القاهرة.. مطلع السبعينات
حين سرت غيمة باكية من فرط العذوبة
في الليل اللانهائي بنجومه وهدوئه الصاخب وخيالاته الجامحة، تحدوني رغبة الكلام مع مخلوقات خرافية لا أثر لها على الأرض، أثيرية هائمة كما تهيم الأرواح حول بارئها في سدرة المنتهى، والنيازك في ثقوب الفضاء بين أشجار الكواكب العملاقة.
في ثقوب الفضاء بين أثمجار الكواكب العملاقة.
رغبة نزقة مجنونة تقتلع العاصفة من أسرتها النائمة في قاع المحيطات وتقذف بها الى الأرض الملتهبة , لتحل روحي بعد ذلك في حجر بركاني تقاذفته العصور بين أحذيتها المعدنية الصدئة؛ ليبقى الشاهد الأخير على هول هذه المهزلة الأرضية التي نعيش.
هذه الليلة لم أستطع النوم.القلق ينهش رأسي. نأي يطرح بي، سارحا في ضباب وجوه وأطياف غائمة وبعيدة.هذه الليلة في مواجهة الماضي وأصقاع الذاكرة.
20/11/2000 بشارع الزهراء، حيث أعيش الآن وحيث قد عشت في مطلع السبعينات حين كان هذا الشارع جميلا مزهوا بأ شجارومساكنه ذات الخمائل والحدائق المثمرة التي لا تتجاوز الطوابق القليلة إلا نادرا. كانت "المهندسين" برمتها ما تزال خارجة من ريفها على حواف المدينة العملاقة.ذلك الريف الذي أخذ العمران العثسرئي يفترسه حتى انقرض الى الأبد كما انقرضت "غوطة" دمشق أو كادت،وحلت محلها هذه الأبراج والمباني الضخمة التي تفتقد الى أبسط حس جمالي وإنساني، شبيهة بأحياء مدن خليجية بنيت على عجل وينفس دوافع ذلك الهجوم الكاسر للرأسمال المتوحش وقيمه وأنماط سلوكه القسرية.
كانت "المهندسين" و"الدقي" تموج بمختلف الجنسيات من الطلبة العرب خاصة من الجزيرة العربية وفلسطين وغيرها. ففي هذه المناطق كانت أماكن نشاطا تهم الطلابية والسياسية من اتحادات وجمعيات وأندية، فالمرحلة مفعمة بأحلام التحويل والتغيير، مفعمة بالطفولة والمسرات والتجريد. كنا لا نرى الحياة في وقائعها المتعينة طبعا وانما في إنعكاساتها علي أذهاننا وعواطفنا الطرية التي تغذيها قراءات أيديولوجية قاطعة. كان اليقين على أشد دورانا "ديالكتيكيا"، لا تهدأ عجلته في اجتثاث الحضيض والتخلف وصولا لبناء الذرى الإشتراكية على أرض الفردوس الموعودة. كل بيان نوقعه نتصور على الفور اهتزاز الإدارتين الأمريكية والسوفييتية. دعك من الأنظمة العربية. فرغم يساريتنا الزاعقة. كان السوفييت بالنسبة لنا منحرفين عن الخط الصحيح الذي أشرقت أنواره علينا واليمن الجنوبية، متفردين عن معسكرات العالم وأفكاره وقواه.
هذه المنطقة بالذات كانت تعج بالطلبة الوافدين والأفكار والمخبرين والمغازلات. كانت دور السكن لا تتجاوز الطوابق القليلة إلا نادرا ومن هذا النادر كانت العمارة التي تقطنها "سوزان" وعائلتها والتي هي ملك لهم وكذلك العمارة الأقل حجما منها مقابلة لها التي كنا نسكنها، ثلاث شقق معظم سكانها من العمانيين.. مقابلة لها وليست لصيقة لأن عمارة عائلة سوزان تتمتع بحوش واسع مليء بالدجاج والأرانب والديكة الرومية الأكثر مخبا من ضجيج الطلاب ومتقاطعة معه في أوقات كثيرة خاصة ضجة الصباح الباكر حين تشرئب بأعناقها مطلقة أصواتها في فراغ النوم الكبير.
كان بواب العمارة الذي يدعى (قرني) مازال قادما من أعماق الريف لتوه يسكن هو وزوجته الشابة في باروم العمارة كعادة البوابين. بدأنا بالتعرف على عم قرني، فالبواب دائما أمين أسرار العمارة ومفتاح عوالمها وحكاياتها. ذات مرة سألته عن اسم تلك البنت الشقراء. قال اسمها سوزان.. منذ فترة وأنا أراقب سوزان عبر الشبا بيك والبلكونات. سوزان التي تميل من بين أخواتها ذوات الشعر الأسود الى الشقرة، تلك الشقرة التي لا تشبه شقرة الغربيات إلا من بعيد، فالتكوين والقسمات واضحة الغرق والاختلاف. كانت تميل الى الشقرة أو هكذا خيل الي. وجهها الطافح بأنوثة متفجرة ممتلىء قليلا عبر تناسق جمالي للجسد المفعم بالأنغام والمرح وفتنة الحياة.
بقيت هكذا وراءها عبر الإشارات والإيماءات التي نتبادلها. من غير تحديد واضح لشيء. كان ذلك الالتباس والضباب الذي يلف بطلاله المشهد الحلمي أقصى درجات النشوة والجمال. كان الانخطاف في أعلى سطوته لتلك الإشارة السحرية المصحوبة بالغنج ورفع الكتف الى أعلى كأنما ستحلق بعد قليل الى جزر وبحار بدأت تغزوها أسراب خيالاتنا البيضاء. كانت تلك الإشارة تكفيني في حد ذاتها. وربما لهذا السبب أهملت سؤال قرني عن تليفون بيتها حتى أفاجأ ذات ظهيرة بتليفون قادم من مجهول، كانت هي على الطرف الآخر وربما على كل الأطراف والضفاف فالدهشة أخذتني وأنا أسألها بصوت مرتبك، حتى وصلت الى سؤالها من أين تتحدثين الي. قالت من المكان الذي كنت ساهرا فيه ليلة البارحة. ذهبت الى الفندق ووجدتها تنتظر في الكافتيريا المطلة على النيل. كانت تلك اللحظة التي أشرقت في أعماقي كما تشرق موجة جياشة لقادم من صحراء. أحس لأول مرة فيها بمثل هذه العاطفة المتدفقة تجاه امرأة أرخت لعلاقة ظلت محفورة لا تنمحي على صفحة وجداناتي المتقلبة فما قبلها إما مغازلات سريعة أو علاقات مع بنات الهوى وهي الأكثر انتشارا في الأوساط الطلابية. رغم أن الأكثر تطرفا في الطهرانية الثورية يحاربونها بضراوة لا تقل عن محاربة الامبريالية.
جلست مع سوزان على الطاولة متلعثما لا أكاد أصحو من حلم إلا وأدخل في آخر على أرض الينابيع المزهرة. سألتها من أين أتيت بنمرة التليفون وكيف عرفت المكان؟ قالت من قرني. وفعلا حين انتهيت من سهرة البارحة التي تتكرر دائما بعد كل خطاب يقلب العالم رأسا على عقب في أحلام يقظتنا وأتيت الى المنزل مترنحا لأجد البواب أمام باب العمارة محلقا هو الآخر من فرط شربه للشيشة والدخان، قال أنه يريدني لساعدته في حل خلاف مع زوجته. دخلت معه الباروم وكانت سوزان ترقب المشهد الليلي من الشباك الأعلى.
منذ ذلك اللقاء مع سوزان أحسست أنني جزء من نظام الكون والأشياء وأن علاقتي بها هي التطبيق الرائع لما كنا نعرفه في الماركسية حول هذه الأطروحة، وليس الالتحام بجماهير متوهمة لا نعرف عنها شيئا عدا استيهاماتنا القرائية المبكرة التي كانت تتداول فيما يشبه حلقات الذكر والتحفيظ التي درجنا عليها في القرى والدساكر.
في اليوم الثاني ذهبنا الى برج القاهرة وبعده الى سينما ميامي حيث همهم رعد في أعضائي وسرت غيمة باكية من فرط العذوبة. وغالبا ما كنا نمر على كلية الآداب بجامعة القاهرة حيث كانت سوزان تدرس في سنتها الأولى، ومن ثم نذهب الى نزهات لانهائية لم تنته الى هذه اللعظة التي أحاول فيها تجميع بعض أجزاء هذا الحطام في الذاكرة. ومن غرائب الصدف، وهنا اقتنعت أكثر أن تاريخ البشر لا تصنعه قوانين موضوعية دقيقة ومنسجمة وإنما من تلك الفوضى الجارفة للصدفة، فحين جئت القاهرة بعد أكثر من ربع قرن، أبحث عن شقة ذهبت مع أصدقاء مصريين الى مدينة نصر والمعادي والهرم ولم أوفق حتى جاءت ضربة القدر السريعة ليأتي بنا سمسار الى شارع الزهراء وبشكل لاراع أمضيت العقد وأخذت شقة في الشارع نفسه من جديد.
هل أمضيت العقد لأن صبري سريع النفاد في مثل هذه الأمور أم لأسباب أكثر خفاء وعمقا: ما أحسه الآن أن تلك الذكريات والتفاصيل «الصغيرة» المبكرة تشدني الى قبضتها الصارمة، فنحن كما يقول «فلليني» ملك لذكرياتنا وليست هي ملكنا. ولماذا لا تكون الملكية مشتركة : أخمن أن ما كان يرمي اليه المخرج الكبير هو تلك القوة الكامنة في الذكريات والتي نقف ضعغاء أمامها. ومن حسن الحظ أن هناك من تبقى من أصدقاء يشاركونني هذه الذكريات والوقائع العذبة، فمنهم من قضى ومنهم من حلت البشاعة في كيانه وروحه.
مشدودا الى وتد الذكريات
كما ينشد الكبش الى حيته
والحصان الى صهيل أنثاه
أمام المحيط الهادر
لتهدأ روحه من الهياج.
أحذق في الجنبات الضاجة بقلبي
فأرى أشباح الغائبين
تسبح في عدمها الخاص.
أفلاك تقود بعضها
كراع يقذف قطيعه نحو الهاوية.
قبل ثلاثين عاما. هل أنا نفس الشخص الذي كان يسكن ذا الشارع أو امتداد له…: أم هناك كينونة أخرى انبثقت من الفراغ الهائل للزمن بتراكماته وتجاويفه المرعبة. ما هو الزمن ما هي الصيرورة. ما هذه الغيوم التي تعبر أمام ناظري، فيالق ترحلة في المغيب، هل هي نفس الغيوم أو تشبهها. وطاولة لزهر في المقهى، لاعبوها أما زالوا أحياء، والكلاب الضالة في الأزقة، نباحها طوال الليل يأخذنا في سهاد لذيذ؟ هل تشت قبل ثلاثين قبل قرون؟ لا أحد يعرف، لا أحد يهتم الأمر، للناس مشاغلهم وعاداتهم. إنه هذياني الخاص في هذه لليلة. الحياة في هجراها الطبيعي منذ بدايات الخليقة، فقط هذه الجزر العائمة في مياه الذاكرة.
لكن حين تنصعي المدن وتسعقها النكبات هل يبقى زمن بتجول من غير مخلوقاته وضحاياه؟ ولماذا علي أن أفكر على هذا النحو القاسي الذي يحجب عني الحياة التي أحب أن عيشها حتى آخر قطرة في ظلام الصحراء رغم كل خرابها وحقاراتها وغثيانها؟
أقرأ لبورخيس "قبلي لم يوجد زمان بعدي لن توجد كيونة، هو يولد معي، هي تموت معي أيضا".
بورخيس الذي قلب صفحات الزمن والنجوم والأطالس والجغرافيات ليتسلى.. يا لها من تسلية عميقة لهذا الشيخ اللاتيني الأعمى:
يمامة من بقايا ريف قديم
تنوح طوال النهار
كأنها علاما الطوفان.
كأنها علامة الطوفان
تخنق الأسمنت والحديد
تخنق المدينة الخبيئة في الذاكرة
أصوات الباعة
التي كانت تملؤنا بالبهجة
أضحت أنين غرقي
تضرعات شحاذين
بعد موت والدها بفترة ء ذهبت مع سوزان الى المقبرة. قالت أن والدها كان يحبها ويرعاها أكثر من بقية أخرتها وأنها المفضلة لديه. أحست بعنين مفاجيء اليه ونحن نقطع غمار الزحام في شارع طلعت حرب. اجتاحني فرح غامض لا يمكن وصفه حين عرضت علي الذهاب معها، فرح يشبه القبلة الأولى التي اختطفناها وصعقتنا في ظلام سينما ميامي. وحين رأيت الدموع تنسكب على وجهها أمام القبر وهي غارقة في لباسها الأسود الجميل وحضور الفقيد واستعادته المتخيلة، رأيتها أجمل من ذي قبل، جميلة أكثر مما أحتمل، أسندت رأسها على كتفي ماسحا دموعها بأصابعي أو بالأحرى لاعقا تلك الدموع الغزيرة بلساني وأصابعي، دموع القمر وهو ينير ليلة شتاء عاصفة.
كان المشهد بكامله معتدها بالرغبة واليتم، ومحتدما بالحنين.
كانت النجوم في علياء سمائها تبكي فرحا لأجلنا.
اليوم الأخير من رمضان، تروت أن أخذها مشيا الى البلد في وقت الإفطار كما امتدت كثيرا أن أفعل. فهناك وقتان يمكن المشي فيهما بالقاهرة بهدوء بعيدا من المهيج والزحام, الوقت الذي ينشغل فيه الناس بالإفطار ومشاهدة التليفزيون، ووقت الصباح الباكر عبر غلالة الضباب، قبل انفجار الحركة لهذه المدينة التي تشعبت الى عدة مدن وأزمنة ومقابر في أمعائها الضخمة. في مثل هذه الأوقات التي تذكرك بأيام غابرة يمكنك اكتشاف سحر هذه المدينة وجمالها المتواري خلف طبقات سميكة من الصخب والضغط السكاني والغبار. وأنا في طريقي بشارع الزهراء من الأعلى الذي يفضي الى شارع مصدق ومن ثم الى التحرير والأوبرا التي كانت قبل ثلاثين عاما يقام على أرضها معرض الكتاب وتحول لاحقا الى مدينة نصر- وكازينو النيل، التقيت فجأة (بأم عبير) الست التي تخدمني في المنزل، أمام عمارة سوزان مباشرة قلت لأم عبير أنني كنت مقيما في هذه العمارة أيام زمان. قالت أنها خدمت فيها فترة مع الحاجة بعد موت زوجها (أبو سوزان) واستطردت أن أحمد ابن الحاجة مات قبل سنوات قليلة بمرض السرطان. لكن سوزان وأخواتها البنات موجودون وقد تزوجوا جميعا. أم عبير هذه تشكل ذاكرة "المهندسين" بكل تفاصيلها ووقائعها منذ بداية تحولها من الريف والدورالصغيرة الى حي يقطن معظمه أثرياء جدد وسياح خليجيون ومن بلدان أخرى وفنانون و… الخ حي من غير هوية مكانية وعمرانية وجمالية عكس أحياء القاهرة العريقة سواء كانت شعبية أو برجوازية.. قلت ذات مرة لأم عبير مازحا لو تكتبين مذكراتك عن "المهندسين"لربحت الملايين. قالت (يغورو في ستين داهية). وكنت قبل فترة اشتركت مع صديق على نوع من تمثيلية استكشاف لعمارة سوزان حين ذهبنا بغية استئجار شقة فاستقبلنا شاب هو ابن الحاجة، أعتقد أنه أحمد الذي مات بالسرطان، شاهدنا عدة شقق في العمارة وفي تلك الأثناء حدثنا عن أخلاق القاطنين وبأنهم لا يندرجون ضمن المنطق السياحي للشقق المفروشة, تركناعلى أن نعود اليوم الثاني لمقابلة الحاجة، فلم نعد.
تذكرت أنني كثيرا ما أذهب مع سوزان في مثل هذه الأوقات التي تجمد فيها الحركة واندلاع الصخب في شوارع القاهرة المقفرة!
البشر غالبا ما يكونون جميلين في غيابهم، والعلاقات التي تنحل الى ذهب الغروب لوقائع ممعنة في الغياب.
قبل سكني في عمارة الزهراء في ذلك الزمن الذي يوغل في النسيان انقطعت المساعدة الدراسية التي كانت لا تتجاوز العشرين جنيها وحاول طردي من كنت أسكن بمقيته وهو طالب عماني. بعد يأسي من تقبله وضعي الجديد حتى يفرجها الله، قمت بتحطيم الشقة وصورة أمه المعلقة أعلى سرير.. استعان بالشرطة لطردي، أصبحت هائما في أكثر من مكان، حتى جاءتني الفكرة الملهمة ذات ضياع، اقتدت شخصا ضريرا يلبس العمة الى شيخ الأزهر. كان الإمام محمد الفحام أنذاك. قابلنا في اليوم الثاني، بعد أن أوضحنا له أوضاعنا سأل (أين تسكنون؟) وقبل أن يجيبه الأعمى بلغته المتكلفة المنمقة التي يقلد فيها رجال الدين سارعت بالإجابة :
(في اللامكان يا فضيلة الامام).
منذ تلك الفترة وهذا (اللامكان) يرتسم كعلامة لوعي جيل ممزق على المستوى الرمزي والواقعي، يلاحقني كقدر، سهما يشق طرقا متشعبة في الفضاء اللامتناهي،دائما باتجاه الأعماق المفعمة بحصائر مرتجفة: إنه متاهتنا التي بنينا في حدائقها مدننا وأحلامنا التي لا تفتأ تواصل مسيرة انكسارها الخاص.
اليوم، أستعيد قراءة (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ. هالتني قدرته الفذة على الترميز الذي لا يخسر الواقع والتاريخ والحياة. أي لا يصل الى التجريد المطلق الذي يمحو المدى البشري والمكاني ويسحق ملامحه وسماته، رغم أطروحته الميتافيزيقية الخطرة, كان رغم جسامة الموضوع يشبه لاعب سيرك يمشي برشاقة وحزن بالغين على حبل الوجود السري للكائن. هالني رسمه لمشهد القتل البشري الأول من نوعه بين قابيل وهابيل.. كل ذلك العنف، وذلك الحنان،الندم والشفافية بتلك البرية التي ستمتلىء لاحقا بالضحايا والجثث والفرائس.
صوت (الجبلاوي) الذي يشق جبالا من الأزمنة والغيوب مازال مدويا رهيبا يجثم على الأحياء والموتى.
كنا في الليل
ننفض المدينة كسجادة قذرة
وفي الصباح نقطف زهر الياسمين
هدية لحبيبة محتملة.
صحا من نومه من غير رغبة في القيام بشيء ظل يتلوى تحت البطانية بخدر مقلدا وضعية الجنين. أدار زر الموسيقى، جاءت زوجته، دخلت معه تحت البطانية. رأته على هيئة الجنين أخذت تداعبه حتى استقام، مارسا الحب بصمت، الى أن أطفأه الضجر وانسل من بين فخذيها من غير بلوغ سطح ولا ذروة.
عادت هي تقلد هيئته الجنينية واضعة أصبعه في فمها الناعس.
كنت أكتب على سرير غرفة النوم القليلة الإضاءة بحيث لا يسعني أن أرى الحروف تبكي على الورقة. علي الفور تذكرت أن الكثير من معارك التاريخ الفاصلة دارت في ظلام داهس وكذلك المؤامرات والمكائد. الكتابة نوع من مكيدة للزمن. وتذكرت أبا العلاء المعري وبشار بن برد وطه حسين وبورخيس.
كان علي أن أفتح نور القراءة كي لا أنجر الى توسل اسم شهير أو حدث ملحمي كبير.
في فيلم (ساتيركون) الذي يؤرخ فيه – وهذه الكلمة على سبيل المجاز – المخرج الكبير لروما القرن الأول الميلادي، وقد نخرها الانحطاط والجهل والرذيلة نازلا بها الى أقصى قعر جحيمي تبلغه المجتمعات حين تغادرها القيم الروحية والأخلاقية الحقة، وتشيخ وتتعفن حتى النخاع. مخلوقات غليظة بشعة، تلتهم المال بنهم. وبشراهة أكبر تأكل وتشرب وتتغوط وتعربد. مخلوقات بلغ بها القبح وحطة الغرائز والجبن أقصاه، كأنما ليس ثمة حد للبشاعة والانحلال مثل الجمال والطهارة في الطرف النقيض.
كان عليها أن تغادر المسرح لتترك الحياة تواصل مسيرتها بشيء من الجمال والذوق والانسانية. لكن ما حصل أن تلك الجيفة المنتنة لما يصل اليه الوضع البشري في حقب من التاريخ، واصلت مسيرتها في أنساب وأماكن مختلفة إن لم يكن نسبها في طريقه الى سدة الغلبة.
في مرآة تلك الحقبة الرومانية الطاعنة في قسوتها وفسوقها كما رسمتها كاميرا المخرج الكبير، وحده الشاعر يبحث عن ملاذ للهرب من هذا الجحيم.
منذ فترة ليست قصيرة، كفت الكوابيس التي تؤلف ملاحمها المفزعة في نومي. أو قلت بشكل كبير، صارت متفرقات كوابيس ترفس بعضها في حقول الليالي. وقلت تلك الملاحقات في الأقبية المدلهمة بباطن الأرض أو على الجبال الجرداء ومنحدراتها المسننة وهاوياتها وأثقالها وفي المدن والأوتوسترادات والمقاهي الرخيصة الباردة وأنفاق المترو في غياب الأوراق الشخصية. كما حصل ذات مرة وكنت بصحبة الجزائرية عنيفة نافع، وكنت للتو قد استخرجت أوراق إقامة مؤقتة بذلك البلد الجميل، بعد طول معاناة. ركزت الأوراق في جيب معطفي الداخلي وذهبنا لنحتفل بهذا الحدث السعيد الذي يتيح لي أن أتحرك بحرية في وضح النهار، من غير قلق السؤال عن (الهوية).
في غمرة احتفالاتنا، غرزت يدي في قعر الجيب لأسعد مرة أخرى بلمس البطاقة، وإذا بهواء ثقيل يصدم يدي ويشل الخوف جسدي بالكامل. لقد اختفت البطاقة وكل الأوراق وتحولت الى ما يشبه هواء الكوابيس في الأقبية الباردة.
هذه لقطة واقعية وأنا أريد أن أشير الى كوابيس الأحلام التي هي أكثر فتكا من الوقائع التي تولدها ويختزنها العقل الباطن ليوزعها لاحقا على هواه، وفق آلية غامضة.. وقصة الكوابيس والأشباح المنغلقة كالجوارح في نومي, يمكن أن أتذكر بداياتها البعيدة حين كنت طفلا في القرية التي ولدت فيها "سرور" يا لمفارقة الأسماء مع الوقائع أحيانا كثيرة.
ذهبت مرة مع بعض عائلتي لنزور صهرا كان واليا في منطقة الشرقية من عمان. وتحديدا في (جعلان بني بوحسن) تلك المناطق الشاسعة الجميلة بالنسبة لنا نحن المسورين بطوق جبال عالية.. ذات ليلة ونحن نائمون في حوش من أحواش القلعة التي عادة يسكنها الولاة وتستخدم لأغراض السلم والحرب التي ما تفتى، رخاها تدور بين القبائل العمانية في ذلك الزمان أو مع أعداء خارجيين. كانوا نائمين بشكل جماعي حين علا في فضاء القلعة صراخ غامض جريح, مرتبك لا يعرف مصدره، انبرى على دويه الحراس المسلحون بالبنادق ظنا منهم أن ثمة غارة على قلعة الوالي. وأطلقت عدة طلقات أحالت القلعة وسكانها الغارقين في سابع نومهم، الى ما يشبه حالة حرب مفاجئة.
لم يكن مصدر ذلك الصراخ الكابوسي الا ذلك الطفل الذي كنته وشب وكبر معي وتناسل في أدغال زمان ومكان مختلفين.
ترى ما هيئة ذلك الكابوس الذي انقض علي في تلك الليلة المقمرة؟
في الفترة الأخيرة خفت وتيرة الكوابيس التي لا تكل عن تأليف قصصها المفزعة في نومي، خفت وتراجعت ليس لصالح أحلام وردية كما يقال. ربما هي الأخرى ضجرت من تكرار نفسها. رغم ظني أنها تشبه الموت الى حد ما حتى في وظيفتها التطهرية إن محت وفي النضارة المتجددة حين تشيخ العناصر الأخرى ويلتهمها البلى والذبول, لكن في هذه الليلة-
28/12/2000 بشارع الزهراء أي قبل رأس السنة الميلادية بيوم واحد، انقض علي طائر من ثكنة تلك الوحوش الجائعة واقتلع بهدوء عنقاء الحكايات، أحشائي وأسناني وأطراف جسدي، ولعب ألعابا شتى ماكرة وبالغة الفتك والتعذيب، لأستيقظ غارقا في بركة دم باردة.
كل هذه الرموز والأساطير والماسي. هذه الطقوس والصلوات والمثل، الأنبياء والأديان, البطولات ونقيضها الإبادات والحروب والقوانين والكتب والموسوعات. كلها بمثابة عظة وتعزية وعبرة للانسان أمام واقعة الموت والفناء والزوال وكي يعيش برعب أقل وإنسانية أكثر بضبط لجام غضبه واندفاعاته العدوانية الجاثمة.. لكن على ما يبدو أن لا عزاء للمرهفين ولا عظة لملتهمي أحشاء البشر وأكلي لحم أخيهم ميتا. مما يجعل أسباب وجود الكائن على الأرض نهبا لأسئلة لا تنتهي. وربما من هنا يبدأ السؤال الفلسفي العميق الذي لا ينتهي عند قمامة الشارع وانتفاضات العبيد والمقهورين وتوترات الهوامش الانتقامية ضد المتون.
الأب
أتذكر أبي وهو الآن في قبره ينام… في التسعينات من عمره كان يمشي في شارع الكورنيش.. كانت تلك المشية الفصل الأخير من فصول المواجهة الطويلة القاسية لحياته وزمنه. التلويحة الأخيرة لذلك الأفق البحري المتلأليء للسفن والنيازك وحطام الأحلام.
كان يحاول مد رجليه أكثر من طاقته، استنفار جسده الأخذ نحو المغيب، تحت القلعة الحصينة على ذروة الجبال التي زرتها سجينا فيها أوا خر الستينات. كان يمضي مستنفرا كل ما تبقى له من خلايا وأعصاب, مستنفرا ماضيه ضد الموت والفناء. ضد الخذلان الذي يستشعره الجسد في نهاية تطوافه.
كان جوعه جوع النمر في البقاء على الأرض التي أحبها ولم يهجرها طوال عمره المديد.. قبل هذه النزهة البحرية الأخيرة أتذكره بجوار أحد أحفاده في أيامه الأخيرة، كان يداعبه.. أتذكر تلك اللمسة الغريبة التي لا أستطيع وعفها بلمسة الملاك أم حنان الذئب نحو صغاره, من فرط سريتها وطقوسيتها فكأنما يد الشيخ أرادت أن تودع شيئا خفيا وخطيرا، قطرة الحياة الآ خيرة, خلاصة المحن التي لا تبرح مخيلة الطفل في سنواته اللاحقة.
الأم
اليوم (الجمعة) ذهبت لزيارة أمي. كانت متعبة وذابلة، تهذي بجمل متقطعة من هنا وهناك، تخلط فيها الأزمنة والأماكن.
تسألني عن حياتي وأحوالي وأناس لم ألتقهم منذ أعوام طويلة تتراءى لي دهورا وأحقابا، منذ عهود الطفولة البعيدة، حين كانت تحرث القرية جيئة وذهابا, وعلى مصاطب الجبال الدكناء التي تنحدر على صفحة فجرها الأول طيور القطا والصبا، ملتقطة بقايا التمور من (المساطيح)
البارحة رأيت طائر صبا في نومي، كنت في قرية تشبه تلك التي عشت فيها طفولتي مستلقيا أحدق في النجوم الساطعة كأرواح نقية تغسل بطيب ضوئها الكون والأشياء فتبدو أكثر نضارة كأنما ولدت من جديد.
كنت مستلقيا هكذا حين مر طائر تبعه آخر، ثم سرب يتقاطر بين الصخور والنباتات. سألت صديقا هو أيضا قادم من تلك العهود البائدة، هل هذا طائر صفرد أم صبا. وقبل أن أسمع الاجابة، احتل المكان رعب مفاجيء لا أتذكر مصدره, فاستيقظت مذعورا لأستأنف حكاية أمي التي أنهكها الزمن والمرض والفراق.
كانت تتحامل على نفسها لتبدو مبتهجة بيننا تسرد أخبارا عن الماضي تبدو كتعويذة سحرية لتوحيد المشاعر المتباينة وبعض الكلام المرح لكسر الصمت الذي كاد يطبق على معظم الجلسات الخاطفة التي تشبه مطاعم الوجبات السريعة.
لقد خسرت مجتمعاتنا إضاءات بنيتها القديمة وتضامن قيمها وبساطتها من غير أن تزيح معطيات حضارة جديدة بالطبع.. كان عليها أن تدفع الضريبة مضاعفة ويمثل هذه القسوة والتدمير الذي تسحق رحى أوهامه الجماعات بأكملها.
لم تكن الوالدة تعي تغير وتائر الاجتماع على هذا النحو، لكنها حدست بالفاجعة وقررت الانسحاب. لقد ضعفت قدرتها على التحامل فلم يعد في كلامها أي حماس لشيء، أطفأت الأيام حماسها كما أطفأت ضوء عينيها وجسدها.. لا تكاد تلقي بالا لصراخ أحفادها وضجيجهم كما كانت تفعل وقبلهم معنا بين مقاصير النخل وهدير الأودية والحيوانات الهائجة في زرائبها.
ـــــــــــ
من كتاب جديد شرت أجزاء منه في أعداد عامية من نزوى.
هامش
منذ أيام وصل ابن أخي الأكبر أحمد الرحبي من موسكو حيث يدرس. وفي جلسة عابرة أخبرني أن والده الذي يقف الآن على عتبة الستين من عمره مازال فريسة لكوابيس ليلية وأنه يضطر حين يصحو على صراخه الى نجدته وايقاظه: قلت يا له من إرث عائلي للبهجة.
سيف الرحبي