي الفسيح حتى كأنه من غير نهاية.
تمسح بعض العرق المتجمع على جبهتك وجسدك المثخَن بالحرارة والرطوبة وتعود الأدراج الى شقتك المليئة بكراتين الكتب وحقائب المسافرين، كأنما هي التخليص الأكثر كثافة لحياة جيل من المشردين والحمقى.
تعود الأدراج ، تاركاً الوادي والمرأة والعصافير في رعاية البحر والأبديّة.